الوراثة في القرن التاسع عشر
للقرن التاسع عشر أهميةٌ خاصة في تاريخ الأفكار المتعلِّقة بالوراثة؛ بسببِ ما تَحقَّق خلاله من تقدُّمٍ هائل في العلوم البيولوجية وما شهده من صراعٍ حادٍّ بين الآراء المتعارضة بشأن طبيعة النوع الاجتماعي، والطبقات الاجتماعية، والعِرْق. فقد استفادت الدراسة العِلمية للوراثة من المجاهر المحسَّنة بشكلٍ كبير، ونشأةِ المختبَرات البيولوجية، والتجارِب الدقيقة التي أُجريَت على تكاثر النبات والحيوانات. بالرغم من ذلك، فمُجدَّدًا نرى أنَّ تقدم العلوم الإنسانية كان أقل؛ إذ بقِيَت خاضعةً لمعتقدات عصرٍ يميل إلى تحقير النساء وغير البيض والطبقات الاجتماعية الدنيا، وهي مُعتقَدات زائفة رغم قوَّتها الأيديولوجية.
علماء النبات
على الرغم من أنه لم يكن يُوجَد في بدايةِ القرن ما يُمكن معرفتُه عن الموادِّ المكوِّنة للبذور، والبويضات، والحيوانات المنَويَّة، تَمكَّن الباحثون من اكتساب بعض المعرفة عن أنماط التوارُث في الحالات التي وُفِّقوا فيها في اختيار الأنواع التي يَدرُسونها. وفي أوائل القرن التاسع عشر، بدأ مُربُّو النباتات يتوصَّلون إلى رؤًى جديدةٍ مهمة. فأجرى الإنجليزي توماس أندرو نايت تجارِبَ التلقيح الخلطيِّ على أنواعٍ مختلفة من أشجار التفاح والكُمِّثْرى والبرقوق في محاولةٍ لتخليق سُلالاتٍ هجينة أقوى، ولاحقًا زاوَجَ عالمُ النبات الألماني كارل فريدريش فون جرتنر بين ٧٠٠ نوع مختلِفٍ من النباتات لتكوينِ ما يقرب من ٢٥٠ صِنفًا هجينًا. لاحَظ كلٌّ من نايت وجرتنر أنه عند إجراء التلقيح بين نباتَين هجينَين فإن عددًا معيَّنًا من نَسلِهما دائمًا ما يحمل سِماتٍ أشبهَ بسمات السلَفَينِ لا الهجين نفسه. اتضح أنَّ الكائنات الهجينة لا تُولِّد ما يُشبهها باستمرار. فمن الواضح أنَّ بعض سِمات النباتات يمكن أن تختفيَ في الشكل الهجين، لكنها تُعاود الظهور في الجيل التالي. كان ما يراه علماء النبات هو مبادئَ الهيمنة والانعزال، وإن كانوا لم يفهَموها إلا جزئيًّا.
حينها أتى دورُ الراهب السيليزي جريجور مندل. انضمَّ مندل الذي كان ابنَ فلَّاحين من المزارعين إلى الدير الأوغسطيني في برنو في عام ١٨٤٣، ولم يكن ذلك بدافعٍ من تَقْوى عظيمة بل لحاجةٍ ماسَّة إلى المال. عُيِّن مدرسًا وأُرسل إلى جامعة فيينا لدراسة العلوم الطبيعية. بعد عودته إلى برنو، بدأ سلسلةً من التجارِب كان الهدفُ منها، على ما يبدو، هو اختبارَ فرضية كارولوس لينيوس القائلةِ بأن الأنواع الجديدة تنشأ نتيجةَ التزاوج بين الأنواع الهجينة. ومن حُسن حظه أنه اختار نوعًا يتميَّز بتركيبٍ وراثي غايةٍ في البساطة، وهو نباتُ البازلاء الصالحُ للأكل. وعلى غِرار سابِقيه في هذا المجال، ولَّد مندل سُلالاتٍ نقيةً من نباتاته، ثم أنتج أنواعًا هجينة. وقد ركَّز في هذه التجارِب على سبع سِمات مختلفة: شكل القَرْن ولونه، وشكل البذور ولونها، وموضع الزَّهرة ولونها، وارتفاع النبات.
بعد أن أكَّدت النتائج التي توصَّل إليها من خلال التجارِب التي تضمَّنَت ما يقرب من ٢٩ ألفَ نبتةِ بازلاء، كتب مندل ورقته البحثيَّة «تجارِب على تهجين النباتات» وقرأَها على جمعية برنو للتاريخ الطبيعيِّ في ربيع عام ١٨٦٥. نُشِرَت الورقة بعد عام دون أن تحظى بإشادةٍ كبيرة. قِلةٌ فقط هم مَن فَطِنوا إلى أهمية الورقة، ويعود ذلك بدرجةٍ كبيرة إلى أنه لم يكن ثمة ما يدعو للتفكير في نبات البازلاء الصالح للأكل على أنه يُمثل نمطًا قياسيًّا بأيِّ شكل من الأشكال. وعندما تحوَّل مندل نفسُه من دراسة البازلاء الجدير بالثقة إلى دراسة الأنواع النباتيَّة الأقلِّ تجانسًا، بدأ أنَّ نسبتَه الدقيقة لم تَعُد تتحقَّق. كان حينها قد أصبح رئيسَ دير برنو وهجر البحوث النباتية إلى حدٍّ كبير. ولم ترجع نتائجُ مندل إلى الضوء إلا في عام ١٩٠٠.
الوراثة اللينة والجامدة
في غضون ذلك، دوَّى النقاشُ بشأنِ مُرونة البذور والأجنَّة دون أيِّ بارقةِ أمل وشيكة في التوصُّل إلى قرار. وقد أثارت عقيدةُ المخيلة الأمومية شكوكًا أكثرَ من ذي قبل؛ ففي عام ١٨٣٩ أكَّد كاليب تيكنور، أستاذُ الصحة العامة في نيويورك، أنَّ ثمة «أغلبية» الآن «تسخر من الفكرة باعتبارها سخفًا كبيرًا». بالرغم من ذلك، فقد زعم أحدُ أساتذة التوليد في جامعة فيرجينيا عام ١٨٨٩ أن حجم الأدلة يدعم تمتُّع عقل الأم بالقدرة على نقل الصور إلى جنينها. لاقَت الفكرةُ رَواجًا على المستوى الشعبي أيضًا. فقد شاع الاعتقادُ بأنَّ جوزيف ميريك، المعروف باسم «الرجل الفيل» قد اكتسَب تشوُّهاته الشديدةَ نتيجةَ الذُّعر الذي أصاب والدتَه الحامل عندما طرحَها أرضًا أحدُ أفيلة العروض.
ظلَّت معظمُ النقاشات المتعلقة بالوراثة محصورةً في إطارٍ كلاسيكي كان يعزو إلى سلوكيات الوالدين والعوامل البيئية التي يتعرَّضان لها؛ دورًا مُهمًّا في تحديد شكلِ ذُريتهما. فعندما كتب تشارلز داروين كتابه «تبايُن الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» عام ١٨٦٨ سلَّم بأنَّ السِّمات المكتسَبة جسديةٌ وعقلية تنتقل إلى النَّسل في بعض الأحيان على الأقل. وفي إشارةٍ صريحة لأبقراط، ذكَر داروين في «فرضيته المرحلية شمولية التخلُّق» أن جميع خلايا الجسم «تُنتج حبيباتٍ دقيقةً أو ذرَّات» (أطلق عليها اسم «البُرَيعمات») وهي تلتقي في الغُدد التناسلية وتتجمَّع لتُشكل كائناتٍ جديدة. ووفقًا لداروين، فإن هذه العملية يمكن أن تؤدِّيَ إلى أن تُصبح التغيرات التي تطرأ على أجسام الوالدين وراثية.
لطالما قَبِل الأطباءُ هذا المنطق بالطبع. فقد قالوا إن الرئة المصابة بالسُّل، والمفاصل المصابة بالنقرس، والدماغ المختل؛ ذلك كلُّه يُنتج بذورًا معيبة تنقل القابلية للإصابة بالأمراض إلى الجيل التالي. وكان الاعتقاد السائد أنَّ نَسْل مَن أفرَطوا في ممارسة الجنس أو تناوُل الكحول معرَّضون بدرجةٍ كبيرة لإلحاق الضرر بأجسادهم وعقولهم؛ ومِن ثمَّ تعريض صحة أحفادهم للخطر. بدا أن علم وظائف الأعضاء يؤيِّد تحذيرات الكتاب المقدَّس من أن «ذنوب الآباء» تُفتقَد في «الأبناء وفي الجيل الثالث والرابع». وبجرعةٍ كبيرة من الفكر التطهيري الذي تبنَّاه المهاجرون على السفينة مايفلاور، كتب الطبيب سامويل جريدلي هاو من ماساتشوستس: «فلندع الفسيولوجيا تُعلِّم الناس أن كل فُسوق سيتبعه ولا بد عواقبُ وخيمة» في هيئة أطفالٍ مرضى.
صارت رؤيةُ علماء الطبيعة للوراثة تعتمِد بشكلٍ كبير على موقفهم من نظرية التطوُّر. ففي العقود الأولى من القرن التاسعَ عشر استنَدَت نظريةُ التطور إلى مفهوم توارث الخصائص المكتسَبة. حثَّ هذا علماءَ الطبيعة، الذين اعتبَروا اللاماركية مفهومًا لا دينيًّا ومشكوكًا فيه من الناحية العِلمية، على أنْ يُعيدوا تعريفَ مَفاهيمهم عن الوراثة بما يحول دون إمكانية التغيُّر التطوري. وتحقيقًا لهذه الغاية؛ أشار البارون جورج كوفييه، عالمُ التشريح الفرنسي الموقَّر الذي انتقد لامارك بشدةٍ حتى في رثائه له عام ١٨٢٩، إلى أنَّ الحيوانات المحنَّطة التي اكتشفها علماءُ الآثار الفَرنسيُّون في أهرامات الجيزة كانت مُطابِقةً هيكليًّا للأفراد التي لا تزال على قيدِ الحياة من الأنواع نفسِها. لذلك، خلص كوفييه إلى ضرورة وجود آليةٍ فسيولوجية تمنع تراكُمَ أوجُه التباين الوراثية الجديدة بما يتجاوز حدًّا ثابتًا وضيقًا.
بالرغم من ذلك، كانت مصداقيةُ نظرية لامارك تزداد بمرور كلِّ عَقدٍ من الزمان. فقد أخبرَت الأدلةُ التي كشَفَت عنها طبقاتُ الصخور وأحافيرها المميزة عن أرضٍ قديمة شهدَت تاريخًا طويلًا من حلول الأنواع الجديدة محلَّ الأنواع القديمة. عِلاوةً على هذا، فاكتشافُ أنَّ أنواعًا على تلك الدرجةِ من الاختلاف مثل أسماك القرش والدجاج والخنازير والبشر، تمرُّ جميعها بمراحلَ مماثلةٍ في وقتٍ مبكِّر من تطورها الجنيني قد أشار إلى احتماليةِ أنها ربما تكون قد تطوَّرَت من شكل بدائيٍّ مشترك.
تحول داروين إلى الاعتقاد بالتطور نتيجة ما رآه في أثناء إبحاره حول العالم بين عامَي ١٨٣١ و١٨٣٦ على متن سفينة البيجل التابعةِ لخِدْمة جلالة الملكة. ولما كان يقضي أسابيعَ على الشاطئ في كل مرةٍ لجمع العيِّنات، فقد اكتشف حفرياتٍ تجمع بينها وبين حيوانات لم تزَل حية، مثل حيوان الكسلان والقوارض والفِيَلة واللاما، أوجُهُ شَبهٍ قوية. وقد لعب طائرُ جالاباجوس المحاكي أيضًا (وليس الشُّرشُوريَّات) دورًا مهمًّا في اكتشافه هذا. عرَف داروين أن جزر جالاباجوس ذاتُ أصل بركاني حديثٍ إلى حدٍّ ما. وقد أثارَت حقيقةُ وجود نوع مختلِف من الطيور المحاكية في كلِّ جزيرة السؤالَ التالي: هل تدخَّل الإله حقًّا عدةَ مرات لِيَخلق طائرًا مُحاكيًا مختلفًا لكل جزيرة؟ بدا التفسيرُ الأبسط هو أن سلفًا قد طار من البرِّ الرئيسي لأمريكا الجنوبية ثم تكيَّف في أشكال مختلفة على كل جزيرة.
أبقى داروين على هَرطقته العِلمية سِرًّا بينما كان يُفكر في الآليات التي يمكن أن تدفع التغيُّر التطوري. وهو لم يشكَّ قط، مثلما رأينا، في إمكانية توارُثِ الخصائص المكتسَبة، لكن أفكاره بشأن أصول الاختلافات الوراثية سرعان ما جعَلَته يتجاوزُ لامارك. كان يعرف أنَّ التعديلات الوراثية العشوائية التي يُطلِق عليها مربُّو الحيوانات والنباتات «المُسوخَ»، تظهر في بعض الأحيان. رأى أن هذه التعديلات كارثيةٌ في المعتاد، لكن يتضح بين حينٍ وآخَر أنَّ أحدَها نافع. قرأ داروين بعد ذلك في سبتمبر ١٨٣٨ كتابَ توماس مالتوس «مقالة عن مبدأ السكان» الذي أصرَّ فيه الاقتصاديُّ العنيد على أن البؤس والموت هما العواقب الطبيعية للتفاوت الأبدي بين النموِّ السكاني والموارد المحدودة. وحينها أدرك داروين بسرعةٍ توحي بعقلٍ مهيَّأ، أن مثل هذه النُّدرة يُمكنها أيضًا أن تُحفز التطور. إذا كان عددُ مَن يولَدون أكبرَ مما يمكن دعمُه بأيِّ حال من الأحوال، وإذا كانت الكائنات الحية تتمتَّع بدرجاتٍ متفاوتة من اللياقة الموروثة، فسيؤدي التنافسُ إلى تفضيلِ بقاء بعض السلالات على الأخرى. وعبر التراكُم البطيء للاختلافات الوراثية النافعة، ستخضع الأنواعُ لتغيراتٍ بمرور الوقت. وحينما أقدم داروين على تأليف كتابه «أصل الأنواع» عام ١٨٥٩، خلص إلى أن الجماعات البرية تختلف كثيرًا لدرجةٍ تجعل عمليةَ «الانتقاء الطبيعي» قائمةً على الدوام تقضي على الكائنات الحية، أو تُبقي عليها بحسَب مدى استعدادِها لاجتياز معركة الحياة المستمرَّة.
جمع فهم داروين للوراثة والتطور بين قديمِ المفاهيم وجديدها. فعلى غِرار أسلافه الكلاسيكيِّين، تقصَّى التبايُنَ الوراثي في تفاعلات الأجسام مع البيئات الخارجية. فقد تحدَّث داروين عن «التأثيرات غير المباشرة» للبيئة على «الجهاز التناسلي»، على النحوِ الذي يتسبَّب في إفساد العملية الطبيعية للنسخ، وشذوذ الخلايا الجنسية والأجنة عن النَّموذج الأبَوي. غير أن داروين قد خالف التطوريِّين الأوائلَ في جانبٍ واحد واضح؛ وهو أنه رأى أنَّ معظمَ تلك التغيرات التي تُحفزها البيئة «عشوائية». وحاجَج بأن التعديلات الجديدة لا تكون مفيدةً للكائن الحي إلا بين الحين والآخَر.
بحلول عام ١٨٥٩، عندما ظهرَت طبعةُ كتاب «أصل الأنواع»، كانت فكرة التطور قد أصبحَت بالفعل أقلَّ جذريةً بكثير. فقد تكرَّر طرحُ هذه الفكرة بشكلٍ مُوسَّع على يدِ عالم الاجتماع البارز هربرت سبنسر والعديد من مشاهير الكُتَّاب. علاوةً على ذلك، فقد توصَّل ألفريد راسل والاس في عام ١٨٥٨ إلى نظريةٍ مماثلة حتى إنَّ بحثه وبحث داروين قد قُدِّما رسميًّا معًا في اجتماعٍ للجمعية اللينية في لندن. وعلى الرغم من مقاومة العديد من أبناء إنجلترا الفيكتورية للادِّعاء القائل بأن البشَر قرودٌ منتصبةُ القامة، رضَخ معظمُ علماء الطبيعة في غضون مدةٍ قصيرة من الزمن للأدلة الدامغة على تغيُّر الأنواع. غير أنَّ قِلةً فقط هم مَن قبلوا مبادئَ داروين القائلةَ بالتعديلات الوراثية العشوائية والانتقاء الطبيعي. فقد فضَّل معظمُهم الاعتقادَ بأنَّ توارُثَ الخصائص المكتسَبة هو الآلية المحرِّكة للتطوُّر؛ لأنها تشير إلى أن الكائنات الحية تتكيَّف على نحوٍ فعَّال مع بيئاتها. جعل هذا التطورَ يبدو أكثرَ اعتدالًا وكفاءة. وببعض التعديلات، أمكن تقديمُ فكرة لامارك عن «الميل الطبيعي للتقدُّم» باعتبارها الوسيلةَ التي تؤدي إلى تحقُّق خُطةٍ إلهية خيِّرة.
الوراثة الجامدة في الصدارة
على الرغم من رَواج النُّسَخ اللاماركية لنظرية التطور، بدأت الأدلة الداعمةُ للوراثة الجامدةِ في التراكم في ذلك الحين. فقد ساعد الهوسُ بتربية الكلاب النقيةِ السُّلالة على تعليم الطبقات الوُسطى ما كان يعرفه مربُّو الخيول من النخبة منذ مدة، وهو أن السِّمات الموروثة عادةً ما تستمرُّ دون تغيُّر على مدار أجيالٍ مُتعاقبة. وكان معظم المشاركين في عروض الكلاب التي أقيمت لأول مرة في عام ١٨٧٣ مثل عرض «كرفتس»، مقتنعين بأن صفات أنواع الكلاب تنتقل بالتكاثر باتساقٍ دقيق إذا أمكَن تفادي تلوُّثِها ببذور السلالات «الأدنى».
نشأَت شكوكٌ مماثلة بشأن الوراثة الليِّنة بين المربِّين من العلماء الذين أُتيح لهم نطاقٌ غير مسبوق لدراسة التباين في النباتات والحيوانات التي تنمو في أجزاءٍ مختلفة من إمبراطوريات أوروبا المترامية الأطراف. تساءل علماء النبات وعلماء الحيوان عمَّا إذا كانت المجموعات الحيوانية والنباتية تتكيَّف بشكلٍ طبيعي مع المناخات المتنوِّعة على نحوٍ يُمكِّنهم من الاستفادة من تربية أنواعٍ غريبة بالقرب من أوطانهم. وفي «حديقة التأقلُم» الباريسية، ربَّى علماءُ الطبيعة آلافَ النباتات وبعضَ الحيوانات مثل الألْبَكة، والياك، والزرافات، والكنغر، والفِيَلة والجِمال، وفرَس النهر، متوقِّعين أنها ستخضع لشكلٍ بيولوجي من أشكال «الفرنسة». لم يمضِ وقتٌ طويل حتى بدا بوضوح أنَّ افتراضاتهم الداعمةَ للوراثة اللينة قد صارت مُهترئة. فلم يبدُ أن وراثة الأنواع غيرِ الأصلية قد طالها التغيُّر.
في الربع الأخير من القرن أجرى عددٌ من الباحثين المزيدَ من الدراسات الرسمية عن توارُث الخصائص المكتسَبة. ففي عام ١٨٧٠، أحضر رجلُ العلم الإنجليزي فرانسيس جالتون عشرات الأرانب البيضاء والرمادية الفِضِّية واستخدم أنبوبًا لتمرير الدم إلى شرايينها السباتية. وزعم جالتون أنَّه إذا كانت بُريعمات داروين موجودةً بالفعل، فسيظهر في نسل الأرانب البيضاء تصبُّغاتٌ باللون الرمادي، وستُنجِب الأرانب الرمادية ذُريةً أفتحَ لونًا. غير أنَّ ذلك لم يحدث. ولهذا قرَّر جالتون أنَّ توارُث الخصائص المكتسَبة ليس له سوى دورٍ ثانوي. وفي ثمانينيَّات القرن التاسع عشر، أضاف عالمُ الأحياء الألمانيُّ أوجست وايزمان إلى الحُجَّة خطوةً أخرى. فقد أكَّد أن المادة الوراثية، أو «البلازما الجنسية»، تبقى منفصلةً تمامًا عن باقي الجسم وتنتقل كاملةً من جيلٍ إلى جيل. ربَّى وايزمان مئاتِ الأجيال من الفئران وقطع ذيولَها. بالرغم من ذلك، فلم يحدث قطُّ أن وُلِدت صغارُ الفئران مبتورةَ الذيول. فأعلن أن هذا دليلٌ واضح على أن خبرات الحياة لا تؤثر فيما يُنقَل إلى النسل.
لا شك أنَّ رفض وايزمان للوراثة الليِّنة قد استند إلى عدة عقودٍ أحرز فيها أخصائيُّو الفحص المجهري في المختبرات التي تُموِّلها الدولة في ألمانيا تقدُّمًا هائلًا في فَهم عملية الإخصاب. في أواخر ثلاثينيَّات القرن التاسع عشر، تمكَّن الباحثان الألمانيان ماتياس شلايدن وثيودور شوان، باستخدام مجاهرَ مجهَّزةٍ بعدسات مركَّبة عاليةِ الجودة، من تمييز الخلية بوصفها الوحدةَ الوظيفية الأساسية لدى جميع الكائنات الحية. وفي منتصف القرن أثبتَ البولندي الألماني روبرت ريماك والألماني رودولف فيرشو أن جميع الخلايا تنتج من انقسام الخلايا الموجودة سابقًا. كان ﻟ «نظرية الخلية» الجديدة انعكاساتٌ رئيسية على مجال البحث في كيفية حدوث التكاثر. فمن خلال تحليل بَيض الضفادع، تمكَّن علماءُ الأحياء من إثبات أن بويضة الأنثى خلية. تبيَّن أيضًا أنَّ الحيوان المنويَّ ذو طبيعةٍ خلَوية. إضافةً إلى ذلك، أدى رصدُ الحيوانات المنوية لاحقًا برءوسها المدفونة في الطبقات الخارجية للبيوض إلى تخلِّي علماء الأحياء عن فرضية أن الحيوانات المنوية ليست سوى طفيليات. لكنهم لم يتمكَّنوا في حينِها من تحديد الوظيفة الدقيقة للحيوانات المنوية. فقد اعتقد بعضُ علماء الأحياء البارزين أنها تبقى خارج البويضة، وتنتقل إلى الذرَّات داخل «حركة جوهرية» تُذكِّرنا ﺑ «الروح» التي تحدَّث عنها أرسطو.
جلَبَت العقودُ الأخيرة من القرن ثلاثة اكتشافات عميقة الأهمية في مسيرة فهم الوراثة. ظهر أوَّلها خلال سبعينيَّات القرن التاسعَ عشر حين أثبتَ عالمُ الحيوان الألماني أوسكار هيرتويج، في دراسته لقنفذ البحر الأبيض المتوسط، أن الإخصاب يشتملُ في الواقع على «اندماج» نواة البويضة مع نواة أحدِ الحيوانات المنوية. وتَحقَّق ثاني هذه الاكتشافات بفعل تطور المجاهر وتقنيات التصبيغ؛ إذ تَمكَّن علماء الأحياء حينها من رؤية الخيوط السلكية التي نُسميها الكروموسومات، ومن دراسة العمَلية المذهلة لانقسام الخلايا أو «الانقسام الميتوزي». فمن خلال التحديق في عدسات مَجاهرهم العينيَّة، تمكَّنوا من رؤية الكروموسومات وهي تُصبح أكثرَ سُمكًا وتنقسم إلى جُزأَين، ورؤية النصفَين ينتقلان إلى طرَفَين متقابلين في الخلية وينمو بينهما غِشاءٌ جديد. في هذه المرحلة، توجد خليَّتان تحتوي كلٌّ منهما على مجموعةٍ كاملة من الكروموسومات حيث كانت تُوجَد خليةٌ واحدة فقط. أما الاكتشاف الثالث فهو أنَّ الدراسات التي أُجرِيَت على الخلايا الجنسية كشَفَت أنها لا تحتوي إلا على نصفِ الكروموسومات من خلايا الجسم، وأن مادتها حين تجتمع عند الإخصاب تُكوِّن خليةً تحتوي على العدد الكامل من الكروموسومات.
لم يُثبت أيٌّ من هذا أن الكروموسومات هي مادة الوراثة. ولم يثبت أيضًا أن الكروموسومات الفردية يختلف بعضُها عن بعض. غير أنَّ مطلع القرن الجديد قد شهد تجرِبةً أجراها عالمُ الأحياء الألماني ثيودور بوفيري، وأشارت بقوةٍ إلى أن كل كروموسوم هو حاملٌ مميز للمادة الوراثية. فقد تلاعب بوفيري بأمشاجِ أجنة قنفذ البحر التي تحتوي في المعتاد على ٣٦ كروموسومًا، لكي يُنتج أجنةً تحتوي أمشاجُها على أعدادٍ مختلفة من الكروموسومات. وقد أثبتَ بهذا أنَّ الأجنَّة ذاتَ الكروموسومات المعتادة الستة والثلاثين هي وحدَها التي أمكن أن تنموَ لتُصبح كائناتٍ حيةً قادرةً على البقاء. لم يقتصر ما استنتجه بوفيري على أن النموَّ الطبيعي يتطلب العددَ الصحيح من الكروموسومات، وإنما استنتج أيضًا أنه لا بد من وجودِ أنواعٍ مميزة من الكروموسومات، وأنَّ جميعها يؤدِّي أدوارًا مختلفة وأساسية في نموِّ الكائنات الجديدة. ظلَّت الكثيرُ من الأمور غيرَ واضحة، لكن الأدلة كانت تتزايد على أن الكروموسومات كياناتٌ مُستقرَّة تنقل الصفات من جيلٍ إلى جيل.
الوراثة والفقر وتحسين النسل
على الرغم من كل التطوُّر التقني الذي شهده علمُ الأحياء الجديد، لم تكن ادِّعاءات علماء العصر الفيكتوري بشأن وراثة السمات العقلية تبتعدُ عن المواقف الأيديولوجية التقليدية إلا فيما ندر. فقد كان المختصُّون من النخبة، ومنهم غالبية الكُتَّاب العلميِّين، شديدي الميل لاعتبار أنفسهم ينتمون إلى طبقةٍ وراثية من الأذكياء ومُستقيمي الأخلاق. فزعم فرانسيس جالتون في كتابه «العبقرية الوراثية» الصادر عام ١٨٦٩ أنه استنتج من تجميع أنساب المئات من الشخصيات البارزة، أنَّ الذكاء وراثيٌّ إلى حدٍّ كبير. وكتب عن «مجرات العباقرة» التي يمكن للمرء تكوينُها عن طريق تزويج أفراد النخب، التي تتمتع بقدراتٍ عقلية رفيعة، بعضِهم ببعض.
علاوةً على ذلك، أعرَب جالتون وغيرُه من الكُتَّاب عن قلقهم بشأن تكاثُر الطبقات الدُّنيا الناتج عن التصنيع والتحضُّر. فقد كان سكَّان «العشوائيات البشرية الموبئة» في الطرف الشرقي من لندن، أو حي فايف بوينتس في نيويورك، أو شارع دو لا مورتيليري في باريس؛ سببًا لتوجُّس الكثيرين من طبقات صاحبي الأملاك. كانت الفئة المناصرة لهذا الرأي في ازدياد، ونظرَت إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا باعتبارها ميَّالةً بطبيعتها للكسل والإهمال؛ ومِن ثَم فستظل دائمًا خارج نِطاق الحضارة. فقد رأى هربرت سبنسر على سبيل المثال أنه ينبغي حرمانُ الأشدِّ فقرًا من جميع المساعدات الخيرية كي يموتوا آخِذين معهم خصائصَهم البيولوجية المعيبة إلى القبر. تعمَّق هذا النوع من الاحتقار العديم الشفقة فورَ أن كشف علماءُ الدراسات السكَّانية أنَّ الطبقات الدنيا كانت تُنجب من الأطفال أكثرَ ما تُنجبه النخب. وقد حذَّر ويليام جراهام سمنر أستاذُ جامعة ييل من أن البديل الوحيد ﻟ «قانون البقاء للأصلح» هو «البقاء لغير الأصلح».
ثَمة كُتَّاب آخَرون قد رأَوا أنه لا يُمكن كبحُ جِماح التدهور العِرقي إلا عن طريق سياساتٍ لتحسين النسل تفرضها الدولة. ودعا مُناصرو هذا الرأي إلى كلٍّ من «تحسين النسل السلبي»؛ أي الحدِّ من تكاثر مَن يفترض أنهم غيرُ ملائمين، و«تحسين النسل الإيجابي»؛ أي مكافأة مَن يبدو أنَّهم أصلحُ لإنجاب المزيد من الأطفال. لاقت فكرةُ تحسين النسل استحسانًا واسعًا بحلول نهاية القرن. في ألمانيا، دعا الدكتور فيلهلم شالماير إلى تحسين النسل؛ لتخليص الدولة من عِبء المرضى المزمنين و«الصعاليك البلهاء». وقال أيضًا إن بعض الذين يُعانون من عيوبٍ شديدة يجب منعُهم من التكاثر.
الجنس والنوع الاجتماعي وعلم الأحياء
من الواضح أنَّ هذه الادِّعاءات «العلمية» كانت تعكس تقسيمَ العمل على أساس الجنس في أُسَر الطبقة المتوسِّطة والعُليا في العصر الفيكتوري، كما أنها تعكس أيضًا حقيقةَ ارتباط الاحترام الاجتماعي بعدم اضطرار الزوجة للعمل خارج منزل الزوجيَّة. وحتى بعض النساء اللواتي حقَّقْن إنجازًا بارزًا قد اتَّفَقن مع هذه التوجُّهات. فقد شبَّهَت إليزابيث جاسكل جنسَها ﺑ «الإوز الملائكي»، وهي المؤلِّفة الإنجليزية صاحبةُ رواية «الشمال والجنوب» (١٨٥٥).
العُنصرية العلمية
اختلف علماءُ القرن التاسع عشر بشكلٍ كبير بشأن طبيعة الاختلافات بين المجموعات العرقية. ففي أوائل القرن التاسعَ عشر، قِلةٌ فقط هم مَن كانوا على استعدادٍ للحِجَاج بأن خاصيةً جسدية مثل لونِ البشرة يمكن أن تتغيَّر في جيلٍ واحد. وقد اقترب الأكاديميُّ الأمريكي صمويل ستانهوب سميث من تبنِّي موقفٍ بيئي خالص قدْرَ الإمكان. فقد سلَّط الضوء على حالة العبد السابق هنري موس الذي بدأتْ بشرتُه في التحوُّل إلى اللون الأبيض عندما انتقَل إلى فيلادلفيا عام ١٧٩٢. فسَّر سميث ما حدث لموس على أنه دليلٌ على أن السُّود يمكن أن يُصبحوا بِيضًا إذا تعرَّضوا لأشعةِ شمس أكثرَ خفوتًا وللآثار «المبهجة» للحرية و«الحضارة» حتى لو استغرق ذلك في المعتاد أكثرَ من جيل. وقد تبنى مُعارضو العبودية، مثل سميث، هذه النظرياتِ شِبهَ البيئية؛ في محاولةٍ لإثبات «الوحدة البيولوجية للنوع البشري».
أصرَّ أصحاب النظريات البيئية في معظم الأحوال على المساواة العقلية الفعلية أو المحتملة بين «الأعراق» البشرية. فقد خلَص العالم البريطاني الواسعُ الاطلاع ويليام هيول إلى أن «الزنجي شقيقُنا»؛ إذ إنه يتمتَّع ﺑ «الملَكات العقليَّة نفسِها» و«المشاعر ودوافع التصرُّف نفسِها التي نتمتَّع بها». أضاف هيول بوضوحٍ أن فاسدي الأخلاق من المزارعين في الأمريكَتَين «يعتقدون أن الزنوج يتمتَّعون بالملَكات البشرية، لكنهم يتظاهرون بعكسِ ذلك من أجل تبرير استعبادهم».
غير أنَّ العديد من علماء الطبيعة قد اعترَضوا على هذا الطرح. فقد احتفى جورج كوفييه بالصفات «الراقية» للقوقاز، مُحاجًّا بأن جميع الأعراق أدنى من الأوروبيِّين البِيض. وتمشيًا مع دَحضِه لأفكار لامارك، نفى كوفييه إمكانيةَ تراكُم التحسينات الوراثية بمرور الوقت. أنتج العلم الأمريكيُّ من مجالِ وصف الأعراق البشرية ما يمكن لنا أن نتوقَّع صدورَه من أمةٍ يعتمد نموُّها الاقتصادي على عَرَق الملايين من العبيد السود ومُعاناتهم. صار الطبيب صمويل مورتون من فيلادلفيا مشهورًا بحساب أحجام أدمغة الجماجم من مختلِف الأعراق. وقد ضُمِّنَت بعض القرارات الغارقة في الذاتية بشأن تضمين دفعاتٍ بعينها من الجماجم أو عدم تضمينها أن تؤكِّد بياناته على التسلسل الهرمي العِرقي القياسي الذي يتصدَّره القوقازيون. إضافةً إلى ذلك، فقد احتكم مُعجَبا مورتون، جوسيا كلارك نوت وجورج جليدون، إلى بياناتٍ تشريحية زائفة؛ للدفاع عن وجهةِ نظرهما بأن الأفارقة بحاجةٍ إلى «عباءة العبودية الواقية». ورفض نوت وجليدون نظريةَ «أُحادية المنشأ» الدينيةَ الأكثرَ تقليديةً، التي تقول بأن جميع البشر ينحدرون من جَدٍّ واحد، وفضَّلوا عليها نظريةَ «تعدُّد المنشأ»، وهي النظرية المنافسة التي تقول بأن الأعراق البشرية تُشكِّل أنواعًا منفصلة ينحدِر كلٌّ منها من آدم وحوَّاء مختلفَين.
قيَّم أوروبا بعضٌ من «أصحاب نظرية تعدُّد المنشأ» الذين رأَوا أنَّ التاريخ هو نتيجةُ التفاعلات بين الأنواع المتمايزة وغيرِ المتكافئة بيولوجيًّا. من هؤلاء على سبيل المثال، الجرَّاح الاسكتلنديُّ روبرت نوكس الذي قال إنَّ «العِرق أو النسَب الوراثي» هو «كل شيء؛ فهو ما يُكسِب المرءَ طِباعه». وفي فرنسا، أكَّد كونت دو جوبينو على التفوق الدائم للبيض في كتابه «مقالة حول عدم تساوي العروق البشرية» عام ١٨٥٣. أعلن جوبينو أن «الحضارة غيرُ قابلةٍ للنقل» وأن «العِرق الآري» يجب أن يتجنَّب الاختلاطَ مع الأعراق الأخرى مهما كلَّفَه ذلك.
العرق والعبودية والاستعمار
نجد صورة متنوِّعة بالقدر نفسِه خارج العالم الأكاديمي حيث كان للتوجُّهات المتعلقة بالمجموعات العرقية الأخرى قوةٌ أكبر بكثير في تقديم المساعدة لها أو الإضرارِ بها. فعلى غِرار ما حدث في القرون السابقة، ازدهرَت توجُّهات التقسيم إلى «هم ونحن» حيثما رغبَت الجماعات المهيمنة في استغلال مجموعاتٍ أخرى أو تقليل المنافسة على المِهَن اللائقة. ففي أمريكا الشمالية وبعد اختراع مَحْلج القطن عام ١٧٩٣، كان الكثير من الجنوبيِّين يَجْنون ثرواتٍ من زراعة القطن على نحوٍ جعَلَهم يُفكرون في احتمالية أن يكون البشرُ متساوين. وفي جنوب أفريقيا، حيث أُقيمت مناجمُ تُدِرُّ ربحًا كبيرًا بعد اكتشاف الذهب في ويتووترسراند والماس في كيمبرلي خلال أواخرِ القرن التاسع عشر، أكَّدَت نقاباتُ البيض على وجود اختلافات بيولوجية ثابتة بين البيض والسود؛ بُغيةَ القضاء على تطلُّعات الأفارقة في شَغْل الوظائف التي تتطلَّب المهارات العاليةَ والأفضل في رواتبها.
وعلى النحو نفسِه، كانت الشعوب الأصلية التي حاولَت مقاومة انتهاك المستوطنين البيض دائمًا ما تخضع لهذا التجريد من الإنسانية القائم على أساسٍ أيديولوجي. فقد رأى إل فرانك بوم، مؤلفُ كتاب «ساحر أوز العجيب»، أنه من المستحسَن محوُ «شعب سو الوحشي من على وجه الأرض». وفي أستراليا، كان السكان الأصليون يُضرَبون بالرصاص دون رحمةٍ على يد المستوطنين الذين طَمِعوا في أراضي أجدادهم بهدفِ تربية الأغنام عليها، ويوصَفون عادةً بأنهم محضُ حيوانات. تتجسَّد هذه النظرةُ في كلام الراعي الثريِّ جيمس ماكارثر الذي يقطر بمنطقٍ عِرقي يخدم أغراضه الذاتية: «طُرد السكان الأصليون المتبطِّلون عديمو القيمة من الأرض التي لم يعرفوا كيف يستفيدون منها، ولم يقدروها حقَّ قدرها؛ لإفساح المجال لعِرقٍ أكثرَ نُبلًا من الكائنات.» ثَمة بريطانيٌّ يُدعى جي آر بيبركورن، كان قد وصَل مؤخرًا إلى مستعمَرة كيب في منتصَف القرن، وقد أدرك وجودَ هذا الدافع نفسِه في جنوب أفريقيا ووصفه. فقد قال إن تصوير شعب الزولو على أنهم «متوحِّشون يتعذَّر إصلاحهم» هو «افتراءٌ وذريعة ممَّن يسعَون لنهب حقوقهم الطبيعية كبشر».
مثلما هو الحال دائمًا، كان للتوازن النسبيِّ للقُوى أثرُه في مدى رؤيةِ الشعوب الأصلية باعتبارها أدنى مرتبةً من الناحية الوراثية. ففي الهند البريطانية، لعبَت المخاوفُ الاستعمارية دورًا رئيسيًّا في تشكيل المواقف العرقية. ذلك أنه لم يكن من الممكن أن يحكم البريطانيُّون مثلَ هذا الحجم الكبير من الأرض والسكان دون تعاوُنِ الشعوب الأصلية، لكن النخبة البيضاء التي كانت أقلَّ في العدد كثيرًا خشِيَت تزعزُعَ استقرار سلطتها إذا زادت درجةُ الاستيعاب عن حدٍّ معيَّن. ونتيجةً لهذا عامَل البريطانيون المتوترون الهنودَ بازدراء عنصري، لا سيَّما بعد التمرُّد الهندي في العامَين ١٨٥٧ و١٨٥٨. وكانت هذه السلوكياتُ تقف في بعض الأحيان في طريق الإدارة الفعالة للبلاد. فعندما حاولَت الحكومةُ الهندية في عام ١٨٨٣ تمريرَ مشروعِ قانون عبر البرلمان البريطاني يسمح للهنود المؤهَّلين بالعمل في القضاء، خرَجَت خاليةَ الوِفاض من مجلس العموم. وقال أحدُ أعضاء البرلمان إنه لا بد من الامتناع عن فعلِ أيِّ شيءٍ يُقلل ما لدى البريطانيِّين من «شعور فطري بالتفوُّق» على الهنود.
وفي أماكن أخرى، شهدَت أيديولوجيات نزع الصفة الإنسانية التي استُخدمت لتبرير الاستعمار والرِّق تقويضًا فعالًا خلال القرن التاسع عشر. حقَّقَت حملاتُ إلغاء العبودية التي شارك فيها العبيدُ السابقون، وأعضاء جمعية الأصدقاء الدينية، والمسيحيون الإنجيليون نجاحاتٍ كبيرةً في الأمريكتين. فقد أعلن دُعاة إلغاء الرِّق أننا جميعًا «خُلقنا على صورة الرَّب». ومما لا يقلُّ عن ذلك أهميةً أيضًا أنَّ غير البيض تمكَّنوا في بعض الأحيان من اكتسابِ درجةٍ من القوة التفاوضية التي أتاحت لهم تحدِّيَ سيادة البيض. كان حدوثُ هذا ممكنًا في الأماكن التي أتاحت لهم الرأسمالية فيها تحقيقَ نجاحٍ اقتصادي. ففي جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، كان بإمكان السُّود الأحرار والخلاسيِّين والمستيزوس من الموهوبين في ريادة الأعمال الذين حالفهم الحظُّ؛ التغلبُ على عقَبات القانون والتحيز. وبفضل تزايُد ثروة الأقلية من غير البِيض، تمكَّنوا من أن يُصبحوا أزواجًا جديرين بأبناء الأصول الأوروبية. وبناءً على ذلك، ألغت الدولةُ الأرجنتينية في عام ١٨٧٠ جميعَ الموانع العرقية للزواج.
إضافةً إلى ذلك، استغلَّ غيرُ البيض في الأمريكتين الحروبَ الأهلية للتصدِّي للقوانين العنصرية. ففي أمريكا الإسبانية، انتهَت العبودية العِرقية بعد أن قدَّم غزو نابليون لإسبانيا والبرتغال في العامَين ١٨٠٧ و١٨٠٨ للنخب البيضاء من شعوب الكريول؛ الفرصةَ في الحصول على الاستقلال. ثم إنَّ قادة الثوار في أمريكا اللاتينية كانوا في حاجةٍ إلى العبيد؛ للخدمة في جيوشهم، ومن ثَم وافقوا على منحِهم الحريةَ بعد الاستقلال. لا شك أنَّ التشريعات القانونية في الدول الحديثةِ الاستقلال مثل المكسيك لم تُلْغِ الصورَ النمطية العنصرية أو التمييزَ لأغراض المصلحة الذاتية. غير أنه بينما استمرَّت شعوب الكريول في الرفع من شأن بياض البشرة، لم تبقَ الأمور على حالها. فحيثما صار بإمكان السود، و«الكاستاس»، والهنود حينذاك التصويتُ في الانتخابات، وأن يكون منهم المقاتلون والجنودُ للإطاحة بالأنظمة المحافظة، كان لا بد من أخذِهم على محمل الجِدِّ أكثرَ من ذي قبل.
على الرغم من ذلك، فإن العقود التي أعقَبَت تحريرَ العبيد في أمريكا الشمالية عام ١٨٦٣ تؤكِّد مدى صلابةِ التوجُّهات والممارسات العِرقية أمام التغييرات التشريعية. فقد استندَت الصورة الذاتية للأمريكيين البِيض بصفتهم أسمى عِرقيًّا إضافةً إلى مراكزهم في سيادة الاقتصاد إلى تبعية ذَوي الأصول الأفريقية. ولهذا، فقد صاغ البِيضُ الجنوبيون بعد الحرب الأهلية، الفروقَ العرقية القديمة بحزمٍ عاجل، فكان كلٌّ مِن نزعِ حقِّ الاقتراع، والقتل والترهيب، وقوانين مُناهضة الاختلاط العِرقي؛ من ثِمار إلغاء العبودية. كتب تشارلز كارول في كتابٍ كان من الكتب الأكثر مبيعًا عام ١٩٠٠، وكان يُبرر الاستبعادَ الواسع الانتشار للسودِ واستغلالَهم، إنَّ «الرجل الأبيض هو رجلُ الحضارة في المقام الأول».
ولا ينبغي لنا أيضًا أن نفترض أن مَن نأَوْا بأنفسهم عن المشاعر العنصرية كانوا أكثرَ إنسانيةً بالضرورة. فالحديث عن الإمبريالية كوسيلةٍ نافعة في إعداد الشعوب الأصلية لحكمها الذاتي على سبيل المثال، لم يزد عن كونه ذَرًّا للرماد في العيون. وسنجد أنَّ روح «المهمة الحضارية» لم تُنشَر بدرجةٍ من الاستغلال أكبرَ من تلك التي شهِدَتها أواخرَ القرن التاسع عشر عندما تحدث الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا عن اختراق «الظلام الذي يُخيِّم على» شعوب أفريقيا، بينما كان يُخطط هو لمغامرةٍ اقتصادية خبيثة، أودَتْ بحياة الملايين في الكونغو.
خلال القرن التاسع عشر، اتضح وجودُ فجوة كبيرة بين ما جنَيْناه في المختبرات والحقول والحدائق من معرفةٍ بشأن الوراثة، وبين ما يتعلق بالجنس والطبقة الاجتماعية والعِرق من خرافاتٍ تخدم المصالح الذاتية، قد تأسَّسَت عليها معظمُ الأفكار عن الوراثة البشرية. وحتى إذا كان استخدام آلاتٍ مثل أداة قياس السُّمك وتطور أساسيات علم الإحصاء قد جعل العلمَ البشري يبدو تجريبيًّا، فإنَّ بعض الكُتَّاب لم يدمجوا افتراضاتهم الأيديولوجية في نظرياتهم عن الاختلافات البشرية. لا يعني هذا بالطبع أن مَزاعم علماء أمثال كوفييه، وجالتون، ومورتون أحدَثَت اختلافًا عميقًا في كيفية النظر إلى إخوانهم من البشر ومُعاملتهم على أرض الواقع. فقد ظلَّت الحقائقُ السياسية والاقتصادية هي التي تُحدد المواقف والسلوكيات تجاه النساء، والفقراء، والشعوب غير البيضاء.