العهد الأول
في ١ أيار سنة ١٧٨٦
مضى النهار كما تذوب الثمرة اللذيذة في الفم تاركة بعدها الطعم والعطور، إن الأرض لملأى بالأفراح! شكرًا لك يا الله على تلك النعم، نحن اليوم في أول أيار، على عتبة قصر الزهور، ففي الصباح وضعت والدتي طفلًا ذكرًا وبلغتُ أنا السادسة عشرة من عمري، كان النهار جميلًا والوادي الصغير زاهيًا زاهرًا كأنه قطعة من الجنة! وكان كل مصراع من مصاريع النوافذ بمثابة صديق حميم يستقبل أول بسمة من بسمات الفجر، كنت أشاهد الدخان صاعدًا من فوهة الموقد كأنه أعمدة من الأثير مرتفعة في مذاهب الفضاء، وكأن أسراب الدقات الخفيفة أجنحة هائمة من أجنحة الملائكة الأتقياء كانت تتصاعد من حناجر الأجراس وتقفز كالطيور على صخور الوادي! وكانت فتيات القرية يفتحن نوافذ منازلهن لدى تلك الأنغام ويتبادلن التحيات والبسمات، ثم يضفرن شعورهن متكئات على شرفاتهن، ويسرعن بعد ذلك إلى الحدائق عاريات الأرجل، حيث يجمعن باقات من الأزهار لا يزال ندى الصباح مضطربًا على براعمها، ويعلقنها على صدورهن كأقراط من اللؤلؤ أو كعقود من المرجان، وكنت أرى على مقاعد الكنيسة بعض العذارى الجميلات ساجدات بخشوع أمام القربان المقدس كأنهن قد جئن يرفعن إلى الخالق المبدع أزهار نفوسهن وقد قطفنها من حدائق التقوى ومروج الفضيلة.
وفي المساء، كان الرقص على أعشاب المروج يُعطي المشهد جمالًا فيغار منه شعاع الشمس المائت، وكانت الأغصان تذيب على أوراقها الخضراء موسيقى الحفيف فتمتزج نغماتها بنغمات الناي من فم المعاز السكران وتتآلف بسرعة في أفئدة بعض العاشقين هامسة في آذان الحب أسرار الحياة! وعندما بدأ المزمار يشعر بتعبٍ من تتابع النغمات، وبدأ العرق يتصبب من جبين الراقصات وينعقد على شعورهن، كنتُ جالسًا على صخرة منفردة أتتبع بنظراتي وبقلبي هؤلاء العذارى وقد انعقد التعب على عيونهن، مفكرًا بتلك العاطفة الجميلة العذبة متأملًا أثوابهن الحريرية المخرمة، مصغيًا إلى ذلك الحفيف المتصاعد من تلك الأردية الفضفاضة، ناظرًا إليهن يبتعدن شيئًا فشيئًا ثم يتوارين عن عيني، حتى إذا ما برز البدر على قمة الجبل رأيت بعض العاشقين، وقد تغافلوا عن الذهاب، يتأبطون أذرع بعضهم ويتوارون في الظلام!
أنا في مخدعي الآن بين جدران خرساء مبطنة بالظلمة، الجميع راقدون في مضاجعهم، ولا أسمع إلا حفيف الورق تحت النافذة، فلأنم! ولكني لا أقدر أن أغمض جفني! فلأصل! — ولكن أفكاري المشتتة لا تسمع صلاتي! فأذني لا تزال ملأى بنغمات الرقص! عبثًا أحاول الرقاد، فتلك الحفلة لا تزال ماثلة أمامي، والأحلام الرقاصة تستفيق في مخيلتي، وأخيلة الراقصات تتنفَّل بين أهدابي! يخيل لي أني أرى عينًا تشع في الظلمة، وأشعر بأيدٍ عذبة تجس يدي المضطربة، ويخال لي أيضًا أن ضفائر ذهبية تلامس جسدي المختلج، وأن باقاتٍ من الأزهار الذابلة تُلقى عليَّ من جبين بعض الفتيات الجميلات، وأن شفاهًا عذبة تتلفظ باسمي في هذا السكون الرهيب! لوسيَّا! أينَّا! بلانش! ماذا تطلبن مني؟ أية قوةٍ هو الحب؟ فإني ألامس عذوبة إلهية من خلال أحلامه! ولكن هذا الحب لم يتفتح بعد في حياتي، إنه لكوكب ناري وما هذه الساعة إلا فجره الأول. آه! ما كان أسعدني لو ألقت السماء بين ذراعي حلمًا من تلك الأحلام الحية، وما كان أهناني لو أتيت بعذراء طاهرة إلى هذا المكان، تكون أول شعاع من أشعة الحياة، فأحيا عشرة أجيال في يوم واحد: إني لأشعر بالحب هذا المساء، وما نفسي إلا الحب ولذاته! لا: فلأطرد من قلبي تلك الصور الذابلة ولأَعُد إلى كتبي القديمة أُطالع في صفحاتها سير القديسين، تلك هي الكتب على منضدتي، ولكن عيني عبثًا تطفوان على سطورها السوداء، فالذي يقرأ الآن إنما هو مقلتي لا أفكاري!
•••
لماذا كانت شقيقتي تبكي عند دخولها إلى المنزل بعد أن كانت أكثر الفتيات جمالًا وزهوًا في تلك الحفلة الراقصة؟
في ٦ أيار سنة ١٧٨٦
عرفت سبب بكاء شقيقتي، أأقدر أن أشتري سعادتها بتضحيتي؟ منذ هنيهةٍ كنت أهيم في الحديقة مفكرًا، فسمعت تمتمة من غرفة والدتي تتصاعد على درجات الأثير ثم تتقطع رويدًا رويدًا وتختنق في الظلمة، فاقتربت من النافذة السفلى ورفعت عرائش الكرمة عن المصراع ثم أصغيت إصغاءً تامًّا ونظرت إلى داخل الغرفة فأبصرت والدتي جالسة على حافة السرير تقرأ في صفحةٍ ملأى بالأسطر السوداء، وكان خيال شعرها الأسود يحجب عني وجهها اللطيف، فسمعت نقطًا متتابعة تسقط على تلك الورقة ورأيت شقيقتي جالسة بالقرب منها ويدها اليمنى حول عنق أمي وجبينها مستلقى على كتفها بحزن أليم وشعورها المبللة بالدموع ملصقة على خديها — «أحقيقة يا جوليا أنه يحبك وأنك تحبينه؟ — أكثر مما أُحب نفسي! أجابت شقيقتي وقد احمرَّ خدها من الحياء — واأسفاه! إني لأفقه جيدًا معنى هذا الإقرار المحزن الرءوف أجابت أمي، فلا أسعد لدي من أن أراك متحدة يومًا من الأيام، ولكن الله لضنين علينا بمثل هذه السعادة، فهو لا يكاد يجمعك بيدٍ حتى يفرقك بيد أخرى، إن الحب لا يؤيد وحده دعائم الاتحاد، فالمال يا ابنتي هو الدعامة الكبرى لتأييده، المال! … آه! لو كانت الدموع تستطيع أن تتحول إلى ذهب لكنت ترين كنوزًا في عيون الأمهات! إن الخالق ليعرف ذلك! كم أتمنى لو تمكنت من شراء الزوج لك بمدامعي والزوجة لشقيقك العزيز، غير أن الله لم يهبني من متاع هذه الدنيا إلا الحقل الضيق الذي سوف يُقسم بينك وبين شقيقك، فاجتهدي يا ابنتي أن تتناسي! — أتناسى؟ أجابت شقيقتي، فالموت أفضل عندي من ذلك، ثم إني لم أعد بعد ذلك إلا مزيجًا من التأوُّهات والدموع، وكأن ملاكًا من السماء همس في أذني بعض كلمات فتباعدت باكيًا وهمت على نفسي بين أشجار الحديقة!»
في ١٧ أيار سنة ١٧٨٦
قضيت النهار بالتفكرات ونزعت من صدري ذلك النزع الأليم بشجاعة وإقدام!
في ١٨ أيار سنة ١٧٨٦
قلتُ لأمي هذا الصباح ما يأتي: «أشعر بأن الله يناديني إليه، فالتقوى الشريفة والإيمان الحي اللذان سقيتني إياهما يحملان الآن ثمرات ربما كانت مرة عندك وعند شبابي ولكنها حلوة وعذبة عند نفسي، إلى المبدع الخالق يا أمي! إن أشباح القديسين تدعوني إليها، فأود أن أرفع إلى الله أيامي الفانية كما يرفعون إلى المذابح آنية من البخور طاهرة! ما من شيء يجذبني على هذه الأرض، فلا أريد أن أدنس أقدامي على هذه الطرقات، حيث يمر قطيع الإنسانية على مستنقعات الخبث والرذيلة.
إني لأؤثر أن أتبع منذ الصباح طريقي الساكنة، وأن ألجأ إلى موئل الله، حيث السلام والهدوء والراحة! وإذا اقتضى أن أحمل حسامًا للقتال في هذه الحياة فإني لأختار واحدًا يختلف عن غيره، وأموت رافع الرأس على حضيض المعمعة! ثم إن الحياة ثقيلة متعبة، فالأولى بي أن أحملها وحدها وأطرح ذلك الثقل الحديدي عن قلبي! ثقل الطمع والرغبات والمآرب! آه! لا تقاومي مشيئتي يا أمي وانزلي عند هذا الرجاء المفرح! لا، لا تقاومي، فسوف تكونين فخورة بهذه الكلمة التي تكاد أن تكون وداعًا مرًّا، أي شيء أكثر وداعةً من اسم الكاهن؟ آه! لا تخجلي من ذلك، فليس أشرف وأنبل من هذه الغاية يا أمي! إن الله الذي قسم الإنسانية أعطى لكل واحد قسمته، فمنهم: من أعطاه الأرض ليحرثها، ومنهم من أعطاه امرأة يُحبها ويُثمر منها أولادًا، ومنهم من قال له: اجعل دويًّا في العالم، ولكنه التفت إلى القلوب الملأى بالمحبة والإيمان، قائلًا لها: «أما أنتم فلا تحملوا شيئًا من متاع العالم فستجدون كل شيء بين ذراعي»، إن الكاهن يا أمي لقارورة طاهرة، معلقة على قبة المذبح، حيث أشذاء الفجر والأعشاب العطرة تستحيل إلى بخار مقدس وتتصاعد إلى الملأ الأعلى! إن الكاهن لأرغن السماء يذيب نغماته على الأرض غير أن صوته لا يمتزج بدوي العالم ولا يتجاوز عتبة الهيكل، بل إنه يرفع إلى الله من ظلمات المعبد أنغامه المقدسة حاملة إلى الألوهية ألحان الطبيعة والإنسانية، ولكن ربما قلتِ يا أمي: «إنه يحيا معتزلًا، ونفسه التي لا يذوب عليها شعاع المرأة تستحيل إلى خشونة وصلابة بين ظلمات الوحدة وجدران السكون»، لا يا أمي، فالمسيح يضع في قلبه عظمة المحبة واللين، فلا تخشي أن تُفقد من نفسي عاطفة جعلتها وقفًا لمحبتك! آه! إن الله الذي يناديني إليه ليس بإلهٍ حسود، بل هو الرحيم الشفيق الذي لا يطلب شيئًا من نفوس الأبناء إلا ليضعه طاهرًا في نفوس الآباء! سأكون رسولًا لهذا الإله المحب وسأرفع نفسك الطاهرة إلى أعالي السماء بزفراتي ودموعي! لا تغمضي جفنيك يا أمي ولا تنظري إليَّ بهذا الحزن العميق بل قولي لي كما قالت سارة: «ليكن ما أراد المبدع الخالق!» وباركيني بيدك الطاهرة!»
في ٢٦ أيار سنة ١٧٨٦
بقيت أمي تبكي ستة أيام! كما طلبت ابنة يافث من الله الغضوب بعض ليالٍ تبكي خلالها الربيع والشباب، ثم إنها تقدمت بنفسها ودفعت عنقها إلى التضحية، هكذا بكت أمي وقالت: «نعم، رضيت!»
في ١٠ حزيران سنة ١٧٨٦
لقد كافأني الله: فأمس كان زفاف شقيقتي إلى إرنست، أرى البيت يستعيد حياة سعيدة، ومصاريع النوافذ، تتفتح من تلقاء نفسها كأنها أجفان الصباح أو براعم الزهور، بعد أن كانت موصدة منذ ذلك اليوم الذي ذهب فيه والدي إلى عالم غير هذا! أجل! أراها مفتوحة كأنها تستقبل أسراب السعادة بعد غياب طويل! وأرى الأهل والأنسباء يفدون زوجين زوجين وفي أيديهم هدايا العرس وعلى شفاههم دعاء سعيد، تلك عذراء باسمة لشقيقتي، وتلك عذراء أخرى تتأمل عقدًا من اللؤلؤ يلمع على ضياء الشمس، وتلك ثالثة تنظر بدهشة إلى جواهر العروس وقد استهواها البريق، أجل! كل ما في البيت يدعو إلى الغبطة والفرح، وفي السماء تدور حلقات الرقص على الأعشاب، فيتأبط العاشقون أذرع بعضهم ثم يتيهون بين الأشجار والرياحين هامسين في مسامع بعضهم عبارات الحب! أما أنا فسأبقى وحدي مسترسلًا لأحلامي وخيالاتي ناظرًا إليهم بدون أن أدع لهم سبيلًا يرونني فيه، أذوق من سعادة الحب صورها ومن لُباب القلوب قشورها، قائلًا في نفسي: «هذه السعادة ملكي لأني اشتريتها بشعاع عيني!»
في ١٣ حزيران سنة ١٧٨٦
أمس، بينما كان الأهل والأصدقاء يحيون حفلة راقصة على الأعشاب، كانت جماعة من الفتيات يُشرن إليَّ بأناملهن، وكانت إحداهن وهي أجملهن تختلس مني النظرات وعلى شفتيها بسمة السخرية، قائلة لأترابها: «أيمكن أن يؤثر على جمالنا ذلك الثوب الأسود وهو الشباب الزاهر والجمال الخلاب؟ أيخيفه العالم يا تُرى؟!» ربِّي! إنك أدرى من الناس بسرائر قلبي!
في ١٦ حزيران سنة ١٧٨٦
كان النهار الماضي ذلك النهار المحزن المظلم الذي تجلبب بخيال آلامي، وكانت السماء سوداء، والهواء النائح الباكي يحني الأوراق على السهول، وكانت الجداول العذبة راقدة بهدوء تحت الروابي المرتفعة وقد أمسكت خريرها عن الأسماع، وكان المنزل أيضًا خاليًا من الحس، ونوافذه موصدة أمام نواظر الأغصان والزهور، كأنها أهداب مثقلة لا تجسر أن تنظر إلى ذلك الوجه الحبيب لئلا تُفيق الحسرات بين ذلك السكون الرهيب! وكانت أمي وشقيقتي تختليان حينًا وتذرفان الدموع السخينة وكأن كلًّا منهما كانت تضمر في نفسها لوعة لا لوعة بعدها، وعندما كانتا تجلسان إلى المائدة كانت الدموع تتناثر من مقلتيهما وتتساقط على قطع الخبز والطعام!
مضى النهار على هذه الحالة، وعندما جاء الليل، ذلك الشبح الأسود الذي سوف يفرق بين المحبين فراقًا لا لقاء بعده، قلت لأمي: «اذهبي وخذي لنفسك بعض الراحة، وسكِّني قلبك من الزفرات والدموع، فسوف أمسح دموعك بصلواتي وابتهالاتي وأدعو ملاك الرب ليحرسك ويكون لك غوثًا وملجأً في مراحل حياتك، سترينني داخلًا إلى هيكل نفسي برأس مرتفع وقلب كبير، ويجب أن تعرفي أن الذي يرفعونه إلى الله الخالق لهو أسمى ما في الصدور وأقدس ما في الأنفس، أجل يجب أن يُرفع ذلك الشيء في مباخر الغبطة والسرور، اذهبي إلى فراشك يا أمي، فستجدينني قبل الفجر جالسًا بالقرب منك»، ما كدت أنتهي من كلماتي هذه حتى ترامت عليَّ وجعلت تقبلني، فلم أسمع ما كانت تتمتم شفتاها في تلك الساعة ولم أرَ إلا العبرات تتناثر من جفنيها الذابلين.
خرجت من غرفتها هائمًا على نفسي بين جلباب الظلام، وكان نسيم الجبال العليل يهب هبوبًا خفيفًا فتتلاشى لدى خطراته غيوم السماء، كانت الليلة من تلك الليالي العِذاب حيث الهدوء والسكينة يهمسان في النفوس أسرار الحب والخلود، وحيث القمر المستدير، الجالس على عرش الأثير، يُذيب على الأحراج والمروج أشعته المترددة المضطربة، كأنه، وهو يرسم البقع الصفراء الشاحبة، ذكرى خرساء من ذكريات الحياة والأيام، كنت أتوغل في الظلام ناثرًا دموعي على أزهار الحديقة، مخاطبًا كل شجرة يقع عليها نظري، منتقلًا من جدول، ضامًّا إلى صدري كل غرس من الأغراس، نافثًا في الأغصان روحًا من روحي المعذبة، شاعرًا بقلب رءوف يخفق تحت كل قشرة من قشور النبات، تارة أجلس على ذلك المقعد الخشبي، حيث كانت تجلس أمي وطورًا أتحول إلى الخيمة فأنبه ماضيَّ الراقد تحت أخشابها لأبكيه! أجل، كنت أزور كل جامدٍ من تلك الحديقة وأزوده وداعًا مرًّا، جامعًا على الأرض ما يسقطه السنونو من القش اليابس، ثم إني بعد أن قمت بواجبي نحو تلك الجوامد الناطقة انحدرت إلى طرف الحديقة، وهناك تحت أقدام النافذة، نافذة غرفة أمي التي ربما كانت لا تزال ساهرة بين جدرانها، وبالقرب من ذلك الغدير الرقراق، جلست أصغي إلى زفرات المياه مقبِّلًا ذلك التراب الذي سأتركه في الغد، مازجًا عبراتي بالأوراق الصفراء المتساقطة من أغصان الشجر، لم أدر كم من ساعة قضيتها في تلك الحديقة، غير أن الفجر الأول كان قد لون خطوطه على حافة السماء، فأردت أن أقول لأمي كلمة قبل رحيلي فتقدمت مضطرب الركبتين إلى عتبة غرفتها وبدون أن أدخل تركت شفتي تتلفظان بهذه الكلمة الأليمة: «الوداع!» ثم حولت عيني الباكيتين وأسرعت بالخروج كرجل خائف من ضميره الملوث.
كنت أسير في حقول لا طرقات فيها مخافة أن ألتقي بإنسان أو أسمع صوتًا حتى بلغت قمة جرداء ينحدر جبلها إلى وادٍ رهيب فأبصرت صخرة رمادية عليها صليبٌ من الصوان فجلست على أقدام ذلك الصليب وسرَّحت طرْفي في الجهات الأربع فوقع نظري على مشاهد جميلة تتبسَّط أمامي، ورأيت البساتين الخضراء تحت جدران القرى، والحمائم البيضاء على سطوح المنازل، والدخان المتصاعد من فوهات المواقد كأعمدة من الرخام الرمادي تنتصب في مذاهب الفضاء، فسجدت على أقدامي، وكأن زفرةً حرَّى حملت نفسي إلى تلك الأماكن العذبة، فصرخت: «اللهم أنت الذي أخذت الولد فابقَ مع الأم، ولتكن ساعة الرحيل خفيفة الوطء على قلبها! أنا لم أترك إقامتي بين أهلي وأنسلخ عن قلب والدتي إلا لأدع لهم الهناء وأورثهم روحك الإلهية وقلبك الحنون، اجعل اللهم الحب والسلام ينوبان عني بين جدران هذا المقر، واجعل تضحيتي سعادة ورغدًا في حنايا صدورهم، اسهر يا إلهي على ساكني تلك الديار وبارك أوقاتهم ليلًا ونهارًا، وكن أيها المبدع العظيم ابنًا لأمي وأخًا لشقيقتي، اغمرهما بهباتك وقُدهما بيدك في طريق عذبة وفي حياة طويلة»، قلت ذلك وقد توارت إلى الأبد آخر خشبة من مقر أهلي!