الملاحظة الإكلينيكية، والبناء النظري، والفكر الميتاسيكولوجي
لذا أكَّد جونز؛ تلميذ فرويد المخلص، أنه قد التزم بعلمِ ما وراء النفس الفرويدي. غير أنه من الواضح تمامًا، من وجهة نظرنا كقُرَّاء، أن «الاقتناع الراسخ لم يكن موجودًا». وهكذا نفهم لماذا كرَّس جونز هذا الفصل لإعادة بناء حبل الأفكار الذي قاد فرويد لهذا الموقف الفكري الغريب، بدلًا من التعليق على نطاقه العلمي. وعن طريق هذا التحوُّل، الذي يُعَد علامةً واضحة على الأمانة الفكرية للرجل وعلى حزمه وصلابته، أشار جونز إلى الطريق الوحيد الممكن للوصول إلى فهمٍ حقيقي مُتعمِّق لهذه الأداة الميتاسيكولوجية؛ فهي لن تكون قابلة للنقل على نحوٍ مباشر كبعض أنواع المعرفة التقليدية؛ ولا يمكن فصل بنيتها عن مسارٍ فكري متفرِّد، حتى إنها ستكون التعبير المُتفرِّد لهذه الذاتية؛ والتعبير عنها لفظًّا من شأنه توضيح الأَثَر غير المباشر الذي ظل في عقل (روح) المُؤلِّف بجهدٍ فكري خاص؛ ولكي يمكن لشخصٍ آخر الاستئثار به وامتلاكه، يجب عليه تَكرار الابتكار بشكلٍ ما وإعادة صياغة النموذج في بوتقة جوهره النفسي. لقد تحدثتُ عن أداة، مُفكرًا في الفاعلية التي يجلبها عِلمُ ما وراء النفس الصارم لفهم الحياة النفسية. وحتى في هذه الحالة، فإنها ليست الكلمة المناسبة؛ فليست المعرفة نفسها، بل التحوُّل الذي يحدُث للعقل، هو الذي يحمل نوعًا بعينه من المعرفة ويجعله فعَّالًا. إنه يُمثِّل للمعرفة ما تُمثِّله اليد للأداة.
بالإضافة إلى ذلك، أثبت جونز، من خلال إعادة بناء مسار الفكر الفرويدي، غزارة ما لديه من معلومات وثقافة. فقد كتب يقول: «كان الظهور الأَوَّل لكلمة «ما وراء النفس» بقلم فرويد عام ١٨٩٦ في مشروع لعلم النفس العلمي.» تُسلِّط هذه التفصيلة ضوءًا جديدًا على معنى هذا النص الإبداعي الذي لا يُقرأ كثيرًا بسبب صعوبته وإحكامه، لكنه يكشف عن نفسه، في هذا الضوء، كأَوَّل تفكيرٍ ميتاسيكولوجي انخرط فيه فرويد، وكنموذجٍ ميتاسيكولوجي يتعلق «بالقَبْلِية» والذي كان يشبه في ذلك الوقت — في بداية بحثه — مجموعةً من الفَرْضيات والحَدْسيات المختلفة المستعارة من العلوم القريبة لكنها على أي حال دخيلةٌ على علم الأعصاب والفسيولوجيا وعلم النفس القديم، مُوجهًا تلك العلوم نحو المجال الجديد الذي فَتحَته ملاحظاته التحليلية، وجاعلًا من الأمر برمته نظامَ تفكيرٍ فعَّال يُمكِّنه من ابتكار — أو اكتشاف — التحليل النفسي ومنهجه. وهنا أُشير إلى علم ما وراء النفس المتعلق بالقَبْلِية حينما يتوقع ويُجيز الملاحظة الدقيقة للحقائق التحليلية.
بعد ذلك، ونقلًا عن جونز أيضًا، اختفت هذه الفكرة من الكتابة لتُعاوِد الظهور مرةً أخرى في عام ١٩١٥. في ذلك العام، كتب فرويد في عُجالةٍ شديدة (ويمكن الاستنتاج من الطبيعة المحمومة للكتابة أنها من مصدرٍ ارتجالي) سلسلةً من المقالات أراد بها، كما قال، «توضيح وتعميق الفرضيات النظرية التي يُمكِن عليها إقامة نظامٍ للتحليل النفسي» (فرويد، ١٩١٧ [١٩١٥]، صفحة ٢٢٢). من بين تلك المقالات، أتلف مقالاتٍ بعينها (وهو فعلٌ غيرُ معتادٍ يمكننا من خلاله استنتاج العلاقة الفريدة والعاطفية التي جَمعَت المؤلف بهذا النوع من العمل) ونَشَر خمسة فقط جَمعَها تحت عنوان «علم ما وراء النفس» ضمن أعماله الكاملة. تُناقش هذه المقالات الغرائز، واللاوعي، والكبت، والأحلام، وثنائية الحداد والاكتئاب؛ ومن ثَمَّ تقطع هذه المقالات شوطًا كبيرًا نحو الإطاحة بورشة العمل التي افتتحها قبل عشرين عامًا، وكانت تلك الفترة تتسم بالعمل المُكثَّف عندما طوَّر فرويد الموارد المُتأصِّلة في منهجه التحليلي لأقصى درجة، وصَقَل أسلوب العلاج وحقَّق تطوُّراتٍ نظريةً حاسمة في تحقيق الأماني، والهلوسة، والوهم، وآليَّات الدفاع النفسي. ثم تَوقَّف فرويد هناك، كمهندسٍ معماري ينظر إلى البناء الذي يُشيِّده عن بُعد، لتقييم صلابته ومتانته في ضَوءِ منظوره الخاص.
الآن وبأخذ التحفُّظ الذي أثاره هذا «التأمُّل» الميتاسيكولوجي لدى جونز — ولدى معظم أوائل أتباع فرويد — في الاعتبار ربما نتساءل إن كان قد أتاح حقًّا «نظامًا تحليليًّا» يحوي نوعًا من الترابُط الإضافي. بالقطع كان فرويد راغبًا في تصديق ذلك وتأكيده. لنستمع إليه وهو يستدعي نظامَ ما وراء النفس بامتياز والمُمثَّل «بوجهاتِ نظر» يُصبِح من خلالها تعقيد الأنظمة النفسية قابلًا للإدراك والتمييز:
بقبولِ وجودِ هذَين النظامَين النفسيَّين (أو الثلاثة)، ابتعد التحليل النفسي خطوةً عن «علم نفس الوعي» ذي الطابع الوصفي، وأثارَ مشكلاتٍ جديدة واكتسب محتوًى جديدًا. حتى ذلك الوقت، كان اختلاف التحليل النفسي عن ذلك النوع من علم النفس يُعزى بالأساس إلى نظرته «الديناميكية» للعمليات العقلية؛ أمَّا الآن، وبالإضافة إلى ذلك، فيبدو أنه يأخذ في الاعتبار «الطبوغرافيا» النفسية كذلك، ويُشير، فيما يتعلق بأيِّ نشاطٍ عقلي، بموضع حدوثه داخل نظامٍ ما أو بين أنظمةٍ بعينها. وبناءً على هذه المحاولة كذلك، أَطلَق عليه اسم «علم نفس الأعماق». (فرويد، ١٩١٥ب، صفحة ١٧٣)
ولاحقًا:
نحن نرى كيف دُفِعْنا تدريجيًّا لتبني وجهةِ نظرٍ ثالثة في وصفنا للظواهر النفسية؛ فإلى جانب وجهات النظر الديناميكية والطبوغرافية، تبنَّينا وجهة النظر «الاقتصادية»، والتي تسعى بدورها إلى متابعة التغيُّرات التي تطرأ على كمِّ الإثارة والوصول، على الأقل، إلى تقديرٍ «نسبي» ما لحجم تلك التغيُّرات.
لن يكون من غير العقلاني منحُ اسمٍ خاص لهذه الطريقة المتكاملة في النظر لموضوعنا؛ إذ يُمثِّل هذا تتمة أبحاث التحليل النفسي. أقترح أنه عندما ننجح في وصف أيِّ عمليةٍ نفسية بجوانبها الديناميكية والطبوغرافية والاقتصادية، يجب أن نتحدَّث عنها كتمثيل «ما وراء نفسي». (فرويد، ١٩١٥ب، صفحة ١٨١)
على الرغم من ذلك، دعونا نُشِر إلى أن فرويد قد أضاف من فوره لهذه الفقرة تعبيرًا عن الشك: «يجب أن نقول فورًا إنه في الحالة الراهنة لمعرفتنا، ثَمَّةَ نقاطٌ قليلة فقط سننجح عندها في تحقيق هذا» (فرويد، ١٩١٥ب، صفحة ١٨١). يتَّحِد التركيز الفكري النقدي الذي أضافه فرويد لِعلمِ ما وراء النفس الخاص به مع التحفظ الذي شَعَر به جونز ومُحاوِروه الأوائل؛ فمن المحتمل أنهم لم يُدرِكوا فائدةَ هذه «الإضافة الأخيرة»، ونظروا إليها كتعقيدٍ بكلِّ ما في الكلمة من معنًى، وإضافةٍ زائدةٍ عن المطلوب وأَمرٍ مُجرَّد للغاية جاء للتعتيم أو التشويش على جوهرِ تحليلٍ نفسي عمليٍّ التزموا به بحماسٍ واعتبروه كافيًا إلى حدٍّ كبير. على الرغم من ذلك، وفي ضَوء قراءةٍ عصرية، على سبيل المثال، فإن الوضوح الذي يُضفيه مفهوم الغريزة على فهم العمل وتطوُّر الجهاز النفسي هو وضوحٌ يَسهُل فهمه. بالمثل، يتيح مفهوم التماهي، إلى جانب مساهمته في حل المُعضِلات المساهمة في الانهيار الاكتئابي وآلية الحزن، فهمًا جديدًا لحركات الوهم ونُشوء الأنا (طالع شابيه، ٢٠٠٠). وقد منحت هذه الأبحاث الخاصة بعلمِ ما وراء النفس، وكما كان فرويد على حق في اعتقاده، ترابطًا مؤكدًا للنظرية التحليلية.
لكن ليس هذا هو كل شيء؛ فقد ساهمت هذه الأبحاث في زعزعة استقرار النظرية، أو على الأقل جَعلَتها موضع إشكالية؛ فالقارئ لأيٍّ من هذه الأبحاث بانتباهٍ متواصل سرعان ما سيكتشف إلى أيِّ مدًى يأخذ هذا التفكير فرويد بعيدًا عن النطاق الإكلينيكي إلى درجةٍ تجعله غائبًا عن ناظرَيه تمامًا؛ لكنه كذلك يكتشف كيف تخرج الفكرة للحياة، من خلف الشكل المثالي الذي لا تشوبه شائبةٌ، الذي يُضفيه فرويد على هذا المفهوم أو ذاك (الغريزة، على سبيل المثال، بتعريفها الرباعي طبقًا لنطاقها وغايتها وهدفها ومصدرها)، بتطرُّف ومغالاة، وهو فِكرٌ يمكنني القول إنه ينخرط مع موضوعه على نحوٍ يتجاوز مجرد تفسيره؛ فكر يجب أن يتماهى مع موضوعه ويخضع لمتطلباته، لكي يتحرَّر من غموضه وغرابته ومنحه تمثيلًا رسميًّا يمكن تَلقِّيه بواسطة الإشارات والرموز. إن الكتابة في تلك الأوراق البحثية مُتقلِّبة؛ فنجدها تتقدم وتتراجع تباعًا، وأحيانًا تكون مفاجئة وغير مُتوقَّعة، كما لو كان من غير الممكن، على سبيل المثال، تفسير الغريزة التي تتحدث عنها إلا بالاستسلام لما تنطوي عليه من تضارُبات وتقلُّبات وعنف.
ونحن هنا، من وجهة نظري، نتناول نقطةً ضرورية في الكتابة الميتاسيكولوجية، تُبرِّر التشابُه المذكور آنفًا مع الكتابة الشعرية؛ فهي كتابة تدعم وتُحدِّد حركات الروح الأساسية؛ كتابةٌ «رمزية» ستكون مثل الأَثَر الصلب للتحوُّل النفسي الذي أخضع المؤلف نفسه له ليجلب واقع هذه الأعماق النفسية إلى الإدراك الواعي ويفرضه على أناه، تلك الأعماق التي لا يمكن لأكثر التجارب التحليلية حدةً وعمقًا منحها للملاحظ تلقائيًّا … إنها كتابةٌ فريدة من نوعها، تقوم على الاستدعاء أكثر من كونها قائمةً على إثارة العواطف والذكريات؛ إذ تدعو إلى، وتتطلب، قراءةً فريدة بالقدْر نفسه قائمةً على التقمُّص والتعاطُف وانخراط لا وعي القارئ في لا وعي المُؤلِّف. نحن لا نقرأ النصوص الخاصة بعلمِ ما وراء النفس على النحو الذي نقرأ به كتبًا مثل «التحليلات النفسية الخمسة» أو «تفسير الأحلام»؛ ليس لأنها أكثرُ صعوبة أو أكثرُ تجريدية، أو تستعصي على الفهم، أو تتطلب جهدًا لحفظها في الذاكرة، بل لأنها تُجبِر القارئ على مواجهةِ غرابةِ ما تشهد عليه أكثر من صياغته فعليًّا: غرابة السوداوية التي تصبغ أي حركة تماهٍ من جانب الأنا؛ وغرابة تحركات اللاوعي التي تختفي بمجرد أن تظهر؛ وغرابة الشعور الذي بمجرد ظهوره، يجعل الأنا تتأرجح بين اللذة والألم. إن المكانة الخاصة التي يحظى بها علمُ ما وراء النفس في قلب أعمال فرويد تعزو أساسًا إلى حقيقةِ أنَّ هذا الإنتاج العقلي مُشبَعٌ بالغرابة؛ وهي غرابةٌ يجب أن نحتاط من استيعابها إذا أردنا أن نبقى فعَّالين ومُؤثِّرين؛ وأخيرًا هي غرابةٌ تقدِّر التقارُب المُحيِّر الذي تحمله مع ما يحب فرويد أن يُسمِّيه «علم نفس الأعماق».
•••
لذا عندما يحجِّم فرويد في المقولة السابقة مكانةَ علمِ ما وراء النفس مختزلًا إياه في حقيقة أنه قادر على «وصف» عمليةٍ نفسية في جوانبها الديناميكية والطبوغرافية والاقتصادية» (فرويد، ١٩١٥ب، صفحة ١٨١)، لا يسعنا إلا الإقرار بهذه القُدرة، مع التحفُّظ على طابعه العقلاني والفكري الزائد عن الحد الذي يُراوِغ ما يحتويه مثلُ هذا الفكر كأساسٍ من حيويةٍ إبداعية وتحويلية. في الواقع، وفي ذلك العام وكما يَتذكَّر جونز: «عندما كتب فرويد مقالاته المهمة عن علمِ ما وراء النفس في ربيع عام ١٩١٥، شعر بأنه أَكملَ عملَ حياته، وأن أيَّ إسهاماتٍ إضافية قد يُقدِّمها ستكون ذاتَ مكانةٍ ثانوية وتكميلية فحسب» (جونز، ١٩٨٣، صفحة ٢٨٦). لقد كانت هذه المقالات في علمِ ما وراء النفس، بالنسبة له، تمتلك بالفعل قيمة الفهم اللاحق التي مثَّلتِ التأمُّل المُطلَق، واضعةً بذلك ترتيبًا للافتراضات أو المُقدِّمات الأساسية للملاحظة والتحليل، وواضعةً الأساس النهائي للبناء النظري-الإكلينيكي للتحليل النفسي، ولكن ما لم يكن فرويد يدركه هو درجة الاستقلالية التي سيكتسبها هذا العلم بمجرد إطلاقه فيما يتعلق بالتجربة المباشرة؛ فما لم يقِسْه فرويد هو إلى أيِّ مدًى اكتسب فكرُ ما وراء النفس مكانته باعتباره انعكاسًا حقيقيًّا لِبِنيةِ اللاوعي، مدفوعًا في ذلك بنوعٍ من تحويل حركات الغريزة والتمثيل التي تُفعل لدى الباحث من خلال التجربة أو الكتابة، ليكتسب بذلك استقلاليةً من شأنها أن تحافظ على إلهامه حيًّا، ويصبح، بعد تأسيس الصرح الحالي، علمَ ما وراء نفس قَبْلي يتطلب إعادة تأسيس فورًا. من المؤكَّد أنه لا يوجد تعريفٌ حاسم لعلمِ ما وراء النفس خلاف أن يكون الدعوة للعمل المفروضة على الباحث النظري، على نحوٍ يشبه الغريزة بالنسبة للنشاط النفسي، بفعل الاهتمام بخلق تجربةٍ تحليليةٍ أكثر ترابطًا.
كتب جونز يقول: «خلال السنوات الثلاث أو الأربع [التي تلت عام ١٩١٥] — والتي كانت أحلكَ سنوات الحرب — ظل عقل فرويد غيرَ مُنتِج نسبيًّا»، مضيفًا: «فقد كانت الحياة اليومية البائسة هي شغله الشاغل» (جونز، ١٩٨٣، صفحة ٢٨٦). صحيحٌ أن تلك السنوات كانت بالنسبة إلى فرويد «سنوات حالكة»؛ فقد اتسمت بفترات اختبارٍ عاصر خلالها الحزن لفقدانه لأصدقاء مُقرَّبِين، كما اتسَمَت بالقلق على حياة أبنائه الذين انتقلوا إلى جبهة الحرب، وبالقيل والقال، وفقدانه لأفضل جزء من مرضاه، وانفصال أعز أتباعه ومُراسلِيه من الخارج، وبالسخط العام الذي تأجَّج بداخله بسبب عودة البربرية التي تولَّى تنظيمها «أكبر أمتَين مُتحضرتَين في أوروبا» معًا. لكن يبدو لي أن من الممكن الوثوق في قوة فرويد الفكرية ثقةً كافية وتشبثه بالإيمان بأن هذه «الأحداث» الخارجية، مهما كانت رهيبة، غير مسئولة في حد ذاتها عن صمت فرويد.
ما يلي هو تأمُّل (هكذا كتب في مستهل الفصل الرابع)، وهو تأمُّلٌ مُستبعَد في الغالب، سيأخذه القارئ في اعتباره أو يصرف النظر عنه تبعًا لميله الشخصي. الأكثر من ذلك أنه بمثابةِ محاولةٍ لتتبُّع فكرةٍ ما على نحوٍ مُتَّسِق، بدافع الفضول، لنرى إلى أين ستقودنا. (فرويد، ١٩٢٠، صفحة ٢٤)
وقد عَنوَن فرويد النص «ما وراء مبدأ اللذة». من المُؤكَّد أن جاذبية التأمُّل الخالص — أي التأمُّل المُتحرِّر من القيود المُتأصِّلة في الملاحظة المباشرة وكذلك من التصنيفات التقليدية للمنطق السليم — هي ما دَفعَت فرويد للانتقال من حقائق الملاحظة التحليلية (والمُفصَّلة بدقة في هذا النص) إلى مكانٍ يقبع «وراء» كل مظاهر التعبير النفسي (كعالم الغرائز الذي يُفصِّله بتصويرٍ بنفس الدقة) وهو ما يمنح هذا النصَّ غرابته. وأمام هذا التقدُّم غير المتوقَّع في التفكير الفرويدي هنا، وأمام ما اتَّسَم به من طابعٍ تأمُّلي مُفرِط، وكذلك الخطر النفسي غير المسبوق الذي يَتكشَّف هنا، مثل نبوءة، عن طريقِ بناءِ غرائز الحياة والموت (فما يبدو خطرًا على الحياة يبدو كذلك خطرًا على الفكر)، خرج «تحفُّظ» أتباع فرويد، قبل أن يُقاس فيما بعدُ، خرج إلى النور بدون تحفُّظ. وقد قام جونز — وهذه حقيقةٌ طريفة — بتقييمه على نحوٍ منهجي فقال: «وهكذا، ومن بين الأبحاث التي كرَّسوها منذ ذلك الحين لمناقشة هذا الموضوع، والتي بَلغَت خمسينًا أو نحو ذلك، يُلاحظ أنه في العقد الأول دَعمَ نصفهم فقط نظرية فرويد، وفي العقد الثاني ثلثهم فقط، وفي العقد الأخير، لم يعُد ثَمَّةَ من يدعمه تمامًا» (جونز، ١٩٨٣، صفحة ٢٨٧).
في مَعرِض تعليقه على نصِّ «مقدمة عن النرجسية»، يُوضِّح جان لابلانش بأسلوبٍ مُقنِع تمامًا كيف يجب فهم مصطلح المقدمة؛ ليس بالمعنى «المجازي» — والتقليدي — لإضافةٍ مفاهيمية من شأنها أن تُثري ترسانة النظريات بأداةٍ «تكميلية»، بل بالمعنى المادي البحت الذي يَتعلَّق بإخضاع البناء النظري الموجود مُسبَّقًا بالقوة لفكرةٍ تهدف لزعزعة استقراره وجعله ينطوي على مشكلاتٍ وغرسِ بَذرةٍ لهذه الفكرة بداخله. وعلى نحوٍ مُشابه لمفهوم النرجسية، يكشف مفهومُ غريزة الموت عن نفسه من هذه الزاوية ليس كمفهومٍ إيجابي يتصل بشيءٍ نفسي على النحو الذي ورَد في كتاب «اللاوعي» من أن تمثيلَ شيءٍ ما يرتبط بتمثيلِ كلمةٍ ما، بل كأدواتٍ تضع الجهاز النظري في حالة توتُّر، أو كأدواتِ فكرٍ بدون أي علاقاتٍ «ضرورية» بأي وجودٍ ولكنها تبني بدلًا من ذلك واقعًا مختلفًا وتُوجِده؛ واقعًا ثوريًّا على نحوٍ مختلف، يتعلق بالقياس المُطلَق المُسيطِر على العلاقات بين الواقع النفسي والجهاز النظري الذي يُمثِّله.
وعلى الرغم من ذلك، فهذا لا يعني أن غريزة الموت، كالنرجسية، ليس لها وجود؛ فستكون هذه بمثابة حُججٍ سخيفة، أو مجرد حُججٍ في غير محلها، تستدعي دحضها في الحال. لكن هذا لا يشير إلى أن هذه الأفكار تميل لحكم العزو أكثر من حكم الوجود، ولا تُشير إلى أشياءَ في حدِّ ذاتها بقدْر ما تُشير إلى ميول أو توازناتٍ نفسية؛ فهي تُفسِّر أنماطًا مُحدَّدة من النشاط الوظيفي النفسي تنشأ في لحظةٍ مُعيَّنة من تطوُّر الجهاز؛ حيث تُخرِجه من حالةٍ سابقة من خلال زعزعةِ نظامه، بما يُزيح مصالحه عن المركز ويُعقِّد هيكله التنظيمي. لننظر إلى مفهوم النرجسية الذي يقيس حالةَ تطوُّر الجهاز، مشيرًا لاتجاه المسارات الشهوانية وتوزيع طاقاتها النفسية الشهوانية بين الأنا والموضوع، مثل بوصلةٍ تنجذب إبرتها مغناطيسيًّا تجاه أعلى قطبٍ للجهاز النفسي؛ فهي تسمح في الوقت عينه بملاحظة «حالات التبعية» المنسوبة إلى الأنا، بسبب موضعها المركزي من الآن فصاعدًا داخل النفس، مُصطدِمةً بذلك بالواقع (الواقع الخاص بالموضوعات على نحوٍ أساسي)، والهو، والأنا العليا. إن مفهوم النرجسية يقيس تقويةَ وتدعيمَ الجهاز في مهمته الثلاثية، التي تشمل بناء الهُوية الذاتية، والحفاظ على ارتباطه بتجربة الوهم اللاواعية، وتحقيق التواؤم مع الواقع الخارجي، ويقيس كذلك النكوص المُحتمَل الذي يُصيب هذا الجهاز والذي سيظهر بالضرورة، في «مرحلة التجلِّي»، كمرضٍ نفسي. وما نُسميِّه «أمراضًا نفسية نرجسية» — وهي تسمية قد تكون خاطئةً لأنها تُعَد رؤيةً مُضلِّلة — تُخفي في الحقيقة الاختلالات المتعددة التي يمكن أن تُؤثِّر على أداء هذا البناء الشديد التعقيد لوظائفه.
على العكس، بل في تناقضٍ تامٍّ للتطوُّر الذي يصل لأَوْجِه في هذا النوع من النرجسية، فإن غريزة الموت تُشير إلى ما كان يجب على الجهاز إبعاد نفسه عنه كي يتمكن من التطوُّر، المتمثل في مجموعة القوى البدائية الغامضة وغير المتمايزة (التي تتجلى بالفعل في القصور الذهني)، والصامتة تمامًا (لأنها تسبق أي لغةٍ أو إشارة) التي كان من الممكن أن يظَل مُتعذِّرًا التحقُّق من أصلها تمامًا لولا أنه لا يُوجد ما يعوق الروح البشرية، في جوهرها، على إنشاء أصلٍ لذاتها. وهذا فقط ما وافق عليه فرويد في كتاب «ما وراء مبدأ اللذة» وكذلك في كتبٍ أخرى تالية؛ فقد قَبِل فرويد، ليس فقط بلا مقاومةٍ بل بشجاعةٍ كذلك، بعزو هذا الأصل على نحوٍ محايد — محافظًا بذلك على شيءٍ من طبيعة هذا النطاق البحثي غير القابلة للتحقق منها في المجال النظري — إلى الجسد (وهو ما يُبرِّر السمة الغريزية للنشاط)، وإلى المدار الأصلي الساكن (الذي ستشتق منه الغريزة مَيلَها لإعادة بناءِ حالةٍ سابقة)، وأخيرًا إلى أُسسِ تطوُّرِ سُلالات الجماعة البشرية — القطيع البدائي وقتل الأب (الذي تستمد منه الغريزةُ العنفَ المرتبط بها وكذلك قُوَّتَها الدلالية).
من الطريف أن نشير، في ضوء قراءتنا لكتاب «ما وراء مبدأ اللذة»، الذي ربما يجده البعض دقيقًا أكثر من اللازم، إلى أن فرويد لم يكن مُنغلقًا تمامًا على فكرة أن علمَ ما وراء النفس — حتى في ضوء هذه النسخة الكئيبة من النص — كان ينتمي لذلك النظام الحاذق والثمين للروح التي هي اللعب. وقد استخدم بشكلٍ عارض خلال الحديث عن تأمُّله وعن لعبه بكرة القطن الخطاب المجازي نفسه: في الحالة الأولى، وبرغم إدراكه أنه كان مدعومًا بفكر بعض الأسلاف البارزِين، من بينهم فيخنر وبروير، فقد كتب يقول: «ليس من شأننا في هذا السياق التساؤل لأيِّ مدًى تناولنا، بواسطة هذه الفرضية الخاصة بمبدأ اللذة، أو تبنَّينا نظامًا فلسفيًّا راسخًا تاريخيًّا أيًّا كان» (فرويد، ١٩٢٠، صفحة ٧). وفي الحالة الثانية، كان مدركًا أيضًا أن هذه اللعبة الحاذقة والتي تُمارس في عمر السنة ونصف السنة «مرتبطة بالإنجاز الثقافي الكبير للطفل»؛ حيث قال: «الأمر بالطبع لا يتعلق من وجهة النظر التي تحكُم على الطبيعة الفعَّالة للعبة سواء كان الطفل هو من ابتكرها أو مارسها بناءً على اقتراح خارجي» (فرويد، ١٩٢٠، صفحة ١٥). إن اللُّعبة، بالنسبة إلى الطفل والرجل، بالتأكيد شيءٌ مُعقَّد وخطير مثل علمِ ما وراء النفس بالنسبة إلى المُحلِّل النظري. ويجب أن يكون علم ما وراء النفس دائمًا بالنسبة إلى الأخير مصدرًا للمتعة والتحرُّر كما هو اللعِب بالنسبة إلى الطفل: شيءٌ ما بين التملُّك والاستكشاف.
•••
وبفضل قراءةٍ لكتاب «مبدأ ما وراء اللذة» — وهي قراءةٌ تمَّت بناءً على منظورٍ مُستمَد من قراءةٍ متزامنة لباقي نصوصِ علمِ ما وراء النفس — لدينا الآن قواعدُ صُلبة للتمييز على نحوٍ أوضح بين الحقيقة التحليلية والمفهوم النظري وما سأُسمِّيه «الأداة ما وراء النفسية» لعدم وجودِ مُصطلَحٍ أفضل. الحقيقة التحليلية واضحةٌ لكلٍّ منا: ظاهرةٌ تعرضها الملاحظة الدقيقة كشيءٍ متعارض مع فهمنا المباشر؛ نظرًا لأنها تبدو وكأنها تُعكِّر المسار الطبيعي للحياة أو تقلب المنطق الذي نُضفيه عليها عفويًّا؛ ظاهرةٌ تُؤثِّر إمَّا في الجسد (كعَرَضٍ هستيري على سبيل المثال)، أو الحياة النفسية (حُلم أو حالة من الارتباك)، أو السلوك (ضلالات أو وسواسٍ قهري)، أو أسلوب الخطاب (تكلُّفٍ في الحديث أو زلةِ لسان). وهكذا نرى أن نطاق هذه الظواهر عريضٌ للغاية ولا يملك أي وحدةٍ خاصة به، وما يجمعها معًا أنها تُستنسخ بتكرارٍ ملحوظ لدى فردٍ معين، وعلى نحوٍ متطابق على اختلاف الأفراد، وأن ظروف ظهورها واختفائها اللاحق — مثل الظروف الخاصة التي تُحابي الجيل الذي ينتمي إليه أولئك الأفراد — تدفع للاعتقاد بأنها تسير وفقًا لقوانينَ بعينها يُطالَب المُلاحِظ لاحقًا باكتشافها.
هذه إذن حقائقُ خاصة بالملاحظة: بعضها كان يمكن تجاهُله حتى يراها أحدهم ويُسمِّيها ويصفها؛ وهذه هي الحالة التي أطلق عليها فرويد «رد الفعل العلاجي السلبي» (فرويد، ١٩٢٣، صفحة ٤٩)، وهو أمر سنُناقشه بعد قليل، ويُفسِّر سلوكياتٍ بعينها يُظهرها المرضى — أثناء العلاج وفي إطارٍ علاجيٍّ عام — تلك التي تميل لتحريف الموقف المعروض أمامهم — والمتمثل في البحث عن طريقةٍ للتحسُّن — نحو الإبقاء على حالتهم الوجودية كمرضى. ثَمَّةَ حقائقُ أخرى ربما كانت معروفةً لوقتٍ طويل ومسلَّمًا بها ولها أسماؤها الخاصة بدون إدراك غرابتها، أو تبيُّن المعضلة النفسية التي تحملها. لذا؛ ولكيلا نبتعد عن فرويد، كانت الدعابة قبل زمنه يُساء فهمها تمامًا فيما يتعلق بطبيعتها كفعلٍ قهري أدَّى إلى تكوين أوثق الروابط مع عمل اللاوعي، ولم يكن الحُلم، الذي كان يعتبر ناتجًا ثانويًّا لحالة النوم، أو عمليةً سحرية، يبدو لأي شخصٍ كمُنتَجٍ نفسي مُعقَّد من المُرجَّح أن يُقدِّم توضيحًا حاسمًا لأداء العقل لوظائفه. لذا، فالأمر ليس فقط مسألةَ حقائقَ تفرضها التجربة على الملاحظ؛ فمن الضروري، لكي تتحول تلك الحقائق إلى معرفة، أن يستثمرها بقدْرٍ كافٍ من الانتباه والفضول لاختراق حاجز اللوم الذي يفرضه الضمير والذي يدفع بها لتُصبِح عديمة الأهمية.
ومثل أي تصنيف، فإن ما أعرضه هنا لا يتجاوز هيكلًا تكوينيًّا بعينه؛ فالحذَر الذي يقود الملاحظ لتحديد ظاهرةٍ بعينها، وإعدادها كحقيقةٍ تحليلية من خلال فصلها عن تيار الأحداث النفسية الذي يجعل خصوصيتها تميل للتلاشي، هو نفسه الحذَر الذي سيقوده لكشف الغموض الذي يكتنفها. ويتألف العمل النظري الذي يكمل الملاحظة من إلغاء التفرُّد الذي يُميِّز الحقيقة المُحدَّدة وكشف مدى وثاقتها (أو تعارُضها) مع الحقائق المشابهة الأخرى لاختيار المبدأ النفسي الذي تتشارك هذه الحقائق المختلفة في إظهاره. وسينتهي هذا العمل الفكري بتحديد قوةٍ نفسية، أو نزعةٍ ما، أو أي تكوينٍ لا واعٍ، ووصفه وتسميته؛ وهكذا يكون إنتاج مفهومٍ نظري قد بدأ إذن من مرحلة الملاحظة. ومن الضروري الإشارة إلى هذه النقطة؛ لأنها تلقي الضوء على تفصيلةٍ خاصة بعمل الملاحظ التحليلي (وأي ملاحظٍ تحليلي سواء كان محللًا أو مستشارًا طبيًّا) الذي يُمكِنه ملاحظة النواتج النفسية لمريضه بانتباهٍ خلال الجلسات فقط عن طريقِ إعدادِ مُخطَّط، من جهته، لتنظير الحقائق المُلاحَظَة. وقد استخدمتُ مصطلح «الخطاب الداخلي» لتحديد هذا الإنتاج الخطابي المناسب للمُحلِّل، مُردِّدًا ما يُظهره المريض ومُكرِّسًا انتباهه لخطِّ التقاءٍ بين تمثيلاته المعرفية الواعية والمساهمات اللاواعية النابعة من تعاطُفه المُضاد لتحويل المَشاعر (انظر: رولان، ٢٠٠٢). في ضوء هدفنا المنشود، يمكن اعتبار الخطاب الداخلي النشاط النفسي للمُحلِّل الذي تتحول الملاحظة بفضله إلى نظرية، بينما الحقيقة التحليلية (التي تتلوث بالضرورة بفعل الروايات الفردية غير الموثوق فيها والفردية) أمام المفهوم النظري، الذي يُعَد أداةً أكثر تأثيرًا وفاعليةً لفهم المستوى المجرَّد والموضوعي للوظائف النفسية، هي أداةٌ تُستخدَم كما ينبغي كتعميمٍ للوحدة الكلية للأمراض النفسية التي تعتبر تلك الحقيقة نسخةً ذاتية منها تفتقد إلى الموضوعية.
يُعتبر كتاب «ما وراء مبدأ اللذة» مثالًا توضيحيًّا استثنائيًّا إلى حدٍّ ما لمثل هذا العمل التحليلي؛ إذ تدفعه الملاحظة التحليلية وتمييز الحقائق. دعونا نَتتبَّع فرويد خطوةً بخطوة خلال رحلةِ استيضاحِ تفكيره؛ أثارت رسالةٌ كتبها بعض أتباعه عن «مُصابي عُصاب الحرب» دهشَتَه. ومن خلال هذه الفئة، التي ظَهرَت تحت تأثير تلك الظروف المأساوية، أصبح مرتبطًا، على نحوٍ أكثرَ خصوصية، بتفرُّدٍ يُميِّز عالم الأحلام الخاص بهؤلاء المرضى بالعُصاب؛ فأحلامهم، في الواقع، إنما تتبع نظامًا يناقض نظريةَ إشباع الرغبات؛ لأنها تعود بالحالم مرةً تلو الأخرى إلى الموقف الخطير الذي تَعرَّض له على أرض الواقع، وفَرضَت هذه الحقيقة عليه فكرةَ أنَّ عمل الجهاز النفسي ربما لا يسير وفق مبدأ اللذة، الذي كان ببساطةٍ مناقضًا للوضع الميتاسيكولوجي السائد، والمُقتَبَس من زمنِ كتابه «الموجز في التحليل النفسي». بعد ذلك اختَبَر هذه الفئة التحليلية في ضوء فئةٍ أخرى عُرفت منذ زمنٍ باسم «العُصاب الرضحي»، الذي يظهر بعد وقوع حوادثَ وَضعَت حياة المريض في خطر.
نلاحظ هنا الاضطراب نفسه لمسار الحلم؛ فالحالم يعود على نحوٍ متكرر إلى الظروف المُسبِّبة للحادث، وهي ظروفٌ يُدرك أن ثَمَّةَ شعورًا مُعيَّنًا يُسيطِر عليها، غير معروفٍ نوعًا ما، وهو الرهبة. لذا، لكي يُثبت فرويد أن الملاحظة بمجرد أن تنبثق من التجربة التحليلية وتَتحرَّر من الحظر الذي يفرضه التفكير والمُمثَّل في الحقائق المتخفية في كونها تافهةً أو شخصيةً للغاية، فإنها ستُغذِّي نفسها بكل شيءٍ يمنحه لها الواقع، وضع فرويد هذه الحقائق، التي تنتمي لعالم الأحلام والحقائق المنتمية لعالم العُصَاب، جنبًا إلى جنب مع حقيقةٍ ثالثة تنتمي لعالم اللعب الذي يبدو مختلفًا تمامًا؛ فقد لاحظ أن حفيده ذا العام ونصف يلعب ببكرةٍ من القطن متصلة بخيط، جاعلًا البكرة تختفي وتظهر، وخمَّن أن هذا النشاط لم يكن ممتعًا بقَدْر ما كان يُمثِّل للطفل الصغير تكرارًا صدميًّا بحقٍّ لرحيل والدته الحبيبة.
بعد ذلك فكَّر فرويد في الحياة التي يُنشئها أشخاص بأعينهم لأنفسهم دون درايةٍ منهم بذلك، وهي حياةٌ تواجه الإحباطات والعقبات والحوادث المؤسفة نفسها على نحوٍ متكرر، حتى يُضطر المرء للاعتقاد أنها تعُيد استنساخها على نحوٍ نشط. وأخيرًا، فكَّر فيما يحدث في تجربة العلاج مع مرضى بأعينهم يميلون من خلال تحويل المشاعر إلى تَكرار العنف الذي تَخلَّل المواقف التي وقعوا ضحايا لها في الطفولة، بدلًا من العمل على النبش في ذكريات الطفولة التي تَسبَّبت في إصابتهم بالعُصَاب، ويتمكنون من تحويل المُحلِّل النفسي إلى شخصِ يريد إيذاءهم وبعيدٍ كل البعد عن كونه شخصًا نافعًا لهم يسعى للأخذ بأيديهم نحو الشفاء، ما لم ينجح هذا المُحلِّل على نحوٍ صحيح في السيطرة على هذه الأحداث.
من خلال هذا الحشد من الحقائق التحليلية والتعبير المُتدرِّج عنها، أَسَّس فرويد مفهومًا نظريًّا كان له امتدادٌ كبير فيما بعدُ وصاغ له مُصطلَح «التَّكرار القهري» (فرويد، ١٩٢٠، صفحة ١٩). من المُؤكَّد أن فكرة التَّكرار كانت مألوفة بالنسبة إلى فرويد؛ إذ ناقشها في نصٍّ جميل أُعد بعنايةٍ كبيرة بعنوان «التذكُّر والتَّكرار والتوغُّل». كان هذا ما أَسْماه النزعة التي تدفع بعض المرضى لإعادةِ معايشةِ أحداثٍ من ماضيهم بدلًا من تنشيطها لتُصبِح حاضرةً في واقع حديثهم. وضع فرويد آليةَ هذا في المجال العام للمقاومة ووصف اتجاهًا مضادًّا لذلك الاتجاه الخاص بالتذكُّر. في ذلك الوقت، كان مفهوم التَّكرار يُشير فقط إلى ارتباط المريضِ بماضي طُفولته والرفض الذي تُقاوَم به العملية النفسية الواعية الحركات الجنسية التي تُشكِّل الأساس لمثل هذا الارتباط، دون أن يُؤخذ في الحسبان الخطر الحقيقي الذي يُمثِّله التَّكرار على أي شخصٍ ينخرط في القيام به.
ولكن من خلال تأمُّلٍ أكثر عمقًا، نجد أنه بدعمٍ من مجموعةٍ أكبرَ من الحقائق التحليلية المختلفة عن تلك المُستخدَمة في «ما وراء مبدأ اللذة»، أعاد فرويد صياغة هذا المفهوم. وقد قاده إلى هذا التجديد الجذري ثلاثةُ عناصرَ جديدة: أولًا، اكتشاف «التنفيس» الجبري الذي يُنشِّط هذه النزعة نحو تكرار ماضي الطفولة، ومن هنا جاء مُصطلَح التكرار القهري، الذي استُخدِم منذ ذلك الحين فصاعدًا لتحديده والإشارة بوضوح لطبيعته الغريزية؛ فلم يعُد من الممكن عَزو ظهوره إلى المقاومة فقط. يأتي بعد ذلك اكتشاف الطبيعة التدميرية لهذا الاتجاه النفسي التي تَنكبُّ، على نحو شبهِ مُمنهَج، على تدميرِ مسار العلاج وكذا مسار الحياة النفسية، بل مسار الحياة نفسها، بكل نشاطاتها المتعددة المُوجَّهة عادة للبحث عن المتعة. وأخيرًا، جاء اكتشاف فرويد لجانبٍ لم يكن معلومًا من قبلُ ومخيفًا من الجنسانية الطفلية، بالنظر إلى أن هذا الجانب لم يعُد يدَّعي الارتباط بالبحث عن المتعة، مثلما كان فرويد يعتقد حتى ذلك الحين من واقعِ جميعِ أبحاث التحليل النفسي، بل بقي مُقيدًا إلى حدٍّ كبير بالظروف التاريخية التي أَيقظَته، مهما كانت عنيفة، إلى حد الميل بعنادٍ إلى التنفيس عنها وتكرارها مرةً أخرى رغم كل قواعد المنطق الزمني، كما لو كان أصلها قد طغى على غايتها؛ واكتشافِ جنسانيةٍ من شأنها أن تجمع معًا أكبر قدْرٍ ممكن من تجارب الطفولة، من خيبةِ أملٍ وإحباط وفقدان، كتجاربَ باعثة على الرضا والإشباع، وهو ما أجبر فرويد لاتخاذ خطوةٍ أُخرى تجاه سيكولوجية العمق. في هذه اللحظة البحثية، خَضعَت النظرية التحليلية للتمثيل لنوعٍ من التقسيم إلى مسارين؛ ففي مقابل المسار الطبيعي للغريزة الجنسية كما وُصِف في كتاب «ثلاثة مقالات عن نظرية الجنسانية» (فرويد، ١٩٠٥) الذي يُحافِظ على الجهاز النفسي بقوته الرابطة وطاقته الحيوية، يُوجد تيَّارٌ خطير قابل للتفكيك ذو اتجاهٍ مازوخي، يُجبِر المرء على التساؤل عما إذا كان ليس تيارًا غالبًا في حياة بعض الأفراد.
برغم كل ذلك، فإن هذا التمثيل المُزدوج للجنسانية — كما تم تحليله — يصبح ملائمًا في النهاية، مع تبيُّن ملامحِه من خلال هذا المفهوم النظري للتكرار القهري، ويجعل النظام الذي يتحكم في الحالات النفسية الأكثر نكوصًا أكثرَ قابليةً للفهم؛ فالمعاناة الجسدية أو المعنوية التي يبدو أن مرضى العُصاب يُركِّزون عليها ويُغذُّونها على نحوٍ نشط، والتي تُعَد الخطر المهلك الذي تُعرِّضهم له أشكالٌ من الاضطرابات النفسية مثل الأوهام أو الهلوسة أو الإدمان، تبدو وكأنها تحلُّ لديهم محلَّ أي شكلٍ آخر من أشكال الحياة الرومانسية؛ فالشعور الشهواني بالنسبة إليهم تَحوَّل، فيما يبدو، إلى شهوةٍ لتدمير الذات، وتتراجع موضوعات حُبهم، كما لو كان هذا يحدث على نحوٍ خفي، إلى داخل الأنا. ويتيح اكتشاف أن الجنسانية الطفلية ليست مرتبطة بجانب المتعة — على نحو جزئي على الأقل وقد لا يكون ذلك الارتباط متحققًا بالضرورة — بل بجانب اللامتعة والتدمير والتضحية الذاتية، مقاربة خصبة للتعامل مع هذه الحالات المرضية، مذكِّرًا إيانا بأننا، في تلك الحالات أيضًا، نكون في حضرة الغريزة الجنسية، ولا نعني هنا الغريزة السعيدة التي تستغل كل الظروف وأيَّ تحويلٍ للمشاعر من أجل تحقيق الأمنيات كما في العُصاب، بل نعني غريزةً جنسية بالغة الكآبة تتطلب معالجةً خاصة لتعود للحياة ولموضوعاتها. وكما في النظرية التحليلية، يمثل تأسيس مفهوم التكرار القهري نقطةَ تحوُّلٍ ليس فقط لفهم المستويات الأعمق من النشاط النفسي، بل كذلك، وهذا ما أَعتقِده على نحوٍ خاص، بالنسبة إلى آلية عمل العلاج؛ فهو يجعله منفتحًا لمعالجةٍ تحليلية محتملة للذهان: أولًا، لأنه يُعيد وضعَ آليةِ هذه العاطفة على محور الجنسانية الطفلية ومن ثَمَّ تقريبها من العُصاب والسماح لها بالاستفادة من المكاسب التقنية الكبيرة التي منحها علاجها للمُحلِّلين. ثانيًا، لأنه يستدعي خلال العلاج تطويرِ شكلٍ مُحدَّد من وظيفة ذلك العلاج يعمل بعيدًا عن الأسلوب التأويلي وهو أسلوبُ الاقتحام والتوغُّل.
يستدعي الدافع القهري للتكرار أيضًا التجارب السابقة التي لا تتضمن أي احتماليةٍ للمتعة، ولا يمكن أن تكون بأي حالٍ من الأحوال، حتى منذ فترةٍ طويلة، قد جلبت أي إشباعٍ حتى للدوافع الغريزية التي تعرَّضَت للكبت منذ ذلك الحين. (١٩٢٠، صفحة ٢٠)
إن النشوء المُبكِّر للحياة الجنسية الطفلية محكومٌ عليه بالهلاك بسبب عدمِ توافُق رغباتها مع الواقع وكذلك مع المرحلة غير الكافية من التطوُّر التي وصل إليها الطفل؛ فذلك النشوء ينتهي في أكثر الظروف كآبةً وإزعاجًا ويُصاحبه أكثر المشاعر إيلامًا؛ ففقدان الحب والفشل يُخلِّفان وراءهما جُرحًا دائمًا لاحترام وتقدير الذات في شكل نُدبةٍ نرجسية، وهي التي، في رأيي، وكذا في رأي مارسينوفسكي (١٩١٨)، تساهم أكثر من أي شيءٍ آخر في «الإحساس بالدونية» الشائع بكثرةٍ لدى المُصابِين بالعُصاب. ولا تقود الأبحاث الخاصة بالجنسانية الطفلية، والمُقيَّدة بالحدود التي يفرضها عليها التطوُّر الجسدي، لأي استنتاجٍ مُرضٍ، ما يَترتَّب عليه ظهور شَكاوَى لاحقةٍ من قبيل «لا أَقدِر على إنجاز أي شيء» أو «لا أستطيع النجاح في أي شيء»؛ فتخضع رابطة الحب، التي تربط الطفل كقاعدةٍ بالوالد من الجنس الآخر، للإحباط، أو توقُّعٍ زائف بالإشباع، أو الغَيرة من مولدِ طفلٍ جديد، وهو ما يُمثِّل دليلًا لا يُدحَض على خيانة الشخص المُستَهدف بمشاعر الطفل. وتفشل محاولته في جعل نفسه طفلًا رضيعًا، التي يُنفِّذها بجديةٍ مأساوية، على نحوٍ يُولِّد لديه الخزي. ومع تضاؤل قدْر الحب الذي يحصل عليه، والمتطلبات المتزايدة للتعليم، والتوبيخ والتعرُّض من آنٍ لآخر للعقاب، يرى في النهاية مدى الازدراء الذي يُعامَل به. (فرويد، ١٩٢٠، الصفحات ٢٠-٢١)
بعد ذلك في المرحلة الثانية، وبتفكير سيتطور على مدى الثلثَين المُتبقيَين من النص؛ تفكير يبتعد عن الاعتبارات التحليلية التقليدية ويروق للتأمُّل الرفيع، ويَتغذَّى على فرضيات حيوية وفسيولوجية جريئة على نحو خاص، اقترح فرويد إكساب مفهوم التكرار القهري أساسًا يُطيح بالمنظور الميتاسيكولوجي الذي كان معتمدًا حتى تلك اللحظة؛ أساسًا لم يعد مرتبطًا بالجنسانية الطفلية، ذاك الذي ربطه بمجموعةٍ من القوى المُتحفِّظة التي اجتَمعَت تحت اسم غريزة الموت.
هل الأمر حقًّا، وبعيدًا عن الغرائز الجنسية، هو أنه لا تُوجد أي غرائز لا تبحث عن استعادةِ حالةٍ مُبكِّرة للأشياء؟ ألا يُوجد ما لا يهدف إلى الوصول إلى حالةٍ لم يتم الوصول إليها من قبلُ للأشياء؟ لا أعلم مثالًا بعينه من العالم المادي من شأنه أن يُناقض التوصيف الذي اقترحتُه عند هذا الحد؛ فلا جدال في أنه لا تُوجد أي غريزةٍ عامة تهدف إلى تطوُّر أكبر قابلٍ للملاحظة في عالم الحيوان أو النبات، على الرغم من أنه لا يمكن إنكار أن التطوُّر يحدث في الواقع في ذلك الاتجاه. (فرويد، ١٩٢٠، صفحة ٤١)
وعلى ذلك، فإن التقدُّم الميتاسيكولوجي الذي تحقَّق يتجاوز النقاش؛ فتسجيل الحركة الغريزية بازدواجية متناقضة بعنف بين الحياة والموت يتيح أساسًا جديدًا لنطاق الكبت (إذ يكون تطوُّر الجهاز النفسي نحو اتجاه أعلى ممكنًا فقط من خلال تجنُّب الكبت والالتفاف حوله)؛ فهو يفتح الطريق أمام تمثيل مُركَّب للجهاز النفسي (وهو ما نُسمِّيه الطبوغرافيا الثانية، حيث تُستَبدَل العلاقات البنائية بين الأنا والهو والأنا العليا من أجل النزاع بين حالتَي ما قبل الوعي واللاوعي)؛ وأخيرًا، فإنه يتيح إلهامًا للتجديد النظري الضخم الذي مَيَّز أعمال فرويد بعد عام ١٩٢٠. غير أن ما يظل جديرًا بالملاحظة في التطوُّر ذي المرحلتَين الذي طرأ على الأعمال الميتاسيكولوجية الذي أثاره اكتشافُ المفهوم النظري للتكرار القهري هو الانفصال الجذري الذي حدث بين هاتَين المرحلتَين: فبينما عَزتِ الأُولى أصل الإكراه أو الدافع القهري إلى قَدَرٍ خاص بالجنسانية الطفلية، حوَّلَته الثانية إلى الضد الرئيس وهو غريزة الموت.
جدير بالذكر أنه من خلال وضع الغريزة الجنسية (المشمولة في التصنيف الأعم لغرائز الحياة) وغريزة الموت مَوضعَ تعارُض، لم يقُم فرويد إلا بتكرار التأكيد على التعارُض بين الغريزة والنزعة المُؤكِّد في كتاب «الغرائز وتقلُّباتها» (١٩١٥أ)؛ بل الأجدر بالذكر أنه بين هذَين المَوضِعَين الميتاسيكولوجيَّين المتعلقَين بهاتَين المرحلتَين، وفي جوهرِ تطوُّرِ هذا النص المفتقد للنظام ظاهريًّا، يُوجد تَمزُّق بالتأكيد، لكن لا يوجد استبعادٌ بأي حال. فلم يُنكِر فرويد أيَّ شيءٍ من مساهمة الجنسانية في التكرار القهري عندما استدعى الفعل المسئول عن غريزة الموت؛ فالأخير يُفسِّر فقط ما يعوق مسار الأُولى ويقصره على مواقفَ «صادمة» من الماضي ويمنع الوصول لموضوعات الحاضر.
غالبًا ما يكون لدى الفرد نزعةٌ للأخذ في الاعتبار أن هذا النص، «ما وراء مبدأ اللذة»، يُركِّز على غريزة الموت. وتقودني قراءتي للنص لأرى أن التركيز على التكرار القهري؛ فمن الممكن على أي حال استيعاب أن مفهومَ ما وراء النفس، كونه «ثقيلًا» بعض الشيء، يميل لأن يخلع عن نفسه الاهتمام الذي استيقظ داخل القارئ بسبب المفهوم النظري الذي، للمفارقة، يكون أكثر غُموضًا. بالمثل، يميل الفرد للاعتقاد أنه بسبب عدم الاستمرارية التي تُؤثِّر على كتابة هذا النص، تعامَل فرويد مع غريزة الموت كقوةٍ متمايزة عن الغريزة الجنسية. وتقودني قراءتي للنص لاعتبار هذا التقطُّع النصِّي كصدًى للصدع الذي ينفجر فوقه تيَّارا الغريزة الجنسية؛ فغريزة الموت، في الحياة الجنسية، تُمثِّل وتُحدِّد النزعة الناشئة التي تُجبر الليبيدو على البقاء مرتبطة بموضوعاتها المحرمة، وتُعارِض كونها مَنبوذة، وعلى المنوال نفسه، يُعارِض ارتباط هذه الغريزة البدائية (التي تندفع تجاه الموضوعات لأنها لا تستطيع الاستغناء عنها) لصالح موضوعاتِ الاستبدال. تَتجسَّد ثنائيةُ غريزة الموت والغريزة الجنسية في معارضة «نموذجية» لازدواجية الحركة الشهوانية المُتأرجِحة بين الانجذاب نحوَ سفاح القربى الذي يقوده وَهْم اللاوعي وشهوة الموضوع التي تخضع، بفعل جهدٍ مُطوَّل من الحضارة، للكبت.
«ترجم هذا الفصل بيتر شايو.»