التقدُّم المحرَز والإمكانات
الوراثة في سطور
بعد آلاف السنين من التكهُّنات والتخبُّط ثم التقدم في نهاية المطاف، أصبح علماءُ الوراثة الآن قادرين على شرح كيفية تكوينِ التفافات الحمض النووي للبروتينات التي تتشكَّل منها أجسامُنا جميعًا، وهم يستطيعون إخبارَنا بالكثير جدًّا عن كيفية تأثير الجينات في سلوكنا، بل إنهم يُطوِّرون الآن طرقًا لإدخال جيناتٍ جديدة في خلايا الإنسان؛ لمواجهة آثار الطفرات الجينيَّة الخطيرة. أتت هذه الإنجازاتُ نتيجةَ آلاف السنين من الملاحظة، والتجرِبة، والجهد الفكري. فقد تابعنا هذه القصةَ بدءًا من فلاسفة أثينا القديمة إلى اختصاصيِّي الفحص المجهري في أوائل العصر الحديث، وإلى صفوف البازلاء الحُلوة المرتَّبة في حديقة دير جريجور مندل، وحتى الوقت الحالي الذي يشهد المصفوفاتِ الجينية الدقيقة، والمسح الكامل للجينوم، والكائنات المعدَّلة وراثيًّا. إنَّ هذا التقدُّم المذهل في القرنَين الماضيَين قد استلزم ما هو أكثرُ بكثير من تعاقب العلماء الموهوبين فحسب؛ ذلك أنه اعتمد على ظهور العلم التجريبي، والاستفادة من البحث الوراثي في مجال الزراعة، وتوفُّر التمويل من الحكومات ومن مستثمري القطاع الخاصِّ الطامعين في التكسُّب من الاختبارات والعلاجات الجديدة، وتطوير تقنيات المختبرات التي مكَّنَت من رؤية بِنَى الخلايا والجزيئات ووظائفها، وانتقاء الكائنات الحية موضوع التجارِب التي يمكن من خلالها الكشفُ عن أسرار انتقال الصفات بالوراثة.
رأينا أيضًا أنَّ الفكرة القائلة باختلاف البشر وَفقًا لمولدهم نادرًا ما خلَت تمامًا من الضرر. فكثيرًا ما طُرِحَت فكرةُ الاختلافات الفطرية بنيَّة أيديولوجية تتجاوز حدودَ الدليل والمنطق. وبوتيرةٍ مذهلة مثيرة للقلق، انجرفت شعوبُ الغرب نحو الاعتقاد بأن المرأة، والطبقات الاجتماعية الدُّنيا، والغرباءَ من المجموعات الإثنية؛ لديهم جوهرٌ مغاير أقلُّ شأنًا لا يتغير من جيلٍ إلى جيل إلا بالقدر القليل، إن كان يتغير من الأساس.
على الرغم من تركيز هذا الكتاب على أوروبا والأمريكتين؛ يجب التأكيدُ على أن النزعة إلى اعتبار مجموعاتٍ معيَّنة من الأشخاص أقلَّ قيمة في ذاتهم يُلاحَظ في أنحاء عديدةٍ أخرى من العالم. فقد قال العلَّامة الفارسيُّ ابنُ سينا في القرن الحادي عشر إنَّ بعض أنواع الأشخاص «عبيدٌ بالفطرة» وهم «لا يصلحون لأمورٍ أسمى». وسلَّط المؤرِّخ جورج إم فريدريكسون الضوءَ على التمييز الياباني القديم تجاه الكوريِّين المولودين في اليابان واستبداد الرعاة من قبيلة التوتسي في رواندا وبوروندي بمزارعي الهوتو في عصورِ ما قبل الاستعمار. ثمة خلافٌ بشأنِ ما إذا كان النظام الطبقي الهندي عُنصريًّا وَفقًا للتعريف الاصطلاحي للكلمة، لكنه يتماشى على أي حالٍ مع المعتقد الماهاوي بأن بعض المجموعات مختلفة جوهريًّا. ففي دراسةٍ أُجريَت عام ٢٠٠٧، طلب راماسوامي ماهالينجام من بعض البراهمة (أفراد الطبقة العُليا) وبعض الداليت (أو طبقة المنبوذين) قراءة «قصة عن حدثِ تبديل بين طفلَين عند الولادة»، تحكي عن طفلٍ من الطبقة العليا رُبِّي في عائلةٍ من الطبقة الدنيا، أو طفلٍ من الطبقة الدنيا رُبِّي في عائلة من الطبقة العُليا. في النهاية، كان براهمة الطبقة العليا أكثرَ ميلًا من داليت الطبقة الدنيا؛ للاعتقاد بأن الطفل سيتخذ حين يكبر هُويةَ الطبقة التي وُلد فيها.
ربما يبدو أنَّ ظواهر العنصرية وكراهية النساء والنخبوية؛ متعارضةٌ مع تطور الأفكار العلمية المذهلة عن الجنس والوراثة. وقد عرَض هذا الكتابُ كِلا الروايتَين نظرًا إلى تداخلهما في كثيرٍ من الأحيان. فمثلما أنَّ الفلاسفة في العصور الكلاسيكية القديمة قد اختلَقوا عن الاختلاف البشري نظرياتٍ تتوافقُ تمامًا مع استعباد أَسْرى الحرب من الأراضي الواقعة خارج حدود الإمبراطورية اليونانية، أيَّد بعضُ أبرز علماء الوراثة في النصف الأول من القرن العشرين تعقيمَ المجرمين والمجانين والذين يُعانون من صعوباتٍ في التعلم، أو فصْلَهم عن المجتمع أو قتلهم. ينبغي ألَّا نندهش في حقيقة الأمر من هذا الافتقار إلى الحياد لدى الكثير من المفكرين الكبار. فقد رُبِّي المثقَّفون الذين ينتمون إلى النخب الاجتماعية في أوروبا وأمريكا على أنهم أرقى من حيث النوعُ الاجتماعي، والطبقة الاجتماعية، والعِرق. ولم يكن غالبيتُهم على استعدادٍ لتحدي الرأي التقليدي، الذي يُعزز بالطبع إحساسَهم بتقدير الذات؛ فللتباهي والمصلحة الذاتية إغراءٌ قوي.
شهدت العقودُ الأخيرة انخفاضًا مذهلًا في مصداقية الماهوية البيولوجية. فقد أبطل العلمُ الادِّعاءات الفجَّة المتعلقة بوراثة الاختلاف البشري دون إنكارِ دور الجينات في الذكاء والشخصية. في الوقت نفسِه، صارت درجةُ عدم القَبول الاجتماعي لفكرة إسناد الاختلافات في الوراثة لطبقات بأكملها من البشرية أكبرَ كثيرًا. بالرغم من ذلك، فمعرفة ما إذا كان هذا الاتجاه سيستمرُّ أم لا، هو أمرٌ أبعدُ ما يكون عن الوضوح. وعلى أي حال، لن يُشكِّل ما يقوله علماءُ الأحياء عن تعقيد علم الوراثة فارقًا كبيرًا في أنظار أولئك الذين يرغبون في شيطنة أفراد الجماعات الأخرى.
آفاق مستقبلية غامضة
ثَمة إمكانيةٌ كبيرة أيضًا لاستخدام هذه التكنولوجيا لتحفيز تعديلاتٍ يمكن تَوارثُها. يُحاجج بعضُ المعلقين بأن تعديل الأجنة البشرية أو الخلايا الجنسية سيَظل غيرَ آمنٍ في المستقبل البعيد بسبب التعقيدات المذهلة للآليات التنظيمية الجينية والتفاعلات بين الجينات بعضِها ببعضٍ وبين الجينات والبيئة. وعلى الرغم من أنَّ زعمهم هذا ليس صحيحًا بالضرورة، فدائمًا ما تنطوي الأساليبُ التكنولوجية الجديدة على مخاطرَ غيرِ متوقَّعة. فهل سيكون الآباء الذين يهتمُّون برفاه أطفالهم، بما فيه الكفايةُ لأن يُفكروا في اتباع العلاج الجيني بالخلايا الجنسية، مُستعدِّين بالفعل لخوض مثلِ هذه المقامرة؟
الفلاسفة أيضًا قد تنوَّعَت مواقفهم. فأوصى البعضُ بالتناول الجادِّ لرد الفعل القَلِق الذي يشعر به الكثيرون تجاه التغيير في الخلايا الجنسية. يعتقد عالمُ الأخلاق المحافظ ليون كاس أنَّ «عامل التقزُّز» من الأمر ينشأ عن حَدْسٍ أخلاقي عميق بخطأ هندسة الخلايا الجنسية. فهو يُحاجج مثلًا أن تعديل جينات الأشخاص لزيادة ذكائهم أو جمالهم جينيًّا سيُشوِّه الوجود البشري؛ لأننا لن نشعرَ حينها بالفخر الشخصي بإنجازاتنا. ثمة اعتراضاتٌ أخلاقية أخرى تستند إلى مخاوف أن يؤدِّي تعديلُ الخلايا الجنسية إلى زيادة الظلم والصراع. فقد تنبَّأ عالم الأحياء لي سيلفر أن زواج الرأسمالية وتكنولوجيا الجينات سيؤدي إلى تكوين طبقةٍ عُليا جينية، «الأثرياء جينيًّا»، ستقفُ في وجه «الطبيعيِّين» الذين سيكونون أقلَّ قدرةً في المعتاد.
لا يقتنع العديدُ من الكُتَّاب بالاعتراضات الأخلاقية على العلاج الجيني، ويرَون أنَّ الهندسة الوراثية وسيلةٌ لتحسينِ رفاه الإنسان، وتجاهلُها غيرُ أخلاقي. يؤكِّد البريطانيُّ الباحث في أخلاقيات علم الأحياء، جون هاريس على سبيل المثال، أنه لا يُوجَد في الواقع شيءٌ جذري من الناحية الأخلاقية بشأن تعديل الخلايا الجنسية؛ لأننا نحن البشرَ «مُحَسِّنون» بطبيعتنا؛ إذ طوَّرْنا الأدوية لمكافحة الأمراض، والمأوى والملابس لتحدِّي تقلُّبات المناخ، واللغة المكتوبة لإثراء قدرتنا على التفاعل والتعلم والتنظيم.
من المستحيل في الوقت الحاضر معرفةُ ما إذا كان تعديلُ الخلايا الجنسية سيجعل الناسَ أكثرَ صحة، أو ذكاءً، أو وسامةً. وليس من المرجَّح أيضًا أن يكون الأكاديميُّون هم أصحاب الحكم النهائي في هذه المسألة. لا شك أنَّ الحوافز التِّجارية ستتفوَّق إذا اكتُشِفَت وسائلُ آمنة لإجراء تعديلات على الخلايا الجنسية، سواءٌ أكانت لأغراضٍ طبية أم غيرِ طبية. وحتى إذا لم يُسمَح بتطوير التقنيات في مُختبَرات العالم المتقدِّم، فمن المرجَّح أن يُجرى ذلك في الأجزاء الأقلِّ تنظيمًا من العالم. فرغم كل شيء، من الصعب منعُ البشر من محاولةِ توفير فرصةِ حياة أطولَ وأكثرَ إرضاءً لأنفسهم وأحبائهم، مهما كانت التداعياتُ الأوسع نطاقًا.