آفاق جديدة
على مدار الخمسين عامًا الماضية، ظهَرَت العديدُ من التوجُّهات التي تركَت أثرًا عميقًا على طريقة تفكيرنا في الوراثة. استمر مجالُ علم الجينات في تحقيقِ تقدمٍ مذهل تؤثرُ نتائجه في الحياة خارج المختبر بدرجةٍ أكبر من أيِّ وقتٍ مضى. لقد غيَّرَت الأبحاثُ المتعلقة بالجينات أفكارَنا عن بعض الأمراض وطرقِ علاجها، وغيَّرَت في مكونات الأطعمة التي نشتريها، وأعادت تعريفَ طريقةِ فَهمِنا لماضينا التطوري. ولم تختفِ الأيديولوجياتُ الداعمة لدور الوراثة بالطبع مع التعقيد المتزايد لمجال علم الجينات. فقد أسهَمَت الأفكار المُجَرَّدة من الصفة الإنسانية بشأن الاختلاف الإثنيِّ في عمليات الإبادة الجماعية الأخيرة وفي استمرارِ عدم المساواة العِرقية. لكننا نجد في هذا السياق أيضًا تحولًا حديثًا؛ فقد شهدَت الأنظمةُ الديمقراطية المستقرَّة تراجعًا في التعبير الصريح عن النخبوية البيولوجية، والعنصرية، وكراهية النساء. غير أنَّ استمرار هذا التوجُّه في المستقبل من عدمه لا يزال غيرَ واضح على الإطلاق.
ميلاد الحمض النووي المعاد التركيب
وبعد أن أصبح من الممكِن «وصلُ» أجزاء من الحمض النووي في العاثيات أو البلازميدات إلى جانب التسلسُلات التنظيمية المناسبة، صار من الممكن تحليلُ مُنتَجاتها البروتينية. تمثَّلَت الفكرة الأساسية من هذا في معرفة المزيد عن الحمض النووي لأحد الأنواع، من خلال النظر فيما يُنتج عند إدخاله في كائنٍ حي لدينا معرفةٌ جيدةٌ نسبيًّا بحمضه النووي. زادت أهميةُ هذه الطريقة أكثرَ فأكثر عندما اكتشف العلماء إنزيماتِ قِطَعٍ جديدة تقطع الحمضَ النووي عند تسلسلاتٍ مختلفة؛ مما أتاح لهم عزْلَ تسلسلاتٍ جديدة من الحمض النووي. إضافةً إلى ذلك، سهَّل كلٌّ من هوارد تيمين من جامعة ويسكونسن ماديسون وديفيد بالتيمور من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، من عملية استنساخ الجينات الفردية. كانا يبحثان عن إنزيم يُفسِّر قدرةَ «الفيروسات العكسية» على تحويل حمضِها النووي الريبوزي إلى الحمض النووي المزدوج الشريط، الذي يتسلَّلُ إلى جينوم المضيف. أتى بحثُهما بثِماره في عام ١٩٧٠ عندما اكتشَفا مُنفردَين إنزيمَ «النسخ العكسي». كان معنى هذا الاكتشافِ أنَّ العلماء يستطيعون استخراجَ الحمض النووي الريبوزي الرسول من الخلايا، واستخدامَ إنزيم النسخ العكسيِّ لتكوين أشرطة الحمض النووي المناظِرة، وتوليد نُسَخ من الجين في العاثيات أو البلازميد.
لا شك أنَّ الأمراض البشرية مثَّلَت أهدافًا واضحةً للبحث الجيني باستخدام طرقِ إعادة التركيب. وكانت الأبحاثُ الجينية المتعلقة بالسرطان قد أحرَزَت تقدمًا كبيرًا بالفعل، ويعود ذلك جزئيًّا إلى زيادة ميزانيات البحث بعد إعلان ريتشارد نيكسون عام ١٩٧١ «الحرب على السرطان». توصَّل الباحثون إلى أنَّ السرطان قد يحدث نتيجةَ أنشطةِ عائلةٍ من الجينات، تُسمَّى الجينات الورمية، وهي تُشارك في تنظيم معدَّل انقسام الخلايا. تؤدي الطفراتُ إلى تعطيل إشارة توقُّف الخلايا عن الانقسام. اتضح أيضًا أن السرطانات تنتج عن طفراتٍ تُعطل الجينات التي تعمل «مُثبِّطات للأورام». نتجَت عن هذه الأبحاث أيضًا صورةٌ لجينوم عُرضة لهذا الضرر، لكنه مجهَّز بمِثل هذا النوع من الآليات المعقَّدة المضادة للسرطان؛ ومن ثمَّ فهو لا يتعرَّض للنمو الخلَويِّ غير المنظَّم عادةً إلا بعد عددٍ من الطفرات. لقد أتاح ظهورُ تكنولوجيا إعادة التركيب الدراسةَ المفصَّلة للعمليات الجينية.
في أوائل ثمانينيَّات القرن العشرين، نجح فيليب ليدر وتيموثي ستيوارت من جامعة هارفارد في إنتاج أول فأرة «معدَّلة الجينات» مهيَّأة للإصابة بالسرطان. فبعد استخدام طرق إعادة تركيب الحمض النووي لتثبيت جينٍ ورَمِيٍّ في أحد الفيروسات العكسية التي تُصيب الفأرة؛ استخدَما الحُقنَ المجهريةَ لإيصال جزءٍ من الفيروس إلى أجنَّة الفأرة. على الرغم من أنَّ انخفاض معدل الامتصاص شكَّل عقَبةً أمام ليدر وستيوارت، فقد وجدا أنَّ الفيروسات فعَّلتْ إنزيم النسخ العكسي في بعض الأجنَّة لإدخال حمضها النووي، بما في ذلك الجين الورَمي، في الخلايا الجنسية للفأرة. وبحلول عام ١٩٨٨، أصبح «فأر السرطان» المعروفُ باسم «أونكوماوس» متاحًا تِجاريًّا مع حمايةِ حقوق المِلْكية الفكرية، مما أتاح للعلماء دراسةَ الجينات السرطانية بسهولةٍ غير مسبوقة. وسرعان ما عرَف علماء الأحياء بعد ذلك كيفيةَ إدخال الجينات في الخلايا الجذعية الجنينية للفئران. هذه الخلايا هي القادرة على إنتاج أيِّ جزءٍ من أجزاء الجسم (باستثناء المشيمة)؛ لأنها لم تتلقَّ بعد الإشارات التي تفيد بتطوُّرها إلى أنواع محدَّدة من خلايا الجسم. يستخرج علماء الأحياء الخلايا الجذعية الجنينية ويعرضونها لأطوال مصمَّمةٍ خصوصًا من الحمض النووي، تحتوي على جينات مُعَدَّلة. وبمعدَّلِ واحدٍ في الألف تقريبًا، يخضع الجين الأجنبي والجين الأصلي لنوع التعابُر الكروموسومي الذي درَسه مورجان قديمًا في أوائل القرن العشرين. بعد ذلك، يحقن علماءُ الأحياء الخلايا الجذعية الجنينية المعاد تركيبها في أجنَّة الفئران كي يتطورَ بعضُها إلى خلايا جنسيةٍ تحمل الطفرة. يمكنهم بهذه الطريقة إنتاجُ فئران «معطلة الجين»، تحمل نسخةً صامتة من أحد الجينات؛ مما يُمكِّنهم من إلقاء الضوء على كيفية عمل الجين الطبيعي. يمكنهم أيضًا إنتاجُ فئران «معدَّلة جينيًّا» أُضيف إلى حمضها النووي تسلسلاتٌ وظيفية جديدة.
اصطياد الجينات
يمكن تصوير تلك المجموعة المعينة من تعددِ أشكال طول الجزء المقيد لدى شخصٍ ما عن طريق لطخة، وهي تقنيةٌ طوَّرَها إدوارد ساوثرن في جامعة إدنبرة عام ١٩٧٥. في هذه الطريقة تُستخدَم إنزيمات التقييد على أطوالٍ من الحمض النووي وتُفصَل مجموعة تعدُّد أشكال طول الجزء المقيد عبر مادةٍ هُلامية وَفْقًا لحجمها باستخدام تيَّارٍ كهربائي. بعد ذلك يمتصُّ الشريطان غشاءً من النايلون يثبتهما في مكانهما. وتُمرَّر عبر السطح «المجسات» المشعَّة التي تضمُّ تسلسلاتٍ قصيرةً من الحمض النووي المعروف وقوعها في صورٍ محددة من تعدد أشكال طول الجزء المقيَّد. إذا وجدَت هذه المجساتُ تسلسلاتٍ قاعديةً مُتكامِلة ترتبط معها (وهو ما يُسمى «التهجين»)، فستظهر في فيلم الأشعة السينية. وبهذه الطريقة، يمكن التعرفُ على وجود صورٍ محدَّدة من تعددِ أشكال طول الجزء المقيَّد.
في عام ١٩٨٠، أدرك عالمُ الأحياء ديفيد بوتستين وزملاؤه أنه إذا وُجِد جينٌ مسبِّب لأحد الأمراض على جزءٍ من الجينوم بالقرب من صورةٍ محددة من تعدد أشكال طول الجزء المقيَّد، فسيورَث الاثنان معًا في المعتاد. وفي مِثل هذه الحالة، فإن تحديد موقع الصورة المحددة من تعدُّد أشكال طول الجزء المقيَّد سيكشف أيضًا عن الموقع التقريبي للجين المسبِّب للمرض. وانطلاقًا من هذه الملاحظة، بدأ عالِما الوراثة الأمريكيَّان نانسي ويكسلر وجيم ﺟﻮزيلا في عام ١٩٨١ محاولةَ معرفة ما إذا كانت تُوجَد أيُّ صور معروفة من تعدُّد أشكال طول الجزء المقيد تتوافق مع مرضِ هنتنجتون، وهي حالةٌ مندلية سائدة تؤدي إلى اضطراباتٍ حرَكية، واضطرابات نفسية، ثم الموت في نهاية المطاف. اتجهَت ويكسلر إلى مجتمعٍ فنزويلي ريفيٍّ يُعاني معاناةً مأساوية من عبء المرض، ورجَعَت من هناك بمئاتٍ من عينات الدم.
تحديد تسلسل الجينات البشرية
في عام ١٩٩٠، وتحت قيادة واتسون ومن بعده فرانسيس كولينز، بدأَت مجموعاتٌ في الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، واليابان في جهدٍ جماعي لتحديد تسلسل الجينوم البشري. وقد واجَهوا تحدِّيًا تقنيًّا هائلًا، ثم أصبح قاسيًا أيضًا عندما أعلن كريج فنتر، عالمُ الأحياء ورجل الأعمال البارع، عن نيَّته في إحراز السَّبق على هذا المشروع المموَّل من القطاع العام. وفَّرَت شركة فينتر، «سيليرا»، الاستثمار المالي الضخم اللازم لإقامة منشأةٍ كبيرة في ولاية ماريلاند مجهَّزةٍ بثَلاثِمائة آلةٍ من آلات تحديد التسلسل؛ فقد توقَّع المستثمرون جنْيَ الأرباح من براءات الاختراع في تحديد التسلسلات ذاتِ الصِّلة بالحقل الطبي.
في هذه المناسبة، وقف كولينز وفينتر متجاورَين بجانب الرئيس بيل كلينتون في السادس والعشرين من يونيو عام ٢٠٠٠؛ للإعلان عن اكتمال «أوَّل مسح» للجينوم البشري. غير أنهما لم يُحددا في الواقع سوى ٩٠ في المائة فقط من تسلسلِ الحمض النووي الغنيِّ بالجينات، وهو ما لم يكن بعيدًا عن خُطة العمل الموعودة على أي حال. وباستخدام الأساليب التي طوَّرها فريق كولينز، تم تحديدُ تسلسل ٩٩ في المائة من المناطق الغنيَّة بالجينات في الحمض النووي البشري بحلول عام ٢٠٠٤.
كان المشروع العامُّ أيضًا قد تقدَّم بسرعة كافيةٍ لضمان إتاحةِ شفرة الجينوم البشريِّ مجانًا على الإنترنت.
ظهور المصفوفات الجينية الدقيقة
إنَّ استخدام الروبوتات التي تُعَدُّ وظيفتها في الأساس طباعة المجسات واحدًا تِلْو الآخر، تجعل هذا الإجراءَ فعالًا بدرجةٍ كبيرة. يمكن للباحث الحصول على الحمض النووي الريبوزي الرسول من الخلايا المعنيَّة، واستخدام إنزيم النسخ العكسي لتحويله إلى حمض نووي مُتكامِل، وإضافة الصبغة الفلورية. عند إدخال هذه الشرائط في المصفوفة، فإنها تُهجَّن بأيِّ مجسات مُتكامِلة. وترتبط درجة الوميض بعددِ شرائط عينة الدراسة التي ارتبطَت بمجسٍّ مُعيَّن. وهذا يوضح الجينات التي يتم التعبير عنها ومستوى نشاطها.
بالرغم من ذلك، فحتى المصفوفات الدقيقة التي تحمل أعدادًا كبيرة للغاية من صورِ تعدد أشكال النوكليوتيد الواحد، لا تحتوي إلا على عينةٍ من الأزواج القاعدية التي يبلغ عددُها ثلاثة مليارات والتي تُشكِّل الجينوم البشري. ونتيجةً لهذا، يتحوَّل التركيز إلى المقارنة بين جينومات مكتملة التسلسل. فمنذ عام ٢٠٠٠، أسهَمَت الروبوتات، وأجهزة الكمبيوتر القوية للغاية، والرياضيات المعقَّدة في تسهيل العقَبات المالية والتقنية أمام تطبيقِ مثلِ هذه الأساليب. لقد بلَغَت تكلفةُ مشروع الجينوم البشري نحوَ ثلاثة مليارات دولار. أما الآن فتبلغ تكلفةُ قراءة جينوماتنا ما يقرب من ألفِ دولار فحسب، ولا يزال هذا السعرُ في انخفاض.
تجليات
أتى البحثُ الجيني ببعض النتائج اللافتة للنظر. فقد اتَّضح أننا، نحن البشر، لا نمتلك سِوى ٢٠٦٨٧ تقريبًا من الجينات المشفِّرة للبروتين، تتناثر وسطَ ما يقرب من ثلاثة مليارات درجةٍ من سُلَّم الحمض النووي اللولبي. إنَّ هذا العدد أقلُّ من ربع ما يُوجَد في القمح، وهو لا يَزيد عن عددِ نظيراتها لدى الدودة الأسطوانية البسيطة إلا بمقدار ١٧٩٦ جينًا فقط. عرَف علماء الأحياء أيضًا أن جينًا واحدًا، تتخلَّله الإنترونات، يمكن أن يُقرأ كُليًّا أو جُزئيًّا فقط؛ ومن ثَم يمكنه تشفيرُ أكثرَ من بروتين حسبما يقتضي الحال. تُعرف هذه العملية باسم «الوصل البديل». علاوةً على هذا، فقد اكتشَف العلماء ما أدهش الكثيرين منهم، وهو أنَّ بعض الحسابات يشير إلى أن نحو واحدٍ في المائة فقط من الحمض النووي هو الذي يُشفِّر البروتينات، بينما يُخصص منه ١٠ في المائة لتنظيم التعبير الجيني.
أضافَت أبحاثُ علم التَّخَلُّق مزيدًا من التعقيد إلى صورةِ كيفية تنظيم التعبير الجيني. فخلال منتصف تسعينيَّات القرن العشرين، أدرك علماءُ الأحياء أن بروتينات الهيستون، التي تعمل في المعتاد سقَّالاتٍ للحمض النووي، قد تؤثر في كيفية التعبير عن أحد الجينات. علاوةً على ذلك، يمكن نسخُ آثار عملية مَثْيَلة الحمض النووي وتعديل الهيستون في أثناء مضاعفةِ الحمض النووي. ففي دراسةٍ أُجريت عام ٢٠١٣، تعرَّضَت ذكورُ الفئران لمزيجٍ من رائحةٍ معيَّنة وصدمة كهربائية. وقد تبيَّن لاحقًا أنَّ «أبناء» هذه الفئران و«أحفادها»، وهي لم تتعرَّض لهذا المزيج، تتمتَّع بحساسيةٍ استثنائية لهذه الرائحة وتُصاب بالتوتر في وجودها. فبطريقةٍ ما، وصَلَت إشارةٌ كيميائية إلى الخصيتَين وجعلت الجين المعنيَّ المستقبِلَ للرائحة على مستوًى عالٍ من التعبير الجيني. وقد تطورَت القدرة على نقلِ هذه السِّمة بين الأجيال لإعداد الكائنات الحية إعدادًا أفضلَ للظروف البيئية المحتملة. ونظرًا إلى فوضى البيانات الوبائية على وجه الخصوص، فإننا لا نعرف بعدُ مدى تأثيرِ آليَّات الوراثة فوق الجينية في جينوم نوعنا البشري.
إحدى كُبرى المفاجآت أيضًا هي الكمُّ الهائل من الحمض النووي الذي لا نعرف الهدفَ من وجوده. على الرغم من تسميته ﺑ «نُفاية الحمض النووي»، فالجدال محتدمٌ بشأن مقدارِ ما هو غيرُ وظيفيٍّ منه في واقع الأمر. فالكثير من المناطق التي تُوجَد فيها هذه «النُّفاية» تحتوي بالفعل على البقايا غير العاملة من الجينات (والمعروفة باسم «الجينات الزائفة») التي كانت مفيدةً للأسلاف التطوُّريين ولم يعُدْ لها دورٌ الآن. وثَمة مناطقُ أخرى من الجينات غير المُشفِّرة مشتقةٌ من الفيروسات العكسية للحمض النووي الريبوزي التي دخلَت الجينوم منذ مدةٍ طويلة، وأصبحت اتِّكاليةً في الأساس. ربما يكون الاكتشاف الأكثر روعةً هو «العناصر القابلة للنقل»، وهي امتداداتُ الحمض النووي التي يمكنها تغييرُ مواقعِها في الجينوم. كانت مكلينتوك هي أولَ من يتعرَّف على هذه العناصر الجينية المتنقِّلة في أربعينيَّات القرن العشرين. ومن المعروف الآن أنها تُشكل أكثرَ من ٤٠ في المائة من الجينوم البشري.
كشف تحليلُ الشفرات الجينية الكثير عن الماضي التطوري. فيبدو أنَّ الخلايا حقيقية النواة، مثل تلك التي تتكوَّن منها أجسادُنا، قد ظهرت منذ نحو مليار ونصف مليار سنة عندما استقرَّت كائناتٌ وحيدةُ الخلية في خلايا أخرى شكَّلَت معها علاقاتٍ تكافلية. ومن المقبول الآن على نطاقٍ واسع أن الميتوكوندريا، وهي تلك البِنَى الصغيرة في الخلايا الحقيقية النواة التي تحول الطاقة إلى شكلٍ يمكن استخدامُه، قد نشَأَت من إحدى سُلالات بكتيريا «ريكتسيا» التي تتشارك معها في عددٍ هائل من القواعد. إضافةً إلى ذلك، يُلقي علمُ الوراثة الضوءَ على العلاقات التطورية بين الأنواع الحية. فقد اتضح من درجة التشابُه الجيني بين الكائنات الحية الموجودة أنها جميعًا تنحدرُ من سلَفٍ مشترك شامل أخير، عاش منذ نحو ثلاثة مليارات ونصف مليار سنة. ويمكن لعلماء الأحياء أيضًا معرفةُ درجة القرابة بين الأنواع المنفردة؛ إذ تتراكم الطفرات مع حدوث الانتواع، ومن ثم يسمح قياسُ الاختلافات الجينية بإعادة بناء الشجرة التطوُّرية المتفرِّعة. وقد اتضح أننا نتشارك أكثرَ من ٩٨ في المائة من حمضنا النووي مع الشمبانزي، وهو ما يُعدُّ انقسامًا جينيًّا مماثلًا لذلك الذي حدَث بين الفِيَلة الأفريقية والفيلة الهندية.
إضافةً إلى ذلك، تُتيح تقديراتُ معدَّل حدوث الطفرات الحسابَ التقريبيَّ لتوقيت انحرافنا التطوري عن الرئيسيات الأخرى. فقد أظهرَت مقارنةُ التسلسلات الجينية للبيتا جلوبين، وهو أحدُ مكونات بروتين الهيموجلوبين، فرقًا بنسبة ١٫٦ في المائة فقط بين الشمبانزي والبشَر. يُشير هذا إلى أن السلالة التي أدَّت لظهور الإنسان العاقل تفرَّعت قبل نحو ستةِ ملايين سنة.
إنَّ ابتكار تفاعل البَلْمرة المتسلسل والقدرة المحسَّنة لأجهزة الكمبيوتر؛ أتاحا للعلماء تحديدَ تسلسلِ بعضِ أجزاء الحمض النووي النادرة للغاية التي تعود إلى الأنواع المنقرِضة من أسلاف البشر. كان عالم الأحياء السويدي سفانتي بيبو، ولا يزال، هو الرائدَ في هذا المجال. فقد أدهش فريقُ بيبو الكثيرين حين وجد دليلًا على أن أحفاد الإنسان العاقلِ، الذين استقرُّوا في أوروبا والصين وغينيا الجديدة، يحملون الآن ما يقرب من اثنَين في المائة من الحمض النووي لإنسان نياندرتال. وفي عام ٢٠١١، حدَّد تسلسلُ الحمض النووي المستخرَج من عَظْمة إصبع أنثى شابةٍ تنتمي إلى نوعٍ من أشباه البشر يُسمى إنسان دينيسوفا، كانت قد ماتت في سيبيريا قبل ٤٠ ألف سنة. يبدو أن أكثرَ من ثلاثةٍ في المائة من جينوم مجموعة الميلانيزيون العِرقية الحديثة يرجع إلى إنسان دينيسوفا. ربما تكون هذه الجماعاتُ البشرية قد طوَّرَت أساليبَ تكيفيةً ساعَدَتها على البقاء في بيئاتٍ غير مألوفة.
الطبيعة والتنشئة والدماغ البشري
بالرغم من ذلك، لا يمكن تعميمُ هذه النتائج بثقةٍ على جميع الجماعات، مثلما يشير إلى ذلك الباحثون. ذلك أنَّ الجيناتِ نفسَها قد تتَّخذ تعبيرًا مختلفًا باختلاف السياقات البيئية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية. فالادِّعاءات بشأن قابلية الوراثة لا تنطبق في معظم الأحيان «إلا» على الجماعة المعيَّنة التي خضَعَت للقياس. ولهذا يتطلَّب الأمرُ انتباهًا شديدًا عند تفسير المزاعم الخاصة بمعدَّل الذكاء. ففي ورقةٍ عِلمية نُشِرَت عام ١٩٦٩، حاجج عالمُ النفس بجامة بيركلي، آرثر جنسن أنه لا يوجد أيُّ قدرٍ من التعليم يمكن أن يرفع متوسِّطَ معدل ذكاء الأمريكيين الأفارقة إلى مستوى البِيض. واستنتج جنسن ومؤلِّفون آخَرون من هذا أنَّ «التعليم التعويضي» مَضْيعةٌ للمال. على الرغم من ذلك، وبصرف النظر عن الإشكالية في اختزال ظاهرةٍ متعدِّدة الأوجُه مثل الذكاء إلى مجردِ درجة رقمية، فإنَّ الدراسات التي تدَّعي وجودَ اختلافات فطرية في معدَّل الذكاء بين «الأعراق البشرية»، كثيرًا ما تغفل أنَّ تطبيع القوالب النمطية يتسبَّب في ضعف أداء المجموعات. ففي إحدى الدراسات الكلاسيكية، اختفَت الفجوة في درجات اختبار الذكاء بين الطلاب البيض والأمريكيين الأفارقة تقريبًا، عندما أُخبر الخاضعون للتجرِبة أنهم يحلُّون ألغازًا فحسب وليس اختبارَ ذكاء. ذلك أنَّ الخوف من تأكيد الصور النمطيَّة يُحفز استجاباتِ التوتُّر التي قد تضعف قدرة الشخص على الأداء بما يتناسبُ وقدراتِه الفعليةَ. علاوةً على ذلك، فإن حقيقة ارتفاع معدَّل ذكاء لدى جميع المجموعات البشرية على مدى عددٍ من العقود الأخيرة تؤكِّد على قابلية الأداء المعرفيِّ للتطويع.
وعلى هذا المنوال أيضًا، يدحض معظمُ الباحثين المعاصرين الادعاءَ القديم القائل بأن النساء يولَدْن بقدراتٍ عقلية تختلف اختلافًا كبيرًا عما يتمتَّع به الرجال. فالتفاوتات البارزة بين الجنسَين في القدرات المتعلقة بالرياضيات، على سبيل المثال، لا تظهر سوى في البلدان التي لا تحظى فيها النساءُ إلا بفُرصٍ قليلة في السياسة والبحث. ما يتَّضح باستمرارٍ أنَّ الذكور والإناث متشابهون للغاية من الناحية النفسية إلا فيما يتعلق ببعضِ جوانب الأداء الحركي، والسلوك الجنسي، والعدوانية. وليست هذه الاستثناءاتُ باللافتة للانتباه. فربما يكون الذكور، الذين يُنتجون في المتوسط مستوياتٍ أعلى من هرمون التستوستيرون، قد تطوَّر لديهم مستوًى أعلى من العدوانية. غير أننا نجد تداخلًا إحصائيًّا كبيرًا بين الذكور والإناث في هذه الخاصية، ونجد أنَّ التفاوتَ طفيفٌ للغاية في الثقافات التي لا تُشجع الذكور على التصرف بعدوانية.
إنَّ أكثر ما يُهمُّنا في هذه المسألة أنَّ معظم الجينات المسئولة عن السلوك البشري لها تأثيراتٌ فردية صغيرة؛ لأن معظم الصفات العقلية تُسهِم فيها جيناتٌ متعدِّدة، وهي نتيجةُ التفاعلات المعقَّدة بين الجينات بعضها مع بعض، وبين الجينات والبيئة. يتَّضح هذا من دراسات الترابط الجينومي الكامل عن الذكاء. فعند فحصِ جينومات سبعة آلافِ طفل في عمر سبع سنوات بحثًا عن وجود أيٍّ من صور تعددِ أشكال النوكليوتيد الواحد البالغِ عددُها ٥٠٠ ألف، لم يُوجَد منها سوى خمسةٍ فقط هي التي ترتبط أساسًا بمعدَّل الذكاء، ولم يكن من شأن أيٍّ منها تفسيرُ أكثرَ من ٠٫٤ في المائة فقط من الاختلاف بين طفلٍ وآخَر. ولهذا فإنَّ الحديث عن «جين لمعدَّل الذكاء» أو «جين للشخصية» هو حديثٌ خاطئ تمامًا.
الطب وعلم الوراثة و«علم تحسين النسل الجديد»
كان لمثلِ هذه التطورات بعضُ الآثار المهمة في الممارسة الطبية. فمنذ منتصَف ستينيَّات القرن العشرين، ساعد اكتشاف اختبار اضطراب الفينيل كيتونيوريا الوراثي، الذي يمكن أن يتسبَّب في إعاقةٍ ذهنية واضطراب عقلي، في ظهور المشورة الجينية. وسرعان ما بدأ الفحص الجماعي في بريطانيا، وكندا، والولايات المتحدة الأمريكية في منتصف ستينيَّات القرن، ووُضِع نظامٌ غِذائيٌّ خاصٌّ للأطفال الذين تبيَّنَت إصابتُهم بالفينيل كيتونيوريا. وفي عام ١٩٧١ بدأ الفحص لتحديد المصابين بمرض تاي ساكس الأكثر شيوعًا بين اليهود الأشكناز، الذي يؤدِّي إلى إصابة الأطفال بالعمى والصمَم والشلل، ثم الموت في عمر الرابعة أو الخامسة. إنَّ إجراء اختبار الإنزيم يُتيح للزوجَين معرفةَ ما إذا كان كِلاهما يحمل الجينَ المتنحِّي. نتيجةً لذلك، انخفض عددُ الأطفال المولودين بهذه الحالة انخفاضًا ملحوظًا. بدأ أيضًا الفحص لفقر الدم المِنجلي في عام ١٩٧١.
وبعد مدةٍ قصيرة، ظهر عددٌ من التطورات التي يسَّرَت إجراء الفحص على ملايين المقبِلين على الإنجاب. فأوَّلًا: كان ظهور اختبار بزل السائل الرهلي في عام ١٩٦٦ يعني أنه يمكن اكتشاف الشذوذ الكروموسومي «في الرحم». وسرعان ما تحسَّنَت القوة التشخيصية لاختبار بزل السائل الرهلي مع استخدام خردل الكيناكرين، الذي يُشكل ترتيبات مميزةً من الشرائط الفلورية عند مُلامسة الحمض النووي؛ ومن ثَم يُتيح للفنيِّين التعرف على الشذوذ الكروموسومي بسهولةٍ أكبر. وثانيًا: أتاح السماحُ بالإجهاض في عددٍ من الدول الغربية للأمهات بإجهاض الأجنة لأسبابٍ طبية. بحلول عام ١٩٧٤، كان لدى الولايات المتحدة نحوُ ٤٠٠ عيادةٍ للصحة الجينية، وانخفضَت أعدادُ متلازمة داون بنحوِ الثلث في بعض الولايات.
ولَّد التقدُّم في تشخيص الأمراض السابق للولادة الكثير من الجدل. فقد حاجَج النقادُ الذين لا يُعارضون الإجهاض من حيث المبدأ أن الإنهاء الانتقائيَّ للحمل لأسبابٍ طبية يُنشئ شكلًا جديدًا من أشكال تحسين النَّسل. وزعَموا أنه ينطوي على الاعتقاد بأنَّ بعضَ الحيوات من الأفضل ألَّا تُعاش، وهو يُقلِّل في الوقت نفسِه من قيمة حياة المصابين بتلك الحالة بالفعل. عِلاوةً على ذلك، ربما لا تكون جميعُ قرارات الإجهاض مبنيَّة الاختيار المستنير؛ إذ قد يستند بعضُ الآباء في أحكامهم على الشعور بالالتزام الاجتماعي، أو عدم قدرتهم على فَهْم البيانات الجينيَّة. وفي المقابل، أكَّد المؤيِّدون لإجراء الاختبارات أهميةَ منح المقبِلين على الإنجاب الحرية في تقريرِ مستوى المعاناة المقبول لنسلِهم، والاستقلالية في تحديدِ قدرتهم الشخصية على تربية طفلٍ يُعاني من مَشاكلَ صحيةٍ كبيرة. وهم يُشيرون إلى عدم وجود تضارُبٍ حتميٍّ بين منعِ ولادة أطفال يُعانون من اضطراباتٍ وراثية وإيلاء الرعاية المناسبة للمُصابين بهذه الأمراض.
الطب وإعادة التركيب
أدَّى ظهورُ الحمض النووي المعادِ تركيبُه في أوائل السبعينيَّات إلى ظهور آفاقٍ مثيرة للبحث في أشكالٍ جديدة من العلاج. فالقدرة على نقل الجينات بين كائناتٍ تفصل بينها نطاقاتٌ زمنية تطورية شاسعة؛ تُتيح للعلماء تشكيلَ أنواع هجينة مفيدة. غير أنه سرعان ما ظهرَت المخاوف بشأنِ ما إذا كان السعيُ وراء التقدُّم التقني يؤدي إلى إغفال اعتبارات الأخلاق والسلامة. ولهذا السبب اجتمَع علماءُ الجينات، والمحامون، والصحفيون في عام ١٩٧٥ في اجتماع آسيلومار بولاية كاليفورنيا؛ للتفكير في القضايا الأخلاقية والعَملية التي أثارتها التطوراتُ الأخيرة، ولوضع السياسات لتقليل مخاطرِ تسرُّبِ طفراتٍ خطيرة من المختبرات.
سرعان ما استوعب أصحابُ رءوس الأموال المغامرون الإمكاناتِ التجاريةَ لعلم الأحياء الجزيئية. وفي عام ١٩٧٦، أسس هيرب بوير وروبرت سوانسون معًا شركةَ جينينتيك الناشئةَ في مجال التكنولوجيا الحيوية. وقد شرَعا في إدراج أحدِ الجينات في بلازميد يُنتج الأنسولين، ومن ثَم توفير بديل لاشتقاقه من بنكرياس الأبقار والخنازير المذبوحة. بدأ بوير وفريقُه ببناء جينات سلسلتَي الأنسولين قاعدةً تِلوَ الأخرى. نجحوا بعد عامَين في إدخال جيناتهم الاصطناعية في البلازميدات جنبًا إلى جنبٍ مع التسلسلات التنظيمية اللازمة. وفي عام ١٩٨٢، منحَت إدارةُ الغذاء والدواء الأمريكيةُ الترخيصَ لشركة إيلي ليلي وشركائه لطرح الأنسولين المعاد تركيبه في السوق. في ذلك الوقت، كانت تُوجَد أيضًا عقاقيرُ أخرى مصنوعةٌ بتكنولوجيا إعادةِ التركيب. وبحلول عام ١٩٨٤، قُدِّرَت الاستثماراتُ في هذا النوع من البحث والتطوير في مجال التكنولوجيا الحيوية بنحوِ ثلاثة ملياراتِ دولار بالفعل.
يمكن أيضًا تعديلُ جينومات الثدييات الكبيرة لأغراضٍ طبية. ففي عام ١٩٩٦، أعلن العلماءُ في معهد روزلين باسكتلندا أنهم أعادوا برمجةَ خليةٍ جسدية؛ كي تعمل خليةً جذعية جنينية، عن طريق نقل النَّواة من خليةِ ضرع نعجة إلى خليةِ بيضةٍ أُزيلت النَّواة منها. حفَّزَت الإشارات الواردة من السيتوبلازم نموَّ أول حيوان مُستنسَخ: النعجة دوللي. وبعد مدةٍ قصيرة، تَبِعَتها أنواعٌ أخرى من الحيوانات المستنسَخة؛ كالفئران، والأبقار، والماعز، والخنازير. لم يكن الهدفُ من ذلك تمهيدَ الطريق لاستنساخ البشر، بل هندسة حيواناتٍ لكي تُنتج بعضَ منتجات الجينات البشرية التي يمكن بيعُها. على سبيل المثال، شرَعَت شركة «بي بي إل ثيرابيوتكس» في محاولة إنتاج أبقارٍ يحتوي حليبها على بروتينٍ بشري يمكن بيعُه على نطاقٍ واسع كمُكمِّل غذائي للأطفال.
ثمة احتمالٌ جذَّاب آخر قد بدأ في الظهور خلال ثمانينيَّات القرن، ويتمثَّل في ظهور نهجٍ طبي مخصَّص بالكامل، تُصمَّم به العلاجاتُ بما يتفق مع السِّمات الجينية لكلِّ فرد. فلدينا «علم الصيدلة الجيني» الذي يَعِدُ بجعل العلاج أكثرَ أمانًا وفعالية. نظرًا إلى أنَّ العقاقيرَ قد تُلحق الضرر بالأشخاص الذين لديهم أنماطٌ جينية معيَّنة، يمكن استخدام تحديد التسلسل للكشف عن أصحاب الحساسية المفرِطة. يمكن لعلماء الأحياء أيضًا معرفةُ ما إذا كان المريض يتمتَّع بالخصائص الجينية التي تُمكِّنه من الاستجابة لعقارٍ معيَّن. وإذا علموا أن الدواء لن يُجْديَ نفعًا، فيمكنهم حمايةُ المرضى من الآثار الجانبية، وتجنيبُ أنظمة الرعاية الصحية النفقاتِ غيرَ المبرَّرة. وسيكون لمثل هذه المعلومات أهميةٌ وفائدةٌ كبيرة فيما يتعلق باستخدام الأدوية الجديدة المضادة للسرطان، وهي باهظة الثمن.
شهدَت السنوات الأخيرة تطويرَ علاجات للسرطان، تستهدفُ مساراتٍ محددةً للإشارات في الخلايا البشرية، التي تُسبِّب انتشار الخلايا القاتلة إذا تُرِكَت دون سيطرة. ففي عام ٢٠٠١، أطلقَت شركة نوفارتس عقارَ «إيماتينيب» لعلاج ابْيِضاض الدم النقوي المزمِن، وهو سرطانٌ ينتج عن نشاطِ أحد الجينات الورمية. يُنتِج هذا الجينُ الورمي إنزيمًا «فاعلًا» على الدوام، ومِن ثَم يُحفز الانقسامَ غيرَ المنضبط للخلايا. طوَّر الباحثون عقارًا يُعطِّل نشاطَ هذا الإنزيم. ونتيجةً لهذا ازداد معدلُ بقاء مريضِ ابيضاض الدم النقوي المزمن على قيد الحياة، والمقدَّر بخمس سنوات، إلى الضعف تقريبًا. ثمة نهجٌ آخر يتمثَّل في صُنع أجسامٍ مضادَّة تُهاجم بروتيناتٍ معيَّنةً على أسطح الخلايا السرطانية التي تُعزز نموَّ الخلايا بلا قيود.
إضافةً إلى ذلك، ظهرَت استراتيجيةٌ علاجية مختلفة بعضَ الشيء تنطوي على استخدام فيروس عكسي مُعدَّل؛ لإدخال جيناتٍ طبيعية إلى خلايا أجسام المرضى المصابين بالاضطرابات الوراثية. وبعد نتيجةٍ مبكِّرة غامضة، استُخدِمَت هذه الطريقةُ في عام ١٩٩٩ بجامعة فيلادلفيا لعلاج شابٍّ يفتقر إلى الجين الذي يُشفِّر أحد الإنزيمات الأساسية للكبد. وبعد مدةٍ وجيزة من حَقنِه بفيروسات البرد المعدَّلة، قام جسدُه بردِّ فعل مَناعي جسيم، مما أدَّى إلى فشل العضو وموتِ الدماغ. ليست معوِّقاتُ العلاج الجيني الفعَّال بالهيِّنة على الإطلاق؛ فحتى إذ تمكَّن العلماء من إيصالِ ما يكفي من الحمض النووي للعضو المتضرِّر بمستوياتٍ مقبولة، تبقى المشكلة أن الجينات المُستنسَخة قد تدخل إلى أيِّ جزءٍ من الجينوم وتُخلُّ بنشاط الجينات الأخرى.
بالرغم من ذلك، فقد أدَّت الأخطاءُ المبكرة إلى ظهور نُهجٍ أخرى لتطوير العلاجات الجينية، تتَّسم بقدرٍ أكبر من الحذر والسيطرة. ففي عام ٢٠٠٠ أعلنَت فِرَقٌ فرنسية وبريطانية أنها أدخلَت جينًا تصحيحيًّا في خلايا نخاع العظام لعشرين فتًى يُعانون من حالةِ عَوز المناعة المشترك الشديد، التي تُؤدي عادةً إلى الموت في السنة الأولى من العمر إذا تُرِكَت دون علاج. كانت نتائجُ الدراسة الطويلةِ الأجل مشجِّعةً للغاية. وفي عام ٢٠١٤، أعلن فريقٌ لندني أنه حقَن في الوريد جينًا لتعزيز تخثُّر الدم لدى عشَرةٍ من مرضى هيموفيليا ب الشديدة. لم يتحمَّل المرضى نقْلَ الجينات فحَسْب، بل أظهَروا أيضًا انخفاضًا واضحًا للغاية في نوبات النزيف. وقد بدأَت الآن أمثلةُ العلاج الجيني الناجح في التزايد.
عصر الأحياء الجزيئية
إنَّ تصفح الأخبار اليومية يكشف لنا على الفور كيف أنَّ تقنيات الحمض النووي المعادِ تركيبه، وتحديدَ تسلسُل الجينات؛ قد جعَلَ ظاهرةَ الوراثة وثيقةَ الصلةِ بحياتنا. ولا شك أنَّ بعض هذه التطبيقات للتكنولوجيا الحيوية قدَّمَت لنا نفعًا كبيرًا. فقد ذكرنا بالفعل إسهامَها في تطوير عقاقيرَ وعلاجاتٍ جديدة. إضافةً إلى ذلك، أمكن تطوير البصمات الجينية، التي تنطوي على التعرُّف على الأشخاص على أساسِ مجموعاتٍ من متغيرات الحمض النووي الفريدة، التي قدَّمَت الكثيرَ من الفوائد العمَلية؛ إذ ساعَدَت في سَجنِ آلاف المجرمين وتبرئةِ العديد من المتَّهَمين أو المحكومِ عليهم خطأً، وأتاحت أيضًا التعرُّفَ على جثثِ ضحايا الديكتاتوريات العسكرية، ولمِّ شمل العائلات التي شتَّتتها النزاعات.
أدَّت إعادة التركيب أيضًا إلى إنتاج كائنات حية مُعدَّلة وراثيًّا. وقد أُنتِجَ كثيرٌ من هذه الكائنات لأغراض استهلاك الإنسان. رُخِّصَت أولُ المحاصيل المعدلة وراثيًّا للاستخدام في أوائل التسعينيَّات. وفي عام ١٩٩٩، بلَغَت المساحة التي زُرِعَت بها هذه المحاصيلُ على مستوى العالم مساحةَ دولة نيوزيلندا تقريبًا. وبحلول عام ٢٠١٤ كان ما يقرب من ٩٤ في المائة من فول الصويا و٩٦ في المائة من القطن في الولايات المتحدة قد نبَتَ من بذورٍ معدَّلة وراثيًّا. صُمِّمَت المحاصيل المعدلة وراثيًّا لزيادة ما تُنتجه من الغلال، ولكي تتمتعَ بقيمةٍ غذائية أعلى وقدرةٍ أكبر على مقاومة الميكروبات والآفاتِ ومبيدات الأعشاب. وتُستخدَم الآن طرقٌ مُماثلة لتصميم كائناتٍ معدَّلة جينيًّا، مثل البعوض المعدَّل وراثيًّا، للمساعدة في مكافحة الأمراض الفتَّاكة مثل الملاريا، وحمَّى الضنك، والحمى الصفراء.
بالرغم من ذلك، فقد أتت مجالاتُ علم الوراثة والتكنولوجيا الحيوية في بعض النواحي بخيبة الأمل أو المخاوف. فثمة شعورٌ منتشر على نطاقٍ واسع بأن ثمار البحث الجيني كانت متواضعةً نِسبيًّا مقارنةً بحجم التمويل الذي تلقَّته. وعلى العكس من ذلك، سنرى أنَّ كثيرين يخشَون إمكانيةَ استخدام تكنولوجيا إعادة التركيب للتغيير في الوراثة البشرية، وهو احتمالٌ يمكن القول إنَّ تطبيقه يصبح أكثرَ سهولةً على نحوٍ متزايد. وفي الوقت الحالي، نجد أنَّ الاستخدام الواسعَ النطاقِ للمحاصيل والحيوانات المعدَّلة وراثيًّا يستمرُّ في إثارة المخاوف. فعلى الرغم من أنَّ الجمهور الأمريكي قد تقبَّل ابتكار الأغذية المعدَّلة وراثيًّا بسرعة، نَفَر العديدُ من الأوروبيِّين مما وصَفوه ﺑ «طعام فرانكنشتاين». وصحيحٌ أنَّ المخاوف من العواقب الصحية لتناوُلِ هذه المحاصيل لم تَثبت بعد، لكن عددًا منها لا يزال قائمًا. يتوقع بعضُ الخبراء أن التشابُهَ الجينيَّ للمحاصيل سيُقلل من قدرتها على مواجهة مُسببات الأمراض الجديدة. ويُحذر آخَرون من تسرُّب الجينات العابرة إلى جينومات الحشائش المجاورة، فتكتسب بذلك مقاومةً جامحة لمبيدات الأعشاب.
ثمة انتقاداتٌ أخرى وُجِّهَت لوسائل الإعلام وأنصار البحث الجيني؛ لتشجيعهم الجمهورَ على المبالغة في تقديرِ أهمية الوراثة في فَهم الصفات البشرية. فعادةً ما نجد تجاهلًا لحقيقةِ أنَّ دراسات التوائم تَخلُص دومًا إلى أنَّ العوامل البيئية تُسهِم بدرجةٍ كبيرة في ظهور السمات المعتادة وغيرِ المعتادة أيضًا. ويُعَد هذا التركيز على الوراثة إشكاليًّا؛ لا سيَّما حين يُثبِّط عن إجراء الأبحاث العلمية لتحديد الأسباب غير الوراثية للأمراض، مثل الأنظمة الغذائية، والملوِّثات، والسموم البيئية، والعدوى. ثَمة احتمالٌ آخَر لا يقلُّ عن سابقه في إثارة القلق، وهو أن يُعزز التركيزُ المتزايد على علم الوراثة من الرغبة القديمة في تقسيم نوعِنا البشري إلى فئاتٍ بيولوجية متمايزة.
أيديولوجيات الاختلاف البشري
خارج المختبر، استمرَّت الأيديولوجيات التي تَنسب الاختلافاتِ في الثروة والمكانة إلى الوراثة على مدى نصفِ القرن الماضي. ويكفي أن ننظر إلى استمرار الفصل العنصريِّ في جنوب أفريقيا، بأيديولوجيته الرسمية لسِيادة البيض، حتى عام ١٩٩١، ونزع الصفة الإنسانية عن شعب التوتسي خلال الإبادة الجماعية في رواندا في عام ١٩٩٤، ومذبحة سربرنيتسا عام ١٩٩٥ التي شهِدَت مقتلَ أكثرَ من ثمانية آلاف بوسنيٍّ مسلم على يدِ جنود صِرْب البوسنة. إضافةً إلى ذلك، ظلَّت عواملُ التمييز الجنسي، والعنصرية، والنخبوية تؤدِّي إلى نقص تمثيل النساء والأقليات وأبناء الطبَقات العاملة، في الوظائف المرموقة والأدوار السياسية. لكن حتى مع ذلك، تُوجَد أدلةٌ جيدة على تراجُع المعتقَدات الشوفينية التي تستند إلى الأفكار القائلة بوجود الاختلاف الوراثي. فقد تراجعَت لغةُ علم الأحياء جزئيًّا لصالح زيادة التركيز على الثقافة والشخصية.
يتجلَّى هذا التحول التدريجيُّ عن مظاهر التعبير العلَني عن العنصرية البيولوجية في المواقف تجاه المهاجرين. ففي أوروبا ما بعد الاستعمار، كان العداءُ موجَّهًا بدرجةٍ كبيرة نحو المهاجرين من الممتلكات الاستعمارية السابقة، لا سيَّما المهاجرين من ذَوي الأصول الإسلامية. فبحلول عام ٢٠٠٤، كان هناك في فرنسا مليونان من المهاجرين وأبنائهم يتعرَّضون للتمييز الشديد، ويعيشون في ظروفٍ دون المستوى المقبول على حافَاتِ المدن الكبرى. وعقب توسُّعِ الاتحاد الأوروبي في العامَين ٢٠٠٤ و٢٠٠٧، طالت الضغائنُ العِرقيةُ مُهاجري أوروبا الشرقية؛ ففي المملكة المتحدة، أسهَم النفورُ من البولنديين والرومانيين بشكلٍ كبير في انتصار حملة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام ٢٠١٦. بالرغم من ذلك، فقد صار زعماءُ «اليمين الجديد» وأنصارُه في أوروبا أقلَّ ميلًا للتعبير علَنًا عن وجهات نظرهم العنصريةِ في عصرنا الحاليِّ، بعد أن أصبحَت غيرَ مقبولة اجتماعيًّا في العديد من الأوساط.
بات من الأكثر شيوعًا لدى الأحزاب المناهِضة للمهاجرين وأتباعهم؛ الحديثُ بلغة الثقافة بدلًا من لغةِ الاختلاف البيولوجي. فكلُّ ما يتطلَّبُه الأمرُ هو إظهار أن أنماط التفكير الثقافية تمتدُّ بجذورها عميقًا لدرجةٍ تعوق فكرةَ الاندماج. وعلى هذا الأساس كان بوُسع السياسيِّ البريطاني المحافِظ إينوك باول أن يُنكر بشدةٍ كونه عنصريًّا، بينما أصرَّ في عام ١٩٦٨ على أنَّ «الهندي الغربي أو الهندي لا يُصبح إنجليزيًّا بولادته في إنجلترا.» فبهذه الطريقة تفعل لغةُ الثقافة ما كانت تفعله لغةُ العِرق. علاوةً على ذلك، يؤدي التمييزُ المتكرر ضد المهاجرين إلى استمرار فقرهم واغترابهم الثقافي، الذي يُمكن لأعضاء الثقافات السائدة اعتبارُه دليلًا أكيدًا على عجزهم عن الاندماج الحقيقي.
يتَّضح من بيانات الدراسات الاستقصائية الأمريكية أيضًا انخفاضُ العنصرية البيولوجية تجاه الأمريكيِّين الأفارقة. فقد وجدَت إحدى الدراسات الاستقصائية الوطنية أنه في حينِ وافق عام ١٩٤٢ نحوُ ٥٣ في المائة من الأمريكيين البيض على أن أصحاب الأصول الأوروبية ينتمون إلى عِرقٍ أسمى فِكريًّا، فقد انخفضَت هذه النسبةُ إلى ٢٠ في المائة بحلول عام ١٩٥٦. ووجدَت دراسةٌ أخرى في عام ١٩٨٦ أنَّ ١٤ في المائة فقط من البيض كانوا مستعدِّين للقول بأن السُّود أكثرُ فقرًا بسبب «ميراثهم البيولوجي». وبالمثل أيضًا، توضِّح الدراسات تناقصًا في تأييدِ الفصل العرقي في المدارس والقوانين التي تمنع الزواجَ بين الأعراق. في الوقت نفسِه، تكشف البياناتُ الاستقصائية أن الغالبية العظمى من البيض يُعارضون المعاملة التفضيلية للسود في التوظيف أو الترقية، وأنَّ احتمال اعتراضهم على زيادة ميزانيات الرعاية الاجتماعية يَزيد بدرجةٍ كبيرة إذا ما عرَفوا أن معظم الفقراء من الأمريكيِّين الأفارقة وليسوا بِيضًا.
في محاولةٍ لحلِّ هذا التناقض الواضح بين انخفاض معدَّلات العنصرية ووجودِ معارضة قوية لمساعدة السود في التغلُّب على أعباء العنصرية التاريخية؛ يفترض عددٌ من العلماء ظهورَ «عنصرية جديدة». تستند هذه العنصرية إلى اعتقادٍ خاطئ بأن الأمريكيين الأفارقةَ فقراءُ بدرجةٍ غير متناسبة؛ لأنهم لا يعملون بكدٍّ مثلما يعمل البيض. ذلك أنَّ الدراسات الاستقصائية الوطنية توضح دائمًا أنَّ العدد الأكبر من الأمريكيين يعتبرون السودَ أكثرَ كسلًا من البيض، ويرتبط هذا التصورُ ارتباطًا وثيقًا بتفضيل التخفيض في الإنفاق على الرعاية الاجتماعية. فرؤية السود باعتبارهم كُسالى تؤدي إلى الشعور بعدم أحقِّيتهم في المساعدة. ثَمة ما يدعم أن هذا الموقفَ لا ينطلق في الأساس من العنصرية القديمة، وهو أنَّ العديد من أولئك الذين يكرهون إنفاقَ الأموال على الرعاية الاجتماعية للسود يدعمون في واقع الأمر برامجَ مصمَّمةً لتعزيز فرصهم في تحسين الذات، مثل برنامج «هيد استارت».
يتجلَّى تراجعُ الأيديولوجيات الداعمةِ لدور الوراثة بالقدر نفسِه في رؤية مُواطني المجتمعات الغربية الحديثة للطبقات الاجتماعية. لم يزل الفقراء البيض عُرضةً في بعض الأحيان للتحقير الذي ينزع عنهم صفةَ الإنسانية؛ فتتحدَّث الصحف البريطانية مثل صحيفة «ديلي ميل» بشكلٍ لاذع عن «الطبقة الدُّنيا الوحشية»، ولم يزَل استخدامُ مصطلح مثل «أحمر الرقبة» في أمريكا يحمل أكثرَ من مجرد تلميح بالازدراء العنصري، وهو مصطلح كان يُطلَق في الأصل على فقراء المزارعين الذين احمَرَّت رِقابهم من التعرض للشمس، وصار يُستخدم في الإشارة إلى الأفراد الأكثر فقرًا والأقلِّ ثقافةً ووعيًا. بالرغم من ذلك، فقد صار مفهومًا في العموم أن الفقر والثروة مرتبطان بالجهد والإنجازات الفردية، أكثرَ من ارتباطهما بالنَّسَب. وجدَت الدراسةُ الاستقصائية البريطانية للمواقف الاجتماعية التي أُجرِيَت عام ٢٠٠٩ أن ٧٤ في المائة و٨٤ في المائة من الأشخاص اعتبروا التعليم والعمل الجادَّ، على التوالي، هما الأمْرَين الأكثرَ «للترقِّي». أما مَن اختاروا «الانحدار من عائلةٍ مناسبة» باعتباره العاملَ المهمَّ للترقي، فلم تَزِد نسبتُهم عن ١٤ بالمائة. يمكن القول إنَّ هذه النتائج متوقَّعةٌ بعض الشيء. فمثلما رأينا، أصبحَت الهياكل الطبقية أقلَّ جمودًا بعد الحرب العالمية الثانية مع التوسُّع في الوظائف الإدارية وإدخال أدواتٍ تكنولوجية جديدة ومتطورة تقتضي توظيفَ ذَوي المهارات التقنية. ونتيجةً لهذا، صار النسبُ بلا مَهارات مهنية يكتسبها المرءُ بالعمل الجادِّ أمرًا يصعب إقناعُ الآخرين بميزةٍ له.
فبدلًا من تباهي الشباب والشابَّات بأصولهم الطبقية، أصبح عليهم الآن تكريسُ قدرٍ كبير من الوقت لبناء ما يُسميه عالم الاجتماع فيليب براون «سرديَّة قابلية الفرد للتوظيف». الحقُّ أنَّ بناء هذه السردية لا يستلزم الحصولَ على درجاتٍ جيدة فحَسْب، بل يستدعي أيضًا وجودَ شيءٍ من التاريخ الفردي في السفر إلى الخارج، والتدريب الداخلي، والأنشطة الخارجة عن نطاق المقررات الدراسية، وذلك كلُّه مما يُساعد الفردَ على الالتحاق بجامعاتٍ جيدة ومِهَن برواتبَ مُجزية. لا تزال الخلفية العائلية بالطبع تحظى لدى كثيرين بأهميةٍ كبيرة على أرض الواقع. فبينما يتعيَّن على أعدادٍ كبيرة من المتعلِّمين رجالًا ونساءً أن يتنافسوا الآن على وظائف القطاعَين الإداريِّ والمهني، التي لم تَعُد تتوسَّع بمعدلِ توسُّعها في العقود السابقة، فإنَّ مَن وُلدوا لأسرٍ تُمكِّنهم من الحصول على تعليمٍ باهظ الثمن وغيرها من الفرص يتمتَّعون بميزةٍ كبرى. بالرغم من ذلك، فعادةً ما يُنظر إلى النجاح والفشل في هذه البيئة التنافسية في سياق الجهد الفردي، لا في سياق علم الجينات أو الامتياز.
ثمة سببٌ آخرُ لتراجع التفسيرات الوراثية لعدم المساواة العرقية والطبقية؛ وهو تراجعُ شعبية التفسيرات الهيكلية أيضًا. فقد لاقى التقليلُ الضخم من شأن العوائق أمام الترقِّي الاجتماعي إعجابًا واضحًا لدى الأثرياء نسبيًّا. ذلك أنه يُمكِّنهم من النظر إلى مكانتهم باعتبارها أمرًا مكتسَبًا بالكامل، ورؤية أنَّ الفقراء هم المسئولون عمَّا لحق بهم من سوء حظٍّ يستحقُّونه. ولهذا التفسير ما يؤيِّده من الدراسات التي توضِّح أنَّ المقتدرين ماليًّا هم مَن يرَون على الأرجح أنَّ النظام الاجتماعي عادلٌ ومنفتح لكلِّ مَن يبذل جهدًا بالفعل. نتج عن ذلك رؤيةٌ لعدم المساواة تُضفي الشرعية على التسلسل الهرمي بفعاليةٍ لا تقلُّ عن فعالية المعتقدات القديمة بشأن الاختلافات المتوارثة في إضفاء هذه الشرعية.
علاوةً على ذلك، نُلاحظ تضاؤلَ الاعتقادِ بأنَّ النساء بطبيعتهنَّ أكثرُ عاطفيةً من الرجال وأقلُّ عقلانية. يتَّضح هذا من زيادة مُشاركة المرأة في قطاعات العمل التي كان يُهيمن عليها الرجال في السابق، وحقيقة أنَّ النساء اللاتي يتخرَّجن الآن في الجامعات أكبرَ عددًا من الرجال. وانخفض أيضًا عددُ الأمريكيِّين الذين يرَون أنَّ النساء يجب أن يكنَّ ربَّاتِ بيوت من ٤٠ في المائة في عام ١٩٧٠ إلى ١٨ في المائة فقط في أواخر التسعينيَّات. لم يثبت بالطبع أنَّ جميع قطاعات الاقتصاد تقبل الموظَّفات؛ فوظائف الطبقة العاملة مثل البناء، والسباكة، وقيادة الشاحنات لم تزل مقصورةً على الرجال بالدرجة نفسِها التي كانت عليها في خمسينيَّات القرن العشرين تقريبًا. غير أن المفاهيم قد تغيَّرَت مع تزايُد اعتياد الرجال على عمل النساء في مجموعةٍ مختلفة من المهن، ومع تحدِّي الأيديولوجيات الليبرالية، بما في ذلك الموجة النسوية الثانية، لوجهات النظر القديمة بشأن طبيعة الاختلاف بين الجنسَين.
على الرغم من ذلك، لا تزال المعتقَدات الجوهرية بشأن الاختلاف بين الجنسَين قائمة. فخلال تسعينيَّات القرن العشرين، انتهى التوجُّه الذي استمر عقودًا من الزمن نحو تشكيلِ مواقف تتَّسم بدرجةٍ متزايدة من المساواة فيما يتعلَّق بالنوع الاجتماعي. ولم تشهد الدراساتُ الاستقصائية تزايُدَ الليبرالية مجدَّدًا إلا في القرن الحادي والعشرين، وهي لا تزيد بالمعدَّل الذي كانت عليه في السبعينيَّات من القرن العشرين أو الثمانينيَّات. تباطَأ أيضًا التقدمُ نحو تحقيق المساواة في الأجور والفرص. ففي عام ١٩٧٠، لم يكن متوسطُ أجر المرأة العاملة في الولايات المتحدة يَزيد عن ٥٩ في المائة من متوسط أجرِ الذكر، وقد ارتفع إلى ٨١ في المائة فقط بحلول عام ٢٠١٥. وبحلول عام ٢٠٠٢، كان تمثيلُ النساء في الوظائف المرتفعة الأجور لا يزال ضعيفًا في الولايات المتحدة، وفي جميع الأماكن الأخرى أيضًا. ففي شريحة الراتب الأعلى بدخلٍ سنوي قدرُه مليون دولار أو أكثر، كان يوجد ١٣ رجلًا لكل امرأة واحدة.
تشرح عالمةُ الاجتماع باولا إنجلاند أنَّ المساواة بين الجنسين توجد الآن جنبًا إلى جنب مع «إيمان قوي (وإن كان ضِمنيًّا في كثير من الأحيان) بوجود ماهية للنوع الاجتماعي، ذلك المفهوم القائل بوجود اختلاف جوهري وفِطري بين الرجال والنساء في الاهتمامات والمهارات». وقد وجَدت العديدُ من الدراسات المُصمَّمة للكشف عن التحيزات الضمنية أن المرأة في المتوسط تُعد ألطفَ من الرجل، ولكنها أقلُّ كفاءةً منه. عِلاوةً على ذلك، فإنَّ النساء اللائي يتَّسمن بالحزم والحسم المرتبطَين بالذكورة، قد يُحفزن ردودَ فعلٍ سلبية بين الزملاء. ونتيجةً لهذا، تزيد احتماليةُ النظر إلى الرجال باعتبارهم رموزًا شرعية للسلطة، بينما يقلُّ عدد النساء اللاتي يُرقَّين لهذه الأدوار، أو يقلُّ عدد مَن يرون في أنفسهن إمكاناتٍ كبيرةً للقيادة.
طُرِحَت نظرياتٌ مختلفة عن سبب تباطؤ التقدُّم نحو قدرٍ أكبر من المساواة بين الجنسين في العقود الأخيرة، ومن ذلك الصعوبة الهائلة في تغيير الصور النمطية الراسخة ثقافيًّا، ورد الفعل العنيفة التي تُثيرها وسائل الإعلام ضد النساء العاملات، ممَّا شجع الاعتقادَ بتعارض الحياة المهنية مع المتطلبات المكثَّفة للأمومة في العصر الحديث، وحقيقة أنَّ عددًا صغيرًا نسبيًّا من الرجال هم الذين تحدَّوا الصور النمطية القديمة بعمَلِهم في المهن المعروفة بأنها مهنٌ نسائية؛ مثل التمريض ورعاية الأطفال، ورغبة الكثير من الرجال في الاحتفاظ بمكانتهم، ربما في المنزل على وجه الخصوص حيث لا تزال النساءُ العاملات يُشاركن بنسبةٍ غير متكافئة في الأعمال المنزلية.
من المهم أيضًا ملاحظةُ أنَّ العديد من النساء يخضعن لتضافُر آثارِ عدة أنواع مختلفة من التحيز. فالنساء اللاتي ينتمين للأقليات وللطبقة العاملة يواجِهْن عدةَ عقَبات عليهن التغلبُ عليها إذا كن يرغبن في تحسين مكانتهن الاجتماعية. فلْتتأمَّلْ فقط عمق الازدراء العنصري، والطبقي، القائم على النوع الاجتماعي الذي تُصدِّره الاستعارةُ التي يقوم عليها مصطلحُ «مَلَكة الرعاية الاجتماعية» النمطيَّة. إنه مصطلحٌ يفتري على الفقيرات من الأمريكيات الأفارقة بأنهنَّ يُفرِطْن في الإنجاب للحصول على مدفوعاتٍ أعلى من الرعاية الاجتماعية، بالرغم من عدم وجود دليل على أن النساء اللاتي يتلقَّين مدفوعات الرعاية الاجتماعية يُنجبن أطفالًا أكثرَ من أولئك اللاتي لا يحصلن عليها.
ذكَر هذا الفصلُ عددًا من التطورات التاريخية المهمة. لقد زاد فهمنا للوراثة بمعدل مذهل، وأثر ذلك في الطب، والزراعة، وعلم الأدلة الجنائية، ومعرفتنا بالتطور، والإدراك البشري، والشخصية. وأدت اكتشافاتُ علم الجينات إلى تقويض العقائد الوحشية بشأن الدُّونية الوراثية التي كانت شائعةً من قبلُ بين العلماء الأمريكيين والأوروبيين. رافقَ هذا انخفاضٌ أوسعُ نطاقًا في القَبول العام للشوفينية البيولوجية. بالرغم من ذلك، لا يجدر بنا المبالغةُ في تقدير أهمية هذا التحوُّل. فلا تزال أقليةٌ لا بأس بها تؤيد الخرافات التقليدية في مجال الوراثة بشأن العِرق، والنوع الاجتماعي، والطبقة الاجتماعية. علاوةً على ذلك، على الرغم من التقدم المحرَز نحو التغلُّب على الصور النمطية للدُّونية الفكرية للإناث، فالأدلة كثيرةٌ على استمرار الاعتقادات الضمنية بأن المرأة عليها أن تكون مُربيةً لا طَموحة ومكافحة.