«آنا أو: رؤيةٌ جديدة ومُنقَّحة للحالة المَرَضية الأُولى»
إذا كان لأحدٍ فضلٌ في ابتكار منهج التحليل النفسي، فإن هذا الفضل لا يعود إليَّ … فقد كنت طالبًا أخوض اختباراتي النهائية بينما كان طبيبٌ نمساوي آخر، هو د. جوزيف بروير، يُطبِّق هذا المنهج للمرة الأُولى (فيما بين عامَي ١٨٨٠–١٨٨٢) على حالةٍ لفتاةٍ تُعاني من الهستيريا … ستجدون تاريخ هذه الحالة وعلاجها مُوضَّحَين تفصيلًا في كتاب «دراسات حول الهستيريا» [١٨٩٥] الذي نشرناه أنا وبروير لاحقًا. (فرويد، ١٩١٠، صفحة ٩)
كانت الفتاة التي أَطلَق عليها بروير وفرويد آنا أو هي دراسة الحالة الأُولى في كتابهما المشترك ١٨٩٥. وقد استخدمها فرويد مُجدَّدًا في محاضرته الأُولى بين المحاضرات الخمس التي ألقاها حول التحليل النفسي في جامعة كلارك، بورشستر، بولاية ماساتشوستس عام ١٩٠٩. وعقب ذلك بخمسِ سنوات، أثناء كتابة «عن تاريخ حركة التحليل النفسي»، بدأ فرويد حديثه مُجدَّدًا بحالة آنا أو، لكنه هذه المرةَ أوضح أن قصة مرضِ آنا أو وعلاجها تخُص بورير، إلا أن الاستنتاجات التي استُخلِصَت من الحالة وأدَّت إلى ظهورِ منهج التحليل النفسي تخُص فرويد.
إذا كان مرضى الهستيريا يَعزون أعراضهم إلى صدماتٍ تخيُّلية، فإن حقيقةً جديدة تبرُز ها هنا وهي أنهم يختلقون تلك المَشاهد في خيالهم، وهذا الواقع النفسي يقتضي أخذه في الاعتبار جنبًا إلى جنبٍ مع الواقع العملي. (فرويد، ١٩١٤، الصفحات ١٧-١٨)
ثَمَّة اكتشافٌ آخرُ جديد ظهر مُنذُ عام ١٨٩٥ وهو الوجود الكلي للجنسانية الطفلية، وحقيقة أن استعدادًا وراثيًّا لدى بعض الأفراد أدَّى إلى استبعاد الصدَمات من التجربة التطوُّرية المعتادة (المصدر السابق، صفحة ١٨). إذن فقد جاء اكتشافُ اثنَين من ركائز التحليل النفسي، هما الواقع النفسي والجنسانية الطفلية، عقب تلك الرؤى الأُولى بشأن الهستيريا، ويمكن إيجادُ كلٍّ منهما عند إعادة النظر في حالةِ آنا أو. عندما ننظر إلى رؤية بروير للحالة من منظور التحليل المعاصر، نرى شيئًا مختلفًا تمامًا عما تَوصَّل إليه، لكننا نُميِّز أيضًا الموضوعات التي تناوَلَها؛ لأن الظاهرة لا تزال كما هي، ولأن رؤيته الدقيقة تُمكِّننا من دراستها بمعزلٍ عن استنتاجاته.
إذن عندما نُعيد النظر في الحالة، هل سنتمكن من استخلاص المزيد منها؟ لدينا مَيزتان لم يَحظَ بهما القُراء الأوائل للنص؛ إحداهما بالطبع هي التطوُّر الإضافي الذي طَرأَ على أفكار التحليل النفسي في السنوات الأخيرة، والأخرى هي ما نمتلكه الآن من معرفةٍ أكبرَ عن الحالة الفعلية؛ فكلما زادت معرفتنا بما «لم» يُفصَح عنه فيما يخص العلاج بكتاب فرويد وبروير، اتضَح مدى تأثيرها العميق على فرويد في السنوات اللاحقة؛ فالقصة «حسبما يعرفها فرويد» لم تُروَ بالكامل في دراسة الحالة التي قدَّمها بروير عن آنا أو. وما نعرفه الآن عن الحالة يبدو أكثرَ منطقيةً من منظور التحليل النفسي الحديث. وأَودُّ التأكيد على أن التفاصيل التي لم تَرِد في تقرير بروير عن الحالة كانت معروفةً لدى فرويد، وأنه كان على علمٍ بالتطوُّرات اللاحقة في حياة بيرثا بابنهايم؛ إذ كانت زوجته صديقةً لها. وفي وقتِ نشرِ مُؤلَّفهما المشترك في عام ١٨٩٥؛ أي بعد ثلاثة عشر عامًا من نهاية العلاج، كان كلاهما يعلم أن بيرثا على ما يُرام إلى حدٍّ معقول وتعيش في فرانكفورت.
لقد تعلَّمتُ الآن الكثير، وجزءٌ كبير مما تعلمت كان ذا قيمةٍ علمية، لكن الدرس العملي المُهم هو استحالة أن يتمكَّن «الممارس العام» من علاج حالةٍ كتلك دون أن يتعرَّض نشاطه ومسار حياته لدمارٍ كامل. وقد قطَعتُ على نفسي عهدًا آنذاك ألَّا أُعرِّض نفسي أبدًا لمحنةٍ كهذه مُجدَّدًا. (جروبرش سميتيس، ١٩٩٧، الصفحات ٢٦-٢٧)
إن حقيقة ظهور التحويل في شكله الجنسي الفَظ، سواء كان عاطفيًّا أو عدائيًّا، في كل علاجٍ لحالة عُصاب، رغم كون التحويل أمرًا غيرَ مرغوبٍ فيه أو لا يُستحث حدوثه من قِبل الطبيب أو المريض، طالما بدَت لي البرهانَ الذي لا يُرد على أن مصدر القُوى الدافعة للعُصاب يكمن في الحياة الجنسية … وقد ظلَّت هذه الحجة، على حدِّ علمي، هي الحُجة القاطعة، بالإضافة إلى النتائج الأكثر تحديدًا للأعمال التحليلية. (فرويد، ١٩١٤، صفحة ١٢)
كان عدم تصريح فرويد قَطُّ بتلك المعلومات يعني أن بعضًا من أهم مصادر قناعاته ومعتقداته قد ظلَّت في طي الكتمان. لقد أَسرَّ تفاصيلَ غيرَ مُعلَنٍ عنها عن حالةِ بروير وبابنهايم إلى إرنست جونز، الذي ضَمَّنها بدوره في السيرة التي كَتبَها عن حياة فرويد (جونز، ١٩٥٣، المجلد ١، الصفحات ٢٤٦–٢٤٨). غير أنه في إحدى التفصيلات المحورية تَذكَّر جونز القصة على نحوٍ خاطئ؛ إذ زعم حدوثها في وقتِ حملِ زوجة بروير؛ فهذا الحمل لم يعقُب إنهاءَ علاجِ حالةِ بيرثا بابنهايم، كما كتب جونز، بل كان قائمًا وقت العلاج (إيلينبرجر، ١٩٩٣، صفحة ٢٦٤)؛ فقد وُلِدَت الطفلة يوم ١١ مارس ١٨٨٢ بينما كانت آنا أو لا تزال تخضع للعلاج. وقد أُطلق على الطفلة اسم دورا، وهو اسمٌ آخر كُتب له أن يُطلَق على حالة أخرى من حالات التحليل النفسي الكلاسيكية. وكما سأُشير لاحقًا في هذه الدراسة، فإن تصحيح توقيت الحمل (وهو حملٌ لا بد أن بيرثا بابنهايم كانت على علمٍ به) يُمكِّننا من فهم الحالة على نحوٍ أفضل.
هل يمكننا، بعد مُضي مائةِ عام، قراءة هذه الحالة الأُولى، واستخلاصُ مزيدٍ من المعلومات منها أو إضافةِ أيِّ جديدٍ لها؟ أعتقد ذلك، وأَودُّ استخدام العلاج النفسي الذي خضعت له بيرثا بابنهايم للإشارة إلى أن من السمات الرئيسة للهستيريا استخدام التماهي الإسقاطي من قِبل المريض لكي يُصبح في الخيال أَحد طَرفَي المشهد الجنسي الأَوَّلي أو كليهما.
إن تفعيل هذا التماهي الخيالي في الحياة اليومية أو في التحليل من شأنه أن يخلق دراما جنسية، أو يُضفي على جميع الأحداث اليومية سمةً شهوانية؛ فيمنح جنسانية مريض الهستيريا طابعًا مسرحيًّا. وقد كتب فرويد في ذلك قائلًا إن «كوني حاضرًا كمُشاهدٍ مهتم … لمسرحية يُحدِث في نفوس البالغِين ما يُحدِثه اللعب في نفوس الأطفال الذين تتحقق، عَبْر هذه الطريقة، آمالُهم غير الأكيدة في التمكُّن من فعل ما يفعله الكِبار» (فرويد، ١٩٠٥، صفحة ٣٠٥). وقد أَوضحَت ميلاني كلاين، في مَعرِض تعليقها على التحليل النفسي للأطفال، معنى «ما يفعله الكبار» الذي تَتجمَّع حوله آمال الأطفال؛ فكَتبَت تقول: «في عددٍ من الحالات بدا واضحًا أن تلك المَشاهِد المسرحية … [و] … الأداء التمثيلي تَرمُز إلى الممارسة الجنسية بين الأَبوَين، بينما يَرمُز الاستماع لتلك الممارسة أو مشاهدتها إلى الملاحظة الفعلية أو في الخيال» (كلاين، ١٩٢٣، الصفحات ١٠١-١٠٢). إن مرضى الهستيريا، كما أرى، ينغمسون في الفعل التمثيلي؛ أي يصعدون على خشبة المسرح، مثل بعضٍ من أطفال كلاين في غرفة اللعب، ويلعبون دَور أحد الوالدَين عَبْر تخيُّلٍ يتضمن تماهيًا إسقاطيًّا.
أصبحت آنا أو، حالة الهستيريا الشهيرة في فيينا الآن، مريضةً نفسية عامَ ١٨٨٠. كانت تبلُغ من العمر آنذاك ٢١ عامًا، وتتسم بالذكاء والجاذبية، لكن حياتها خلَت من ارتباطاتٍ عاطفية أو، حسب زعم بروير، أيِّ أفكارٍ جنسية. كانت تنتمي لعائلةٍ ثرية ذات نفوذٍ واتصالاتٍ من اليهود الأرثوذوكس الذين اندمجوا جيدًا في الثقافة الألمانية. كانت لها أختٌ تصغرها بعشر سنوات، تُوفِّيَت في مراهقتها، وأخٌ على قيد الحياة يصغرها بستة عشر شهرًا. كانت علاقتها بأمها تكتنفها صعوبات ومشكلاتٌ جمَّة، أَمَّا علاقتها بأبيها فكانت علاقةً وثيقة تتسم بالارتباط المُتبادَل. وقد وصفها بروير بأنها مُدمنةٌ لأحلام اليقظة السرية التي كانت تُطلِق عليها «مسرحها الخاص». كانت في مراهقتها فتاةً عنيدة ذات ميولٍ معادية للدين وحبٍّ «للمسرح». وبالإضافة إلى اللغة الألمانية، كانت تتحدث الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. لم أستطع التأكُّد من وجودِ مربيةٍ أو معلمةٍ إنجليزية لها في طفولتها المبكرة، والسبب الذي يدفعني إلى الظن بوجود امرأةٍ إنجليزية في حياتها سواء كانت مربية، أو معلمة، أو حتى عشيقة لوالدها هو الأهمية المحورية التي لعبها استخدام اللغة الإنجليزية في قصتها عندما فَقدَت القدرة على التحدُّث بالألمانية.
سأروي الآن قصة علاجها، بدءًا من تَولِّي بروير حالتها. كانت آنا أو تعاني لوقتٍ مضى من «ألمٍ عصبي بالوجه لا تشخيص له». وقد فحصها بروير في نوفمبر ١٨٨٠؛ نظرًا لإصابتها ﺑ «سُعالٍ هستيري» شديد بينما كانت تُمرِّض أباها المريض الذي كان يُعاني من عدوى صدرية. وفي يوليو من العام نفسه تفاقم مرض الأب وتشارَكَت مَهامَّ تمريضه مع أمها، ما يعني أنها كانت تقضي الليالي بجواره في حجرة الأبوَين بينما تحصل على قسط من الراحة في فتراتِ ما بعد الظهيرة في غرفتها. لم تكن تُمارس أي نشاطٍ آخر سوى تمريض أبيها ليلًا والاسترخاء في فترةِ ما بعد الظهيرة والاستغراق في حالةٍ أشبه بالغيبوبة مساءً. وفي أثناء هذه الفترة غزا الضعف جسدها وأُصيبَت بفقدان الشهية العصبي.
تحت تأثير السُّعال الشديد الذي أُصِيبت به استدعت العائلة د. بروير، وقرَّرَت وقف مشاركتها في مهامِّ تمريض أبيها، ما أَدَّى في النهاية إلى منعها من دخول غرفته، لكن ليس واضحًا لنا من كان وراء ذلك. ما يبدو لنا واضحًا هو أن أمها وأخاها منعاها من التمريض، ليُحرِّما عليها لاحقًا دخول غرفة أبيها. تَدهوَرَت الأوضاع سريعًا إثر هذا المنع، وفي ديسمبر اعتَكفَت في سريرها وظَهرَت عليها أعراض الحَوَل وشللٍ في مناطقَ متنوعةٍ من الجسم إلى جانب فقدان القدرة على الحديث على نحوٍ طبيعي. في البداية استكشف بروير أعراضها من منظورٍ عصبي، لكنه استنتج في النهاية عدم وجود أي سببٍ تشريحي لهذه الأعراض. بدا التشخيص الطبي في ذلك الوقت محاكاةً هستيرية للسكتة الدماغية. وفي غضون ذلك ظهر لدى آنا «حالتان منفصلتان تمامًا من الوعي»، ما تطلَّب من بروير تركيز انتباهه تمامًا على حالتها. في إحدى هاتَين الحالتَين كانت «حزينةً وقلقةً لكن سلوكها كان طبيعيًّا نسبيًّا»، وفي الحالة الأخرى «كانت تُهلوِس وكانت سيئة السلوك». عندما كان ذهنها يصفو، كانت تتحدَّث عن «ظلمةٍ دهماء» داخل عقلها، وعن عجزها عن التفكير وتحوُّلها إلى شخصٍ أعمى وأَصَم، منقسم إلى ذاتَين؛ ذاتٍ حقيقية وأُخرى شرِّيرة تُجبِرها على السلوك السيئ. كذلك كانت حالتها المزاجية متذبذبةً ما بين ارتفاع الروح المعنوية وبين المقاومة العنيدة والقلق البالغ والهلاوس المُخيفة لثعابينَ سوداء. كانت تَتسلَّل من سريرها ليلًا وتذهب إلى غرفة الأبوَين، وفي إحدى المرات ضبطها أخوها وهي تَسترِق السمع عبر الباب، وأخذ يهزُّها في غضب، ورَبطَت لاحقًا بين هذه الواقعة وبين إصابتها بصممٍ هستيري مُتقطِّع.
تَحوَّل اهتمامُ بروير البالغ بأعراضِ آنا المَرَضية من فحصِ أطرافها إلى تحليلِ ما تُعانيه من صعوباتٍ كلامية؛ فقد كانت تَتحدَّث في البداية بلغةٍ ألمانية غيرِ مترابطةٍ ومليئةٍ بالأخطاء النحوية، ثم أصبح حديثها غيرَ مفهومٍ تقريبًا ويمزج بين أربع لغات أو خمس. ظل بروير يتابع هذا العَرَض في صبر بوصفه لُغزًا لُغويًّا، إلا أنه تحوَّل في دراسته إلى منظورٍ نفسي عندما أصبحت بكماءَ طَوالَ أسبوعَين. قدَّم بروير حينئذٍ ما كان على الأرجح تفسيره الأول للحالة؛ إذ ربط بين صَمتها وبين شعورها بالألم والغضب نتيجة لشيءٍ ما قاله والدها تَسبَّب في انزعاجها وإغضابها. وقد أدَّى ذلك إلى تحسُّنٍ كبير في أعراضها العصبية الزائفة وتغيُّرٍ في استخدامها للغة؛ فأَصبحَت تتحدَّث الإنجليزية فقط، ما كان يعني فهم بروير لحديثها دون المُمرِّضة. واختفى الحوَل من عينَيها وأَصبحَت الآن قادرةً على رفع رأسها. وبعد مُضيِّ شهر، تحديدًا في الأول من أبريل عام ١٨٨١، استطاعَت النهوض للمرة الأُولى، ثم «في الخامس من أبريل تُوفِّي أبوها الحبيب» (بروير، ١٨٩٥، صفحة ٢٥)، ولم تكن آنا قد رأته لفترةٍ وأُخفي عنها تدهور حالته.
كان رَدُّ فعلها إزاء واقعة الوفاة عنيفًا وجنونيًّا، لا سيما تجاه أُمها، وتلا ذلك حالةٌ من الذهول لمدة يومَين. ومنذ ذلك الحين أصبح وجود أمها أو أخيها يُثير لديها حالاتِ اضطرابٍ شديدة. وباستثناء بروير لم تعُد تستطيع تمييز الأشخاص، بل لم تكن ترى من حولها في بعض الأحيان. كان الوقت الوحيد الذي تعي فيه ما حولها حين تكون مع بروير، الذي أَصبَح أيضًا الشخص الوحيد القادر على إطعامها. وفي هذا الوقت وَضَعا نمطًا استمر بطريقة أو بأخرى طوال فترة العلاج؛ فكانت تشعر بالنعاس في فترة ما بعد الظهيرة، وتخلُد إلى نومٍ عميق مع غروب الشمس، ثم تقضي ساعاتٍ في «التحدُّث طويلًا بكلِّ ما بداخلها» لبروير، حتى تُصبِح في النهاية «هادئةً ومبتهجة» (المصدر السابق، صفحة ٢٧).
قُوطع هذا التحسُّن السريع، أو الشفاء بالتحويل كما قد نَصِفه الآن، مع إشراك بروير طبيبًا آخر في العلاج قبل أن يسافر ﻟ «عدة أيام». كانت آنا لا ترى هذا الطبيب ولم تعترف بوجوده، ووصف بروير هذه الحالة بأنها إحدى «هلاوسها السلبية»؛ كان هذا الطبيب هو د. ريتشارد فون كرافت-إبينج، الطبيب النفسي الشهير (إيلينبرجر، ١٩٩٣، صفحة ٢٦٧). وبدلًا من الحديث المليء بالضحك مع بروير الذي أقنعها بترجمة نصٍّ فرنسي إلى الإنجليزية جهرًا، أشعل كرافت ورقةً ونَفخَ الدخان في وجهها، لتُهرَع إلى الباب كي تأخذ المفتاح، وبعد أن فقدت وعيها أُصيبت ﺑ «نوبةٍ قصيرة من الغضب والقلق الشديد».
عاد بروير بعد إجازته القصيرة ليجد حالتها قد ساءت كثيرًا؛ إذ فقدت شهيتها تمامًا، وأضحت نوبات «الغياب الهلوسية»، التي كانت فيما مضى عبارةً عن «تراكيبَ شعريةٍ بلا قواعد»، هلاوسَ مُرعبة ﻟ «جماجم». غير أن هذا الوضع قد تغيَّر مع استئناف بروير لجلساته معها، وتحوَّل نمط التفاعُل بينهما إلى حالةٍ من الهلاوس أثناء النهار، ثم نعاس بعد الظهيرة، والحالةُ التي كانت تُطلَق عليه «تَشوُّش» وأسماها بروير تنويمًا مغناطيسيًّا ذاتيًّا. في هذه الحالة الأخيرة، كانت تروي لبروير مضمونَ هلاوسها النهارية، وبعد ذلك يصفو ذهنها وتُصبِح مبتهجة فتعكُف على الكتابة أو الرسم حتى وقتٍ متأخر من الليل.
بَدأَت ماتيلد بروير، بحسب فرويد، تشعر بالغضب والغَيرة من الوقت الذي يُمضيه زوجها مع مريضته أو في الحديث عنها. ربما لعِبَت محاولات بروير لقضاء المزيد من الوقت بعيدًا عن آنا دَورًا في الأحداث التالية التي أدَّت به إلى احتجاز آنا أو في المستشفى على غير رغبتها في ٧ يونيو ١٨٨١. أظهرت آنا ميولًا انتحارية على نحوٍ مُتقطِّع أثناء النهار عند غياب بروير؛ ومن ثَمَّ جرى وضعها «دون خداع بل بالقوة» في فيلا بمصحة انتزردورف، خارج فيينا، وكان بروير يزورها كلَّ ثلاثةِ أيامٍ لإجراء ما أَصبحَت تُطلِق عليه «العلاج الكلامي» أو «تنظيف المدخنة» (إيلينبرجر، ١٩٩٣، صفحة ٢٦٨). لم يلحظ بروير «التورية» في الوصفِ الأخير، تنظيف المدخنة، مثلما لم يلحظ باقي الرموز الجنسية، لكن ما تلا ذلك من حملٍ وولادةٍ هستيرية، اللذَين عرف فرويد بحدوثهما، أكَّدا عدم إغفاله للتورية.
في المصحة تولى د. هيرمان بريسلاور حالة آنا، وكان على عكس بروير؛ إذ لم يُحاوِل التواصُل معها أو التأثير عليها، ولجأ في علاجها إلى عقاقيرَ أَصبحَت في النهاية معتمدةً عليها. بعد إدخالها المصحة لم تذُقْ للطعام أو النوم طعمًا طَوالَ ثلاثةِ أيام، وحاوَلَت الانتحار مرارًا وهشَّمَت النوافذ ودَخلَت في حالاتٍ من الهلوسة. وكان بروير قادرًا على تغيير حالتها الذهنية أثناء زياراته عبر الاستماع إلى قصصها، ولكي يجعلها تتعرَّف عليه، كان عليه أن يأخذ بيدَيها ويُقنِعها بسرد قصصها له مبتدئًا بالحديث باللغة الإنجليزية على نحوٍ نمطي (المصدر السابق).
عندئذٍ أصبح نمطُ سلوكِ آنا أو مرتبطًا على نحوٍ أوضح ببروير، وهو النمط الذي وصفه على النحو التالي: «اعتدتُ زيارتها في المساء وهو الوقت الذي أعلم أنها تكون فيه في حالةٍ من النوم المغناطيسي، وحينها كُنتُ أُريحها من مخزون الخيالات الذي راكَمَته منذ آخرِ زيارةٍ لي.» عقب الزيارة كانت تهدأ وتبتهج، لكن حتى يحين موعد الزيارة الثانية كانت تزداد تقلُّبًا وحدَّة. كان بروير مقتنعًا أن سبب ذلك يرجع ببساطة إلى «مخزون الخيالات» المُتراكِم، الذي كان هو وحده من يعرف كيفية إخراجه والتخلُّص منه. وقد تناول ذلك لاحقًا بالتفصيل والشرح في نظريته حول التطهُّر.
مع حلول شهر أغسطس وبينما كانت آنا لا تزال في المصحة، سافر بروير في إجازةٍ لمدةِ خمسةِ أسابيع. وعند عودته من إجازته «القصيرة»، وجدها في حالةٍ يُرثى لها؛ إذ كانت في حالة جمود وكسل، وناقمة، ورافضة التفاعل. وقد أكَّد ذلك لبروير اعتقاده بأنها تعاني من «عقدٍ خيالية» مُتراكِمة، يمكن التخلُّص منها عن طريق التعبير اللفظي إمَّا بالتنويم المغناطيسي الذاتي أو المُستحَث. وقد حل المشكلة بإعادتها إلى فيينا لمدة أسبوعٍ وتنظيم جلسةٍ معها كل مساء، بعد ذلك استُؤنف النمط السابق للعلاج في المصحة.
عادت آنا إلى فيينا مع حلول خريف عام ١٨٨١ وقد تحسَّنَت حالتها كثيرًا. واستمر هذا التحسُّن المطرد حتى ديسمبر ١٨٨١، عندما تدهورت حالتها على نحوٍ ملحوظ وأَصبحَت أكثر كآبة وانفعالًا، لتبدأ ها هنا مرحلةٌ جديدة في حالتها؛ إذ أَصبحَت حالاتُها العقلية تتبدل يوميًّا. في إحدى تلك الحالات كانت تعتقد أن الوقت الحالي هو شتاء عام ١٨٨٠ / ١٨٨١، على الرغم من كونه شتاء ١٨٨١ / ١٨٨٢. وقد بدأ هذا في ذكرى مرور سنةٍ على اليوم الذي حُرِمَت فيه من رؤية أبيها. وقد شارَكَت أحداث ذلك الشتاء المُعادة مع بروير، الذي أصبح يراها الآن مرتَين يوميًّا كي يُمكِّنها من استعادة انطباعاتها من العام السابق إمَّا عَبْر التنويم المغناطيسي الذاتي أو المُستحَث من أجل التخفيف من وطأة الحالة. وقد تَضمَّنَت تلك الانطباعات ظروفَ وفاة والدها، لكنها كانت متركزةً أساسًا على «أحداث ومضايقات عام ١٨٨١»، التي كان بروير جزءًا منها (بروير، ١٨٩٥، الجزء الثاني، صفحة ٣٣).
علينا أن نُذكِّر أنفسنا عند قراءة تقرير بروير عن الحالة عام ١٨٩٥ أنه قد كُتب بعد ١٢ عامًا من انتهاء العلاج، عندما أدرك أنها قد تعافت؛ فبعد عامٍ من انتهاء العلاج، كان بروير لا يزال يعاني، شأنه شأن مريضته السابقة، و«أَسرَّ لفرويد أنها كانت مُشوَّشة تمامًا وأنه يتمنى لو كانت ماتت حتى تستريح من مُعاناتها» (جونز، ١٩٥٣، صفحة ٢٤٧).
علَّق بروير، عدة مرات، أنه عندما يكون موجودًا تكون في حالة من الابتهاج، وعندما يغيب ينتابها القلق، ويُشير كذلك إلى أنه في كل مرة يتركها تتدهور حالتها على نحوٍ ملحوظ. وعندما قرَّر في النهاية أن يزورها يوميًّا، مهَّد ذلك الطريق إلى زيارتَين يوميًّا، لكنه لم يربط بين حالاتها العقلية وبين ارتباطها به، حتى عند استعادته للأحداث. أمَّا فرويد، وكما هو واضح، فقد نظر إلى الأمر نظرةً مختلفة؛ إذ يُعلِن للمرة الأُولى في مساهمته النهائية في كتاب «دراسات حول الهستيريا» عن مفهوم «التحويل»، وقد فعل ذلك دون الاستشهاد بالمثال الأوضح عليه؛ أي حالة آنا أو (١٩١٠، صفحة ٣٠٢). ولكي يظل متوافقًا مع نظرية بروير، تَقبَّل حالة آنا أو كنموذجٍ لحالةٍ يخبرنا أنه لم يَرَها شخصيًّا من قبلُ قَط، ويقصد حالة «الهستيريا التنويمية». وأضاف فرويد قائلًا: «لقد كانت الحالات التي أتولَّاها، [أيًا كانت]، يتبين أنها هستيريا دفاعية.»
بالنظر إلى المعلومات الأحدث التي كشف عنها إيلينبرجر، يمكننا لفت الانتباه إلى حدثٍ مُوازٍ حجبه إرنست جونز إثر فهمٍ خاطئ من جانبه لتسلسُل الأحداث التي رواها فرويد. كما ذكرتُ سابقًا، أَصبحَت زوجة بروير غاضبةً ونفد صبرها تجاه انغماسِ بروير مع مريضته، وقد أشرتُ إلى أن احتجاز آنا أو في المصحة في يوم ٧ يونيو ١٨٨١ كان نتيجةً لإصرار زوجة بروير أن يقضي زوجها مزيدًا من الوقت معها، وهكذا رحل الزوجان لبضعة أيام، وفي الشهر نفسه حَملَت الزوجة بابنتهما. كانت آنا أو مُقرَّبةً من دائرة معارفِ بروير ولا بُد أنها علِمَت بأَمرِ هذا الحمل، ربما بعد فترة من عودتها من المستشفى إلى منزلٍ جديد بفيينا في خريف ١٨٨١. ووُلِدَت طفلة بروير في مارس ١٨٨٢ بينما كانت آنا أو لا تزال تخضع للعلاج.
كانت تتذمَّر من مُرافقتها الإنجليزية التي لم تكن تعتني بها، وأَخذَت تصف بكل اشمئزازٍ دخولها إلى حجرة تلك السيدة ذاتَ مرةٍ ومُشاهدتَها لكلبها الصغير، وكان مخلوقًا بشعًا، وهو يشرب من كأسٍ هناك. (المصدر السابق، صفحة ٣٤)
يُركِّز بروير بشدة على هذه الواقعة؛ إذ كانت النموذج الأَوَّلي الذي بنى عليه طريقته في إرجاع الأعراض إلى أحداثٍ «صادمة» مُحدَّدة من الماضي؛ فعندما «استعادت» هذه الواقعة بغضبٍ وتقزُّز، انقضى رُهابها من الشُّرب. من وجهة نظرنا التحليلية النفسية، لا يبدو إعادة تفسير رُهاب الشرب هذا كردِّ فعلٍ إزاء خيالاتها حول زوجة بروير أمرًا بعيد الاحتمال؛ فهي زوجة الطبيب نصف الإنجليزية التي تُعطي للطفل الجديد لبنًا من ثديها. وربما تكون قد شاهَدَت وهي طفلةٌ لم تتجاوز ستة عشر شهرًا أمها وهي ترضع أخاها الحديث الولادة.
في ذلك الوقت دعاها بروير، الذي صار آنذاك يزورها مرتَين يوميًّا، لإخباره بأصلِ كلِّ عَرَض أو تغيُّرٍ مزاجي ينتابها خلال استدعاءِ ذكرى أو خيالٍ ما من الماضي. وقد أَطلَق على هذه الذكريات «نزواتها» في تقريره الأصلي عن حالتها عام ١٨٨٢ (إيلينبرجر، ١٩٩٣، صفحة ٢٦٨). وهكذا، اخترع كُلٌّ من آنا أو وبروير نظرية التطهُّر وعليه اختفت جميع أعراضها.
في مرحلةٍ ما قررت آنا أن علاجها يجب أن ينتهي تحديدًا يوم ٧ يونيو ١٨٨٢، الذي يُوافِق الذكرى السنوية لإيداعها المصحة. أعتقد أن آنا أو ظنَّت أن ذلك هو الوقت الذي حَملَت فيه زوجة بوير في طفلهما الجديد. وهكذا بَلغَت الحالة مرحلة الذروة أو الذروة المزدوجة؛ إذ كانت الذروة الأُولى مع نشر بروير لدراسة الحالة، بينما الذروة الثانية، أو الهبوط المفاجئ، مع ما أَسرَّ به لفرويد في صيف ١٨٨٣.
وقع المشهد الأخير من العلاج الرسمي حسب الموعد المُحدَّد، يوم ٧ يونيو ١٨٨٢. أعادت آنا أو ترتيب غرفتها بحيث تُماثِل غرفة أبيها في مرضه الأخير، ثم مَثَّلَت الهلوسة المُرعبة التي تعتقد أنها كانت البداية لمرضها في خريف ١٨٨٠: كانت جالسة بجوار سرير أبيها عندما رأت ثعبانًا أسود يزحف ناحيته كي يلدغه، وعندما حاوَلَت إبعاده، شُلَّت ذراعها وعندما نظرت إلى يدها، رأت أصابعها وقد تحوَّلت إلى ثعابينَ صغيرةٍ ذات جماجمَ في نهاياتها. وعندما اختفى الثعبان سيطر عليها الرعب، فحاوَلَت الدعاء لكن لغتها الألمانية لم تُسعِفها، فلَجأَت إلى ترتيل أبياتِ شعرٍ إنجليزية للأطفال تَذكَّرَتها في هذه اللحظة. في اليوم التالي لحادثة الهلوسة هذه، أحيا فرعُ شجرة مُعوَج في مُخيِّلتها ذكرى الثعبان وعلى الفور تصلَّبَت ذراعها اليمنى في موضعها. وكانت هذه الذكرى هي سبب أعراضها اللاحقة حسب النظرية الجديدة التي طَرحَها بروير، نظرية الصدمة، والتي أكَّدت فيما يبدو مفهوم التطهُّر أو «تنظيف المدخنة» الذي تَوصَّلا إليه معًا.
بعدما أعادت آنا أو تمثيل هذا المشهد لبروير يوم ٧ يونيو ١٨٨٢، أَصبحَت قادرةً على التحدُّث بالألمانية من جديد، وغادرَتها «اضطراباتُها التي لا تُعد» (المصدر السابق، صفحة ٤٠). عند هذه المرحلة تنتهي الرواية الرسمية لقصة آنا أو. أَمَّا النهاية الأخرى للقصة، فهي تلك التي رُوِيَت لفرويد في صيف ١٨٨٣ والتي أعاد سَردَها لجونز وأيضًا لستيفان زفيج في خطابٍ مُوجَّه له. بعدما غادر بروير آنا أو في آخر جلسةٍ لهما، استُدعي بروير من جديدٍ ليجدها مُشوَّشة وتُعاني من انقباضاتٍ حادة بالبطن، وعندما سألها ماذا بها، أجابته: «سأَلِد الآن طفل دكتور بي.» وقد علَّق فرويد على ذلك بقوله: «في تلك اللحظة كان بروير يحمل المفاتيح في يده ولكنه تركها تسقط»، وفَرَّ هاربًا من الغرفة في رعبٍ تاركًا المريضة إلى زميلٍ له (جاي، ١٩٨٨، الصفحات ٦٦-٦٧).
في الواقع، أدخل بروير آنا أو إلى مصحة بيلفو في مقاطعة كروزلينجن بالقرب من بحيرة كونستانس، وظلَّت هناك حتى أكتوبر ١٨٨٢. وقد احتُجِزَت مراتٍ أخرى في المستشفى لفتراتٍ قصيرة إلى حدٍّ ما إلى أن اصطَحبَتها أُمها لتعيش معها في مسقط رأسها، فرانكفورت، حيث تعافت وظلت بصحةٍ جيدة.
(١) مناقشة حالة آنا أو
أَودُّ الآن تقديم تفسيرٍ لحالة آنا كما أراها. في بحث حول «الواقع واللاواقع في الخيال والأدب القصصي»، أشرتُ إلى أننا كي «نتخيل الأشياء»، نحتاج إلى مساحةٍ عقلية مُتخيِّلة حيث يُمكن أن تقع تلك الأحداث المُتخيَّلة (بريتون، ١٩٩٥، الصفحات ١٢٠–١٢٧)، وهو المكان الذي نُطلِق عليه في اللغة الدارجة «مُخيِّلتنا». وقد ساويتُ هذه المساحة المتخيلة بما أطلقتُ عليه «الغرفة الأخرى» وأشرت إلى كونها في الأصل المكان الذي استمر فيه الموضوع الأَوَّلي في الوجود رغم غيابه ماديًّا. وبما أن أيَّ موضوع، حسبما أشرت، لا يمكن «تخيُّل» وجوده إلا في إطارِ موضوعٍ آخر، فقد كان ذلك الموضوع هو مكان المشهد الأَوَّلي الخفي للطفولة المُبكِّرة.
تلعب غُرف الآخرِين و«الغُرف الأُخرى» دورًا بارزًا في حالة آنا أو؛ فقصتها تبدأ في غرفة نوم أبيها، التي أدَّى طردها منها إلى انهيارها. ولو كان لي أن أرسم مُخطَّطًا لحالة آنا وفقًا لهذا الإطار، لَتخيَّلتُ أن البداية كانت من غُرفة نوم الوالدَين مع السُّعال وفقدان الشهية العصبي والضعف التدريجي الذي أصابها. لقد كوَّنَت آنا، عبر التماهي، توحُّدًا مميتًا مع أبيها المريض؛ فكان سُعالها مرتبطًا بموسيقى راقصةٍ سمِعَتها بينما تجلس بجوار سرير الأب المريض؛ ومن ثَمَّ أصبح سماع موسيقى إيقاعيةٍ يستثير السُّعال. أمَّا هلاوس الثعبان الأسود، فأحسبها رمزًا للموت عَبْر ممارسة الجنس، وأطراف أصابعها التي تحوَّلَت إلى جماجم هي نوعٌ مميت من الاستمناء، وهو ما انقطع مع إبعادها عن أبيها وعن غرفة الأبوَين، أمَّا إصابتها بالشلل التي أعقبت هذا الحدث، فتُعبِّر عن الافتقاد الطفلي للقوة الحركية، بينما تُجسِّد فوضى حركاتها وانقباضاتُ أطرافها المُتيبِّسة صورةً كاريكاتورية مشوهةً للزوجَين الأصليَّين أثناء ممارسة الجنس، بينما كان حديثها انعكاسًا لحركاتِ أطرافها، فكان طفوليًّا ومُشوَّشًا ومُتعدِّد المقاطع.
عند هذه المرحلة، أدَّى ظهور التحويل إلى تغيُّر الموقف؛ إذ أصبح بروير الآن شريكها في ممارسةٍ جنسية رمزية تعويضية على نحوٍ هوَسي، بينما أصبحت أمها وأخوها زوجَي التحويل السيِّئَين اللذَين تمكَّنَت في النهاية من محو وجودهما عبر الهلوسة السلبية. يبدو الآن أن بروير وآنا أو كانا يقطنان «غرفةً أخرى» خياليةً بوصفهما الزوجَين الأصليَّين يرويان «قصصًا خيالية». وانتهت فترة الهدوء والسعادة مع خطرِ رحيلِ بروير ودخول شخصٍ آخر في الصورة، وهو د. كرافت-إبينج.
كافح بروير ومريضته من أجل إعادة التوازُن السابق في مسار العلاج، لكنه اختل من جديدٍ مع إجازة بروير الصيفية التي امتدَّت لخمسة أسابيع. عندما عادت آنا إلى فيينا لكن في منزلٍ جديد، أعادت تأسيس شراكتها مع بروير، إلا أن علاقة آنا الوهمية به تطلَّبَت زيارتَين مُطوَّلتَين يوميًّا. بعدها أصبح لزامًا التعامُل مع ظرفٍ جديد، وهو حمل زوجة بروير وولادة الطفل؛ حينئذٍ محت آنا أو العام السابق عبر العودة إلى علاقتها السابقة مع بروير والإصرار على أنها موجودةٌ في حجرتها القديمة معه. وجاءت ذروة الأحداث مع حلول الذكرى السنوية لما تَصوَّرَت آنا أو أنه تاريخُ حملِ زوجة بروير، حين عَمدَت، في نسختها من حجرة الأب، إلى إعادة خلق الهلوسة التي أدَّت إلى نشوء مرضها الهستيري، في أداءٍ تمثيلي وحَّد الزوجَين في الجنس والموت؛ قضيب الأب الأسود يبث السُّم في صاحبه، والجماجم المُمثَّلة في الأصابع والتي تُعلِن عن موتها بسبب خيالات الاستمناء. أنقذت آنا نفسها عبر إعادةِ ترديدِ المقاطع الشعرية التي كانت تُغنَّى لها قبل النوم في طفولتها، وهكذا أعادت نفسها إلى حجرتها؛ أي غرفة الأطفال، وهناك استعادت لغتها الأم. أعقب هذه «الدراما التطهُّرية» استدعاء بروير مُجدَّدًا ليجدها قد عادت إلى «الغُرفة الأخرى»، وإلى هُويتها الأخرى، غارقةً في مخاضٍ هلوسي لولادة طفلهما الخيالي.
ربما كانت روايتي للأحداث ميلودراميةً بعض الشيء، لكن هدفي هو التأكيد على أن غرفة الكشف، حيث يجري التحليل النفسي، يمكن أن تستوطنها أحداث ينبغي أن تحدث في خيال المريض؛ أي «الغرفة الأخرى» في عقل المريض. عندما نضع أوهامنا وخيالاتنا في هذه «الغرفة الأخرى»، وهي غُرفة يُظهرها غيابنا المادي عنها، نقول إننا «نتخيل» أمرًا ما. إنها المساحة المُخصَّصة للأدب الخيالي. عندما نضع أوهامنا التي تنتمي في الأصل للخيال، خطأً، في عالم الفضاء الإدراكي، يُصبِح لدينا رؤًى يُنظر إليها، حين تكون خارج نطاق الأحلام، كهلاوس، كما في حالة آنا أو، أو تُعتبَر تجلياتٍ خارقة للطبيعة لآخرِين، كما في حالة ويليام بليك. فإذا كان لدينا الاستعداد لحصر تلك الخيالات في «الغرفة الأخرى»، يمكننا استخدام خيالنا، وهو ما فعلَته آنا أو قبل مرضها، فيما أطَلَقَت عليه «مسرحها الخاص» لأحلام اليقظة، حيث كانت تقضي وقتًا كبيرًا من اليوم.
لقد أَشرتُ فيما سبق إلى أن «الغرفة الأخرى» التي تُوجد في الخيال تظهر إلى الوجود على نحوٍ تطوري، عندما يُعتقد أن الموضوع الأَوَّلي لا يزال موجودًا رغم غيابه الإدراكي. إنها المكان الذي يمارس فيه الموضوع وجوده الخفي. وأعتقد أن الغرفة تُعتبر على نحوٍ لا يمكن تجنُّبه في علاقة مع موضوعٍ آخر وهو الذي يُعد شرطًا لوجودها. إن الغرفة الأخرى، بعبارةٍ أخرى، هي الموقع الذي يقع فيه «المشهد الجنسي الأَوَّلي» الخفي. وقد وَضعَت كلاين المشهد الجنسي الأَوَّلي في مركز الصدارة في تحليلاتها للأطفال الصغار؛ ففي تحليلها لإيرنا، وهي فتاة في السادسة، وَجدَت أن «المسرح والأداءات التمثيلية بشتى أنواعها ترمُز إلى الاتصال الجنسي بين أبوَيها» (كلاين، ١٩٢٤، صفحة ٣٩).
إن مرضى الهستيريا، كما أرى، ينغمسون في الفعل التمثيلي؛ أي يصعدون على خشبة المسرح ويلعبون دور أحد الوالدَين. وعبر ما يَتَضمَّنه التماهي الإسقاطي من وَهمٍ كُليِّ القدرة، يعتقد هؤلاء المرضى أنهم أحد الزوجَين الأصليَّين ويُمارِسون أيًّا مما يُصوِّر لهم خيالهم وقوعه في المشهد الجنسي الأَوَّلي المُتخيَّل. أتصوَّر أن هذا هو مُكوِّن الفعل الهستيري: تمثيل الوهم على أرض الواقع، كذلك الذي وُصف بوضوحٍ في حالة آنا أو. إن «مسرحها الخاص»، حيث تحيا أحلام اليقظة الخاصة بها، أصبح مُجسَّدًا في الواقع عبر دراما نفسيةٍ ترتكز على الجسد قامت بتمثيلها، وأشرَكَت فيها عائلتها وطبيبها في مَشهدٍ تحويلي بحت.
(٢) المناقشة والخلاصة
أتفِق مع أندريه جرين (جرين ١٩٩٧، الصفحات ٣٩–٤٢) في أن الهستيريا حالةٌ تحليلية نفسية مستقلة، ورغم وجود سماتٍ مشتركة بينها وبين اضطراب الشخصية الحدِّية، فإنهما مختلفان. إذا كان لي أن أطرح تعميمًا حول الاختلاف بين جوهر المتلازمتَين، فسيكون أن الأولوية لدى مرضى الهستيريا هي لادعاء «تملُّك الموضوع في عالم الحب»، بينما تنصَبُّ أولويةُ مرضى اضطراب الشخصية الحدِّية في ادعاء «تملُّكه الموضوع في عالم الإدراك»؛ ومن ثَمَّ يكون الإصرار في الهستيريا على التملُّك الحصري لحب المحلل النفسي، ما يُؤدِّي إلى نشأة «وهمٍ» تحويلي يتجاهل أهميةَ أيِّ واقعٍ آخر خلاف هذا الحب، ويطمس أي روابطَ عاطفيةٍ للمُحلِّل النفسي بأي شخصٍ آخر. أَمَّا في التحويل الحدِّي، فيكون الإصرار على فهمٍ كاملٍ للعلاقات والتفاعُلات مع المُحلِّل، مع طمس أيِّ شيء قد يُلمِح إلى استقاءِ المحلل النفسي معرفةً من أي شخصٍ آخر أو مُشاركتِه معرفةً ذاتَ قيمةٍ مع أي شخصٍ آخر.
ونتيجةً للاستخدام المختلف للتماهي الإسقاطي في الهستيريا ومتلازمة الشخصية الحدِّية، يكمن اختلافٌ تشخيصيٌّ رئيسٌ في تجربة المُحلِّل النفسي مع التحويل والتحويل المضاد، وهو موضوعٌ منفصل بذاته ويتجاوز نطاق هذا الفصل، لكن يكفينا القول إن الاختلاف ملحوظ. لقد وَصفتُ التحويل المضاد المميز في تحليلٍ لمريضةِ اضطراب الشخصية الحدية في مقال «الحلقة المفقودة» (بريتون، ١٩٨٩)، وهو يتسم بالشعور بالتقيُّد أو التعرُّض للاستبداد. في المقابل يشعر المُحلِّل النفسي مع مرضى الهستيريا بأنه ذو أهميةٍ خاصة ومكانةٍ مثالية، إلى أن يَتحطَّم النظام الدفاعي الهستيري لدى المريض. وتكمُن المخاطرة ها هنا في ظهور شراكةٍ تواطئيةٍ غيرِ واعيةٍ من الإعجاب المُتبادَل بين المُحلِّل والمريض.
ثَمَّةَ تغيُّرٌ كاملٌ في المشهد؛ كان الأمر أشبهَ بمشهدٍ من الخيال أوقفه الواقع فجأة، كأن يصيح أحدهم «حريق» في وسط عرضٍ مسرحي. إن طبيبًا يختبر هذا الموقف للمرة الأُولى لن يجد سهولةً في الاحتفاظ بسيطرته على عملية التحليل النفسي وتجنُّبِ وهمِ كون العلاج النفسي قد انتهى بالفعل. (١٩١٥، صفحة ١٦٢)
إن التأرجُح بين واقع المسرح والواقع المسرحي، بين واقع التحويل والواقع التحويلي، في هذه الاستعارة أجده مُبهِرًا بمعنى الكلمة، إلى جانب أنه يضع مشهد الفعل في المسرح الذي يُعد رمزًا، كما أشرتُ من قبل حسب منظور كلاين؛ إذ يرمز لوهمِ مشاهدة المشهد الجنسي الأَوَّلي. إذا كان الأمر كذلك، يصبح المكان المناسب للدراما هو خشبة المسرح ويصبح مكاننا المناسب بين الجمهور. أمَّا على مسرح «الهستيريا»، فمن المحتمل أن تتغلب الأحداث الواقعية التي تقع بين الجمهور على تلك التي تُعرَض على خشبة المسرح.
أرى أن أحد الأمور التي شجَّعَت فرويد على كتابة هذا البحث هو معرفته بما حدث في تحليل يونج النفسي لسابينا سبيلرين. لا بد أن التشابُك الجنسي بين التحويل والتحويل المضاد في تلك الحالة قد ذكره ببروير وبيرثا بابنهايم، ليشعر فرويد من جديد بعجزه عن التصريح علنًا بأمرٍ كان له عظيم الأثر على قناعاته، من أن ثَمَّةَ تشابُهات بين آنا أو وسابينا سبيلرين، لا سيما التفاعل بين الحب والموت. فقد كانت سابينا سبيلرين هي أَوَّل من كتب عن وجود دافعٍ تدميري أولي في عام ١٩١٢ (سبيلرين، ١٩١٢).
طالما جَمعَتِ الدراسات التحليلية التي تناوَلَت حالة آنا أو بين الجنس والموت. والدور الذي تلعبه غريزة الموت في العُصاب موضوعٌ خارج نطاق هذه الدراسة التي حاولتُ أن أقصرها على الجنسانية في الهستيريا. ومع ذلك، يجِد الموضوع طريقه إلى المناقشة؛ لأنه في حالات الهستيريا يتحد الجنس مع الموت على نحوٍ مميز فيما أراه «منظومة مرضية» (ستاينر، ١٩٨٧) تُعبِّر عن دافعَي الجنس والتدمير في صورة وهمٍ يصبح فيه المريض أحد الزوجَين الأصليَّين عبر التماهي الإسقاطي. قد يُمثِّل ذلك المشهد الدرامي التوحُّد الجنسي في شكل تخيُّلٍ شهواني لموتٍ مُتبادَلٍ للطرفَين. وأرى أن تلك الخيالات المُجسَّدة تمثيليًّا تحمي الفرد من ألمِ إدراك واقع الموقف الأوديبي أو الإحساس بالذنب المُرتبِط بطمسه.