العهد السابع
عن قرية ولادته، ٣ تموز سنة ١٨٠٠
ربِّ! بأية حالة رأيت أمي بعد غياب طويل؟ لم تشأ أن تموت في باريس فآثرت المجيء إلى قرية ولادتها، حيث قضت الحياة بالقرب من زوجها ورأت ولديها ينشآن في حضنها ويترعرعان تحت ذراعيها!
قضيت الليلة مصليًا على حافة فراشها وعندما برزت نجمة الصباح قالت لي: «تشجع يا ولدي! إني أشعر بأصابع الموت تلامس جبيني، فسأتركك إلى الأبد، اذهب وأيقظ شقيقتك … ولكن لا، لا تفعل، فأختك حامل وربما تقتلها رؤية النزع، فيجب أن تنجو بها وأن تضع حاجزًا بين مشهد الموت وبينها»، فأشعلت شمعة وبعد أن صليت ساجدًا على أقدامي وضعتُ في فمها قربانة الحياة ومسحت جسدها بالميرون، ثم قبلت جبينها باكيًا وبعد دقيقة رفعت عينها إليَّ، وقالت: «جوسلين، جوسلين، لا أزال بحاجة إلى شيء آخر يا ابني.»
– وما هو يا أمي؟
– أن تهبني الغفران، غفرانك يا ولدي … فالتضحية التي رفعتها على مذبح حبك لي ولأختك تثقل ضميري وتعذبني!
فلم أُجب وألصقتُ شفتي على يديها الباردتين! «آه! لقد أقفلت أبواب العالم في وجهك يا حبيبي، غير أني سأُهيئ لك مسكنًا أفضل من هذا، حيث الحب والسعادة لا يذبلان!» ثم شعرت بالموت يُمرُّ أنامله على أهدابها، فقالت «اتل على مسمعي تلك الصلوات الإلهية التي ترافق النفس إلى مقرها الأخير»، فرضخت، وكانت تردد ما أقول بصوت كأنما هو همس الموت في آذان الحياة، وفجأة انقطع صوتها فكانت تكمل الصلاة بين ذراعي خالقها، سقط الكتاب من يدي واستسلمت للدموع!
أول آب سنة ١٨٠٠، على ضريح والدته، في الليل!
أيها الليل! اغمرني بأخيلتك السوداء، غدًا أترك إلى الأبد هذه الأرض المقدسة، وهذا الضريح الذي يضم نفسي مع جسد أمي! آه! ليس بيني وبينها إلا ستار الموت على هذا السرير الترابي! لا يحول بيننا إلا طبقة من الرماد، طبقة خفيفة الثقل، غير أنها تحجب العالم بأسره! أيها الليل، دعني أرقد قريبًا من أمي، ألامس شعرها اللطيف، أُقبل جبينها الشاحب، أُصغي إلى دقات قلبها الميت لأسمع صوت الله من تلك النغمات المأتمية! أُبلل ترابها بدموع عيني وأجبله بزفرات قلبي!
•••
ربِّ! تجل لي بين هذه القبور! يا روح أمي، خاطبيني من عالمك اللانهائي، فالصلة التي كانت تربطنا على هذه الأرض لا تزال بيننا ولم يتبدل سوى الوقت والمكان! غير أن قلبينا اللذين فرقت بينهما مسافة الموت يتألمان سرًّا، وكل منهما يبحث عن مكان الآخر، أتسمعين الآن؟ إن عينيك ما عادتا تعرفان الزمان والموضع والرجوع والذهاب، وحبُّك ما عاد يشغل فراغ قلبك النسائي، ولكنه لا يزال يغلف نفسي بغلاف من الطهارة المقدسة! أما أنا فإذا جئت في الليل إلى هذا المكان الرهيب، أُبلل ضريحك بدموعي وأُذيب روحي في هذا الأثير الطاهر، فما ذاك لأن زفراتي تُلهب حفنتك وتدب فيها حرارة الحياة فتصغي إليَّ بعين ومسمع، بل إن الآلام العذبة، تلك الآلام العمياء، تقود الأقدام على غير علم منها إلى حيث يذهب القلب!
تدفق! تدفق يا قلبي! أيتها الأرض، اشربي دموعي، فدموعي قطعة من كبدي! إيهِ تراب مهدي، ألا أقدر أن أُعيد إليك هذا الجسد الذي جبلته بيديك! ألا أقدر أن أسكب حياتي دموعًا من عيني، وأن أُرجع هذه الدموع إلى حيث غرفتها، كما ترجع المياه التعبة من الجري وتدخل في الأرض على قيد خطوتين من ينبوعها؟
•••
أمي، ما قلت لك مرة: إن الانسان لن يعرف الحب الحقيقي إلا متى فقد ذلك الحب!
الحب! ألم أكن قطعة من أمي؟ ألم ترضعني حلب ثدييها؟ وتفتح نفسي ببنان حبها؟ وتدفئني بين ذراعيها؟ ألم أستنشق هواء صدرها الطاهر طيلة أشهر تسعة؟ ألم يوحِ إليَّ خفقان قلبها عواطف نفسها المحبة؟ ألم يكن جسدي كل جسدها؟
•••
أمي، عندما شببتُ تحت ذراعيك وفتحت أذني لنغمات صوتك العذبة، كم من عالم وكم من سماء أنارا حداثتي من خلال بسماتك! لقد كيَّفت عقلي بتعاليمك المقدسة، وكان طرف ردائك شفقي الجميل، وأشعة نفسي ذرة من ضيائك، آه! من كان يستطيع يوم ذاك أن يفرق بين ذينك الوجودين ويعطي كلًّا منَّا قسمته من الحياة، فاصلًا إلى جزأين ما كان جزءًا واحدًا؟
•••
لقد كنا اثنين في شخص واحد يا أمي! كنتِ الجذع وكنتُ الغصن النضير! كنتِ الصوت وكنتُ الصدى! كنتِ الينبوع وكنتُ الماء! تلك وحدة عميقة وقوية، تلك وحدة النفوس التي لا يقوى على ملاشاتها سوى الله مبدعِ الكائنات!
•••
أمي، لا أزال ولدك حتى عند موتك! أتقدر السماء أن تملأ فراغ نفس الأم في السعادة الخالدة، حيث الفضيلة تناديك إليها؟ لا! إن قلبك ليطلب ولدكِ أو العدم! آه! إني أؤمن بالعدم أكثر من إيماني بغيابك! أشعر بجبيني يضطرب كاضطرابه عند قبلتك، يقولون: إن الوجود الحقيقي هو بين ذراعي الخالق، فالخالق وطنُ الأحباء والبائسين!