الجزيئات والبشر
يصفُ هذا الفصلُ مظاهرَ الذكاء، والمهارة، والقُبح التي تطوَّرَت بها الأفكار المتعلقة بالوراثة وانتشرَت منذ أوائل القرن العشرين وحتى الستينيَّات منه. في غضون ستين عامًا، حقَّق علم الأحياء الجزيئية الجديد في فَهْم الوراثة معدلًا من التقدُّم فاق كلَّ ما أُنجِز في هذا المجال خلال الألفيات السابقة. وبالرغم من كلِّ هذه الإنجازات، لم يَنْأَ مجالُ علم الوراثة فورًا عن القوالب النمطية لعلم الأحياء الفيكتوري. فقد دافع بعضُ علماء الوراثة البارزين عن التدرُّجات الاجتماعية، والعِرقية، والقائمة على النوع الاجتماعي. وفضَّل آخَرون التعقيمَ القسري لِمَن اعتُبروا أدنى وراثيًّا، والقتلَ الجماعيَّ لهم في ألمانيا النازية. غير أنَّ الآراء المعارضة لهذه العقائد الماهوية، مثل الأيديولوجيات اليسارية، وحركات الحقوق المدنية، والجهود المتضافرة لمحاربة الإمبريالية قد حفَّزَت ردَّ فعلٍ قويًّا ضدَّ جميع الادعاءات الداعمة لدور الوراثة. واستمرَّت المعتقدات المتباينة جوهريًّا فيما يتعلق بصلةِ الوراثة بشئون البشر في تشكيلِ آراء اجتماعية وسياسية متضاربة.
انتصار المندلية
في عام ١٩٠٠، كُشِفَ عن قوانين مندل للانعزال والتوزيع المستقلِّ والسيادة من غياهب التاريخ. فقد ظهر عالمُ الأحياء التجريبيُّ البريطاني ويليام باتسون داعمًا رئيسيًّا للمندلية، بعد أن قرأ تجارِبَ مندل على نباتات البازلاء بينما كان مسافرًا على متن أحدِ القطارات من كامبريدج إلى لندن. قدَّم باتسون مصطلحًا صار الآن مألوفًا، وهو «الأليل» للإشارة إلى شكلٍ من شكلَين مختلفَين أو أكثر من الوحدة الوراثية نفسها، إضافةً إلى مصطلح «متغاير اللاقحة»؛ للإشارة إلى الحالة التي يَحمل فيها الكائنُ الحي أليلَين مختلفين لِسِمة معيَّنة، ومصطلح «متماثل اللاقحة» الذي يشير إلى وجود شكلٍ واحد من أشكال الأليل. في الوقت نفسِه تقريبًا، أسهم العالم الدنماركي فيلهلم جوهانسن بمصطلح «الجين» وقدَّم التقسيم المفاهيمي بين «النمط الجيني»؛ أي ما يرثُه الكائن الحي، و«النمط الظاهري»؛ أي الهيئة التي تظهر عليها الهبة الوراثية. غير أن إثبات صحة نظرية مندل قد استغرق وقتًا.
سرعان ما أضاف مختبرُ مورجان إلى هذه النجاحات من خلال استغلال سِمة غير متوقَّعة في سلوك الكروموسوم. فقد كشَفَت تجارِبُ التكاثر أنه على الرغم من أن الجينات التي تُوجَد على الكروموسوم نفسِه عادةً ما تُنقَل معًا، فإنَّ هذه القاعدة لا تنطبق في بعض الأحيان. وبناءً على هذا، فقد يحدث أحيانًا أن يُمثَّل جين الأجنحة الصغيرة الحجم الذي يُوجَد عادةً في كروموسومات الجنس الذكَري في أحد أفراد الذريَّة من الإناث. أصاب «عالم الخلايا»، أو عالم الأحياء الخلوية، البلجيكي فرانس يانسينس في اقتراحه القائل بأنه عندما تلتفُّ كروموسوماتُ الأم والأب بعضُها حول بعض في أثناء الانقسام المنصِّف، قد تتبدَّل أماكنُ بعض الأجزاء فيما بينها في عمليةٍ تُسمى «التعابر». أدرك مورجان وتلميذه إيه إتش ستورتيفانت أنه في حالة وجود جينَين أحدهما قريبًا من الآخر، فإنَّ احتمالية انفصالهما أقلُّ كثيرًا من احتمالية انفصال الجينات التي تُوجَد على مسافاتٍ بعيدة في الكروموسوم. بعد قياس المعدَّل الدقيق لتعابر عشَرات من السِّمات المختلفة في ذبابة الفاكهة، نشر ستورتيفانت في عام ١٩١٣ أول خريطة كروموسومية أوَّلية.
بعد ذلك، أوضَح مَن أجْرَوا التجارِب على ذبابة الفاكهة كيفيةَ نشأة الاختلافات الوراثية. وقد اتضح من اكتشاف كروموسومات كبيرة على غير المعتاد في الغدد اللعابية لذباب الفاكهة ذات التصبُّغ المميز للغاية، أنَّ الاختلافات يمكن أن تنشأ خلال انقسام الخلية. وثَّق مختبر مورجان عمليات التعابر الكروموسومي، إضافةً إلى حذفِ بعض أجزاء الكروموسومات أو مضاعفتِها أو عكسِها، ووثَّق أيضًا انتقال أجزاء من الكروموسوم إلى أماكنَ أخرى من الجينوم. ومن خلال دراسة التأثيرات الظاهرية لمثل هذه العمليَّات، بدَءوا في تحديدِ وظيفة نطاقات فردية في الكروموسوم. وفي عام ١٩٢٧، أثبَت أحدُ أمهرِ طلاب مورجان، وهو هيرمان جيه مولر، من خلال ذبابِ الفاكهة أنَّ الأشعَّة السينية تتسبَّب في طفراتٍ جينية. فكلما زاد الإشعاعُ زاد عددُ الأليلات المتحورة.
ثَمة باحثون آخَرون أيضًا كشَفوا عن أنَّ الأمراض البشرية تتوافقُ أحيانًا مع أنماط الوراثة البسيطة التي وصفها مندل. في عام ١٨٩٧، عرَّف الطبيبُ الإنجليزي أرتشيبالد جارود مرضَ ألكابتنيوريا باعتباره اضطرابًا وراثيًّا، وهو مرضٌ يجعل البول يتحول إلى اللون البنِّي المائل إلى الأسود. وسرعان ما أدرك باتسون أنَّ هذا المرض ينتج عن جين مُتنحٍّ. وفي مناطق أخرى، وثَّق علماء الأحياء أنماط الوراثة المندلية لفصائل الدم الرئيسية، وكذلك دَور الجينات في أمراض مثل الضُّمور العضلي الدوشيني والعَمى الليلي.
أسفَرَت هذه الاكتشافاتُ عن طريقةٍ ثورية جديدة في فَهْم الوراثة جعَلَت كلَّ ما تَحقق قبلها يبدو ساذَجًا للغاية. فبحلول أواخِر العشرينيَّات من القرن العشرين، أدرك علماءُ الوراثة أننا جميعًا نتلقَّى موادَّنا الوراثية من كِلا الوالدين، وأنَّ الجينات تتكوَّن من وحدات مادية دقيقة تصطفُّ على الكروموسومات، وأن الاختلافات الوراثية تنشأ نتيجةَ عبور أجزاء من الكروموسوم خلال الانقسام المنصِّف أو نتيجةً لطفرات صغيرة تُسببها أضرار بيئية مثل التعرُّض للإشعاع. عرَفوا أيضًا أنَّ الجينات تتفاعلُ بطرقٍ مُعقَّدة بعضها مع بعضٍ ومع البيئة. وقد بدا أنَّ هذه الاكتشافات لا تترك أيَّ مجالٍ لتوارُث الخصائص المكتسَبة. فأنَّى أن تُدمَج تَجارِب الحياة التي تؤثِّر على خلايا الجسم في كروموسومات الخلايا الجنسية التي لم تترك الخصيتَين والمبيضَين قط؟
حقيقة الأمر أنَّ نظرية توارث الخصائص المكتسَبة لم تزدهر إلا بفضلِ تروفيم ليسينكو في الاتحاد السوفيتي. ففي عام ١٩٢٧، عرَّض ليسينكو بذورَ القمح للرطوبة والبرد، متوقعًا أن تنبت أسرعَ في الربيع. لم تكن النتائجُ مبهرة. بالرغم من ذلك، بدأ يُقدم الزعم الزائف بأنَّ البذور قد تغيَّرَت وراثيًّا فصار نسلُها مُعَدًّا للإنبات مبكِّرًا. بدا هذا إنجازًا باهرًا؛ إذ كان يعني أنَّ الرُّوس الذين يعيشون في مناطقَ تتَّسم مواسمُ النمو فيها بالقِصَر أن يزرعوا بذورَ ليسينكو ويتوقَّعوا الحصول على محاصيلَ وفيرة. وتحمَّس جوزيف ستالين للقيمة الدعائية لوجود «ابن متواضع من عموم الفلَّاحين المزارعين» يهزم النُّخبَ العِلمية البرجوازية في الغرب، ومن ثَم سمح لليسينكو بالتخلُّص من مُنافسيه المندليِّين. فمات نيقولاي فافيلوف، الذي رفض (على حدِّ تعبيره) أن «يتحول» إلى «المذهب الليسينكووي»، في السجن بسبب سوء التغذية. ساد عِلمُ ليسينكو الزائفُ في الخمسينيَّات من القرن العشرين، وكانت له آثارٌ كارثية على المزارعين الروس الذين تبنَّوا أساليبه. وبعيدًا عن الاتحاد السوفييتي، كان شبح لامارك قد أصبح ساكنًا منذ زمنٍ طويل.
التزاوُج المتأخِّر بين داروين ومندل
بحلول ثلاثينيَّات القرن العشرين، كانت البشريةُ قد علمَت عن الوراثة ما يكفي لأن يتمكَّن علماءُ الأحياء أخيرًا من إدراك التوافُق بين الانتقاء الطبيعي الدارويني وعلم الوراثة المندلية. ففي وقتٍ سابق من القرن، كانت مجموعةٌ من علماء الأحياء البريطانيين عُرفوا باسم «خبراء الإحصاء الحيوي» قد حاجَجوا بأنَّ قوانين مندل لا تنطبق إلا على توارُث الصفات المحددة، مثل ما إذا كانت عينا الشخص زرقاوَين أم بُنيتَين أو ما إذا كانت زهورُ نبات البازلاء أرجوانيةً أم بيضاء. أما السمات التي تختلف باستمرار، مثل الطول والوزن، فقد أصرُّوا على أن وراثتها تنطوي على انتقال أعدادٍ لا تُحصى من الوحدات الممتزجة التي لا يمكن لها جميعًا أن تنعزل. زعَم خبراء الإحصاء الحيويِّ أيضًا أن التطوُّر يحدث من خلال الانتقاء الطبيعي لعددٍ كبير للغاية من الاختلافات الصغيرة لدى جماعةٍ ما. وفي المقابل، أصرَّ المندليون الأوائل على أن جميع السِّمات تخضع لقوانين مندل، وأن التطور يحدث من خلال الطفرات الكبيرة المفاجئة نِسبيًّا. قالوا أيضًا إنَّ التطور التدريجيَّ على النمط الدارويني لا يمكن أن يحدث لأنَّ الاختلافات الوراثية الصغيرة ستختلط دائمًا وتَئول إلى الاندثار عندما تتزاوجُ الكائنات الحية مع غيرها من أفراد النوع.
حدث التوافقُ بين الرأيَين تدريجيًّا. أظهر علماءُ الوراثة أن الأنماط الظاهرية يمكن أن تختلف باستمرارٍ في الجماعات، لكنها تظلُّ نتاج عدد قليل من الجينات التي تتبع القوانين المندلية. بعبارةٍ أخرى، تَنتج معظمُ الصفات عن جيناتٍ متعدِّدة لا يكون لكلٍّ منها على حدةٍ سوى تأثيرٍ متواضع. وجمَع علماء الأحياء أيضًا الكثيرَ من الأدلة على وجود مستوياتٍ عالية من الاختلاف الجيني بين الجماعات تسمح بعمل الانتقاء الطبيعي الدارويني وَفقًا لها. إضافةً إلى ذلك، ففي العشرينيَّات والثلاثينيات من القرن العشرين، ظهر بالأدلة الكمية على يد سيوال رايت في أمريكا وآر إيه فيشر وجيه بي إس هولدين في بريطانيا أنَّ الانتقاء الطبيعيَّ يقود التغييرَ التطوُّري من خلال العمل على هذه المتغيرات الجينية العشوائية الصغيرة. وقد صار هذا الاتحادُ بين علم الوراثة المندلي والانتقاء الطبيعي معروفًا باسم «التخليق التطوري».
تمويل البحث في علم الوراثة
في أوائل القرن العشرين، أدَّى اكتشافُ وجود قواعد صارمة محددةٍ للتوارث إلى تغييرِ التصوُّر المعتاد عن أهمية دراسة الوراثة. وبعد أن كان مجالًا هامشيًّا إلى حدٍّ ما، بدأ علمُ الوراثة في جذب التمويلات الكبيرة ودعمِ المؤسسات. نشأ هذا الدافعُ لتمويل العمل في علم الوراثة نتيجةً لإدراك أمرَين؛ أولهما أنَّ المندلية قد تُحدِث ثورةً في التربية التِّجارية للنباتات والحيوانات، والثاني أنها قد تُوفر المعلوماتِ اللازمةَ لتنظيم التكاثر لدى البشر.
كانت تربية المحاصيل والماشية في ضوء قوانين مندل تُبشِّر بقدرتها على إطعام أعدادٍ كبيرة من الجماعات الحضارية في العصر الصناعي. وسرعان ما أُنشِئَت مراكزُ تجريبية لدراسة الوراثة النباتية والحيوانية في أوروبا وأمريكا. عملت الكليةُ الزراعية ببرلين عن كثبٍ مع المربِّين التجاريِّين، في حين عيَّنَت وزارة الزراعة الأمريكية علماءَ درَّسوا المندلية بهدفِ إنتاج سُلالاتٍ هجينة جديدة من الذُّرة. ومن اللافِت للنظر أن أول جمعية تشكَّلَت لعلم الجينات كانت جمعيةَ المربِّين الأمريكيين، التي تأسَّسَت عام ١٩٠٣ لتطبيق الوراثة المندلية ﻟ «تحسين النباتات والحيوانات».
أدَّت الرغبة في التحكم في التكاثر لدى البشر إلى تشكيلِ دافعٍ آخَر. ففي بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا والدول الاسكندنافية وغيرها، استغلَّ علماءُ الأحياء المندليةَ باعتبارها تُقدِّم أساسًا عِلميًّا لتنظيم التكاثر. وتحقيقًا لهذه الغاية، موَّلَت مؤسسةُ كارنيجي مكتبَ سجلِّ تحسين النسل في لونج آيلاند، الذي ترأَّسَه المندلي وعالمُ تحسين النسل تشارلز دافنبورت. وبتوجيهِ المدير هاري لافلين، أصدر العاملون الميدانيُّون آلافَ الاستبيانات التي تمكَّنوا من خلالها من تحديد الأنساب. مدفوعين بالحماس لا الدقة في كثيرٍ من الأحيان، سعى هؤلاء لإثباتِ أنَّ سماتٍ مثل إضمار الأحقاد ونزف الدم الوراثي والذكاء والبرود الجنسي، وحتى تربية النحل، على تنوُّعها الشديد، تخضع جميعُها لقواعدِ التوارث المندلية. وعلى غِرار العديد من مُعاصريه من علماء الأحياء، ترسَّخ في اعتقاد لافلين أنَّ الجريمة والدِّعارة، والمرض العقلي والفقر، كل ذلك ينتج عن جيناتٍ يمكن استئصالها عن طريق التعقيم القسري.
وجد تحسينُ النسل في علماء الوراثة في أوائل القرن العشرين قاعدةً عريضة من المؤيدين. بالرغم من ذلك، لم يؤيِّدْه الجميعُ بحماس؛ فقد أدان تي إتش مورجان، على سبيل المثال، «التصريحات المتهوِّرة» للداعين لتحسين النسل. لكنَّ آخَرين اعتبروا أنه الفرع التطبيقيُّ لمجال علم الوراثة، ليس إلا. وبدعمٍ من علماء الأحياء مثل دافنبورت، سُنَّت في نهاية العشرينيَّات من القرن العشرين قوانينُ التعقيم الإجباري في أربعٍ وعشرين من الولايات الأمريكية. وبإلهام من قوانين التعقيم الأمريكية، درَّس علماء الأحياء الألمان علم تحسين النسل في العشَرات من المقررات الجامعية. فنجد أنَّ عالِمَي الأحياء المرموقَين، يوجين فيشر وفريتز لينز قد أيَّدا فكرة تحسين النسل في كتابٍ شهير قرأه أدولف هتلر عندما كان في السجن إثرَ محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها عام ١٩٢٣. وثَمة أمورٌ ثلاثة على الأقل جمَعَت بين علماء تحسين النسل هؤلاء: أولها تلك المغالاة الشديدة في تقدير قوةِ الوراثة، وثانيها رؤية الحياة من منظورِ تحليل التكلِفة للجودة الجينية المفترضة، وثالثها الرغبة في تحسين الوضع المهني، وهو ما كان يُمكنهم توقعُه إذا أصبحوا هم أصحابَ القرار فيمن يجب أن يُسمح له بالتكاثر.
علاوةً على ذلك، حظيَت مذاهبُ تحسين النسل بالتأييد الكبير بين رجال الطبقة المتوسطة ونسائها ممَّن هم خارج النطاق الأكاديمي؛ إذ أزعجَتهم الأعباءُ الضريبية المرتفعة وحجم القذارة والجريمة في المجتمعات الحضرية. تضخَّم عدد الأعضاء من العامة في جمعيات تحسين النسل نظرًا إلى اقتناع قطاعاتٍ من الجمهور بأن الطبقات الاجتماعية الدُّنيا قد شكلَت بقايا من البشر الضعفاء أخلاقيًّا وفكريًّا، وأنَّ الطبقات المتحضرة عرضةٌ لخطر أن يطغى عليها المعادون للمجتمع وغير المنتجين. وعندما وافقَت المحكمةُ العليا في أمريكا على تعقيم شابةٍ يُزعم أنها «بلهاء» كانت تُدعى كاري باك، تضاعفَ معدَّل التعقيم القسري من ١٦٠٦٦ في عام ١٩٣٢ إلى ٣٣٠٣٥ في عام ١٩٣٩. وسرعان ما كان لكَندا، والدنمارك، والسويد، وفنلندا، والنرويج قوانينُ التعقيم الخاصة بها.
العقلية الداعمة لدور الوراثة
لقد رأى علماءُ تحسين النسل مثل دافنبورت أنَّ ضعف الذكاء، والإجرام، والانحلال الأخلاقي تنتج عن جيناتٍ مندلية فردية أفسَدَت الفقراءَ من السكان الأصليِّين والمهاجرين. وعلى أيدي «علماء القياس النفسي»، أصبحَت اختباراتُ الذكاء الجديدة وسيلةً مفضَّلة لتأكيد مثلِ هذه التحيُّزات. فأجرى روبرت إم يركيس، الذي تلقَّى تدريبه على يد دافنبورت، اختبارات الذكاء لمليون و٧٠٠ ألف رجل جُنِّدوا للقتال في الحرب العالمية الأولى. وقد كان أداء الجنود الذين لا يتحدثون الإنجليزيةَ في الإجابة عن الأسئلة أسوأ، كما هو متوقَّع، مِمَّن كانت معرفتُهم بالثقافة أصلية. بالرغم من ذلك، ادَّعى يركيس وزميلُه لويس تيرمان أنَّ المهاجرين من «جنوب وجنوب شرق أوروبا» أدنى فِطريًّا من «السلالات الشمالية والألبية». ولم يكن لدى يركيس وتيرمان أيضًا الكثيرُ من الاعتقادات الجيدة بشأن الأمريكيين الأفقرِ المولودين في البلاد. فعندما اعتمدَت جامعات رابطة «آيفي» الأمريكية الاختبارات الموحَّدة خلال ثلاثينيَّات القرن العشرين، لم يكن من المتوقَّع قط، حسَب قول المؤرخ نيكولاس ليمان، تمييزُ أكثرَ من «بضع سندريلات» من المولودات للمُزارعين، أو التجَّار، أو أصحاب الأعمال الصغيرة.
في أوائل القرن العشرين أيضًا، ازدهر الاعتقاد بأن البشر بطبيعتهم غيرُ متساوين في إمبراطوريات أوروبا المتراميةِ الأطراف، وفي الولايات الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث نصَّت قوانينُ جيم كرو على الفصل العنصريِّ في المدارس، والمواصلات العامة، والمطاعم، وحتى نوافير الشرب. وبدا من العديد من البريطانيين في الهند نقصٌ مذهل في التعاطف مع الملايين الذين لَقُوا حتفهم خلال مجاعاتٍ مُتتالية بين عامَي ١٨٧٦ و١٩٠٢. وفي غرب أفريقيا الألمانية، كان شعب الهيريرو يُعدُّ عديم القيمة حتى إن المستعمرين أرسَلوا إلى أوطانهم بطاقاتٍ بريديةً عليها صورُهم وهم يعملون حتى الموت. وبعيدًا في الجنوب، كان أحفادُ المستوطنين الهولنديين والبريطانيين في جنوب أفريقيا يضَعون الإطارَ القانوني الذي تطوَّر إلى نظام الفصل العُنصري. وفي أمريكا الشمالية، وجد استطلاعٌ في عام ١٩٣٩ أنَّ ٧١ في المائة من البِيض يعتقدون أنَّ «الزنوج» أقلُّ ذكاءً.
التشكيك في الوراثة
على الرغم مما سبق، تعرَّضَت المزاعم الزائفة لدافنبورت، ولافلين، ويركيس لانتقاداتٍ حادَّة خلال ثلاثينيَّات القرن العشرين. فقد تراجع علماءُ الأحياء في أمريكا بشكلٍ متزايد عن الخُبث والوقاحة اللتين اتَّسمَت بهما القاعدة العامة من دُعاة تحسين النسل. ففي عام ١٩٢٧ علَّق الطبيب الأمريكي لويليس باركر قائلًا: «من الناحية الجينية فإن البشر لقطاءُ مُتغايرو اللاقحة، وهجينٌ متعدِّد الصفات.» وفي عام ١٩٤٠، أغلقَت مؤسسة كارنيجي مكتبَ تسجيل تحسين النسل، غيرَ عابئةٍ بصرامة عمل لافلين.
ظهرَت موجةٌ جديدة من التحليلات تُسلط الضوء على الافتراضات الاجتماعية الساذَجة التي شكَّلَت التفسيرات السابقة لبيانات معدَّل الذكاء. فقد قدم الباحثون، مثلُ عالمة النفس الأمريكية ليتا هولينجورث حججًا قوية، على أن الفجوة في الإنجاز بين الذكور والإناث تَنتج عن التفاوت في التنشئة الاجتماعية. وعلى الرغم من أنَّ اكتشاف الهرمونات الجنسية وفَّر لغةً جديدة للتعبير عن الاعتقاد بوجودِ فروقٍ فطرية بين الجنسين؛ فقد قوَّضَت اختباراتُ معدل الذكاء الادعاءاتِ القائلةَ بأن الإناث أقلُّ ذكاءً من الذكور. وفي عام ١٩٢٢ أعلن ترمان نفسُه أنَّ الاختبارات المعيارية أيَّدَت أخيرًا «مطالبة المرأة بالمساواة الفكرية مع الرجل». علاوةً على ذلك، ظهَرَت دراساتٌ طعَنَت في النظريات الداعمة لدور الوراثة في الطبقات الاجتماعية، ومنها الدراساتُ التي أجْراها مركزُ أبحاث رعاية الطفل لجامعة آيوا، والتي زعمَت أن أبناء الآباء من ذَوي الدخل المنخفض يُحققون معدَّلَ ذكاءٍ مرتفعًا إذا تحسَّنَت بيئاتهم المنزلية.
في الوقت نفسِه، كانت إحدى مدارس الأنثربولوجيا الحديثة تُعارض الفكرة القائلة بأن الأعراق متمايزةٌ وراثيًّا. في لندن، افترضت «الأنثروبولوجيا الوظيفية» التي طرحَها برونسيلاف مالينوفسكي أنَّ جميع المجموعات البشرية تُنتج أفكارًا وممارساتٍ لا يمكن مقارنتها وَفقًا للمعايير نفسِها مع الحضارة البيضاء، باعتبارها الحضارةَ المثالية. وفي أمريكا أيَّد هذه الحُجةَ فرانز بواس، وهو عالم أنثروبولوجيا من المهاجرين الألمان، وقال إن فكرة الفرد «المثقَّف» هي فكرة «نسبيَّة تمامًا». كرَّس طلاب بواس، بمَن فيهم روث بنديكت ومارجريت ميد، حياتَهم المِهنية لانتقاد «التفاخر العنصري» الذي تتَّسمُ به الأنثروبولوجيا الفيزيائية. ففي حديثها عن «الإنسان البدائي»، قالت بنديكت إنَّ «خليَّتَه الجنسية لا تحمل عنصرًا واحدًا من عناصر نظامه الاجتماعي، أو لغته، أو دينه».
إضافةً إلى هذا كلِّه، كانت الضغوط الاجتماعية والسياسية تزداد ضدَّ التحيُّزات العنصرية والطبقية التي حافَظَت على العقلية الداعمة لدَور الوراثة. ففي أمريكا الشمالية، صار صوتُ السود بدرجةٍ أكبر في العموم واكتسَب مزيدًا من الثقة، بسبب الهجرة بين عامَي ١٩٠٠ و١٩٤٠ التي قام بها أكثرُ من مليون ونصف منهم إلى المدن الشمالية مثل شيكاغو وديترويت وبيتسبرج، حيث تمكَّنوا من التصويت، وممارسة درجةٍ من النفوذ السياسي، والحصول في بعض الأحيان على عضوية النقابات العمالية. وراح الكُتَّاب السُّود مثلُ دبليو إيه بي دو بويز يستخدمون بَلاغتَهم في إدانة العنصرية المؤسسية التي أبْقَت السودَ «خلف جدارٍ من الظلم الاجتماعي». في الوقت نفسِه، أدَّى صعودُ حركات الطبقة العاملة البيضاء إلى تقويض مصداقية العقلية الطبقية. فوفقًا للكاتب الإنجليزي روبرت روبرتس «مات الانصياعُ القديم» بدرجةٍ كبيرة بعد الحرب العالمية الأولى. وراح عددُ الرجال العاملين الذين يعتقدون أنَّ الفروق الطبقية أمرٌ طبيعي «كالعُقد في الأخشاب» يقلُّ أكثرَ فأكثر.
ينطبق الأمر نفسُه فيما يتعلق بالمشاعر الاستعمارية القديمة، التي صار الحفاظُ عليها أكثرَ صعوبةً مع تغير الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فصحيحٌ أنَّ احتلال الهند ظلَّ قَمعيًّا، لكن الحرب العالمية الأولى قد ترَكَت خزائنَ بريطانيا فارغة، وحدودها أوسع، وقدرتها على الدفاع أقل. ولمَّا بات من الواضح أنه لا سبيل لإنقاذ حُكم بريطانيا في الهند إلا بمنح السُّلطة للمزيد من الهنود، فقد بدَأَت العنصريةُ الصريحة في التراجع. وفي أفريقيا، ضعفَت قوةُ الحكام البيض بفعل القُوى الاقتصادية التي كانوا قد أطلَقوا لها العِنان بأنفسهم. وفي الأماكن التي شهِدَت إجبارَ السكان الأصليين على العمل المدفوع الأجر في المناجم والمصانع، صار على السلطات الاستعمارية حينذاك أن تتصدَّى للبروليتاريا الحضَرية التي استطاعت تنظيم نفسِها على نحوٍ أفضلَ كثيرًا من نظيراتها في المناطق الريفية. وفي جنوب أفريقيا شرع المؤتمرُ الوطني الأفريقي في مقاطعةِ الحافلات والإضراب؛ سعيًا لتحقيق أوضاعٍ أفضل. وطوَّر أنطون ليمبيدي أيديولوجيةَ الفخر العرقي، التي كانت بمثابة تِرْياق لقرونٍ من سموم تشويه الذات والتحقير منها. فقد أعلن قائلًا: «يجب أن نؤمن حقًّا أننا لسنا بأقلَّ شأنًا من أي عرقٍ آخَر على وجه الأرض.» كل هذه الحركات قد لاقت نجاحًا محدودًا، بل إنَّ بعضها استثار انتقامًا وحشيًّا، غير أنها أرْسَت الأُسس لحركةٍ فعالة ما بعد الحرب؛ لمقاومةِ تنظيم المجتمعات على أساسٍ عنصري.
الحرب والرعب والهولوكوست
حدَّد المؤرخون عددًا من العوامل التي جعَلَت المشاركةَ في الإرهاب النازيِّ مقبولةً لدى الكثيرين. والحقُّ أنَّ العلماء أسهَموا في الأمر بطرقٍ عدة. فقد قدَّموا مفاهيمَ بيولوجية استخدمَها النازيُّون لشيطنة الألمان اليهود ولِوَصمِ غير المنتجين بأنهم «أكَلة عديمو الفائدة». فعلى سبيل المثال، لبِثَ يوجين فيشر عقودًا يؤكِّد فيها على التفوق الفطري «للعرق» النوردي ودونيَّة اليهود. وتمكَّن النازيون أيضًا من الاعتماد على الدعم الطوعيِّ للعلماء والأطباء في تنظيم جرائمهم وتنفيذها. فعلى الرغم من أن علماء الأحياء البارزين مثل فيشر نادرًا ما كانوا يُشاركون في صياغة قوانينَ تحسين النسل ولم يُشاركوا في وضع خُطة الحلِّ النهائي، كان للنازيِّين أن يُعوِّلوا على قَبولهم الضِّمني. وحتى العلماء الذين لم يؤيِّدوا التطرف النازيَّ في تحسين النسل، فقد قدَّروا على الأقل التمويلَ الإضافيَّ والمكانةَ التي حصلوا عليها في ذلك الوقت. فقد قالت ابنةُ أحد العلماء في وقتٍ لاحق إن والدها «كان على استعدادٍ أن يبيع نفسه للشيطان مقابلَ أن يحصل على المال لمعهده». ثم إنَّ زملاء فيشر في برلين لم يتحرَّجوا من استخدام البيانات والعينات البيولوجية المستمَدَّة من تَجارِبه الكريهة المتعلقة بالوراثة البشرية، التي كانت تُجرى في معسكر أوشفيتز للاعتقال والإبادة على يدِ جوزيف منجليه.
ثَمة عواملُ هيكلية أيضًا ساعَدَت في حدوث الهولوكوست. فنظرًا إلى أنَّ ألمانيا دولةٌ حديثة، كان لديها من القوة العسكرية والشرطية ما يُمكنها من إحباط المقاومة، فضلًا عمَّا كانت تتمتع به من خبرةٍ تكنوقراطية وجهاز بيروقراطي لازمَين لتنفيذ جرائمِ قتلٍ على نطاقٍ واسع. إضافة إلى ذلك، يُشير المؤرخون إلى المزيد من العوامل المباشرة التي سمَحَت للأيديولوجيات العنصرية أن تنتهيَ بالإبادة الجماعية. من هذه العوامل فشلُ الخطط السابقة المتمثِّلة في توطين ملايينِ اليهود على نحوٍ دائم في بولندا أو روسيا أو مدغشقر، وتصاعد عدم المبالاة بالمعاناة الإنسانية الناجمة عن مُتابعة الحرب الوحشية في الاتحاد السوفييتي، والسياق المواتي لصياغة السياسات المتطرِّفة، الذي نتَج عن وجود عدة وزارات تُحاول كلٌّ منها التفوقَ على الأخرى من أجل مصلحة هتلر الشخصية، ثم هنالك الفرصة التي سنحَت للكثيرين بالاستفادة من الدخل والمكانة الناشئَين من المشاركة في الاضطهاد والقتل الجماعي لليهود. علاوةً على ذلك، فإنَّ عمليات القتل النازية توضِّح الاستعدادات النفسية التي من شأنها أن تدفع بالعاديِّين من الرجال والنساء لارتكاب الفظائع. يبدو أن الحسَّ الأخلاقي للعديد من الجناة قد تَعطَّل جرَّاء تَلقِّيهم للأوامر من جهاتٍ عُليا؛ إذ كانوا يخشَون انتهاكَ القواعد الجديدة للجماعة، وهم لم يشعروا بمسئوليةٍ أخلاقية مباشرة لانخراطِ الكثيرين في تنفيذ سياسات الإبادة الجماعية.
لم تقتصر تلك الفظائعُ العنصرية على ألمانيا وحدَها. فقد انتشرَت المواقفُ المعادية للسامية في أمريكا، وأوروبا الشرقية، وبريطانيا، وفرنسا. وتعاون المكتبُ المسئول عن «الشئون اليهودية» في فرنسا الفيشية طَواعيةً مع النازيِّين لإرسال نحوِ ٨٠ ألفًا من اليهود إلى معسكرات الموت. وتجلَّت الوحشية الراعبةُ في تصرفات الجنود في ساحات الحرب الأخرى. فقد كانت جرائمُ اليابانيين في اغتصاب نانكينج في عامَي ١٩٣٧ و١٩٣٨ ومعاملتهم البشعة للنساء في كوريا والصين والفلبين، وفي أماكنَ أخرى؛ إنكارًا شِبهَ كامل لإنسانيةِ ضحاياهم.
اكتشاف الجين
بعد الحرب العالمية الثانية، ساعد ما تكشَّف من الحقائق عن السياسات النازية لتحسين النسل في التخفيف من رغبة علماء الأحياء في إصدار تصريحاتٍ فجَّة بشأن بيولوجيا السِّمات العقلية البشرية. غير أنَّ هذا التحولَ لم يحدث بين عشيةٍ وضُحاها. فقد أشار عالمُ الأحياء الأمريكي ثيودوسيوس دوبجانسكي في عام ١٩٤٧ إلى أن تعريف مصطلح «الأعراق» في «الموسوعة الأمريكية» «يبدو كأنَّ مَن كتبه هو السياسي النازي الألماني يوزف جوبلز». واستمرَّ إجراء عمليات التعقيم القَسْريِّ في الولايات المتحدة والدول الاسكندنافية. لكنَّ عدد عمليات ربطِ أنابيب الرحم وقطع القَناة المنوية قد تراجع، وأُغلِقَت العديد من جمعيات تحسين النسل. علاوةً على ذلك، أيَّد العلماء على نطاقٍ واسع تصريحَ اليونيسكو لعام ١٩٥٣ بأنَّ العِرْق «خُرافة اجتماعية» وليس «حقيقةً بيولوجية».
بالرغم من تراجع مِصداقية علم تحسين النسل، لم يَنفُضْ مُحبُّو الأعمال الخيرية من القطاع الخاصِّ أيديَهم من علم الوراثة. وإنما استحوذت الدراسةُ العلمية للوراثة على اهتمام رجالٍ مثل وارين ويفر المسئول بمؤسسة روكفيلر، والذي استشرفَ مستقبلًا يمكن فيه تعديلُ المجتمع بحيث يكون خاليًا من الأمراض، والصراعات، واللاعقلانية. لكنه كان يرى أنَّ «علم الإنسان الجديد» الذي تَصوَّره لا بد أن يرتكزَ على البحث التجريبيِّ الدقيق. ففي جامعاتٍ مثل معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، جمعَت أموال روكفيلر وكارنيجي آنذاك علماء بارعين وجهزَت مختبراتهم بأحدث المعدات. ما الذي كان يتبقَّى إذن؟ توضيح الأساس الجزيئيِّ للوراثة. كان البحث الوراثيُّ على وشك التوسع بدرجةٍ كبيرة.
بحلول عام ١٩٤٠، كان علماءُ الأحياء جميعهم تقريبًا يتَّفقون على أن الجينات هي وحداتٌ بيوكيميائية متفرِّدة تُحمَل على الكروموسومات في مواقعَ محدَّدة. غير أنهم افترَضوا خطأً أنَّ الجينات تتكوَّن من البروتينات. فلأن سلاسل البروتين يمكن أن تتكوَّن من ٢٠ حمضًا أمينيًّا مختلفًا تتشكَّل في العديد من آلافٍ من التوليفات؛ بدا من المنطقيِّ افتراضُ أنها هي وحدَها التي تتمتَّع بأعلى مستوياتِ التخصص اللازمة لإنتاج الحياة بجميع أشكالها المتنوِّعة المذهلة للعقول.
ظهر دليلٌ آخر على أن الحمض النووي هو الركيزة الفيزيائية للوراثة من عمل شبكةٍ غير رسمية من العلماء الأمريكيِّين، عُرِفَت باسم «مجموعة العاثيات»، ومن أبرز أعضائها اثنان من العلماء المهاجرين من أوروبا الفاشيَّة، وهما سلفادور لوريا وماكس ديلبروك. بعد أن التقى لوريا وديلبروك عام ١٩٤٠، أعادا توجيهَ دراسة علم الوراثة إلى مجموعاتٍ جديدة من الكائنات الحية، وهي البكتيريا المعويَّة «الإشريكية القولونية» وطائفة من الفيروسات، وهي العاثية التي تتكاثرُ داخل بكتيريا الإشريكية القولونية قبل أن تنفجر مُدمِّرةً بذلك مُضيفَها السابق. وفي عام ١٩٤٣، أثبتَت مجموعةُ العاثيات أنَّ البكتيريا تحتوي على جينات. كان هذا الاكتشاف يعني أنَّ علماء الأحياء يستطيعون دراسة الوراثة في الكائنات الوحيدة الخلية البسيطة في تركيبها البيوكيميائي، التي تتكاثر بسرعةٍ مذهلة.
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى حصَلوا على صورٍ بالمجهر الإلكتروني لعاثيات لها رءوس توجد فوق أغلفة أضيق بدَت مُثبَّتة على جدران الخلايا البكتيرية من خلال مجموعاتٍ من الألياف الذيلية. ظنَّ هؤلاء العلماء أنَّ سلوك العاثيات شبيهٌ بحَقنٍ تحت الجلد، أي إنها تلتصقُ بجدار الخلية قبل حقن جيناتها في السيتوبلازم البكتيري. لكن إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يُنقَل إلى البكتيريا من أجل إنتاج الجيل القادم من العاثيات؟
في عام ١٩٥٢، تعاون العالم الأمريكي ألفريد هيرشي، الذي كان عضوًا بارزًا في مجموعة العاثيات، مع مساعِدته مارثا تشيس لابتكار تجرِبة بهدف معرفة الإجابة. استفادا من حقيقة أنَّ البروتينات تحتوي على الكبريت دون الفوسفور، بينما تحتوي الأحماض النووية على الفوسفور لكنها لا تحتوي على الكبريت. بعد السماح للفيروسات العاثية بالنموِّ في وجود الفوسفور والكبريت المشِعَّين، أمكن لهيرشي وتشيس حينئذٍ معرفةُ ما إذا كانت العاثية قد أدخَلَت أحماضًا نووية في البكتيريا التي غزَتْها أم أنها أدخلت بروتينات. اكتشفا أن مُعظم الحمض النووي للعاثية قد انتهى به المطافُ في البكتيريا، بينما بقي معظمُ البروتين خارجَها. وبهذا قدَّمَت التجرِبةُ دليلًا آخَر على مسئولية الحمض النووي عن الوراثة.
اكتشاف كيفية عمل الجينات
شجَّع اكتشافُ تركيب الحمض النووي على التفكير في الوراثة باعتبارها نقلًا للمعلومات في شكلِ أبجديةٍ تتكوَّن من أربعة أحرف. فقال الروسي المولد جورج جاموف إنَّ النواة هي في الواقع «مخزن للمعلومات». غير أنَّ أحدًا لم يعرف أيَّ شيءٍ تقريبًا عن الكيفية التي يعمل بها الحمض النووي بالفعل. وفي عام ١٩٥٧، صمَّم اثنان من علماء الأحياء الأمريكيين، ماثيو ميسلسون وفرانكلين شتال، تجرِبةً أثبتَت صحةَ فرضيةِ واتسون وكريك، القائلةِ بأنَّ الشريطَين المُتكامِلين للحمض النووي ينفصل أحدُهما عن الآخر، فيتسنَّى للجزيئات الوليدة أن تتشكَّل على قالَبَي الشريطين الأصليَّين. في غضونِ سنواتٍ قليلة، تمكَّنَت شبكةٌ من العلماء في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، من رسم الخطوط العريضة للنظام المعقَّد الذي تُمثَّل الجيناتُ من خلاله. فأوضَحوا أنَّ العملية تعتمد على ثلاثة أنواع على الأقل من الحمض النووي الريبوزي.
كان علماء الوراثة يعرفون بالفعل أنَّ القدرة على تشفير البروتينات لا تُوجَد لدى جميع أجزاء الحمض النووي. فلا بدَّ من اشتراك بعض التسلسلات في التحكُّم في مكانِ تشكيل الحمض النووي الريبوزي الرسول وزمانه، والتحكُّم أيضًا في مقدارِ البروتين الناتج. بحلول أوائل خمسينيَّات القرن العشرين، تمكَّنَت عالمةُ الوراثة الأمريكية باربرا مكلينتوك من تقديم نتيجةِ أبحاثها لعقودٍ على الذُّرَة، التي كشَفَت عن مجموعةٍ رائعة من الجينات «التنظيمية».
بالرغم من ذلك، فقد أُهمِلَت اكتشافاتها مع الأسف، وأحد أسباب ذلك أن أفكارها بدَت صعبةَ التصديق. استلزم الأمرُ عملَ جاك مونود، وفرانسوا جاكوب، وزملائهما في باريس خلال أواخر خمسينيَّات القرن العشرين للكشفِ عن شيءٍ من التعقيد المذهل للتنظيم الجيني.
كانوا يدرسون كيف أنَّ البكتيريا الإشريكية القولونية تطوَّرَت لإنتاج الإنزيم الضروري لهضم سكَّر اللاكتوز في حالةِ وجود السكَّر بالفعل فحسب. وبهذا توصَّل علماءُ الأحياء الفرنسيون إلى فكرة «المَشغل». فقد أدركوا أنه لا بدَّ من وجود العديد من الجينات التنظيمية التي تقع مباشرةً قبل — أو «في اتجاه» — الجينات التي تُشفِّر إنزيمَ هضم اللاكتوز بالفعل. افترضوا، على نحوٍ صحيح، أنَّ أحدَ هذه الجينات يُشفِّر بروتينًا «مُثبطًا» يَحول فِعليًّا دون وصولِ «آلية النسخ» إلى الجينات المسئولة عن تشفير الإنزيم ما لم يكن اللاكتوز موجودًا بالفعل. نتيجةً لذلك، لا يمكن للحمض النووي الريبوزي الرسول أن يتشكَّل. وسرعان ما أصبح الْمَشغل مفهومًا أساسيًّا في علم الوراثة. إنَّ تَشكُّل الكائنات الحية المعقَّدة قد أصبح ممكنًا بفضل تطوُّر الجينات «التنظيمية» التي تتحكَّم في نشاط الجينات «التركيبية». وعلى الرغم من أنه اتضَح فيما بعدُ أنَّ علم الوراثة الحيواني أكثرُ تعقيدًا بكثيرٍ من «بدائيات النَّوَى» أحادية الخلية مثل الإشريكية القولونية، فقد تحقَّق بالفعل تقدمٌ هائل في المفاهيم.
الجزيئات والطب والعقل
من المختبرات الجيدةِ التجهيزات التي تأسَّسَت في حقبةِ ما بعد الحرب جاءت أيضًا سلسلةٌ من الاكتشافات في علم الوراثة الطبي. ومن هذه الاكتشافات العظيمة تحديد طبيعة اضطراب فقر الدم المنجلي. يحدث هذا الاضطرابُ عندما تحتوي خلايا الدم الحمراء، التي تحمل الأكسجين في أنحاء الجسم، على نوعٍ غير معتادٍ من الهيموجلوبين يؤدي إلى انثناء الخلايا في شكلٍ يُشبه المنجل. لا تتمكَّن الخلايا حينئذٍ من الحركة بسلاسةٍ عبر الأوعية الدموية؛ ومِن ثمَّ تتسبَّب في انسداداتٍ خطيرة. وفي عام ١٩٤٩، اكتشف عالمُ الوراثة الأمريكيُّ جيمس في نيل، أنَّ مَرض فقر الدم المنجليِّ ينتج عن توارُث جينَين متنحِّيَين. وفي العام نفسِه، وجد الكيميائي لينوس بولينج أنَّ الهيموجلوبين السليم يختلف على مستوى التركيبِ الجزيئي عن الهيموجلوبين الموجود لدى مَن يُعانون من فقر الدم المنجلي. وفي ورقةٍ كلاسيكية صدَرَت عام ١٩٥٦، شرح فيرنون إنجرام الباحث في جامعة كامبريدج كيف أنه قسَّم نوع الهيموجلوبين المعتاد والنوع غير المعتاد منه إلى عدةِ قِطَع، ووجد باستخدام عديدٍ من التقنيات المختبرية أنَّ السبب في اختلاف هيموجلوبين الخلايا المنجلية يعود إلى استبدال حمض أمينيٍّ واحد فقط. وبناءً على هذا، تأكَّد وجودُ رابطٍ ما بين حدوث طفرة واحدة أدَّت إلى هذا التباين في البروتين.
خيَّمَت غمامةُ النازية على أيِّ تقدم علميٍّ يتعلق بالتكاثر البشري. وبحلول عام ١٩٥٧، عندما أنشأ الطبيبُ الأمريكي فيكتور ماكوسيك عيادةً لعلم الوراثة الطبي في مستشفى جونز هوبكنز، تعلَّم علماءُ الأحياء ما يكفي لتقديم التشخيصات الجينية لبعض الاضطرابات الوراثية والكروموسومية على الأقل وتقديم المشورة بشأنها. أصبح بإمكان الوالدين اللذَين وُلد لهما طفلٌ مصاب بمرضٍ وراثي معرفةُ احتمالات أن يُولَد لهما أطفالٌ آخَرون مصابون بالمرض نفسِه. وبِناءً على هذا، كانا يستطيعان اتخاذَ القرار بشأنِ ما إذا كانا سيُخاطران بإنجابِ طفلٍ آخَر أم لا. أكان هذا تحسينًا للنسل تحت اسمٍ جديد؟ قدَّمَت الجهات المانحة الخاصة التي لم تزل تدعم تحسينَ النسل التمويلَ الأساسي للعيادات، وكان بعضُ علماء الوراثة الطبية يرَون أنهم يُساعدون في تحسين «المجموع الجيني». بالرغم من ذلك، أصرَّ معظم استشاريِّي الوراثة على أنَّ علم الوراثة الطبية يرتكز على المعرفة العِلمية الدقيقة، وأنَّ قرارات الوالدين طوعية، وأنَّ الهدف الرئيسيَّ هو تخفيفُ معاناة الأفراد. غير أنَّ هاجس تحسين النسل القديم ظل قائمًا.
بالرغم من ذلك، لم تتَّسم نتائجُ الدراسات التي أُجريَت على التوائم بالموثوقية المؤكدة. صحيحٌ أنها قدَّمَت دليلًا جيدًا على أنَّ الأمراض العقلية مثل الفصام تنطوي على عنصرٍ وراثي مهم، لكن التأكيد على قابليةِ توريث سِمةٍ كالذكاء قد أثارَت الجدَل. ففي بريطانيا، ظل عالم النفس التربويُّ سيريل بيرت يُحاجج في المدَّة من أربعينيَّات إلى ستينيَّات القرن العشرين على أن «القدرات العقلية» «متوارَثة» إلى حدٍّ كبير. وقد استمدَّ بياناته من دراسة عشرات التوائم المتطابقة الذين نشَئوا في منازلَ مختلفة، وكانت معدلاتُ ذكائهم على الرغم من ذلك متشابهةً للغاية. بالرغم من ذلك، فبعد وقتٍ قصير من وفاة بيرت، ظهرَت أدلةٌ تشير إلى احتمالية أنه ربما اختلَق نتائجه. ما من إجماع بشأنِ ما إذا كان بيرت قد تورَّط في احتيالٍ عِلمي أم لا، لكن العديد من علماء النفس طعَنوا في افتراضه القائل بأن الذكاء سِمةٌ تتحدَّد وفقًا للوراثة إلى حدٍّ كبير. فقد أوضحوا أنَّ التوائم المتماثلة التي انفصلَت عند الطفولة عادةً ما كانوا يُعيَّنون إلى أُسَرٍ متماثلة؛ مما يعني أنَّ تنشئتَهم لا تجري في بيئاتٍ متمايزة على الإطلاق. إضافةً إلى ذلك، أشارت دراساتٌ كتلك التي أجراها كينيث ومامي كلارك وروبرت روزنتال في أمريكا إلى أنَّ الأفراد أو المجموعات عندما يشعرون بأنهم أقلُّ ذكاءً، فإنهم يؤدُّون أداءً سيئًا نسبيًّا في الاختبارات المعيارية.
عصر الحقوق المدَنية وإنهاء الاستعمار
إنَّ ما حدَث بعد الحرب من فضحٍ للفظائع النازية لم يقهر الأوهامَ الأيديولوجية بشأن الاختلافات الفِطرية. ففي جنوب أفريقيا، زادت حدَّة التوجُّهات العنصرية والممارسات؛ إذ عمِلَت العقول المدبِّرة لنظام الفصل العُنصري بتصميمٍ منهجيٍّ للحفاظ على سيادة الأقلِّية البيضاء. وفي أمريكا، أسهَمَت التوجُّهات العنصرية في استبعاد معظم السُّود من الوظائف الجيدةِ الأجور والرهون العقارية والقروض، فوجَد العديدُ من الأمريكيِّين السُّودِ أنفسَهم مهجورين في المدن الداخلية ذاتِ الأحوال المتدهورة؛ نتيجةً لانتقال الصناعة إلى الضواحي أو خارج البلاد. فمتى ما شعَر السكَّانُ البيض أنَّ مكانتهم أو هُويَّتَهم تتعرَّض للتهديد لجَئوا للصور النمَطية العنصرية. ولهذا عندما هاجر الهنودُ الغربيُّون إلى بريطانيا بعد الحرب، حُرم العديدُ منهم من تأجير المساكن ولم يكن مُرحَّبًا بهم في الحانات والكنائس. علاوةً على ذلك، كان ونستون تشرشل يُفكر في اتخاذ العبارة «لتبقَ بريطانيا بيضاءَ» شعارًا لحملته الانتخابية.
بالرغم من ذلك، كانت شعبيةُ الأيديولوجيات الداعمة لدَور الوراثة تنخفض في أجزاء كثيرةٍ من العالم، أو تصبح على الأقل أقلَّ صلةً بالسياسة. فنظرًا إلى أنَّ القُوى الاستعمارية قد أضعَفَتها الحربُ العالمية الثانية ومُواجهة المعارضة الواسعةِ النطاق، فقد حاولَت الحفاظ على إمبراطورياتها بدرجةٍ ما عن طريق استمالة النخب المتعلِّمة من السكان الأصليِّين. وعلى أي حال، راحت المستعمَرة تِلْو الأخرى تنال استقلالها في الآونة من أواخر أربعينيَّات القرن العشرين وحتى سبعينيَّاته. فاحتفل الرئيس السنغالي ليوبولد سنجور ﺑ «القضاء على جميع أشكال التعصُّب». وحقَّقَت حركةُ الحقوق المدنية الأمريكية سلسلةً من الانتصارات القانونية البارزة بين عامَي ١٩٥٠ و١٩٦٥، بدايةً بطلب المحكمة العُليا بإلغاء الفصل العنصريِّ في المدارس إلى منع اختبارات الإلمام بالقراءة والكتابة المصمَّمة لحِرمان السُّود من حقِّهم في الاقتراع.
إضافةً إلى ما سبق، ضعفَت التفسيرات الداعمة لدور الوراثة في عدم المساواة الاجتماعية؛ بسببِ ما حدث بعد الحرب من نموٍّ اقتصادي أدَّى إلى مرحلةٍ من الحراك الاجتماعي السريع. وفي حقبة الستينيَّات والسبعينيَّات من القرن العشرين، زادت الوظائف المكتبيَّة التي تتطلَّب معرفةً تقنية، مما دفع أربابَ العمل إلى توظيف الرجال والنساء الذين أثبَتوا قدرتَهم عبر مؤهِّلاتٍ قابلة للقياس. وشهد عددُ الأماكن في الجامعات أيضًا زيادةً كبيرة. فقد كانت حاجةُ الاقتصاد المتنامي إلى العمَّال المهَرة والمتعلمين تعني أنه يمكن استيعابُ أحفاد المهاجرين إلى أمريكا الشمالية من أيرلندا وجنوب أوروبا وشرقِها. وفي بريطانيا بعد عام ١٩٤٤، كان الأطفال من الطبقات المتوسطة والعاملة يخضعون لاختبار ذكاءٍ في عمر الحادية عشرة، وكان أصحاب الأداء الجيد منهم يتلقَّون التعليم في مدارس القواعد اللُّغوية الذي يُعِدُّهم للمِهن الإدارية. وبالرغم من احتفاظ النخب بميزةٍ كبيرة، فإنَّ المهارات المهنية والمؤهلات التعليمية كانت تَلْقى التقديرَ على حساب النسَب.
وبالمثل، حظيَت الحُجج النِّسوية بشأن المساواة الفكرية للذكور والإناث بالرَّواج. فبعد الحرب مباشرة تعزَّزَت الصورُ النمطية لأدوار الجنسَين بسبب تزوُّج النساء في عمرٍ أصغر مما كُنَّ يتزوَّجن فيه قبل الحرب، وإنجابهن عددًا أكبر من الأطفال. غير أن التوجُّهات المتعلقةَ بنساء الطبَقة الوسطى، ومنهنَّ الزوجات والأمهات اللائي يعملن خارج المنزل قد بدأَت في التغيُّر في ستينيَّات القرن العشرين، نتيجةً لحاجة الاقتصادات المزدهرة في مرحلة ما بعد الحرب إلى انضمامِ المزيد من النساء إلى صفوف القُوى العاملة. وقد أثبتَت الزيادةُ في نسبة مشاركتهن أن الإناثَ قادراتٌ تمامًا على القيام بالوظائف التي تُعَدُّ عادةً وظائفَ للذكور.