العهد الثاني
عن مدرسة … في ١ كانون الثاني سنة ١٧٩٣
قطعتُ ستة أعوام من أيام حداثتي، كانت لياليها ونهاراتها متشابهة متقاربة، أشعر بدعائم الدير السوداء تخيفني في ظلماتها، وبالجدران القاتمة تذيب على جبيني الصمت الرهيب! فالنوافذ المرتفعة لا تدع ذكريات الماضي، تلك الذكريات المضمَّخة بأريج الحب، تدخل إليَّ في السكون وهذه الوحدة، كل يرسم أمامي مشاهد الإيمان، فيد الله لم تخطَّ على أوراقي البيضاء حادثًا من حوادث الحياة! آه! أيمكن أن أبقى صحيفة لا مداد عليها طيلة هذا العمر؟!
في شباط سنة ١٧٩٣
عندما ينسلُّ الظلام بين أعمدة الدير ويجلس المبتدئون كل على مقعده يتحدث إلى رفيقه ويسامره، أُسرع إلى باب الهيكل السري وأسكب نفسي على أقدام الإله العظيم! ذكريات بعيدة تتراءى لي شاحبة الوجه من خلال الأحلام، وتغسلني في بحيرات هادئة ساكنة، فتستفيق في نفسي تلك الساعات الحلوة اللذيذة أيام كنت أسمع لهاث الشمأل في الضباب الرمادي، وأرى أعمدة الحور والصفصاف تضطرب كالقصبة وتهز الثلج المتراكم عليها، فيتساقط كالمندوف الأبيض ويذوب على الصخور أو على التراب! أجل! أيام كانت الدموع تتفجر من ينبوع إلهي في صدري، وتمر أخيلة سوداء في مذاهب الجو فأخالني سأقبض بكلتا يديَّ على سُبح الله بين تلك الغيوم المتلبدة!
تلك أويقات تمر على الإنسان في مطارح أيامه فتمزج حياته بالخلود، وتبقى مرتسمة في نفسه إلى ما شاء الله! وعندما دخلت عتبة المعبد المظلم ودفنتني لياليه في ضمير الله، عندما رأيت هذه الجدران المبطنة بالأجيال تقوم حاجزًا بيني وبين العالم، عندما همتُ بأقدام خرساء في وسط هذا المأوى الرهيب، حيث الأسرار والخلود، عندما أبصرت أشعة المغيب تنطفئ على زجاج النوافذ، وشعرت بأن أُذنًا تُصغي إليَّ في هذا الفضاء، وصديقًا غير منظور يدفعني إليه ويخاطبني بلغة أعرف قواعدها وأُدرك جوهرها، أجل، عندما كان ذلك لجأتُ إلى حِضن السيد العظيم وعلى عيني أشعة من أشعة الإيمان وفي قلبي مسامع وديعة لنغمات الحب الخالد!
عن مدرسة … في ١٥ شباط سنة ١٧٩٣
بينما نحن نقيم في زوايا عالم غير ذاك العالم، تحت أعين الله وبين أحضان السلام، نشعر بأن دنيا بعيدة قريبة، وقد نُفخت فيها حياة غير حياتنا، تزأر حولنا زئيرًا رهيبًا وتتكسر أمواجها المصطخبة على قلوب أبناء الله! آه! لماذا يا ترى وُجدتُ بين هذه العواصف، حيث لا يجد الإنسان مكانًا أمينًا يُلقي على أعشابه رأسه المثقل بالآلام، وحيث أفكار الإنسانية تظل باحثة وهي تجسُّ الطرقات العديدة برءوس عُصيِّها، غير قادرةٍ أن تجلس تحت ماضٍ متهدم ولا أن ترمي المستقبل رمية واحدة على رحاه؟ لماذا خُلقت بين هذه المدمِّرات، التي تقتلع الأجيال من الأرض محرقة كل يدٍ تلامس براكينها؟
في ٢٥ شباط سنة ١٧٩٣
إيه أيامَ الأوجاع، أيام السكون والاضطرابات! لقد شربت المملكة دماء الملك، وقام الشعب على الشعب قيامة سالت الأنفس تحت عجيجها، فكل إنسانٍ يحمل شرفًا أو فضيلة، أو قلبًا ونبوغًا، لا بد أن يتحطم على خشبات الإثم! إن إصبع الوشاة تشير إلى الجلادين بالقطع، وشريعة الشعب الوحيدة تقضي بالموت على أولي الجدارة، والفأس الظالمة تحب الرجل العادل ولكنها تختار لشفرتها ذلك البريء المسكين! أيها الشعب السكران بكئوس الدم، إنك لتهدم بيديك ما بناه أبناؤك البُسل، وتُعطي مثلًا ظالمًا لجلاديك!
في ٢٨ شباط سنة ١٧٩٣
لا يبرح خيال الثورة منتصبًا في مخيِّلتي، حافرًا هوة الدم بين أعمدة أفكاري! مبرزًا جسد المجتمع الإنساني يئن على أسرَّة الآلام! الثورة! لا يستطيع أحد أن يدين مُضرمها، فلبانتها مختبئة تحت تراب المآرب! من يستطيع أن يحكم على إرادة الله! أليس عند الله حكمة خفيَّة في سير المجتمع الإنساني؟ ماذا تعلن الطبيعة في طرقاتها الخالدة؟ أين يقف تيارها الجارف ويستريح، أي شعاع من تلك الكواكب العديدة المضطربة تحب أعين المبدع القدير يرقد رقاده الطويل بين اعوجاج سائر الكواكب المضطرمة؟ أية قطرة من مياه البحر تنام نومها الهادئ على فراش الأمواج؟ وأي محيط، راقدٍ على الشاطئ اللانهائي، يقف عن افتراس الحصى المتجمع على ضفافه؟ أي نهار يعمل عمل الأمس؟ وأي أمسٍ كان حكمه كحكم الغد؟ إن الوقت مشتق من الوقت، والأشياء من الأشياء! لا تبلى صورة من صور هذا الوجود إلا لتتجدد صورة أخرى على منبسطه، وأخيرًا إن الآلام تعمل وتبني لتصل إلى الموت! عبثًا يهرب الرجل الفخور ببنائه مذاهبَ هذا العدم من شرائع العالم وقوانينه! أيها الإنسان، ذلك الإله لن يكون إلا إلهك وتلك الشرائع لن تكون إلا شرائعك، وكلما لفظ الخالق عبارة من فمه الرهيب تتساقط لديها قوى الإنسان، ويكون ذلك السقوط جوابًا! ليست الممالك والآلهة والمعابد والدساتير، أجل ليست هذه الملاجئ الضعيفة إلا ترابًا سيجرفه العدم إلى مآتي المستقبل الذي سوف يحتقره ولا يلتقط ذراته عن الحضيض!
كم تناثرت على هذه الأرض عقائد وشرائع وآلهة مختلفة كل الاختلاف عن عقائد وشرائع وآلهة قبلها وبعدها ثم ذبلت ذبول أوراق الخريف واستحالت بعد ذلك إلى تراب لا يزال بآثاره ماثلًا أمامنا إلى اليوم؟ كم من غضنٍ وشجرةٍ وأوراق غذَّت الأرض وأنمتها، وكم من جدول وساقية ونهر سقى البحر بقطراته، ذلك البحر اللانهائي؟ أجل، إن دماغ الخالق يشتغل دائمًا في أدمغة الإنسانية البائدة، تلك الآلات العمياء والأيدي المضطربة، لقد أعطى أفكار الإنسان ذلك المد والجزر اللذين يدفعانه تارةً ويجذبانه أخرى، حتى إذا ما وقفا عن الدوران حول ذلك المحيط الإلهي يبلغ العالم ذلك المنتهى الرهيب! ولكن إذا كانت أفكار الله تقود الإنسانية إلى الانقلابات، فكيف يا ترى ترسم الثورات بدماء التضحيات الطاهرة! أليست الثورة انقلاب الجرائم وميولها وشهواتها؟ كيف يا ترى تعمل الروح السامية، روح الحب، والعدل، والسلام، لخدمة البغضاء والفواحش والطغيان؟ آه! ذلك لأن يد الله تعمل مع يد الرجل، حتى إذا أدركت الفضائل تلك الروح السامية لا يلبث الإثم أن يحرقها ببراكينه! أجل، إن العامل لإلهي ولكن الأداة لبائدة، فالأول يحاول أن يبني العدل على الحرية والثانية تحاول أن تهدم الهيكل على جميع الحقوق، ولا يزال الطرفان يتنازعان بين جلابيب الليل الخطر، حيث الروح المندحرة لا تعود تتبين الفضيلة من الجريمة حتى يأخذ كل منهما وجهة الثأر الرهيب!
ليست الثورة إلا ساحات الحرب، حيث يتلاحم حقَّان مهضومان ويعثران بالوقت والزمان، ويعتقد كل حقٍ منهما أنه يثأر للسماء بدفاعه عن الغرور، غير مبصر في الأسباب إلا أشباح الانتقام وأخيلة الذنوب، ثم يتسلح بحق ملطخ بالدم ويأخذ بالتدمير وإضرام النار! ما العمل؟ والإرادة لا تؤثر إلا الجرائم؟ أمن الواجب أن يندحر السلام ويفسح مجالًا للشرور؟ أمن الواجب أن تطارد الفحشاءُ بسلاح الفحش؟
المدرسة الإكليريكية في ٢ آذار سنة ١٧٩٣
يا للأسف! ماذا حلَّ بأمي وشقيقتي؟ ماذا جرى لهما بين تلك العواصف المنقضَّة؟ ماذا حدث لذلك المقر العذب، مقر السلام، والصلوات، والإيمان؟ هل أحرقته الأراجيف، وطاردت فيه العناية الإلهية والسكون اللطيف؟ فهربت والدتي وشقيقتي وهامتا على نفسهما في مجاهل الغابات والأحراج! آه! إني لأشعر أمام تلك المشاهد المخيفة بأن المبدع الخالق يستطيع وحده أن يُعطي الغفران لذنوب الإنسانية، وإذا لم أحطم قلبي بين أيدي الله لدافع يدفعني إلى الانتقام المقدس، سأقف نفسي لمعاقبة هؤلاء الجلادين، وأحمل في كلتا يدي خنجرين أذهب بهما إلى مقر حداثتي حيث أثأر لكل ذرة من ذراته!
المدرسة الإكليريكية، في ٦ آذار سنة ١٧٩٣
عفوًا يا إلهي وغفرًا، لا يقدر على الانتقام إلا جلالك العظيم! آه! إني لأُلقي سلاحي على قدميك، فلتقع تلك الذنوب والجرائم على هامة الوقت وليس على رءوسهم.
المدرسة الإكليريكية، في ٨ آذار سنة ١٧٩٣
استلمت هذا المساء كتابًا من أمي، فقرأتُ عباراته العذبة بفمٍ يضطرب وعينٍ ملأى بالدموع، مقبلًا تلك الكلمات التي تكاد تكون حياة لولا أنها خرساء لا صوت لها، وأخذت أربعة عشر ذهبًا هي آخر ما كان في كيس أمي!
المدرسة الإكليريكية، في ٩ آذار سنة ١٧٩٣
هو ذا أنا وحيد في هذا العالم، يتيم بين جدرانه! «اذهب يا ولدي، قالت أمي في ساعة الوداع، وليباركك الله بيده الرءوفة، اذهب وعد إلى ذراعي بعد حين»، آه! إن عطفك يا أمي ليرميك في هوةٍ من الضلال، ما أنا في هذا الدير إلا قلب يضم في حناياه نارًا مقدسة، ولم أُوجد بين هذه الجدران إلا لأبقى إلى الأبد مرتديًا ثوب مبتدئٍ أو ثوب شهيدٍ! أجل سأبقى …
عن مغارة النسور في أعالي جبال الألب في الدوفينه، في ١٥ نيسان سنة ١٧٩٣
فلأدوِّن حوادث هذين الشهرين لتبقى أثرًا هائلًا من آثار الثورة الرهيبة!
نهض الشعب نهضة الذئب ووثب على أبواب الكنائس والمعابد يطارد أبناء الله ويسفك دماءهم الطاهرة على أقدام المذابح! هذه يده وقد سكبت النبيذ في كئوس القربان ترتفع إلى شفاهه المرتجفة بسكرة الدم! وهذه أقدامه تطوف الهياكل مدمرة ما يقع عليه النظر الغضوب، وهذه مطامعه تختلس الآنية وتمزق الرسوم! وهناك، كهنة المعابد يرفعون إلى الله صلواتهم من أعمق أعماق أفئدتهم، وقد أمسك بهم الشعب الدنس وطرحهم على الأوحال، حيث تمرغت شعورهم البيضاء وسالت دماؤهم من الدموع! وقد نجا البعض بشبابه أمام دوي البنادق وصليل السيوف، منتشرًا هنا وهناك، باحثًا عن موئلٍ يلجأ إليه أو عن عذاب يذيب نفسه بين شفراته! هذه امرأة تأخذني بيدي في وسط الظلام وتقودني إلى خارج الجدران مشيرة إليَّ بالهرب إلى أعالي هذه الجبال، قائلة: «انجُ بنفسك يا ابني وخذ هذه القطع من الخبز تحتاج إليها في مجاهل الطرقات»، بقيت ستة أيام وست ليالٍ هائمًا على نفسي في مفاوز الأكمات، متوسدًا نواتئ الصخور، ملتحفًا دُجُنَّة الظلام حتى بلغتُ أقدام الجبال مجتازًا تلك السيول المتحدرة من مذاهب القمم، وإذا بصياد يكتشف مقري بنباح كلبه فخلع عليَّ ثيابه رأفةً وشفقة وأخذ ثيابي، بدأت أتسلق مراقي التلال، تلك الأعمدة غير المتناهية التي تكاد ترزح تحت أثقال القُلل وتحجب البحيرات العميقة والأودية السوداء بين الصخور المتهيرة والأطواد المدلة بارتفاعها، أجل، لبثت أصعد تلك الشواهق مضطربًا تحت مواكب «الشلالات» وكانت أشجار الصنوبر تبرز لعيني أخيلتها الرهيبة، حتى وصلتُ إلى مروج خضراء تنبسط كالنجاد على أقدام الذُرى، فأبصرت معَّازًا مسنًّا يتطلع إلى السماء وبين أنامله سُبحة من الخشب، فارتاحت نفسي إلى ذلك الشيخ، وقد وثقت من صديق لا ريب فيه، فتقدمت إليه باسم الله فذعر بادئ ذي بدء لرؤيتي في هذا المكان المنفرد من الطبيعة غير أني سكَّنت روعه بسرد قصتي له فأصغى باكيًا إلى روايتي المحزنة وقسم بيني وبينه ما كان معه من الخبز والحليب، وعند الصباح رفع نظره إليَّ، وقال: «كن مطمئن البال يا بُني فسوف لا تجد إلا السلام عندي، فالبقر قد أكلت جميع ما في المرج من العشب، وغدًا أبحث عن مرج آخر بين جبال غير هذه الجبال، ولكن عندما ينتهي فصل الشتاء ونرحل عن هذه الأكمات نزود خبزًا لأيام الصيف وسيكون لك هذا الخبز؛ لأنك شاطرتني إياه، غير أنه لا يمكنك أن تتبعني إلى حيث يأوى الرعاة مخافة أن يتساءلوا عن أمرك، فشعرك الأشقر لم يتصلب بين العواصف ويداك البضَّتان تفشيان سرَّك أمام هؤلاء، ولا يمكنك أيضًا أن تبقى بين هذه الأكواخ مخافة أن يكتشف مكانك بعض الجنود، فهذه الأنحاء معروفة لدى عساكر الجلادين، أما إذا شئت فتعال معي فأهديك إلى مغارة عميقة لا يدري مكانها سواي، فما من أحد يمكنه أن يبلغها إلا البروق والأرواح وبعض النسور المنشرة في هذه الأصقاع! تعال معي، فيد الله قادتني إلى ذلك الكهف لأقودك إليه فيما بعد، فهناك تحيا حياة تقشف وزهد ولكنك تبقى أمينًا على نفسك، وعندما تحدثني نفسي باحتياجك إلى الطعام أصعد إليك خفية وأضع بين يديك ما يقوم بأودك إلى أن يفرج الله ويفسح لك مجال الحرية، انتبه جيدًا إلى فوهة هذا الصخر، وتعال من وقت إلى آخر تحت جلباب الضباب تجد فيها ما تحتاج إليه؛ لأني لن أجسر أن أذهب إليك حذرًا من أن يراني أحد فيترصدني وينتهي إلى معرفة كل شيء!»
عندما انتهي المعَّاز من كلامه أخذنا نمشي في طرقات وعرة، ونضع أقدامنا بجسارة غريبة، حيث صيَّاد الجبال نفسه لا يجسر على وضع أبصاره، وكانت الصخور تتهاوى تحت أرجلنا إلى أن تتوارى عن الأبصار في مجاهل تلك العقبات، والهواء العاصف يتلاطم على جبهتينا كأنه صقالة السيف، وكانت أعمدة الزبد تتساقط من أعالي الجبال ثم تتصاعد رُضابًا أبيض وتعود تهوي إلى الأسفل خِرقًا خضراء فتملأ ذلك الفضاء بالضجيج الرهيب، فنظرت إلى الدليل فأبصرته يرسم إشارة الصليب على صدره، وقد جسَّ بقدم مرتابة تلك الحواجز المتقلقلة ووثب إلى الأمام فتبعته، وكنَّا نرى زوابع المياه تمر على مسافة بضعة أقدام منا حتى بلغنا وادٍ من الأعشاب والزهر يرويه الزبد بزلاله العذب، فتراءى لنا أفق جديد خلال تلك الصخور الجرداء والمروج الزاهرة، فنزلنا من رابيةٍ إلى رابية ومن منحدرٍ إلى منحدر حتى وقف بي المعَّاز أمام كهفٍ رهيب تنساب الينابيع على جنباته، وهنا أشار إلى ذلك المأوى، حيث الحكمة الإلهية بنت للإنسان ملجأ يهرب إليه من الإنسان، وأخذ يعلمني كيف أصنع من لباب الأشجار قارورةً أضع فيها الماء، وكيف أعمل من القش فراشًا، وأُخرج من البحيرات سمكًا، ثم إنه أوصى العناية الإلهية بحياتي، تلك العناية التي تقوت الإنسان دون أن يكسب ذلك القوت بالعمل والتي تحرس عليه بلا رشدٍ وتدبير، وقال لي: «صلِّ يا بني إلى ربك بحرارة وإيمان فهذا المكان ممتلئ بروحه»، فسجدت وسجد، ثم عانقته وتوارى عن نظري!
مغارة النسور في ١٧ نيسان سنة ١٧٩٣ في الليل
يا جلالَ الليل! أنت عرش الله العظيم حيث الكواكب النارية تحمل بين أشعتها اسم المبدع القدير وتنير به شفق الوجود! أنت يد الله وطيفه وفكرته! وأنت أيها القمر النيِّر الشفَّاف، حيث يخال لي أني أرى هذه الجبال تنعكس على مرآةٍ صقيلة، وأنت أيها الهواء الخافق طيلة الليالي فوق تلك الأصقاع المرتفعة، وأنت يا ضجيج السيول، ويا أيتها الغيوم الشاحبة، التي تمر على هذه الأماكن المنيرة كما تمر أخيلة الأهواء على القلوب الطاهرة، أنتِ كلكِ أسرار الليل التي لا يُدرك أعماقها إلا الخالق العظيم! ولكن، هذه القمم الشاهقة قرَّبتني إليك، فأنا ساجد أمامك كما يسجدون أمام مشهد إلهي!
إن عينيَّ لتغطسان كالشعاع في هذا الجو الصافي! يا لله من هذه الزرقة اللَّدْنة وهذا اللمعان! يظن الناظر إليهما أن مياه البحر، عندما تلامسها نسمة لطيفة فتحرك جواهر الشمس المتناثرة على صفائها، تنعكس على تلك الزرقة وذلك اللمعان! هو ذا كوكب ينحدر إلى الشفق! أرى أشباح الحور والصفصاف تحجب الهلال عن نظري، ويخال لي أن لونها الأبيض المضطرب ثلوج تتساقط وتذوب على الأوراق، أسمع زفرات الهواء تتصاعد من أفواه الجبال، وتتعالى حينًا وتنخفض حينًا ثم تموت! تلك هي النسمات تنوح بعاطفة وحنان، أليست تأوُّهات بعض الأحباب ترتفع ارتفاعًا خفيفًا من هذه النغمات العذبة، وتعطي الهواء أصواتًا كأصوات النساء ثم تعطف علينا فتشاطر نفوسنا البكاء والدموع؟ أيتها الأشجار الموسيقية، أنت قيثارة الغابات، تضرب الأرواح على أوتارك ألحانَ السماء، أنت آلة يبكي عليها كل شيء ويشدو، أيتها الأشجار المقدسة، أنت تعرفين ما يرسل الخالق إلينا، فانشدي، وابكي، وخذي بين أوراقك آلامي أو أفراحي! أجل! لا يعرف سوى الله إن كنتِ تبكين علينا بنغماتك المطربة أو تنشدين!
مغارة النسور في ١٨ نيسان سنة ١٧٩٣
شعرت بالنعاس يثقل جفني تحت القبة السوداء، فرقدت رقادًا هنيئًا إلى أن استفقت على زقزقة الشحرور، هذه مملكتي تبرز بحلة من الزهور في هذا الربيع الجميل! كم هي خضراء! لمن يا ترى أوجد الخالق هذا الوادي الصغير بين هذه اللجج المرتفعة؟ وشيَّد بيديه تلك الحواجز المثلثة التي تحول دون نواظر الإنسان؟ هنا الهوَّة القاصفة حيث يذوب الجليد ويقوم جسر الصخور خلال الموت! هنا النواتئ المجلَّدة التي لن تذوب، هنا أحلام الشعراء تتراءى كالنسور بين المرتفعات، هنا الشعاع الذهبي يضطرب على الأعشاب لدى خطرات الأرواح، هنا المروج الزاهرة تخفق على ذهبها المتناثر أجنحة الفَراش، هنا المياه العذبة تنام على أحداق الأوراق وتملأ أكواب الصوَّان حتى تكاد تفيض وتتدفق، هنا زَبد الجداول يسيل كالحليب على المروج الخضراء، هنا البحيرات الصافية كأنها قطع سقطت من هذا الأثير ونامت نومها الهادئ بين الصخور والأزهار، هنا الخلجان الضيقة تختبئ بين طيات الوادي، هنا المشاهد غير المحدودة تتجلى بوضوح، هنا القمم الشاهقة تنطح الأثير بسهامها البيضاء، هنا الأشباح الرهيبة تُعطي الجبال مشاهد سوداء، هنا الهواء المنعش الفاتر يُسيل بين مراشف العطشان روحًا جديدة، هنا السكون الجميل حيث تنام الروح وتسمع نغمات الأحلام، هنا الحشرات الذهبية تحصد البروق بأجنحتها الخافقة!
في المساء
لكن رائعة هذه المشاهد الجميلة هي هذا الكهف المهيب الذي لم يكتشف ثنياته إلا النسر، في الجانب الشرقي من البحيرة جبل صغير سقط من أعالي الجبال وتحطم قطعًا قطعًا على هذه الوهاد، فبقيت صخوره المجزَّأة مرتفعة على بعضها كأنها حواجز عظيمة قامت كالمَرَدة في هذا المكان المنفرد عن الطبيعة، وفي الجانب الآخر، خمس دوحاتٍ مسنَّة تضلع أجزاعها المجوفة في جميع الجهات، وهناك بعض السنديانات المترامية الأطراف تكتف أغصانها كالجبال على أحجار الصوَّان وتتدلى كالأفاعي السوداء على الأرض ثم تمد بعض أذرعها الرحبة إلى شعاع النهار فتُخفي بعض ذراته عن العيون! أما الكهف فقد قامت حواليه صخور جرداء تحجبه عن نواظر الشمس، غير أن مخرجًا سريًّا من جهة البحيرة يجدد الهواء في ذلك الكهف ويترك شعاع الظهيرة ينفذ إليه من فرجة بين صخرين، لا يمكن لأحد أن يرى من الخارج هذه المغارة السرية، فالصخور والجلبلاب ترتفع كالجدران فوق فوهتها الكبيرة، نسمات لطيفة كأنها لهاث المياه تستولي على هذا المكان، بينما الأرواح والأعاصير تزأر زئير الهول بين الصخور والأدواح، لا يُسمع من هذا المأوى، مأوى نفسي الساكنة، إلا زقزقة السنونو، وصرير الحشرات ذات الأجنحة غير المنظورة، وخرير المياه العذبة في البحيرات ذات الشفار الأثيرية، ناسخة على رءوس الصخور أكاليلَ من الزبد!
في ٢٩ أيار سنة ١٧٩٣
لقد رفعت فراشًا من القش على الجانب الأيمن من الكهف، وعلقت عصاي وساعتي على الحائط، وجمعت بعض الأخشاب اليابسة لأُشعلها في أيام القر وأصطلي على لظاها، أو أشوي عليها بعض الأسماك!