الفصل الأول
نموذج آموس تيوتولا: فنان بالمصادفة أم كاتب حقيقي؟
ولمَّا كان الشهر السادس بعد موت أبي، ذهب الساقي مساء يوم أحد إلى
مزرعة النخيل؛ ليجلب لي بعض النبيذ، وعندما وصل إلى المزرعة، تسلَّق نخلةً
طويلة، وراح ينقرها ليستخرجَ منها النبيذ، وفي أثناء ذلك، سقط فجأةً ليموت
عند جذع النخلة. كنتُ أنتظر عودته بالنبيذ، وعندما وجدت أنه تأخَّر على
غيرِ عادتِه، دعوتُ اثنين من أصدقائي لنذهبَ معًا إلى المزرعة، وعندما
وصلنا إلى هناك، رُحنا نفتِّش عنه، وبعد فترة وجدناه مُلقًى تحت النخلة،
حيث كان قد سقط ومات.
(Amos Tutuola, The Palm-Wine Drinkard,
1952)
وفيما بعدُ ذهبتُ إلى «مديرية العمل»؛ لكي يوقِّع لي نُسخة من كتابه،
فوجدته جالسًا في أحدِ الأركان بزيِّهِ الفضفاض وهو يغطُّ في النوم، ولكي
أصِل إليه كان عليَّ أن أخترقَ صفوفًا متوالية من العاملين النيجيريين ذوي
النظَّارات، الجالسين على مكاتبِهم في وقار موظفي الحكومة، كان يبدو عليهم
الضِّيق، لأنَّني كسرت قواعد اللياقة؛ إذ لم يكُن من المعتاد أن يقوم رجل
أبيض بزيارة أحد السُّعاة. سألني عمَّا أريده أن يكتب، وبعد أن وقَّع
الإهداء، قال: أعتقد أنَّك عندما تصل إلى هناك، إلى الولايات المتحدة،
ستكتب لي رسالةً؛ قلت: «نعم! ولكن لماذا؟» قال: لأعرف أنَّك لم
تنسني.
(Eric Larrabee, Review of The Palm-Wine
Drinkard, The Reporter, 12 May 1953)
هناك خلاف بين النقاد على تحديد تاريخ ميلاد الأدب القصصي الأفريقي
الحديث، ولكن عندما تُذكَر الكتابة الأنجلوفونية في جنوب الصحراء، لا بد من
أن يذكر كثيرون تاريخ صدور رواية «شَرِّيب نبيذ النَّخيل» للكاتب النيجيري
«آموس تيوتولا Amos Tutuola» (لم تحظَ سرديات
الكُتَّاب السُّود السَّابقين بمثل ما حظِيَت به روايةُ «تيوتولا» من
انتشار). بعد أن نشرتها دار Faber and Faber
في إنجلترا سنة ١٩٥٢م، أعادت دار نشر Grove
Press طباعتها في الولايات المتحدة في العام التالي، وفي ذلك
الوقت كانت الضَّجة قد بدأت والجدال قد احتدم، ليستمر حتى وفاة الكاتب سنة
١٩٩٧م.
«آموس تيوتولا» من مواليد ١٩٢٠م في «أبيوكوتا
Abeokuta» — نيجيريا الجنوبية — بدأ تعليمه
الأساسي سنة ١٩٣٤م في مدرسة جيش الخلاص المحلية، واستمرَّ بعد ذلك لمدة عامين
في «لاجوس»، بمساعدةٍ من أحد الكفلاء (موظف حكومي اسمه F. O.
Mornu)، ويقول المؤلف عن نفسه إنَّه كان تلميذًا ذكيًّا،
نُقِل مرَّتَين إلى صفٍّ أعلى متخطِّيًا أقرانه، إلَّا أنَّ العقبة كانت
دائمًا هي الظروف الخارجية، وليست قدراته الذهنية.
كانتْ مُدبرةُ المنزل التي تعمل لدى السيد «مورنو»، ترسل التلميذ إلى
المدرسة في لاجوس كل يومٍ دُون إفطار أو نقود للغداء، ويبدو أنها كانت تستولي
على النقود لنفسِها، وترى أنه يمكن أن يعيش على وجبة واحدة في اليوم، عندما
يعود إلى المنزل بعد الظهر، وفي مقالٍ بعنوان «حياتي ونشاطاتي» كتَبَه بمثابة
كلمة ختامية للطبعة الأمريكية من رواية «شرِّيب نبيذ النخيل»، يصف «تيوتولا»
هذه السيدة مرَّة بأنها كانت «شديدة القسوة» (p.
126)، ومرَّة أخرى بأنها «غليظة القلب» (p.
127)، بالإضافة إلى أنه كان يخشى أن يشكو لسيده سوء
معاملتها؛ حتى لا تتوقف عن دفع مصروفات المدرسة، وبعد أن عاد إلى «أبيوكوتا»
بعد ما يزيد على العام بقليلٍ قرَّر البقاء في المنزل بدلًا من العودة إلى
تلك السيدة القاسية.
كان والد «تيوتولا» مزارعًا فقيرًا، إلَّا أنه كان يستطيع أن يدفع
مصروفات المدرسة الأنجليكانية، كما كان يفعل قبل ذلك عندما كان الطفل يعيش
معه في «أبيوكوتا»، وقد توقَّفت هذه الدراسة سنة ١٩٣٩م، عندما مات والده،
وهكذا تكون دراسته عبارة عن ستِّ سنوات متقطعة. بعد ذلك عمل في مزرعة الأسرة
لمدة سنة، قبل أن يعود إلى «لاجوس»؛ ليقيم مع أخٍ له غير شقيقٍ، ويتعلَّم
حرفة الحدادة. يقول تيوتولا: «وبعد أن أصبحت مُؤهَّلًا للاشتغال بهذه الحرفة،
عملت سنة ١٩٤٩م بالقوات الجوية لغرب أفريقيا في وظيفة حدَّاد، رتبتي
(AAl) ورقمي
(WA/8624).» (p.
126) على أنَّ التواريخ المذكورة أعلاه محل خلاف بين
الباحثين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حاول «تيوتولا» القيام بعدة
مشروعات صغيرة، فشلَتْ كلُّها، بما في ذلك إنشاء ورشة حدادة خاصة.
كان الحصول على عملٍ آنذاك أمرًا صعبًا؛ بسبب الأعداد الكبيرة من الجنود
النيجيريين العائدين من الخارج، وهكذا، عمل «تيوتولا» بوظيفة «ساعٍ» في
مديرية العمل في «لاجوس»، وهناك، عندما كان لا يجد ما يفعله خلال ساعات العمل
الطويلة، كان يكتب حكايات اليوروبا التي كان يستمع إليها من أمِّه وغيرها في
طفولته، وكما يقول في آخِر جُملة من مقاله الذي سبق ذِكره: «كان ذلك صعبًا
بالنسبة لي قبل حصولي على هذه الوظيفة غير المُجزية، التي ما زلتُ أمارسها
حتَّى الآن» (p. 130).
مخطوطة «شَرِّيب نبيذ النخيل» المكتوبة بخط يده، والتي زعم «تيوتولا»
فيما بعدُ أنه كتبها في يومَين، في نوبةِ إبداع شبيهة بالانفجار، وراجعَها في
بضعة أشهر، أُرسلت في البداية إلى الجمعية المتحدة للأدب المسيحي في «لندن».
كان «تيوتولا» قد قرأ إعلانًا في «نيجيريا ماجازين»، يصف نشاط الجمعية في نشر
أعمال الكُتَّاب الأفارقة، عن طريق إدارة النشر التابعة لهم، وهي «لترويرث
برس
Lutterworth Press». كان تعليم الكاتب
مسيحيًّا، ولم يكُن للنشر في نيجيريا وجودٌ تقريبًا، وبالرغم من عدم نشر
الرواية، كان من حُسن حظِّه أن يُدرك محرِّرو الدار أهميتها الخيالية،
فحاولوا لَفْت انتباه ناشر آخَر إليها، ردَّ عليهم قائلًا: «كُفُّوا عن هذا
الهراء!» فما كان منهم إلَّا أنْ أرسلوها إلى دار نشر «فيبر آند فيبر
Faber and Faber»،
١ وبعد جهدٍ كبير في تحرير المادة، صدرت رواية «تيوتولا» سنة
١٩٥٢م، رغم أنها ربما تكون قد كُتِبت قبل ذلك بثلاث سنوات.
وسرعان ما بدأ الجدال، وانقسم النقاد إلى فريقَين: كان النقاد الإنجليز
والأمريكيون مفتونين بقصة «تيوتولا»، وبأسلوبه في الكتابة، بينما كان النقاد
الأفارقة يخشون أن يتصوَّر الغربيون أن «تيوتولا» هو «نموذج الأفريقي
المتعلِّم بشكل عام».
كان ذلك وقتًا حرِجًا في تاريخ الاستعمار في أفريقيا، وكان التسريح من
الخدمة العسكرية، قد أعاد آلاف الجنود الأفارقة إلى مواطنهم، وكانوا قد بدءوا
مع زعمائهم يُطالبون بالاستقلال عن القُوى الاستعمارية. في الاحتفال بذكرى
«تيوتولا» سنة ١٩٩٧م كتب «آرنست إيمينيونو» يقول: «إنَّ أفضل السياسيين
الأفارقة الذين تعلَّموا في عدد من أفضل جامعات أوروبا وأمريكا يعرضون قضية
استقلال بلادهم، ويُدافعون عنها بلغة المستعمر — دون أخطاءٍ — على أرضه».
٢ لم يكُن «آموس تيوتولا» يستخدم إنجليزية الملكة.
من الصعب تحديد ما إذا كانت «اللغة» أم «القصة» هي التي أثَّرَت في
النقاد الغربيين، بالنسبة لرواية «تيوتولا»؛ فالشاعر الويلزي «ديلان توماس
Dylan Thomas»، بدأ مراجعته النقدية في جريدة
اﻟ «الأوبزرفر Observer» (٦ يوليو ١٩٥٢م)
بقوله: «هذه هي القصة المُحكمَة، المُحتشدة، المروعة، الفاتنة، من سلسلة قصص
مكتوبة بإنجليزية فتية، لكاتب من غرب أفريقيا، عن رحلة «شَرِّيب نبيذ
النخيل»، عبر كابوسٍ من المغامرات العجيبة العصِية على الوصف، يُقدِّمها
ببساطة وعناية، وبأسلوب يقف له شَعرُ الرأس.»
وبعد ثلاث فقرات من المقال، يقول «توماس»: «الكتابة كلها تقريبًا مصقولة
ومباشرة وقوية، ومُرَّة وصريحة، وذات نكهة خاصة، ومَشاهد الرُّعب فيها — وهي
كثيرة وساخرة — قريبة ومفهومة، مثلها مثل التفاصيل الصغيرة عن الأسعار
والأحجام والأعداد، كل ما في هذه الرواية الشيطانية الطويلة الاستثنائية في
عجائبيتها، لا بد من أن يستوقفك.»
ويتساءل المرء، ماذا كان يمكن أن يكون مصير هذه الرواية، لو لم يتوفَّر
لها حُسن الحظ غير العادي بسبب نقد «ديلان توماس»، أمَّا «بيرنث لندفورس
Bernth Lindfors» فكتب يقول: «ربما يكون
«تيوتولا» مَدينًا بكثير من شهرته الباكِرة لتقريظ الشاعر الويلزي الكبير
(Critical Perspectives, 1975, p. 3)، وكانت
الطبعات التالية والإعلانات عن عمل «تيوتولا» — بما في ذلك الطبعة الأمريكية
الأولى — تقتبس دائمًا من مقال «ديلان توماس»، الذي حدَّد توجُّه كثير من
التعليقات التي توالت فيما بعد.»
بعد بضعة أشهر، كتب «آرثر كالدر مارشال Arthur Calder
Marshall» (في عدد 13 Nov,
1952 من The Listene)
مُردِّدًا كلام «توماس»، ومُشيرًا إلى أنَّ رواية تيوتولا «عمل لافت للنظر …
وأنه يؤذن بفَجْر الأدب النيجيري.» وفي العام التالي، كان النقاد الأمريكيون
يُلقون الضوء على لُغة «تيوتولا»؛ فكتب «إريك لارابي Eric
Larrabee» في (The Reporter, 12 May
1953)، يصف الكتاب بأنه «مكتوب بإنجليزيةٍ ليست إنجليزية هذا
العالَم.» وذهب «سلدن رودمان Selden Rodman»
في (New York Times Book Review, 20 Sep
1953) خطوة أبعَد من ذلك؛ ليصف المؤلِّف بأنه «فِطريٌّ
حقيقي»، كما وصف الرواية بأنها «شِعْر بسيط». أمَّا «أنتوني وست
Anthony West» فحمل الجِدال النَّقدي إلى ما
هو أبعَد، عندما وصف أسلوب «تيوتولا» في اﻟ «نيويوركر The New
Yorker, 5 Dec 1953» بأنه «بِدائيٌّ وبربري»، مُشيرًا إلى
أنَّ المرء «يلحظ لمحات لبدايات أدبٍ»، كما ظهرت تنويعاتٌ كثيرة على مثل هذه
التعبيرات في كتاباتٍ نقدية أخرى، وكذلك في مراجعة «في إس بريتشت
V. S. Pritchett» لكتاب «تيوتولا» الثاني:
«حياتي في دغل الأشباح My Life in the Bush of
Ghosts» الذي نُشِر لأول مرَّة في ١٩٥٣م: «لا يستطيع المرء
أن يقطع ما إذا كانت أعمال مثل أعمال تيوتولا، بمثابة شطحاتٍ دالة على أزمة
لغة، أو ميلاد جديد في ثقافة ما … إنَّ صوت «تيوتولا» يشبه بدايات الإنسان
على الأرض، يظهر مجروحًا وينمو.» اخدِش سطح هذه العبارة، ستجد خطوطًا متماثلة
ومتوازية على نحوٍ مُقلِق مع «قلب الظلام» ﻟ «جوزيف كونراد
Joseph Conrad»، «كان المُضيُّ في ذلك النهر
أشبه بالعودة إلى البدايات الأولى للعالَم …» «كنا جوَّالين على أرض ما قبل
التاريخ، على أرض ترتدي هيئة كوكب مجهول … في ليل العصور الأولى»
(p. 30, 32). أمَّا بالنسبة لنُقَّاد
وقُرَّاء غرب أفريقيا الذين قرءوا رواية «تيوتولا»، فكانوا يرون في تعليقات
مثل تعليقات «وست» و«بريتشت»، احتفاءً بالبدائي والفِطري، وكان الكل يعرف أين
يوجد قلب الظلام. لم يكُن «شينوا أشيبي Chinua
Achebe» قد نشرَ «الأشياء تتداعَى» بعدُ (صدَرت في ١٩٥٨م)،
وكان ذلك أيضًا، قبل سنواتٍ من كتابته عن عنصرية «كونراد»، وبالرغم من ذلك،
كانت ردود النقاد الأفارقة على «شرِّيب نبيذ النخيل» تشي بعدم الارتياح لِما
قرءوه، ولم يكونوا يعرفون ما إذا كان عداؤهم يُوجَّه للمؤلِّف وروايته التي
يُشيدون بها، أم إلى الناشر.
في «وِجهات نظرٍ نقدية حول آموس تيوتولا» (١٩٧٥) يشير المحرِّر «بيرنث
لندفورس» إلى ردود الفعل الأفريقية، على أول روايتَين لتيوتولا ﺑ «ذلك الجدال
الحاد» في «وست أفريكا West Africa»، —
ولعلَّه كان يقصد ذلك دون أية تورية في العنوان — كانت مجلةُ
West Africa تُحَرَّر وتُطبَع في لندن، رغم
أنَّ محتواها كان يغطِّي المساحة التي يعبِّر عنها اسمُها. لم تكُن كل
الأصوات المشارِكة في الجدال أفريقية، بعضُها كان أوروبيًّا من ذوي التجربة
الأفريقية المباشرة، ولم يكُن الهجوم على الكاتب بسبب قُدراتِه اللغوية فحسب،
وإنَّما على درجة أصالة العمل، رغم أنه تحت هذين التحفُّظَين، كان هناك خوف
متنامٍ من أنَّ «تيوتولا» لم يُحسِّن صورة الأفارقة في عيون الغربيين؛ لأنه
لفت الانتباه إلى تعليمه الضئيل وضعف إنجليزيته. كانت التعليقات الأفريقية
سلبية بشكل عام، وغير مستعدة لمدح نصٍّ أفريقي أصلي، وكان خلافٌ حول الجوانب
الفنية قد بدأ يتشكَّل، وهو ما سيأخذ اتجاهات وتحولات مثيرة، بين الأجيال
التالية من الكُتَّاب الأفارقة ونُقَّادهم العالميين.
وفي عدد
West Africa الصادر في ٢٧ فبراير
١٩٥٤م، مَهَّد «إيريك روبنسون
Eric Robinson»
الطريق لهذا الجدال، بتنديده ونقده اللاذع لمهارات «تيوتولا» اللغوية:
«إنجليزية السيد «تيوتولا» ليست وسيلة جيدة يُعتمَد عليها، إلَّا أنها مليئة
بالحيوية، ولها نكهتها الخاصَّة، ولا شك في أنَّ القصص تتوالى بقوة وحِدَّة
لاذعة في كتابَيه، أكثر مما لو أنها كانت مكتوبة بإنجليزية صحيحة ودون حياة.»
وبعد شهرين (في ١٠ أبريل) كان «باباسولا جونسون
Babasola
Johnson» يزعم في رسالة إلى محرِّر المجلة نفسها أن «شَرِّيب
نبيذ النخيل»:
ما كان يجب أن تُنشَر بالمرَّة؛ فاللغة المكتوبة بها غريبة، سواء
بالنسبة للناس في غرب أفريقيا أو للإنجليز أو لأيِّ شخصٍ آخَر، فمِن السيئ
جدًّا أن تحاول كتابة رواية أفريقية «بإنجليزية جيدة»، والأكثر سوءًا، أن
تحاول مثل ذلك بلغة السيد «تيوتولا» الغريبة (أم تراني يجب أن أقول لغة
الموتى؟) هذه اللغة ليست الباتويز Patois،
التي يتحدَّث بها الناس في غرب أفريقيا كما قد يظن البعض؛ فالباتويز أكثر
انضباطًا، وهي مفهومة أكثر من لغة «شَرِّيب نبيذ النخيل»، فأنت لا تجد في
الباتويز كلمات مثل unreturnable أو
weird، ولا تعبيرات من قبيل
The really road.
أمَّا «تيوتولا» فقد يكون فريدًا أو فذًّا ككاتب Sui
generis، وهذا صحيح كذلك بالنسبة لبعض المشاهير من أسلافه
الذين «انتهكوا نقاء اللغة الإنجليزية» المزعوم، خُذ مثلًا «جيمس جويس
James Joice» و«وليم فوكنر
William Faulkner» كمثالين لإنجليزي وأمريكي،
وهل كان «ديلان توماس» ليتحمَّس لو كانت لغة «شَرِّيب نبيذ النخيل» هي
الإنجليزية القياسية المعروفة؟
الأسوأ من ذلك، أنَّ القصة أو القصص نفسها لم تلقَ الكثير من الإشادة؛
حيث وَجد «إريك روبنسون» عيوبًا في القصِّ أيضًا، «الكتاب يعتمد تمامًا على
الفولكلور في غرب أفريقيا، كما يمكن أن نجد الكثير من هذه القصص في أحدث طبعة
من «بنجوين» للحكايات الشعبية في غرب أفريقيا، وكما يقول لنا «د. باريندر
Dr. Parrinder» في تقديمه «إنَّ الحكايات هي
أساطير أفريقية حقيقية، كما تُروى في عددٍ كبير من القرى حول النار أو في ضوء
القمر في المناطق الاستوائية.» والأسوأ: ألم يكُن «تيوتولا» مَدينًا للحكايات
المنشورة للشيخ فاجونوا
D. O. Fagunwa
المكتوبة بلغة اليوروبا؟
٣
وراء كل هذا الهجوم على أصالة المؤلف كقاصٍّ أو كمُبدع باللغة، كانت هناك
قضية مُقلِقة، وهي الصورة التي يقدِّمها «تيوتولا»، كان أقرانُه يقولون إنَّه
لا يصلح نموذجًا للإبداع الأفريقي؛ لأنه كان يفتقد المؤهلات الأكاديمَّية
(التعليمية) المناسبة، فكيف يمكن اعتبار هذا الشخص الذي ظهر فجأةً فنانًا؟
وكما كتب «آي أدياجبو أكينجوجبن
I. Adeagbo
Akinjogbin» في رسالة إلى مجلة
West
Africa (٥ يونيو ١٩٥٤م)، بعد اعتراف بأنه لم يقرأ أيًّا من
كُتب «تيوتولا»:
معظم الإنجليز والفرنسيين يُسعدهم أن يصدِّقوا كل الحكايات الخيالية
والغريبة عن أفريقيا، تلك القارة التي يجهلونها تمامًا، الكتب «غير
العادية» للسيد تيوتولا (التي تحتوي على أشياء لا تُصدَّق في موروثنا
الشعبي)، ستكون مناسبةً تمامًا لمزاج قُرَّائه الأوربيين؛ لأنها تؤكِّد
فكرتهم عن أفريقيا، ولا عجب أنها تُقْرأ الآن، ليس بالإنجليزية فحسب،
وإنَّما بالفرنسية كذلك،
٤ وبمجرد أن يكون هذا الضرر (وأُسمِّيه بالضرر) قد وقع، فلن يكون
بالإمكان تدارُكه؛ فالسيد «تيوتولا» سوف يحصل على نقوده وشُهرته كذلك، ولكن
الذين سيُعانون هم التعساء الذين سيذهبون إلى إنجلترا أو أوروبا لأي سبب.
هناك بالفعل ما يجعلني أشعر بالقلق.
ولا شك أنَّ في ذلك ما يُشير إلى أنَّ «أكينجوجبن» كان يشعر بإهانة
شخصية؛ لأنَّ الأوربيين كانوا يربطون بينه وبين «آموس تيوتولا»، ولذلك لن
يكون مفاجئًا أن نجده يُنهي كلامه بأنَّ «كتب تيوتولا لا قيمة أدبية
لها».
ما سرُّ هذا الكتاب العجيب الذي أثار كلَّ هذا القَدر من الجدال؟ بالرغم
من وجود أوجه شبه كثيرة، بين «شَرِّيب نبيذ النخيل»، وملاحم ورومانس وسرديات
العصور الوسطى، فإننا في مرحلة ما بعد الحداثة هذه، من السهل أن نصنِّف العمل
بوصفه رواية، هناك حبكةٌ مركزية وتطوُّر كافٍ، كما أنَّ هناك صراعًا وحلًّا،
وكان النقاد والقُرَّاء في البداية يتجنَّبون قصة «تيوتولا»، بسبب السرد
العرضي والراوي غير التقليدي، وكلاهما قد يجعلها تندرج تحت حكايات البيكاريسك
(المتشرِّدين)، بعد موت ساقي نبيذ النخيل، يقوم البطل (الشرِّيب) بمحاولةٍ
للبحث عن مكان الراحل الذي كان يزوِّده بالشراب، ويواجه عقباتٍ تُحبِط مَسعاه
في البحث، ولكنه يلتقي به في النهاية في العالَم الآخَر (عالَم الموتى). يقول
الساقي «الميت» للشَّرِّيب: إنَّه لا بد من أن يبقى في الحياةِ الدنيا، وأنَّ
الأحياء لا يمكن أن يعيشوا مع الموتى، وعليه؛ فإن «الشَّرِّيب» يعود من رحلته
الطويلة إلى موطنه، مُحمَّلًا بالحكمة التي جمعها.
رواية «شرِّيب نبيذ النخيل» تبدأ هكذا: «كنت شَرِّيبًا لنبيذ النخيل منذ
العاشرة من عُمري، لم يكُن لديَّ عمل آخَر في حياتي سوى أن أشرب نبيذ النخيل،
وفي تلك الأيام لم نكُن نعرف نوعًا آخَر من النقود سوى «الكوريز». كان كل شيء
رخيصًا، كما كان والدي أغنى رجل في المدينة» (p.
7). «الشَّرِّيب» الصغير المُدمِن يقول لنا إنَّه هو وأصحابه
الكثيرون كانوا يشربون مائةً وخمسين كيلوجرامًا من نبيذ النخيل كل صباحٍ،
وخمسة وسبعين أخرى كل مساء، ولكن بعد أن ظلَّ هذا الساقي يستخرج النبيذ
للشَّرِّيب، على مدى خمسة عشر عامًا «سقط فجأةً ومات» (p.
8). أصدقاء الشَّرِّيب المتقلِّبون لم يعودوا يزورونه،
ويقول: «تذكَّرتُ أنَّ الكبار كانوا يقولون لنا دائمًا: إنَّ كل الذين ماتوا
في هذه الحياة لم يذهبوا إلى السماء مباشرة، وإنَّما كانوا يعيشون في مكانٍ
ما في هذه الحياة الدنيا، وقرَّرتُ أن أعرف أين يعيش ذلك الرجل، الذي كان
يجلب لي النبيذ.»
الالتقاء بالغرائبي، أو بما هو خارقٌ للطبيعة، كما كان القُرَّاء
يعتبرونه في البداية، كان يعني أنَّ سردية «تيوتولا» لا يمكن أن تُصَنَّف
رواية، ولكن الآن حيث لم تعُد الواقعية السحرية هي المجال الحصري للنتاج
الجديد، أصبحت «شرِّيب نبيذ النخيل» تبدو أقرب إلى الرواية من ذي قبل،
وحديثًا، أصبح الدارسون يذهبون إلى حدِّ اعتبار «تيوتولا» أحد آباء «الواقعية
السحرية».
قبل أن يصل إلى عالَم الموتى يقابل بطل تيوتولا (الشَّرِّيب) عددًا من
عجائب المخلوقات (الآدمية وغير الآدمية)، التي تختبر قواه بوصفه بطلًا أكثر
من مرَّة، وذلك بإلقاء عقبات وصعاب في طريقه، ومن هذه العقبات والصعاب يكتسب
خبرة وحكمة، بالرغم من الطبيعة المحبطة والمخيفة لكثير من الأحداث. الحبكة
تتحوَّل إلى سلسلة من الاختبارات والمحكَّات، والأخذ والرَّد والتعلُّم
والنُّضج، وأحد هذه الاختبارات الأولى نجده في كثير من المواقف: بعد عدَّة
أسابيع من السفر يصل «الشَّرِّيب» إلى قريةٍ جديدة؛ حيث يعِده أحدُ المقيمين
بها بأن يدُلَّه على مكان الساقي إذا فعل ما يطلبه منه أولًا، وهو أن يبحث له
عن ابنته ويُعيدها إلى البيت، ويفعل «الشَّرِّيب» ذلك، فتكون مكافأته أن يأخذ
الفتاة زوجةً له.
هذا هو الحدث العرَضي الذي لا زُخرف فيه، والذي لا يُمكن أن يكون شيئًا
غير عادي دون ذلك العالَم الغرائبي الذي ألقى «تيوتولا» ببطله فيه. المرأة أو
الابنة اختفت بعد أن تبعت مخلوقًا عجيبًا (أو إنسانًا كاملًا)
(
p. 18) في «الغابة اللانهائية»
(
p. 19)، بعد أن رفضت الزواج من الرجل الذي
اختاره لها أبوها. جمال هذا «الإنسان الكامل» غير عادي، لدرجة أنه «لو كان
شيئًا أو حيوانًا للبيع، لبلغ ثمنه ٢٠٠٠ جنيهٍ على الأقل» (
p.
18). بعد ذلك يقول «الشَّرِّيب» عن هذا الإنسان:
لو كنتُ امرأةً لتبعته إلى أي مكان يذهب إليه، وحتى رغم كوني رجلًا
فسوف أحسده أكثر من ذلك؛ لأنَّ هذا الرجل لو ذهب إلى ميدان القتال،
فالمؤكَّد أن العدوَّ لن يقتله أو يأسره، ولو رآه الطيارون لتوقفوا عن
إلقاء قنابلهم وهو موجود، ولو رموها فإن القنبلة نفسها لن تنفجر حتى يُغادر
هذا الرجل المدينة بسبب جماله. (p.
25)
وعندما يصل «الشَّرِّيب» إلى المكان، يكون الرجل قد فقَدَ كلَّ جماله؛
لأنه كان مُستعارًا؛ ذراعاه، رِجلاه، بطنه، أضلعه، صدره، حتى فروة الرأس،
كانت كلها مُستأجَرة من مخلوقات أخرى، وعندما تتبعه المرأة في الغابة
اللانهائية، يقوم الرجل بإعادة هذه الأشياء المُستعارة كلها لأصحابها، ويدفع
لهم ثمن استئجاره، ليُصبح بعد ذلك مُجرَّد جمجمة مُشوَّهة، ولكن المرأة لم
يعُد لديها القُدرة على التوقف عن متابعة هذا المخلوق المتحوِّل، وتصبح
أسيرةً له، في بيت مملوء بجماجم أخرى. هذا الشَّرِّيب الذي يمتلك قُدراتٍ
سحرية خاصة، يستطيع أن يحوِّل نَفْسه إلى هواء، وبذلك يمكنه أن يدخل إلى
الحجرة المأسورة فيها المرأة، ويُنقذها في النهاية — وليس دون المزيد من
التعقيدات والتحولات التي يجريها على نَفْسه — ويُعيدها إلى أبيها. هذا الحدث
ينتهي بعبارة للشَّرِّيب يقول فيها: «وهكذا أصبح لي زوجة» (p.
31).
هذا الموقف المشهدي موجود بأشكال كثيرة في ثقافات غرب أفريقيا، وليس في
الخيال الشعبي لليوروبا فقط، كما أنه موجود في الحكايات التراثية التعليمية،
أمَّا الرسائل التي يحملها فواضحة: عليك بطاعة الوالدَين، وإلَّا فسوف تُقابل
ما هو أسوأ ممَّا اختاروه لك. من الصعب جدًّا إدراك الخطر. لا تنخدِع بالجمال
الظاهري، ويبدو أنَّ المرأة الشابَّة استوعبت الدرس؛ لأنها لا تُصبح زوجةً
وفية تصحب الشَّرِّيب إلى نهاية الحكاية فحسب، وإنَّما تقوم بمساعدته في
أعماله العديدة كذلك، كما يجب أن نلاحظ أنَّ الشَّرِّيب يحصل على زوجته في
نوبة كرم مفاجئة لشخص آخَر (وهو صهره المستقبلي).
يكاد يكون من المستحيل أن يقرأ أحدٌ الرواية، دون أن يشعر بالمتعة
والدهشة، وألَّا تنتابه موجات من الضحك؛ فمواجهات «الشَّرِّيب» في الغابة
مُشوِّقة وذكية وواسعة الحيلة، وكثيرًا ما يقفُ لها شَعر الرأس؛ فقد فتح
«تيوتولا» أبواب مملكة سحرية، لا تقِلُّ قدرة على الإدهاش عن تلك التي
تقابلنا في أعمال «جابرييل جارثيا ماركيث» و«إيزابيللا الليندي» و«سلمان
رشدي»، لو كان لنا أن نذكر ثلاثة من الكُتَّاب الذين جاءوا بعد ذلك، ولا
يقِلُّ خيالُهم جسارةً وجموحًا عن خيال «تيوتولا».
في الوقت نفسه، لا بُد من أن نؤكِّد أنَّ النصَّ الفرعي لقصة «تيوتولا»،
لا يبعد كثيرًا عن الروايات الأفريقية الواقعية؛ فعلى مستوى ما، نجد أنَّ
«شَرِّيب نبيذ النخيل» تحكي القصة نفسها مثل «الأشياء تتداعى» عند «أشيبي»
(١٩٥٨م): انهيار النظام الأفريقي التقليدي، أمام هجوم المختلف والجديد، أي
التحول الثقافي الهائل. «أشيبي» يحقق ذلك، بوصف ما يحدث لقرية أفريقية عند
وصول الأوربيين الأوائل، كما يوضِّح أنَّ النظام التقليدي، قد وصل إلى وضعٍ
حَرِج لاختبار الذات، بسبب الجمود الثقافي وعدم المرونة، التي لا تسمح بقدر
كبير من الانحراف عمَّا هو سائد، ولذلك فإن كلَّ الأشياء تتداعى لسببَين:
داخلي وخارجي.
العالم التقليدي الذي تصفه «شرِّيب نبيذ النخيل»، عالَمٌ شديد القسوة
وانتقامي، مثل عالَم «أشيبي». عشر سنوات حتى يتمكَّن الشَّرِّيب من معرفة
مكان الساقي الميت، والسبب الرئيسي هو أنَّ الناس الذين يلتقيهم، ليسوا
متعاونين معه ولا يساعدونه، كما يُخبرنا عن إحدى القرى التي زارها: «كلهم …
الكبار والصغار كانوا قُساة مع البشر» (p.
58). وتتردَّد العبارة ذاتها عن أماكن أخرى يزورها، وعن
أناسٍ آخَرين يقابلهم، وباختصار، فإن مَن يطلب مساعدتهم، حُقراء وسيِّئون
وشديدو القسوة وكذَّابون ومخادعون، وبالرغم من أنه يفي بالتزاماته وتعهداته
في بعض الاتفاقات، فإن الآخَرين لا يفون بوعودهم، بالإضافة إلى أنَّ طُرُق
السفر ليست آمِنة، ومليئة بقُطَّاع الطُّرق والسفَّاحين، بما يوحي بأنَّ
الحياة التقليدية قد تداعت نتيجة للجشَع والأنانية، حتى أولئك الذين كان
يعتبرهم أصدقاء في قريته، يتخلون عنه بعد أن أصبح لا يستطيع إمدادهم بكميات
كبيرة من نبيذ النخيل، بما يعني أنَّ الحافز على الرحلة في المقام الأول ربما
كان ضياع المودَّة وفقدان العلاقات الطيبة، بقدر ما هو موت الساقي نقَّار
النخيل. وفي نهاية القصة، بعد أن يعود «الشَّرِّيب» إلى قريته، يقع فريسة
للمزيد من الجشع والدناءة من قِبَل أقرانه.
كانت آراء مُعظم النقاد الغربيين إيجابية، كما كانوا متحمسين لقدرة
«تيوتولا» على الابتكار والإبداع في اللغة؛ فهو في رأيهم قد أخذ الإنجليزية
وقلبها رأسًا على عقِب، كما اخترع تعبيرات جديدة وتركيبات مُستحدثة، ولم يكُن
ذلك دائمًا بسبب جهله أو لنقصٍ في تعليمه الأساسي؛ إذَن لماذا لا يكون من
حقِّه أن يستخدم لغة السيد المستعمر، بالطريقة التي يُريدها باعتباره تابعًا؟
كانت كتابته آنذاك أشبَه بكتابة شخص يتعلم لغة جديدة، ويقع في أخطاء أساسية.
كان «تيوتولا» يفعل بالكلمات ما سبق أنْ فعله الرسَّامون الفِطريون في الفن؛
إذ قد ترِد على ذهنك الرسوم البدائية أو رسوم «هاييتي» من الخمسينيات
والستينيات، التي تتضمَّن عددًا كبيرًا من الأذرُع والسيقان، لكي تكون
متناسبة مع الجذع، أضِف إلى ذلك طريقة الكلام المتلعثمة عن الأربعمائة طفل
الميِّتين الذين يلتقيهم «شَرِّيب» نبيذ النخيل وزوجته في عالَم الموت، على
أحد طُرق الأجمة، والساقي يتدرَّب لمدة عامَين قبل تأهيله ليكون «رجلًا ميتًا
تمامًا» (p. 100)، كما يتضح أنَّ عمل
«تيوتولا» مرتبط تمامًا بعالَم الفنَّانين البدائيين.
لغة «تيوتولا» ليست إنجليزية البدجن
Pidgin، الموجودة في غرب أفريقيا بالضبط؛
فالأخيرة لها تركيبتها وبنيتها الخاصَّة، مثل إنجليزية تلميذ موهوب تغلبه
حماسته وتسيطر على قواعد اللغة، كما أنها ليست بالضبط «الإنجليزية الرديئة»
التي استخدمها «كين سارو ويوا
Ken Saro-Wiwa»
في «طفل السوزا
Sozaboy» في ١٩٨٥م، وإذا كانت
قريبةً من الكتابة الآلية (لو صحيح أنَّ المسودة الأولى لشَرِّيب نبيذ النخيل
قد تدفَّقَت من الكاتب في يومَين)، فلا عجب في أن تكون غير مصحَّحة أو
مدقَّقة، وهنا يكمُن الكثير من متعة هذه الرواية. الصور طازجة وأصيلة
(ومختلفة بكل تأكيد عن النماذج الأوروبية)، وكلتاهما: القصة واللغة، مليئة
بالمغالاة والمبالغة العميقة، وربما بالسيريالية، (عندما يمرُّ الشَّرِّيب
عَبْر بوابة شجرة الأم المُخلِّصة، فإنه لا يدخل إلى فضاء محدَّد، وإنَّما
إلى عالَم جديد بالكامل)، مسافات الزمن والحسابات الرياضية تتحدَّى المنطق
الغربي، وبالرغم من زحف مصطلحات أجنبية إلى لغته (لو انفجرت القنابل
(
p. 45)، تكنيكولورز (
p.
68)، شراب وسجائر (
p. 71)،
وكأن أحد المصورين كان يركِّز البؤرة على شخص ما (
p.
65))، فإن التعبيرات الفاتنة هي اللافتة للانتباه مثل «فكرت
في دخيلة نفسي،
p. 9» و«فوضاه وشخصيته
الرديئة،
p. 34» و«كان هو نفسه قمامة،
p. 45» و«كان الضحك مهنته التي يتغذَّى
عليها،
p. 46» و«كانت شجرة متنوعة أيضًا،
p. 55» و«طريق فعلًا،
p.
101»، يُضاف إلى ذلك التأكيد من خلال طريقة الكتابة على
كلمات وعبارات بعينها نجدها مبعثرةً في النص:
إعادة أجزاء الجسد إلى
أصحابها، أو الأجزاء المستأجرة
في جسد الإنسان الكامل
يجب أن تُعاد (p. 19)
وعليه، فمن المستحيل ألَّا نعتبر «تيوتولا» كاتبًا ما بعد حداثي، ولكن
كيف كان موقف الكاتب نفسه من الشهرة (!) التي جاءته؟ ولعلَّ من الأنسب أن
نسأل: ماذا كان يعني أن تكون كاتبًا في مجتمع لا يوجد فيه كُتَّاب سبق أن
نُشرت لهم أعمال؟ «إريك لارابي» وصَف لنا لقاءه ﺑ «تيوتولا» (انظر مقدِّمة
هذا الفصل)، عندما ذهب ليبحث عنه في مديرية العمل في نيجيريا، لكي يوقِّع له
نسخة من روايته، ووجده نائمًا أثناء ساعات العمل. هل كان طلب «لارابي» توقيع
«تيوتولا» هو الأول من نوعه بالنسبة للكاتب؟ وعندما طلب «تيوتولا» من
«لارابي» أن يكتب إليه من الولايات المتحدة «لأعرف أنك لم تنسَنِي»، هل يعني
ذلك أن «تيوتولا» كان مهتمًّا، أو كان يعتقد أن مهنته الجديدة ستؤدي إلى
تغيُّرٍ ما في حياته؟ هذه الأسئلة، يمكن أن نجد إجابات جزئية عنها، في مراجعة
«لارابي» للرواية، وخاصةً عندما يقول: حاول — من باب التمرين الذهني — أن
تتصوَّر مؤلفًا:
(١) لم يسبق له أن الْتَقى بمؤلِّف آخَر. (٢) ليس لديه أي كُتب. (٣) ليس
معروفًا لمَن حوله بأنه مؤلِّف. (٤) لا توجد صلة مباشرة بينه وبين ناشره. (٥)
ليس متأكدًا من أنَّ كتابَه يُباع. (٦) لا يعتبر نفسه مؤلِّفًا. كلٌّ من هذه
العناصر يحتوي على جزء من الحقيقة، باستثناء ملكية الكتب (رقم٢)، من المؤكَّد
أنَّ «تيوتولا» كان يعرف قيمة امتلاك الكتب كملكية فكرية، وهناك أدِلَّة
كافية على أنه كانت لديه مكتبة خاصَّة.
ربما لم يكُن هناك مَن هو أكثر مفاجأةً واندهاشًا لشهرة رواية «شَرِّيب
نبيذ النخيل» من «تيوتولا» نفسه، بدءًا من بدعة أنه قد أصبح كاتبًا؛ فماذا
كان معنى ذلك سنة ١٩٥٢م في نيجيريا؟ لقد كانت الأُمية منتشرة لدرجة أنه كان
من الصعب أن نجد بين أصدقائه المقربين، أو بين أفراد أسرته، مَن يستطيع أن
يقرأ الكتاب، ولعلَّ الأرجح أن نقول إنَّ تعليمهم كان محدودًا لدرجة قد لا
تُغريهم بقراءة «رواية»، بالإضافة إلى أنَّ الكِتاب باعتباره سلعة مستوردة —
ولو كان موجودًا في منافذ بيع الأدوات المكتبية؛ حيث لم تكُن هناك آنذاك
محلات متخصِّصة في بيع الكتب — لم يكُن في متناول معظم الناس. في «بورتريه»
للمؤلف نشرته مجلة «وست أفريكا» في ١ مايو ١٩٥٤م، يقول المراسل (الذي لم يذكر
اسمه): إنَّ اﻟ «بي بي سي B.B.C.» أذاعت ثلاث
قصص من تأليف «تيوتولا»، وإنَّ المؤلِّف كان يفكر في الانتظام في دروس مسائية
لتحسين مستواه، ويضيف: «ويبدو أن قليلين من النيجيريين هم الذين سمعوا ﺑ
«تيوتولا»، وإن قلة أقلَّ هي التي قرأت كتبه.»
الحقيقة أن «تيوتولا» ربما قد تساءل عن سبب تغيُّر حياته، نوعًا ما، بعد
نشر روايته. كان يحصل على ٨٥ جنيهًا إسترلينيًّا في السنة من عمله في وظيفة
«ساعٍ» في مديرية العمل، ولم يكُن ذلك مبلغًا رديئًا في سنة ١٩٥٢م، أمَّا
المُقدَّم الذي حصل عليه من دار نشر «فيبر آند فيبر»، فكان ٢٥ جنيهًا، أي ما
يُعادل أكثر من راتب ثلاثة أشهر، وهو أيضًا مبلغ كبير في نيجيريا في تلك
الأيام.
وسواء أكان بسبب الدخل أم لأي سبب آخَر، فإن «تيوتولا» كان يأمل في أن
تُغيِّر الكتابة حياته، وكما يقول «بيرنث لندفورس Bernth
Lindfors» الذي كتب في Journal of
Commonwealth Literature في مايو ١٩٨٢م — أي بعد ثمانين
يومًا من صدور رواية «تيوتولا» عن دار «فيبر آند فيبر» — أن «تيوتولا» أرسل
إليهم مخطوطة «حياتي في دغل الأشباح» التي كانت روايته الثالثة، وليس
الثانية، وهذه الحقيقة عن نشر أعمال «تيوتولا»، لم تكُن معروفة آنذاك، وهي
جديرة بأن تُروى؛ حيث إنَّها أشبه بالقصص التي كان الكاتب نفسه يخترعها، كما
أنها تصور الكثير من العقبات والمعوقات أمام أن تكون كاتبًا في أفريقيا في
ذلك الوقت.
في ١٩٤٨م، كتب «تيوتولا» رواية بعنوان «الصياد البرِّي في دغل الأشباح»،
ويشير «لندفورس»، الذي كشف قصة هذا العمل الباكِر إلى أن «تيوتولا» كان قد
بدأ كتابتها، لأنه كان شغوفًا بأن يجد أية وسيلة لزيادة دخله. (المقدمة:
p. xi)؛ لأنه كان قد تزوج حديثًا، وعندما كان
يعمل في مديرية العمل، كان يُمارس التصوير، على أمل أن يُصبح مُصوِّرًا
مُحترفًا، كما كان يطلب مطبوعات من «فوكال برس Focal
Press» في لندن.
بعد أن انتهى «تيوتولا» من كتابة «الصياد البرِّي في دغل الأشباح»، كتب
رسالة إلى «فوكال برس» بشأنها، وقال إنَّه يمكن أن يزوِّد المخطوطة «بصور
الأشباح» (p. xi)، كما ذكر A.
Kraszna Krausz مدير «فوكال برس» بعد سنوات، ولم يكُن هناك
مَن يرفض ذلك، كان الإنجليز معروفين آنذاك «بتصويرهم للجنيَّات» كما يظهر عند
«آرثر كونان دويل Arthur Conan Doyle»
و«تشارلز كاستل Charles Castle»، إلَّا أنه
عندما وصلت مخطوطة «تيوتولا»، المكوَّنة من سبعة وسبعين صفحةً بخط اليد، بعد
عدَّة أشهر، وتم تحميض النيجاتيف المرفق بها، اتضح أنها كانت لقطات
فوتوغرافية لمجموعة من الاسكتشات المرسومة باليد، للأشباح، وغيرها من الظواهر
الواردة في القصة. كان «تيوتولا» قد استأجر إحدى تلاميذ المدارس ليرسمها، ثم
قام بتصويرها (p. xii). اشترت «فوكال برس»
المخطوطة والصور المرفقة — ولم يكُن لديهم النية لنشرها — ودفعوا ﻟ «تيوتولا»
حوالي خمسة جنيهات في المقابل، ويقول «لندفورس»: إن ذلك — ربما — كان أشبه
بالمَنِّ والسلوى اللذين أرسلتهما السماء لأحد السُّعاة في مديرية العمل،
وربَّما ما كان «تيوتولا» ليكتب «شَرِّيب نبيذ النخيل» لو لم يتلقَّ هذه
العطية (رسالة بالبريد الإلكتروني للمؤلِّف في ١٧ نوفمبر ١٩٩٨م).
لأسبابٍ عملية لا بُد من أن تنتهي القصة هنا، ولكن ذلك لا يحدث؛ ففي
١٩٧٥م اكتشف «لندفورس» إشارةً إلى المخطوطة المنسية، في رسالة من «فوكال
برس»، موجَّهة إلى دار «فيبر آند فيبر»، بعد نشر «شَرِّيب نبيذ النخيل». كان
«لندفورس» يقرأ ملف «فيبر آند فيبر» عن الكاتب النيجيري، وقام بالاتصال ﺑ
«فوكال برس»، وبعد عدَّة أشهر اكتشفوا مكان الرواية التي لم تُنشر، وبإلحاح
من «لندفورس»، وجدوا المخطوطة الأصلية لدى «فيبر آند فيبر»، وكما يقول، فإن
المخطوطتَين كانتا «أصل نشأة الأدب النيجيري المعاصِر المكتوب بالإنجليزية»
(حاشية الصياد البرِّي في دغل الأشباح، p.
160).
ليس غريبًا أن تكون هناك ملامح مشتركة بين «الصياد البري في دغل الأشباح»
و«شَرِّيب نبيذ النخيل»، ومثلما هو الحال في كل أعمال «تيوتولا»، يقوم الصياد
البرِّي (الرَّاوي) بالرحلة الشاقَّة، بعد موت والده، فيجول من قرية إلى أخرى
في دغل الأشباح؛ حيث يلتقي عددًا كبيرًا من الشخصيات غير العادية (بمَن فيهم
أشباح غير شرعيين وأشباح من أكلة لحوم البشر)، كما يواجه مواقف مفاجئة، وهناك
جزءٌ معيَّن من الرواية كان بمثابة صدمة للقُرَّاء؛ حيث تدور الأحداث في
«مدينة الشيطان»، التي يصفها على نحو «كافكاوي» للوصول إلى عالَم الموتى:
شرح لنا مدير التحويلات، كيف أنه عندما يموت أي شخص في السنوات العشر
القادمة، سيكون سِجِلُّه لديهم قبل وصوله، ثم أخبرنا بعد ذلك، أنَّ عددًا
قليلًا سيكون في الجنة عند الله، وأن الباقين سيكونون في النار، وبعد أن
أرانا مدير التحويلات السجلات كلها، ذهبنا إلى مكتب رئيس سكرتارية النار،
وقابلناه في مكتبه؛ حيث قدَّم لنا أحدُ موظفيه مقاعد فجلسنا أمامه، وبعد
دقائق قليلة، اصطحَبَنا رئيسُ سكرتارية النار إلى مكتب الموظفين الذين
يعملون معه، وقابلنا ٢٦٧٠ موظفًا، ولكنهم كانوا مشغولين عندما قابلناهم،
أمَّا بالنسبة لمهام رئيس سكرتارية النار، فسوف نشرحُها فيما بعد.
(p. 121)
هذا الجزء، وغيره، يوضِّح لنا إشارات «تيوتولا» إلى وضعه المُحبط في
مديرية العمل، كما يمكن أن نقول: إن «الصياد البرِّي» بسبب ما فيها من مادة
أوتوبيوجرافيه، ولأنَّ البطل يقوم برحلته بعد موت أبيه، تجعلنا نرى أنَّ
الساقي في الرواية التي نُشِرت قبل ذلك هو شخصيةٌ تمثِّل الأب البديل.
كان «لندفورس» يعرف أنه قدَّم كشفَين أدبيَّين رئيسيَّين، وخاصَّةً
مخطوطة الرواية الأولى التي كان «تيوتولا» نفسه قد نسيها، وبعد فترة قصيرة في
لندن، بدلًا من مكان إقامته المعتادة في جامعة تكساس، كتب رسالةً مُتسرِّعة
إلى «تيوتولا» (وكان قد التقاه في مناسباتٍ مختلفة، وله معه مراسلات
متقطِّعة)، يبلِّغ الكاتب باكتشافه، ومثل أي باحث جادٍّ، أصبح «لندفورس»
معنيًّا بالاحتفاظ بالمخطوطتين. وفي رسالة إلى المؤلِّف، اقترح عليه بيع
مخطوطة «شَرِّيب نبيذ النخيل» لمركز أبحاث الإنسانيات
Humanities Research Center في تكساس،
ولكنَّه أكَّدَ له أنَّ المركز سوف يطلب تقييم المادَّة قبل تقديم أي عرض
محدَّد له. كان «لندفورس» يفترض أيضًا، أنَّ «تيوتولا» ستكون لديه الرغبة في
بيع المخطوطة، رغم إشارته إلى أنه كان يتمنَّى أن تَنشر «فيبر آند فيبر»
«الصياد البرِّي في دغل الأشباح»، ما دامت لم تصدُر حتى ذلك الحين (كانت ما
تزال لدى فوكال برس).
لقد أساء «لندفورس» التقدير مرَّتَين: المرَّة الأولى عندما اقترح أن يضع
يدَه على المخطوطة مؤقتًا (مخطوطة شَرِّيب نبيذ النخيل)، لكي «يفحصها
بدقَّة»، وقد شرح ذلك في رسالته إلى «تيوتولا» في مارس ١٩٧٨م:
لستُ غنيًّا، إلَّا أنَّني أعرض عليك مائة «نيرا» فورًا، ربما تستطيع
جامعتي التي يوجد بها مركزٌ لبحوث الإنسانيات، وتقوم بجمع مخطوطات القرن
العشرين المهمة، ربما تستطيع أن تعرض عليك أكثر من هذا المبلغ، إلَّا أنهم
لن يتمكنوا من دفع المبلغ كله قبل شهر سبتمبر القادم، عندما يحصلون على
ميزانية العام الدراسي ١٩٧٨م–٧٩، ويسعدني أن أقوم بترتيب شرائهم لها بأفضل
سعرٍ ممكن، إذا كنت تريد بيعها لهم. بعد ذلك ستبقى المخطوطة في مكتبتهم،
وتكون مُتاحةً للدارسين وغيرهم، ممَّن يفِدون على المكتبة للقراءة والبحث،
ولكن كل الحقوق القانونية ستظل في يدك أو في يد الورثة. لن يكون من حق أحد
أن يقوم بنشرها أو نشر أجزاء منها دون إذن منك، وستكون تلك أفضل طريقة
للمحافظة على المخطوطة، وعلى مصالحك فيها. أمَّا إذا كنت ترى من الأفضل أن
تبيعَها لي الآن مُقابل مائة «نيرا»، فأنا مُستعد لبحث إمكانية إعادة بيعها
لمركز أبحاث الإنسانيَّات … أي إنني لن أحاول تحقيق أية فائدة شخصية من
إعادة بيعها. إن كل ما يهمني هو أن أضمن الحفاظ على المخطوطة، وأن تحصل على
تعويض مناسب لو أنك قرَّرتَ أن تبيعها.
٥
بعد ذلك، ستأخذ القصة منحًى ساخرًا، يعكس أساليب الخداع الدولي، كانت
الاتصالات ﺑ «تيوتولا» مُعقَّدة، وكان جدول أسفار «لندفورس» في الأشهر
التالية، محسوبًا بكل دقَّة. حدث تغيير في منصب رئيس مركز الأبحاث، وبالرغم
من ذلك، ردَّ «تيوتولا» (في ١٠ أبريل) يقول إنَّه كان سعيدًا بالاكتشافات
الجديدة، مُضيفًا بأسلوبه المعروف: «أبنائي وبناتي يَعجبون كيف تمكَّنت من
تتبُّع هذه المخطوطة، ويقولون لعلَّك كُنتَ شُرطيًّا قبل ذلك!» وفيما بعد،
أُذِن ﻟ «لندفورس» بأن يتولَّى أمرَ المخطوطة بشكلٍ مؤقَّت؛ لأنه كان يُريدُ
أن يبيعها لمركزِ بحوث الإنسانيَّات، و— نعم — أنه كان يتمنَّى أن تقوم «فيبر
آند فيبر» بنشر «الصياد البرِّي في دغل الأشباح».
إلَّا أنَّ «تيوتولا» سُرعان ما غيَّر رأيه — وربما يكون هناك مَن
غيَّرَه له — ففي نهاية الشهر، تلَقَّى «لندفورس» برقية منسوبة للؤلِّف، وإنْ
كان كاتبُها الفِعلي هو «كولي أُموتوزو
Kole
Omotoso»،
٦ كان نَصُّها: «أرجو أن تصرِف النظر عن رسالتي في شهر أبريل؛ فقد
غيَّرتُ رأيي بشأن المخطوطة، وسوف تصلك رسالة أخرى.» — هكذا في الأصل
الإنجليزي — وفي الرسالة «الأخرى» التالية طلب «تيوتولا» أن تُعاد إليه
مخطوطة «شَرِّيب نبيذ النخيل» … «لأنني أريدُ أن أراها مرَّة أخرى … بعد أن
تقرأها أرجو أن تُعيدَها إلى «فيبر آند فيبر» في خلال أسبوعَين، وبمجرَّد أن
تُرسلها إليهم سوف أكتب لهم لكي يرسلوها إليَّ.»
بعد قرابة شهر أبلَغ شخصٌ ما «لندفورس»، بمقال كتبه «يمي أُجونبي
Yemi Ogunbiyi» نشرته جريدة «ديلي تايمز
Daily Times» النيجيرية في ١٠ يونيو ١٩٧٨م،
بعنوان «تيوتولا في محيط من سمك القرش».
يبدأ هذا النقد العنيف والساخر بهجوم على «فيبر آند فيبر»: «لقد تعرَّض
تيوتولا لعمليات غش — ونحن نستخدم تعبيرًا مُهذَّبًا — من ناشريه، وبذلك فهو
ضحية لما يُمكن أن يكون أكبر عملية احتيال على فنَّان أفريقي على قَيد الحياة
من قِبَل شركة نشر أجنبية.» كانت اللغة عنيفة، ولكنَّ الوقائع مُزعجة
بالفِعل: ناشر «تيوتولا» الإنجليزي مُتَّهم بإساءة استخدام الطبعة الأمريكية
والترجمات الأجنبية ﻟ «شَرِّيب نبيذ النخيل»، دون أن يدفعَ بنسًا واحدًا
للمؤلِّف، ويواصِل المقال: «إن تيوتولا ضحية للظروف المُشتركة بين التاريخ
وأسماك القرش المتوحشة عديمة الأخلاق، الذين يظنهم الناس ناشرين … ففي سنة
١٩٧٨م، ما زالوا يُقدِّمون لنا عُقود الخرز الملوَّن، مُقابل ما لدينا من
ذهبٍ.» ثم يقول «أُجونبي Ogunbiyi» في أقسى
عبارات المقال: «في الإحدى وعشرين سنة (هكذا)، التي نَشرَت فيها «فيبر آند
فيبر» رواية «شَرِّيب نبيذ النخيل»، حصل «آموس تيوتولا» — بالضبط — على مبلغ
٥٥٩٫٥٢ جنيهًا (حوالي ٩٥١ نيرًا)، كعائدٍ دون أي توضيح لهذا المبلغ.»
لو صحَّت هذه الأرقام، يكون من الصعب قبول شكوى «أُجونبي»، فماذا حدث
بالنسبة لعائدات الطبعة الأمريكية والترجمات الأجنبية، لأول رواية تُنشَر ﻟ
«تيوتولا»؟ كانت عائدات الطبعة الإنجليزية ٥٥٩٫٥٢ جنيهًا فقط، على مدى ما
يزيد على عشرين سنة، وماذا عن الحقوق الأخرى عن الأجزاء المنشورة ضمن
أنطولوجيات و/أو كتب دراسية، بما في ذلك كُتبي وأنطولوجياتي التي دفع ناشروها
في مُقابلها لكلٍّ من «فيبر آند فيبر» و«جروف برس» مئات الدولارات؟ وماذا عن
حقوق السينما، عن الرواية التي بيعت لوالت ديزني؟
٧
من السهل أن نفهم لماذا يربط «أُجونبي» بين مصير «تيوتولا» بوصفه كاتبًا،
وما يصفه ﺑ «الاستغلال الذي لا يتوقف للفنانين السُّود، وخاصَّةً الموسيقيين
والمؤدِّين، بواسطة أسماك القرش، في شركات الدعاية، ولأنهم يفتقرون إلى
القاعدة الصناعية، التي أصبحت هناك حاجةٌ ماسَّة لها، وللقدرة على متابعة
الاتفاقيات والمساومات الصعبة، فإن الكُتَّاب السُّود في أمريكا يكونون
دائمًا تحت رحمة شركات الدعاية الكبرى، قليلة العدد، التي يُقال هناك إنها
تحصل لنفسها على كل شيء، ولديها الجرأة على أن تُحدِّد لهم ما يكتبون، وما
يحصلون عليه في المقابل، ومن الواضح، أنَّ «تيوتولا» قد واجه هذه المشكلة سنة
١٩٥١م، وأنَّ الكثيرين من كُتَّابنا، الناشئين منهم بخاصَّة، يواجهونها هذه
الأيام.»
ويضع «أُجونبي» قضية حق النشر موضع المساءلة، كما يُثير عددًا من الهموم،
بما في ذلك عدم إعادة النُّسخة الأصلية لمخطوطة «شَرِّيب نبيذ النخيل» إلى
«تيوتولا»، قبل الهجوم على البروفيسور «لندفورس»:
ولكن الدَّور الحقير ﻟ «لندفوس» هو الأكثر مَدعاة للقلق الآن، وخاصَّةً
أنه يجيء من أمريكي، يَدَّعي أنه باحثٌ ليبرالي، يُفاخِر بأنه ليس فقط
مرجعًا في أدبنا فحسب، بل وصديق لعدد كبير من فنَّانينا كذلك، والدَّور
الذي يقوم به يؤكِّد فكرة كثير من كُتَّابنا (أشيبي وشوينكا وآرمه
Armah من غانا، ونجوجي من كينيا) التي
كثيرًا ما يردِّدونها، وهي أنَّ مُعظم الأصدقاء النقاد — المغامرين
الأوروبيين الأمريكيين — لأدبنا، إنَّما هم انتهازيون لا يعرفون الخجل،
ويستغلون كَوْن أدبِنا ناشئًا ينتظر تقييمه بشكل جادٍّ.
أمَّا بالنسبة للمخطوطة، فيُلمح «أُجونبي» إلى جرأة «لندفورس» على اقتراح
مبلغ ضئيل «مُقابل مخطوطة لا شك في أنه هو نفسه يعرف أنها تُساوي ثروةً
كبيرة، وهذا العرض يأتي من رجل يعلم جيدًا، أن «تيوتولا» الآن، مُعدم
ومُستغَل ومُتقاعِد ولا يعمل»، كما أشكُّ أن يكون «لندفورس» يعرف أي شيء عن
محنة «تيوتولا» الاقتصادية، كما لا يوجد دليلٌ كبير على اهتمام النيجيريين
بحياة الكاتب، إلى أن يتم اكتشاف المخطوطتَين، إلَّا أنَّ «أُجونبي» لا يترك
السكين من يده قبل أن يطعن طعنةً أخيرة، فيقول: «موقف «لندفورس يدل على تلك
الغطرسة الثقافية المكتومة، التي تفوحُ منها رائحة كريهة، هي رائحة الشعور
بالتفوق المزعوم، وربما العنصرية.»
وينتهي النقد اللاذع، بنغمة أكثر هدوءًا، وأقل كمدًا؛ فقد «بادَرَ مجموعة
من الكُتَّاب بخطوةٍ لاستعادة المخطوطات الأصلية»، وتعيين «تيوتولا» أستاذًا
زائرًا في جامعة Ife، وكانت هذه المجموعة تضم
«كولي أُموتوزو Kole Omotoso»، و«وولي شوينكا
Wole Soyinka»، والبروفيسور «أبويادي
Aboyade» نائب رئيس جامعة
Ife، ويُقال إنَّه سيحصل من الجامعة على ألف
«نيرا»، عن المخطوطة الأصلية لرواية «شَرِّيب نبيذ النخيل»، وهو أكثر مما
يعتقد أنه قد حصل عليه من حقوقٍ على مدى ٢١ سنة، بالإضافة إلى أنه سيحظى
بالخدمات القانونية لإحدى الشركات النيجيرية المحترمة
Odujinrin, Adefulu, Ayaniaja & Co.
«للتفاوض على عقودٍ جديدة لكتبه مع «فيبر آند فيبر»، ولكي تكون وكيلًا
أدبيًّا له.»
ظلَّت قصة «تيوتولا» قضيةً مُثارة في الصحافة النيجيرية لعدَّة أسابيع،
مع مقالات أخرى كثيرة كانت غالبًا ما تُحرِّف المعلومات الأوَّلية؛ ففي مقال
بقلم «حسن م. هاردنج Hassan M. Harding»
نشرته «ديلي تايمز Daily Times» في ٢٨ يونيو
١٩٧٨م، نجد أنَّ الرقم الأصلي لاستحقاقاته وهو ٥٩٥٫٥٢ جنيهًا يُصبح ٤٧١
نيرًا، وهو رقمٌ أقل بكثير، وفي مقالٍ آخَر بعنوان «آموس تيوتولا … ضحية
الاستغلال» نشرته «صنداي تايمز Sunday Times»
في ٢ يوليو، يقول «جِيد أوسيكومايا Jide
Osikomaiya»: إن دار نشر «فيبر آند فيبر» أرسلت إلى
«تيوتولا» نقودًا إضافية، ربما مُقابل طبعة «جروف برس» وترجمة الرواية، ولكن
المبلغ لم يُحدَّد، ويحتوي المقال على عبارات كثيرة من أقوال «تيوتولا»
الاعتباطية، باعتباره «رجلًا طيِّبًا» (وهي الصفة التي يزعم كثيرٌ من
المُعجبين به أنها كانت تجعله دائمًا عُرضة للاستغلال). أمَّا عن قبول
روايته، بداية، فيقول ببساطة: «كنت بكل أمانة أعتقد أنَّني لا بد أن أدفع ﻟ
«فيبر آند فيبر» لكي ينشروا أعمالي، لم أكُن أعرف أنهم يستفيدون من موهبتي،
لم يكُن لديَّ الشعور بأنهم يغشُّونني، وعلى أية حال، لم يكُن هناك أحد في
نيجيريا على استعداد لأن ينشر لي … وحتى الآن!» العبارة الأخيرة في كلام
«تيوتولا» تُلقي الضوء على واحدة من أهم المشكلات التي كان قد واجهها فعلًا
على مدى حياته؛ فأين كان الناشرون النيجيريون عندما كان في حاجةٍ إليهم؟
يقول: «لم يكُن هناك ناشرون من حولي، وخاصَّةً في أفريقيا. «فيبر آند فيبر»
تحمَّلوا المُخاطرة بنشر أعمالي، لم يكونوا يتوقَّعون أنها ستعود عليهم
بمبالغ كبيرة، أو أنها ستصل إلى عدد كبير من القُرَّاء.»
من الصعب أن نقرأ مثل هذه الأقوال، دون شعور بالحُزن، وعندما يسأل
«أوسيكومايا Osikomaiya» الكاتب «تيوتولا»،
ما إذا كان يعتقد أنه قد ترك أثرًا على الأدب النيجيري، يقول: «لا أعتقد
ذلك.» كان «أوسيكومايا» قد بدأ مقاله بقوله: «كثيرٌ منَّا — نحن النيجيريين —
حتى بعد النشر في الصحف الحديثة، ما زلنا نتساءل: مَن يكون «تيوتولا» هذا؟»
حتى الفقرة التي يبدأ بها مقال «ييمي أجونييا» كانت تتضمَّن الملاحظات
التالية: «تيوتولا» عامل المخزن الذي تحوَّلَت معرفتُه المحدودة بقواعد
اللغة، وتحوَّلَت إنجليزيته الضعيفة لكي تُصبح ميزةً في محاولاته لأن يروي
قصصه الكثيرة. إن ما تُعطيه يدٌ تأخذه الأخرى!»
في أواخر سنة ١٩٨٢م، وبعد أكثر من أربع سنوات على استعادة المخطوطتَين،
نشرت دار «ثري كونتننتس برس Three Continents
Press» في واشنطن دي سي، رواية «تيوتولا»: «الصياد البرِّي
في دغل الأشباح» … تحرير وتقديم وتذييل «بيرنث لندفورس»، ويتضمَّن الكتاب
صورة من العمل بخط يده، مع النَّص مطبوعًا بكامله، مع تنقيحات «تيوتولا»
الأصلية، أمَّا حقوق النشر فهي ﻟ «تيوتولا». المقدِّمة والتذييل (بعنوان
حكاية صياد آخَر) تُلخِّص الأحداث التي أدَّت إلى اكتشاف «لندفورس» للمخطوطة،
والهجوم على دوافعه في الصحافة النيجيرية.
التفاصيل التالية تكشف لنا، على نحوٍ أكثر وضوحًا، حياةَ «تيوتولا»
والأحداث التي سبقت طبعة «ثري كونتننتس»، من أولى روايات الكاتب:
لا يوجد أيٌّ من المخطوطات في أيِّ أرشيف نيجيري، كلاهما أُعيد لآموس
تيوتولا وهُما بحوزته، كما لم تتقدَّم مكتبة أية جامعة أو مؤسسة وطنية
بعروض لشرائها، كما تم توظيف «تيوتولا» لمدة سنة في جامعة
Ife، ولكن الجامعة لم تُنفِّذ ما أعلنته
وروَّجت له من قبلُ عن نيتها في الاحتفاظ بأوراقه، كما أن دار نشر جامعة
Ife لم تَنشُر أيًّا من أعماله حتى الآن،
وهو وضعٌ مُخيِّب للآمال، وربما يكون على النيجيريين، الذين يُجيدون
التعبير عن اهتمامهم بالحفاظ على كنوز الثقافة الوطنية، أن يبدءوا التساؤل:
لماذا لم يحدُث أي شيء! (p. 164)
وبعد سلقها بألسنةٍ حِداد في الصحافة النيجيرية، قررت دار «فيبر آند
فيبر» ألَّا تنشر «الصياد البرِّي في دغل الأشباح». باع «كرازنا كراوس
Kraszna Krausz» المخطوطة الأصلية لدار «ثري
كونتننتس برس»، التي أعادتها إلى المؤلِّف، بعد أن نشرت الرواية في طبعة
محدودة. ويبدو أن قصة كفاح «تيوتولا» المستمر، لكي يكون كاتبًا — ولأن يجد
جمهورًا في الداخل وفي الخارج، ويكسب احترام أولئك القُرَّاء، مع الاعتراف به
كاتبًا مُهمًّا — سوف تصِل في النهاية إلى مرحلة هدوء. استطاع «تيوتولا» أن
يستريح ويستقر على هذا المجد، وأن يُصبح أكبر وأهمَّ كاتب في نيجيريا، وأن
يحصل على عائدٍ كافٍ من أعماله، وأن يعيش حياةً مُريحة … إلَّا أنَّ القصة لا
تصل إلى هذه المرحلة من الهدوء!
بعد السنة التي عمل فيها في جامعة
Ife
عاد «تيوتولا» ليعتمد على نفسه مرَّة أخرى. لم تُقدِّم له الجامعة المبلغ
الذي كانت قد وعدت به، مُقابل الاحتفاظ بالمخطوطة الأصلية لرواية «شَرِّيب
نبيذ النخيل» … هذا، لو كان هناك أصلًا وعدٌ من هذا القبيل! كان «تيوتولا»
يتمنَّى أن يشتريها أحدٌ — الحكومة الفيدرالية مثلًا — وأن تبقى في نيجيريا.
كان هناك أكاديمي أمريكي (بوب رن
Bob Wren)
يقوم بالتدريس في جامعة «أبادان»، ساعد المؤلِّف في إعداد «حكايات شعبية من
اليوروبا» للنشر، عن طريق قسم النشر التابع للجامعة (١٩٨٦م)، وقام بتحرير لغة
«تيوتولا» الهجينة، وتحويلها إلى إنجليزية سليمة، واقترح عليه — كما اقترح
«لندفورس» من قبلُ — أن يُعيد مركزُ بحوث الإنسانيات النظرَ في إمكانية شراء
المخطوطة الأصلية لرواية «شَرِّيب نبيذ النخيل»، وفي النهاية دفع المركزُ
خمسة آلاف جنيه، وحصل بالتالي على مواد إضافية من المؤلِّف، عن طريق وسيط
أمريكي، وهكذا أصبح مركز بحوث الإنسانيات في «جامعة تكساس»، هو المستودع
الرئيسي لممتلكات الكاتب النيجيري.
٨
قد نفترض أن العائدات المتراكمة عن أعمال «آموس تيوتولا»، كانت كافيةً
لإعالته بقية حياته، وخاصَّةً أن الدراسات السوداء كانت تلقى رواجًا في
الولايات المتحدة، في السبعينيات والثمانينيات، مما أدَّى إلى الاهتمام
الشديد بأعماله، وبما يضمن بيعًا مستقرًّا لرواية «شَرِّيب نبيذ النخيل»، وهو
العنوان الوحيد الذي كان يُطبع باستمرار، أمَّا أثناء العقد الأخير من حياته،
فقد انخفضت المبيعات في الولايات المتحدة، ووصلت إلى ٢٠٠٠ نسخة في السنة تقريبًا،
٩ وفي سنة ١٩٨٧م نشرت «فيبر آند فيبر» روايته الأخيرة (المُعدم
والمُشاغب والمُفتري
Pauper, Brawler and
Slanderer)، وبعد ثلاث سنوات نُشرت له مجموعة قصصية بعنوان
«طبيب القرية الدَّجَّال وقصص أخرى
The Village Witch Doctor
and Other Stories». لم تظهر أية طبعة «يوروبا» من رواية
«شَرِّيب نبيذ النخيل» في نيجيريا، بالرغم من أنَّ «تيوتولا» نفسه كان قد
أكمل ترجمتها، لحساب إحدى دور النشر الصغيرة، أمَّا تقديرات إجمالي مبيعات
أعمال «تيوتولا» فهي ليست دقيقةً بشكل عام.
وقد كشفَت المراسلات مع «بيرنث لندفورس»، عن أنَّ «لندفورس» نفسه، هو
الذي دفَع الألف جنيه التي طلبها «كراننا-كراوس»، عن مخطوطة «الصياد البرِّي
في دغل الأشباح»، لكي تنشرها «ثري كونتننتس برس»، وقد صَدرت طبعة بخط اليد
(هولوجراف) محدودة (٢٥٠ نسخة)، وبعد ذلك كانت هناك طبعة شعبية حقَّقَت مبيعات
متواضعة، أمَّا عائد الطبعتَين فقد دُفع ﻟ «تيوتولا» مباشرةً.
(Lindforce e-mail to author, 17 November
1998.)
وبالنسبة لعائدات كُتبه الأخرى — بما في ذلك استحقاقاته عن الطبعات
الأمريكية التي تمرُّ عَبْر «فيبر آند فيبر» — فمن المستحيل القطع بأنَّ
«تيوتولا» كان يفهم أساليب المحاسبة بشأنها. «لندفورس» الذي قرأ المراسلات
الباكرة في السبعينيات بين «فيبر آند فيبر» والمؤلِّف (بما في ذلك نصوص
الحقوق)، يستنتج أنَّ الناشر الإنجليزي لأعمال «تيوتولا»، كان كثير الشكوك في
أسلوب تعامله؛ إذ كان «تيوتولا»، عادةً، يطلب من المُحرِّر أن يشتري له أشياء
لا يمكنه أن يشتريها في نيجيريا (إطارات لسيارته مثلًا)، ويرسلها إليه
بالبحر، على أن يخصم ثَمَن ذلك من مُستحَقَّاته. بالإضافة إلى أنَّ دار «فيبر
آند فيبر» استمرَّت مع المؤلِّف (بعد «شَرِّيب نبيذ النخيل» و«حياتي في دغل
الأشباح») فنَشَرت له ستة كتب أخرى هي:
Simbi and the Stayer of the Dark Jungle
(1955); Feather Woman of the Jungle (1962); Ayaiyi and his Inherited
Poverty (1967); The Witch-Herbalist of the Remote Town (1981); Pauper,
Brawler and Slanderer (1987); and The Village Witch Doctor and Other
Stories (1990).
كما نَشرت له «جروف برس Grove Press»
عملًا آخَر في ١٩٥٨م، وهو The Brave African
Huntress، كثيرٌ من المراسلات بين «تيوتولا» و«فيبر آند
فيبر» اختفت؛ حيث كان «تيوتولا» قد أعارها إلى أحد الأكاديميين النيجيريين،
ولم يُعِدها الأخير، كما رفضت «فيبر آند فيبر» كل محاولاتي، لمعرفة حساب
عائدات «تيوتولا» لديهم على مدى السنوات، ولكن ماذا عن المبالغ التي كان من
المفترض أن يحصل عليها «تيوتولا»، من «والت ديزني»، مقابل تحويل «شَرِّيب
نبيذ النخيل» إلى فيلم؟ لقد رفض المحامون في ديزني الردَّ على أسئلتي بهذا
الخصوص، بالرغم من محاولاتي العديدة لمعرفة ما حدث بالنسبة للتَّرِكة.
تُوفِّي «آموس تيوتولا» في ٧ يونيو ١٩٩٧م، وكان في السابعة والسبعين من
العمر، وبعد شهر ونصف الشهر تلقَّى «بيرنث لندفورس» طلبًا من كلٍّ من «آيو
أليجبيلي
Ayo Alegbeleye»، و«ينكا تيوتولا
Yinka Tutuola»، و«بنمي تيوتولا
Bunmi Tutuola» (بتاريخ ٢٥ يوليو) بالتبرع
لتأبين الكاتب بشكلٍ لائق، كانت الرسالة تتضمَّن:
أبدى عددٌ كبير من أصدقاء الفقيد والزملاء والطلاب رغبةً شديدة في أن
يحتفلوا بوداعه الأخير، وذلك بقراءة مخطوطات، وتقديم مسرحيات ورقصات وأشعار
عند الدَّفن، كما يُخطِّط فنانون لتقديم عرض فنِّي. التكلفة مرتفعة رغم
محاولاتنا اختصار بعض الأنشطة، ونكون من الشاكرين لمساعدتك المالية بهذا
الخصوص، كما أننا سوف نعلن عن المبالغ المقدَّمة عن طريق الصحافة.
كما أضاف «ينكا تيوتولا»، الابن الأكبر للكاتب معلوماتٍ عن الجهة التي
يمكن إرسال التبرعات إليها. مات «تيوتولا» فقيرًا عن أسرة كبيرة مكوَّنة من
أربع زوجات وأحد عشر ابنًا وبنتًا، وقام «لندفورس» بنسخ الرسالة (طلب
التبرُّع)، ووزَّعها في الولايات المتحدة مع عنوان الجهة التي تُرسل إليها
التبرعات.
احتفت الصحافة النيجيرية بالكاتب وأشادت به وكرَّمته على نحوٍ نادرًا ما
حصل عليه في حياته، وفي مقالٍ بعنوان «وداع يليق بآموس تيوتولا» (تعليق على
ما حدث)، يقول «لندفورس»: «خرجت خمس صحف يومية وطنية، على الأقلِّ، تُشيد في
افتتاحيَّاتها المطوَّلة بأعماله وإنجازاته، كان في نظر الجميع بطلًا
وأسطورة، وحكَّاءً مُدهشًا، وعبقرية في القَصِّ.» كما اكتسب احترام الكُتَّاب
والصحفيين الشُّبَّان، الذين كانوا يُشيرون إليه ﺑ «الأب تيوتولا».
وبالرغم من ذلك، كانت الجنازة هزيلة وسيئة التنظيم؛ فقد كتب «تندي أريمو
Tunde Aremu» الذي شَهد الحدث في جريدة
ALA Bulletin: «بالنسبة لرجلٍ عظيم كهذا، في
عالَم الأدب على الأقلِّ، كان المنتظَر أن يكون دفنه بمثابة نقطة الْتِقاء،
ليس فقط بين جماعة الكُتَّاب، وإنَّما بالنسبة لمُحبِّي الكلمة والنقاد
ورُعاة الفنون، إلَّا أنه ذهب مجهولًا مثلما عاش.» وبالرغم من أنَّ مُنظِّم
المناسبة كان هو اتحاد الكُتَّاب في نيجيريا، وأنَّ التخطيط كان يشتمل
فعاليات على مدى يومين (٣، ٤ أكتوبر)، لم يحضر عدد كبير من المنظِّمين:
وإذا كان اليوم الأول قد مضى دون دلالة على جنازة رجلٍ، هناك اعترافٌ
بأنه ترك بصمةً على الحياة الأدبية، فإن اليوم الثاني كان أسوأ من ذلك
بكثير، وفي إحدى صُحف «لاجوس» كتب مُحرِّر صفحة مُراجعة الكتب: «كُنت
أتوقَّع حُضور كُتَّاب كثيرين من دولٍ أخرى.» ويبدو أنَّ هذا الصحفي كان
يتوقَّع أكثر ممَّا يجب، كما كُنَّا نحن أيضًا نتوقَّع الكثير. الشخصية
العامَّة الوحيدة التي حضرت المناسبة كان السفير «ألوسيجن أولوسولا
Olusegun Olusola»، ومن بين الشخصيات
الشهيرة الأخرى كان هناك «دابو أدلوجبا Dapo
Adlugba» من قِسم الفنون المسرحية بجامعة أبادان، و«أوديا
أوفيمون Odia Ofeimun»، ودكتور «بودي
سواندي Bode Sowande»، بالإضافة إلى بعض
الأدباء، ولكن العدد لم يصِل إلى عشرة تقريبًا.
كانت أسرة «تيوتولا» قد طلبت من حكومات ولايات «أويو
Oyo» و«أوجون
Ogun» الإسهامَ في نفقات الجنازة، ولكنها لم
تتلقَّ ردًّا. وكما يقول «أريمو Aremu» فإن
اللحظة الوحيدة الجديرة بالذكر، هي تلك التي كانت أثناء إلقاء «أوديا أوفيمن»
لكلمته عندما قال: «لم يكُن لدى «تيوتولا» من أجل رحلته سوى حِمار، ولكن
قدَره كان أن يُطعِم هذا الحِمار حتى أصبح حِصانًا.»
«سيبريان إكوينسي Cyprian Ekwensi»، أحد
أصدقاء «تيوتولا» النيجيريين، وهو كاتب آخَر من الذين عرفوا المعاملة المهينة
نفسها، قال عند وفاة الكاتب: «كان «تيوتولا» يكتب موسيقى بكلماته، ورغم أن
النثر كان وسيلته، فإن كتابته كانت تبدو أكثر موسيقية وأكثر غنائية وأكثر
شِعرية من كتابات كثيرٍ من الشعراء» (عن مقال لندفورس: وداع يليق بآموس
تيوتولا). كان «إكوينسي» يتمنى أن تُنشئ نيجيريا جائزةً أدبية تكريمًا
للراحل، وأن يكون هذا التكريم نابعًا من الداخل وليس من الخارج، ويضيف: «إنَّ
الاعتراف والتقدير في نيجيريا اليوم، أمور تتوقف على ما لدى المرء من ثروة،
الناس يريدون أن يعرفوا السيارات التي يملكُها، والملابس التي يرتديها، ولا
أحد يسأل كيف يحصل الناس على هذه الأموال، لا أحد يهتم بالتفوُّق أو التميُّز
في أي مجال.» المرارة في كلمات «إكوينسي» لا تَخفى على أحدٍ، والحقيقة أنه
كان يقول قبل سنوات إنَّ رواياته — وبعضُها طُبِع عِدَّة مرَّات وفي طبعات
دولية — جَلبَت له «الشُّهرة والفقر»، وهي عِبارة تنطبق أيضًا على عمل
«تيوتولا».
ولا يستطيع المرء أن يتجاهل كذلك حقيقة أنه — حتى — عند موته، لم يكُن
كثيرٌ من النيجيريين يعرفون مَن هو «تيوتولا» ولا كتاباته؛ فالذين قرءوا
أعماله قليلون، وحتى بين أولئك الذين قرءوها، كان ما زال هناك شعور بأن كل ما
فعله، هو أنه أعاد كتابة القصص التي يعرفها كل أبناء اليوروبو، وكان الناقد
«ت. أ. أويساكن T. A. Oyesakin»، من جامعة
لاجوس، يردِّد ما قاله آخَرون من قبلُ في مناسبات كثيرة، مثل «لو أنَّك ترجمت
أعمال «تيوتولا» إلى لغة اليوروبا، فإن أي فرد منهم — من الذين لا يعرفون لغة
أخرى — سوف يفترض بكل بساطة أنَّك تُصيبه بالضَّجَر بقصة يستمع إليها بشكل
يومي؛ ففي سِن الخامسة عشرة يكون أي طفل من اليوروبا مُلمًّا بالحكايات
الشعبية، وأنت عندما ترويها تُضيف إليها من عندك … «تيوتولا» يتبع أسلوب
الحكي، وإن كان لم يفعل ذلك بشكلٍ إبداعي؛ أي إنه لم يَضَع التفاصيل التي
يُضيفُها الراوي الشعبي، إنَّه يقدِّم الهيكل العظمي للحكاية فقط» (مُقتبَس
عن مقال «لندفورس»: وداع يليق بآموس تيوتولا).
وبالنسبة ﻟ «أويساكن» — وغيره من الذين لا يروق لهم عمل «تيوتولا»، حتى
بعد خمسين سنة من أول صدور له — فإن «تيوتولا» ليس أكثر من كاتب يُعيد كتابة
ما هو معروفٌ بالفعل، وأنه ما كان يجب أن يحظى بكل ذلك الاهتمام، والمغزى
طبعًا هو أن أي شخص من اليوروبا كان يُمكن أن يقوم بما قام به.
ولكن الحقيقة أنَّ أحدًا آخَر لم يفعل ذلك، وهذا جزءٌ من عبقرية الفنان؛
فهناك «الأشياء تتداعى» واحدة، رغم أن الكثير من الأفارقة، كانوا يعرفون
حكايات الغزاة الأوروبيين الأوائل، الذين جاءوا إلى مجتمعاتهم، وهناك «الطفل
الأسود» واحدة، رغم أنه كان هناك طلاب فرانكفونيون آخَرون يدرسون، وانتهى بهم
المطاف في فرنسا مثل «كامارا لايي Camara
Laye»، وكانوا يعتقدون أنهم لن يعودوا إلى بلادهم، وهناك
«شَرِّيب نبيذ النخيل» واحدة، رغم وجود الكثير من روايات اليوروبا التي كتبها
الشيخ «فاجونوا Fagunwa» وغيره من جامعي
الموروث الشعبي.
في أواخر الأيام، عندما كان يسأله أحدٌ لماذا يكتب، كان «تيوتولا»
يُقدِّم أفضل تفسير لحرفته وفنِّيَّته، مُدافعًا عن نفسه كإنسان يريد أن
يحافظ على بقاء ثقافته: «لا أريد أن يموت الماضي، لا أريد لثقافتنا أن تختفي.
هذا ليس جيدًا، نحن نُضيع (عاداتنا وتقاليدنا)، وأنا أحاول أن أستبقيها في
الذاكرة» (مُقتبَس من مقال «لندفورس» السابق ذكره). وبالنسبة لكثير من
قُرَّاء الأدب الأفريقي، فإن «آموس تيوتولا» استطاع أن يقبض على تلك الذكريات
لكي يُخلِّدَها بالكلمة المكتوبة.