العهد التاسع
فلنيج، ١٢ تشرين الأول سنة ١٨٢٠
لقد عدتُ إلى سجني الأبدي كما يعود الطائر الكسير الجناح إلى ثقبٍ في الحائط، حيث يهن ويموت!
في المساء، أرى الفلاحين يحيونني من بعيد وهم منتشرون أفواجًا أفواجًا بين كوم السنابل، وعندما أدخل إلى باحة مأواي تنهض مرتا وفي يدها مغزل وتفتح باب غرفتي بدون أن تتلفظ بكلمة، فيثب كلبي الأبيض على ثوبي ويجعل يعض حذائي أو يلجذ يدي. أيها الكلب الأمين، أية رحمةٍ وضع الله في صدرك لتحبَّ الذين لم يعد يحبهم أحد؟ يشهد الله أني ما رفستك مرة برجلي ولا قلت لك كلمة تؤلم حنوك بل إني أحترم دائمًا رفقك الجميل ورقة قلبك كما يجب على كل إنسان أن يحترم أية مخلوقةٍ كانت من خلائق الله، آه يا صديقي «فيدو» يا أخي المسكين! إن السكوت ليفهم علاقتنا الخرساء عندما تنظر إليَّ تلك النظرات اللطيفة، فنفس من أنفاسي يكفي أن يوقظك وأنت منطرح على حافة سريري، حتى إذا قرأت حزني في عيني لا تلبث أن تبحث عن سببه بين طيات جبيني وتعض يدي بشفقةٍ وحب لكي تلهيني عن أفكاري السوداء وتسكن ما يجيش في صدري من الألم! أجل، إن الحب يفوق الذكاء، فاقترب أيها الصديق، يا آخر أمل يضيء في سراج الصداقة، اقترب مني ولا تخف أن أخجل بك أمام عيون الله، تعال والجذْ بلسانك عيوني الدامعة وضع قلبك بالقرب من قلبي، وليحب بعضنا بعضًا أيها الكلب الأمين!
٨ تشرين الثاني سنة ١٨٠٠
مات بائع السلع المسكين ليلة أمس، فلم يشأ أحد من الفلاحين أن يعطي خشبًا لتابوته حتى إن الحداد نفسه أبى أن يبيع مساميره قائلًا: «هذا إسرائيلي جاء من حيث لا ندري، فلنرمه في هوةٍ بين الصخور كما نرمي كلابنا عندما تموت لئلا يدنس مقابرنا المقدسة بجسده»، وكانت امرأته وأولاده يستعطفون المارة بدون جدوى، فأُشعرت صدفةً بهذا العار الإنساني والشكوك الفضاحة فأسرعت حالًا وأخذت أُوبخ هؤلاء المعارضين المسيحيين على قساوة نفوسهم، وقلت لهم: «اذهبوا وانزعوا أخشاب سريري واصنعوا منها تابوتًا للميت»، ولكي أعطيهم أمثولةً في التساهل وأشرح لهم كيف أن الله قد أوجد الشمس ليستنير بها كل إنسان من أي مذهبٍ كان، وكيف أن النعم قد أُسبغت علينا جميعًا بدون تفاوت سردت على مسامعهم هذه القصة الوجيزة، قائلًا: «بينما كان البشر يبحثون عن مقرٍّ لهم في العهد القديم كانت جماعة من الرجال قد هيأت مكانًا لها على ضفاف النيل، وعندما طابت لهم الإقامة أمام الماء العذب قالوا لبعضهم: «إن هذا النهر لإلهنا الوحيد؛ فهو يهب الحياة للذين يردونه ولا يحق لأحد سوانا أن يتمتع بمياهه.»
وفي ذات يوم وصلت قافلة إلى ذلك النهر بعد أن تاهت زمنًا في الصحاري الواسعة وأرادت أن تملأ قربها من الماء، فما تردد هؤلاء الرجال أن طردوها قائلين: «ماء السماء لنا وحدنا فلا يحق لأحدٍ أن يشرب منه ويحيا فعودوا من حيث أتيتم لأنكم لستم بشرًا.» وكأنَّ ملاك الرب سمع خطبتهم، فقال في نفسه: «أُفٍّ لعقول هؤلاء الرجال كم أنها ضيقة!» ولكي يعلمهم أن ماء السماء ملك لجميع الناس، نادى شعبًا كان متخذًا وجهته النيل ليستقي من مائه وفتح له حياض السماء فهطلت المياه بغزارة حتى ارتوى ذلك الشعب التائه في مجاهل الدنيا وملأ قربه من البحيرات العديدة، إذ ذاك رفع الملاك صوته وقال لعبَّاد النيل: «أيها الشعب الأحمق، إن الغيوم تسقي في الأماكن البعيدة ذلك الشعب الذي ترفضه أنت، وينبوعها أرفع وأعظم من ينبوعك، اذهب وجل في العالم تجد أن لكل ذرية نهرًا يتحدر من غاباته، وأن جميع تلك السيول تولد من مكان واحد، فالله يسكبها ساعة يشاء ويحولها إلى أنهر وجداول، إياك أن تمنع ماءك عن الذين بحاجةٍ إليه أيها الشعب الجاهل، واعرف أن لك إخوةً على الأرض وأن الذين لا يملكون ما تملك عندهم الأمطار في الشتاء والندى في الصيف، وأن الله لا يفرق بين شعبٍ وآخر فكل شعبٍ هو شعبه وكل ماء ماؤه.»
أتعتقدون أن الأشعة الإلهية هي ملكٌ لكم دون سواكم؟ أتعتقدون أن ليس وراء قممكم هذه إلا الظلمات؟ وأن الذين لا يستنيرون بمذاهبكم وأديانكم يسيرون عميًا في طرقات الموت؟ لا! بل تيقنوا أن الله ينبوع النور يسكب ضياءه في جميع النفوس وفي كل الأجفان، وأن لكل رجلٍ يومه ولكل عمرٍ أشعته، فاحذروا أن تقيموا بين الله وبين إخوتكم خيال كبريائكم ويدَ غضبكم!»
هذه المغزاة أثَّرت في نفوسهم وبدَّلت عواطفهم فرضخوا لإشارتي طائعين!
الفلَّاحون
أحيانًا، بعد أن أكون قد تلوت صلاة الصباح أخرج من غرفتي متأبطًا كتاب التوراة وأهيم في مجاهل الحقول متصفحًا سفر الطبيعة صفحة صفحة، أجل، إن الذي يستطيع أن يقرأ مثلي هذا الكتاب العظيم لا يجب عليه أن يستسلم للملل أو يتظلم من الحياة!
هذا الصباح، دفعتني نفسي إلى التجوال في أعالي القمم فبلغت مرتفع هضبةٍ وعرة تنبسط على سفحها بحيرة جميلة ويحيط بها جليد تكتنفه أشجار الحور والصفصاف! بلغتُ تلك الهضبة فتراءت لي أغصان الكستنا والأدواح القديمة العهد تجزئ في الفضاء قببها المفرضة كأنما هي جدران برجٍ قديم أعمل الزمن في حجارتها حديده القاطع! رأيت تلك الأدواح تعير السماء زرقة أشد من زرقتها وتنفرج عن سهول واسعة تفيء عليها بظلالها الغضة فتدع الناظر يرى من خلال أغصانها تلك البحيرة الفضية، وقد لاعبت الشمس شعاعها الذهبي على تموجات مياهها، وذلك القارب الصغير ذا الأجنحة البيضاء يجري مع النسمات كما يمر جناح الطائر من غصنٍ إلى غصن، ورأيت الأوراق المرتوية من الليلة الرطبة تتدلى بعذوبةٍ ولطف وتقطر قطرة ما في طياتها من الأنداء المضطربة، فأسندت ظهري إلى بعض الجذوع وجعلت أُسرح طرفي في جميع الجهات، فإذا بي أسمع وطء أقدام صاعدة ذلك المرتفع وأصواتًا يتخللها عجيج البقر، وبعد برهةٍ قصيرة أبصرت فلاحًا جاء يحرث قطعة من الأرض ومعه بقرتان وسكة وبغل يُقل امرأته وأولاده، ولما اختمرت مخيلتي بمشاهد الطبيعة أخذتُ قلمًا وورقة ودوَّنت ما أملى عليَّ الجمال!
•••
جلس الرجل على جذع شجرة تاركًا بقرتيه تلهثان ومسح بيده عرق جبينه، بينما كانت امرأته وأولاده يجمعون الدردار ويلقونه أمام البقرتين، وبينما كانتا تجتران بسكونٍ وهدوء كان الظلال ينطوي شيئًا فشيئًا تحت الشمس الصاعدة ويموت على أقدام الصخور وبين الأشجار. بعد برهةٍ قصيرة نهض الفلاح ووضع النير على عنقي بقرته وأخذ المقبض بيده ثم اتجه إلى طرف الحقل ليفتح الأتلام.
•••
أيها العمل، يا سنة العالم المقدسة، كل أمرٍ ينفذ لدى إرادتك! يجب أن تُرطب الأرض بعرق الجباه لكي تخصب وتنبت! يجب أن يشق الإنسان أحشاء تلك الأم، حيث تذر الأثمار والزهور، كما يعض الطفل ثدي أمه ليجري الحليب في فمه!
•••
هو ذا التراب يتشقق تحت المحراث ويتراكم قطعًا قطعًا، فتتلوَّى الديدان والحشرات في أحشائه، وتتفرق الأعشاب والجراثيم هنا وهناك، فيدوسها الفلاح برجله ويُغرز محراثه بشدة في الأرض، فيثب التراب من أعمق أعماقها!
•••
أيتها الأرض، أنتِ تَحيين وتُحيين! لقد كانت أحشاؤك جنةً قاحلة، غير أن الطبيعة التي كانت قد أخفت عن عيون الرجل أسرارها ومقدراتها، عادت فكشفتها له تحت أول تلم من أتلامها، عندما تشققت الأرض لأول مرة، وشربت عرق الإنسانية الطاهر، نشرت السماء طياتها وخفقت عروق التراب فأنشدت الملائك المستغربة ثاني معجزة من معجزات الله!
•••
عند هذا، نهضت الرجال المسحورة وأوثقت بقرها على العجلات، فتدفقت المدن في مطارح السهول وأقلت المراكب على أجنحتها العظيمة، كما تقل السنونو إلى أعشاشها، قوت الأمم!
•••
ولكي يحفظ كلٌّ قسمته، القسمة التي حرثها بيده، وضع حدًّا بين قطعة وأخرى، وشعر بالعدل في قلبه فسن قانونًا لجميع الحقوق نشره في كل الأصقاع، ولكي يقدس شرائعه لجأ إلى الشريعة العليا وطلب القاضي فرأى الله!
•••
وأما الأهلون، فإنهم بدءوا ينمون من سنةٍ إلى سنة، ونشأت محبة الوطن في صدورهم، حصاد المجد والقوة، وقد زرعه آباؤهم في السهول المقدسة!
•••
وأما المعابد — معابد الخالق العظيم — فقد خرجت من أحشاء الصخور، واقترب إليها الإنسان باكيًا! فسرَّ الله من أصوات تمجيده صاعدة من فم الرجل، ولكي يحفظ تذكار هذا التمجيد تقبل السنابل على مذبحه!
•••
هو ذا الفلاح وامرأته يقودان البقرتين إلى نبعٍ يتفجر من صخرة، فلتشربا مع هذه المياه نسيان الأتعاب! رب! اهد كل إنسانٍ إلى ينبوعٍ يرد منه، فللإنسانية ساعات عطش مؤلمة، وأفض من ينبوعك السري قطرات الحب والسلام على الشفاه المجففة!
•••
آه! كلٌّ عنده هذه القطرات الروحية، فمنهم من يشربها من قلب امرأة، ومنهم من جبين طفل أو ولد، أما أنا فينبوعي ليس في هذه الأرض!
•••
مياه هذا العالم مرَّة عند من شربت شفتاه قطرات الحب! لا، ليست مياهي في هذا المأوى، بل هي في زفراتي وآلامي، في شهيق صدري، ونزاع أفكاري، وأما قطرة الأمل فمن دموعي أشربها!
•••
هو ذا الفلاح قد حل وثاق بقرتيه فنامتا بعيدًا عن المحراث في ظلال أوراقٍ كثيفة وجلس مع امرأته وأولاده إلى طعامٍ مؤلف من الثمار والبيض وقطع من الخبز، وعندما انتهوا من الغذاء أخذت المرأة ابنها الطفل وأعطته ثديها ليرضع ثم أسندت ذراعها إلى جنب زوجها ونامت نومها الهادئ!
•••
ارقدوا، ارقدوا تحت غيوم الأوراق الخضراء ولتجمعكم سنَّةُ الحب أيها الرجل والمرأة والأولاد! إيهِ موقدَ الحب الخافق، يا شعلة الوجود الطوافة، أنتِ تصلين القلب بالقلب والنفس بالنفس، وتحكمين عرى الحياة بحبالك السرية!
•••
هو ذا الجرس يدق من بعيد فيقف الفلاح لدى ندائه المقدس حاسر الرأس، ويجمع يديه القويتين رافعًا نفسه فوق الأتلام، بينما يكون الأولاد ساجدين على ركبهم، جامعين أناملهم الصغيرة في يدي أمهم!
•••
أيتها الصلاة، يا نسمًا يهب على الأنفس، إن قلب الأم يتنفس بك، والهواء العاصف ينشر أصواتك، وشفاه الأطفال تتلفظ بك، والأطيار تُصغي إليك في غاباتها، أنت تصعدين من مكامن الطبيعة كهمسٍ سري لا يدرك معناه إلا ملائك الرب، فالتنهدات، والأوجاع، ودموع الثكالى والمظلومين ليست إلا تسابيح وأناشيد!
•••
يا همس الصلاة المقدس، أنشدْ أغنية آلامي في فؤادي الوجيع، ومُر قلبي الذي تحطمه قيثارة النسمات السماوية، أن ينفجر نعمًا وبركات!
•••
رب! كما يزرع الفلاح بذوره في تراب السهول ويحصدها أيام النضج، هكذا حكمتك تبذر وتحصد الإنسانية — تلك البذور النبيلة التي تنبت للخلود — رب! اسكب أنداءك على مروج الحياة المعذبة، وليُطلع الطين الحي رجالًا وزهورًا!
في ٢١ تشرين الثاني سنة ١٨٠٢
جاءني رجل يقول: «في مزرعةٍ صغيرة قائمة على طرقات إيتاليا امرأة مريضة لا تزال في مَيعة شبابها تطلب كاهنًا» أأصل قبل فوات الوقت يا ترى؟
عن ملتافيرن في ٢٢ تشرين الثاني سنة ١٨٠٢
لم يكن ينير الغرفة المظلمة إلا مصباح واحد، وكانت أخيلة الخدور تحجب الوجه عن نظري، فلم أستطع أن أتبين في تلك العتمة إلا جبينًا شاحبًا مستلقى بوهن على وسادة السرير، وشعورًا شقراء مستطيلة مبعثرة هنا وهناك!
«يا أبت»، خرجت هذه الكلمة كالهمس من فم المرأة ونفذت إلى أعماق نفسي، فلم أدرك أي تذكارٍ مبهم رنَّ في صداها، غير أني تجلدت وجلست مضطربًا إلى وسادة السرير، عفوك يا أبت وغفرانك، لقد كلفتك أتعابًا كثيرة بطلبي إياك من تلك الأصقاع البعيدة، فالطرق شديدة الوعورة، والأيام باردة وقصيرة، ولكنك تذكر أن المسيح كان يحمل نعجته على ظهره مهما كانت حقيرة غير خائفٍ أن يلطخ ثيابه أو يُدمي قدميه، واحسرتاه! ما من أحدٍ كان جاحدًا شرفه ودينه كما جحدتهما أنا: بيد أني كنت فيما مضى أحمل اسم الله في قلبي وأود اليوم، قبل رحيلي من وادي الآلام، أن أعود فأموت على أقدام الراعي الصالح، طالما حولت مسمعي عن صوته العذب ورميت نعمه ساخرة بها، ولكن قبل أن تحكم على ذنوبي حسب شريعة الإيمان، تنازل يا أبت واسمع قصتي كصديق ذي عاطفةٍ ووجدان! ماتت أمي وأنا في أيامي الأولى وألقتني بين ذراعي والدٍ أحبني حبًّا لا حد له وسقاني حنانه وعطفه إلى أن بلغت الخامسة عشرة فتوفي والدي وتركني يتيمة! يتيمة؟ آه لا! لا أدري من الذي أنزل من السماء صديقًا تعهدني طيلة عامين! شابًّا ذا جبين ملكي وقلبٍ كقلب الأم، ذا بسمات إلهية وعين ملؤها أشعة وحنو! بقينا عامين منفردين معًا في الجبال، وكنت أحبُّه بدون أن أفكر مرة بذلك الحب، وكان يحبني! غير أن ثيابًا خداعة كانت تخفي كنه أمري، فنشأ حبنا البريء الطاهر في كهفٍ مظلم! أجل! كان يحبني! عفوك يا أبت واغفر لدموعي! إن شفتي المحتضرتين لتستعذبان هذه الكلمة الطاهرة! كان يحبني! أجل، هذه الكلمة لا تزال تدوي على حافة قبري! ومهما كانت حياتي ملأى بالعار فالله لا يتخلى عني في الساعة الأخيرة؛ لأنه أحبني! …»
كانت نبرات صوتها ترتفع ارتفاعًا بطيئًا غير أني ما عدت أسمع شيئًا: لورانس! … أكانت هي! ما عدت أتبين إلا أشباحًا تمر في الغرفة أمام نظري التائه، وكانت أفكاري تتدفق كالسيول من جبيني الشاحب! فحدثتني نفسي المضطربة أن أقتلها قبل منحها الغفران المقدس غير أني عدت فتجلدت قائلًا في نفسي: «أأقدر أن أرفض مشيئتها وأنا رجل الله؟ آه لا! من يستطيع أن يمنحها غفرانًا أقوى من غفراني؟ من يتمكن أن يذوب في أجفانها روح الله غير قلبي المحب؟ أية دموع تمتزج في دموعها أطهر مما في عيني؟ أليس الله هو الذي أرسلني إليها؟» كنت جامدًا كالتمثال أمام هذه الشكوك إلى أن تسكَّن جأشي فسمعت صوتها يستعيد نبراته قائلًا: «واحسرتاه! ما كادت يد القدر تفرق بيني وبينه حتى همت على نفسي في مجاهل العالم، وارتميت في لجج العار والفحش! فالزوج الذي جمعني به الحظ دون قلب لم يلبث أن أُخذ بجريمة حبي؛ لأن احتقاري له وسأمي منه حولا عطفه وتعلقه بي إلى غضبٍ ومقت، فمات حسرة وكان يعبدني، وما غفرت له حبه إلا في ساعته الأخيرة! …
•••
عند هذا، أمواج من عبَّاد جمالي تدفقت على قدمي فتركتهم يحبونني بدون أن أحب أحدًا منهم؛ لأن طيف صديقي كان يحيط بي كالغيوم ملقيًا بيني وبينهم جمال صورته العذبة، آه! ويل للذي يرى أمام عينيه رؤيا لا تمَّحي!
•••
وأخيرًا كنت أحاول وأنا سكرى بالتذكارات المحرقة أن أحبَّ جبينًا من تلك الجباه المعفَّرة على قدمي، ولكن كنت أشعر بروحي تتلاشى الذكريات، باردة كالرخام في وسط تلك الشعلة التي أضرمتُها بيدي، فأُبعد ذاك الجبين المثلج قائلة: «اذهب فما أنت الذي أحب!» أجل، كنت أنظر إلى ذلك الإله الذي نزع صديقي من بين يدي نظرة الانتقام، وأستطيع الآن أن أقول لك، أمام ذلك الإله نفسه، أمام الحقيقية، أمام ذلك الطيف الحبيب وتلك الذكريات المقدسة، أجل أستطيع أن أقول لك: إن قلبي لا يزال إلى الآن طاهرًا عذريًّا! أجل، ونفسي لا تزال عذراء وستحمل إلى القبر تلك الصورة الشريفة — صورةَ من أحبت! …
•••
كم أني أتمنى أن أرى قبل الموت ذلك المنفى الجميل، تلك الجبال المرتفعة، ذلك الكهف الطاهر، وأجتمع ولو بالحلم بحبي السماوي وبراءتي الأولى، كم مرةٍ أحييت بالتذكارات تلك الصخور المنحنية، وضممت إلى صدري ذلك الطيف الجميل!»
•••
عند هذا صمتت قليلًا فسمعت أسنانها تصطك وأبصرت يدها تضطرب، ثم أردفت قائلةً: «أنت تعلم الآن ماذا كنت فحاكمني يا أبت!» فرفعت عيني إلى السماء وبسطت ذراعي فوق رأسها وباركتها بقلبي مصغيًا إلى ذنوبها، وعندما انتهت قلت لها بعض كلمات تخللتها الدموع وراودتها الزفرات وقبل أن أسكب البراءة في نفسها قلت: «أنادمة أنت على جميع ذنوبك يا سيدتي؟» فأجابت «نعم! إني نادمة على كل ما يوبخ ضميري ويثقل على قلبي، نادمة على أيامي المتلفة، على حياتي الدنسة، نادمة لأني أشعلت زفراتي في قلوبٍ نجسة بعد أن أشعلها الله في قلبين، أجل إني أندم على كل ذلك ولكن لن أندم على أني أحببته! فإذا كان حبي مذنبًا أمام الله فليعذبني انتقامه في اللانهاية! لا أقدر أن أنزع نفسي من ذلك القلب حتى في آخر دقيقة من دقائق حياتي! فرسمه الجميل منطبع في عيني المائتتين! آه لو كان هنا الآن، لو أراد الله أن يُعيده إليَّ! لو نظر إليَّ من خلال الموت وسمعت صوته العذب لشعرت بالحياة راجعةً إليَّ؛ لأن نغمات صوته تسكِّن آلامي حتى على حافة القبر!»
فصرخت قائلًا: «لورانس! لورانس!» فنهضت لتتبين وجهي ولما وقع نظرها على نظري، قالت: «ربِّ! هذا هو!»
– نعم يا لورانس، هذا أنا بعيني، أنا صديقك القديم، أنا أخوك حيًّا بالقرب منك! لقد أرسلني الله لكي أُعطيك يدي وأُمهد لك طريق النجاة! لقد جئت أغسل ذنوبك بدموعي! فخطاياك يا ابنتي ليست إلا تعاستك، أما أنا الذي ألقيتُ الاضطرابات في حياتك، أليست ذنوبك ذنوبي أنا؟ أجل، إني أحملها على كاهلي وأُكفِّر عنها بآلامي! تقبلي يا لورانس من قلبي ذلك الغفران الذي لن يُعطى إلى أحد! تقبلي من هذه اليد، التي خطفها الله نفسه من يدك، إكليلك الناضج قبل أوانه وحياة الخلود! لورانس، إني أحلُّك من خطاياك، باسم الآب!
وبينما كنت أكمل إشارة الصليب شعرت بيدها تضغط على يدي وتقربها إلى فمها بلهفةٍ وشوق وقبل أن أنتهي كانت روحها قد فاضت مع تلك القبلة الأخيرة!
بقيت يدي طيلة الليلة في يدها الباردة الصفراء إلى أن برز الفجر فجاءت نساء المزرعة لتواريها التراب …
عن مزرعة ملتافيرن ٢٤ تشرين سنة ١٨٠٢
عندما فُتحت وصيتها وجدت أنها تضع بين يدي كل ما تملك، ثم إنها تتوسل أن يدفن جسدها في قبر والدها وأن يتعهد دفنه كاهن واحد في ظلمة الليل!
•••
آه يا لورانس! أنا هو الكاهن الذي سيرقدك في سريرك الأبدي! إني أتقبل هذا الجسد ولكني أُرجع المال، فما أنتسب إليك وتنتسبين إليَّ إلا في السماء!
في ٢٦ تشرين الثاني سنة ١٧٠٢ عن مغارة النسور
رب! أطلق سبيل خادمك! فقد شرب قارورة الحزن، وقطع طريق الآلام!
في ٢٧ تشرين الثاني
جاء أربعة فلاحين ليُقلوا جسد الميتة على أغصانٍ من الصفصاف، فرحلنا في الليل وكنتُ أمشي خلفهم مخافة أن تخونني الزفرات فيرى الفلاحون على وجهي خصام الإيمان واليأس! كانت الليلة من تلك الليالي الرهيبة التي تأخذ بشجاعة الإنسان فتلقيها في لجج الخوف، وكانت الطرقات الوعرة تشرب الضباب المثلج، والغيوم المتلبدة تلامس الأشجار عند مرورها، والأوراق الصفراء تتموج على الأرض، وكان هواء الشتاء الثقيل يهبُّ هبوبًا شديدًا فيهز التابوت بين أذرع الفلاحين ناثرًا أزهار الأكاليل على وجهي الشاحب كأنما هو رمز الحظ الغريب يرمي على جبين الإنسان السعيد حطام أفراحه ومسراته بسخريةٍ وحقارة! وكان القمر التائه بين الغيوم الشاحبة يضئ تارةً على أغصان الصنوبر وطورًا يسترجع نوره كالضنين بماله فيتركنا عرضةً للظلمات وهدفًا للعثور، أما أنا فلكي أكمل ما عُهد إليَّ وأُخفي سرائر نفسي كنت أحاول أن أُنشد بعض ما ينشدونه في جنازة الميت غير أن نبرات صوتي كانت تتقطع في كل عبارةٍ أتلفظ بها وتستحيل إلى زفراتٍ وشهيق! لم يبق عليَّ إلا أن أتبع من أحب! لم يبق ما آسف له في هذا المنفى الجميل! فكل ما كان قد اضمحل وتلاشى وأصبحت وحدي!
•••
كان الفلاحون يقفون من وقت إلى آخر ويضعون حملهم الرهيب على الأعشاب الرطبة ثم يذهبون عطاشًا إلى بعض البحيرات، فأبقى وحدي، مصليًا بخشوع أمام النعش، تاركًا شفاهي المضطربة تلامس حافة الأخشاب! ثم أنهض متثاقلًا وأسير في طريقي كأني رويت غلتي من أحد الينابيع.
في تلك الساعة كان الغسق يكشف الأفق شيئًا فشيئًا فنظرت إلى ذلك المشهد كما ينظر الإنسان إلى طيفٍ من خلال أحلامه! كلُّ صخر من تلك الصخور كان يتلفظ باسم لورانس، فهناك الصخرة المجوفة، حيث كان المعَّاز يضع لنا الطعام كل ثلاثة أشهر، وهناك الجسر، حيث رأيتها لأول مرة هاربة من الجنديين، وهناك الوادي الصغير، وادي الحب والأحلام، وهناك البحيرة المتموجة والأزهار الجميلة!
وأخيرًا بلغنا تربة والدها فغيبنا الجسد في تربة بالقرب منها، وبينما كان الفلاحون يحفرون في الأرض كنت جالسًا أمام المياه، ملقيًا رأسي الواهي بين يدي، مصغيًا إلى ضربات المِحفَر تتلاشى عند كل ضربة منها صورة من صور هذه المشاهد وتتوارى مع التابوت، وعندما حُملت الجثة لتُلقى في ذلك التَّلَم اللانهائي تمنيت أن آخذها فترة بين ذراعي وأضمَّها إلى صدري حتى تصغي إلى دقات قلبي من خلال الموت وتستريح ولو قليلًا على ذلك الصدر الذي أحبته في أيام طهرها وحلمت به في ليلها العصيب!
•••
عندما توارت لورانس عن هذا العالم شعرت أن واجبًا لا يزال عليَّ، فالتفتُّ إلى الفلاحين وقلت لهم ليعودوا وحدهم وبقيت أمام الضريح أبكي بسكون وخشوع ساعة الوداع الخالد!
آه، إن الذي حدث في تلك الليلة الرهيبة بين نفسها ونفسي، بين نفسها الراقدة في عالم البقاء ونفسي المضطجعة على تراب الفناء، لا يقدر إنسان أن يصفه! إن من الكلمات المقدسة ما لا يجسر لسان بشري أن يتلفظ بها ولا تجرؤ يد أن تدونها بل على النفس وحدها أن تصغي إلى فحواها وتحمله إلى عالم الخلود!
•••
عندما أفرغت قارورة دموعي أمام الخالق وددت أن أعلق نظرة أخيرة بتلك الأماكن المقدسة فقضيت الساعات الطوال طائفًا بين الصخور والبحيرات مسترجعًا تذكاراتي القديمة باحثًا عن آثارنا، وقد أُغمي عليها تحت الجليد! فرأيت الأعشاب قد غمرت كل شيء بأمواجها المتسلقة كأنما هي بحر من النبات، وأبصرت الأشواك تمتد في كل الجهات فتعوق الأقدام عن المسير، فالأغراس التي كنا نبسم لها لم تعد تعرفني والبحيرات التي كنا نردها تحولت إلى قذارة وصبغت الأوراق المتناثرة زبد شاطئها بصفرة الموت، أما الأدواح التي كانت تحجب الكهف بأغصانها فقد استحالت واأسفاه إلى خرائب كالحة وأوت الحراذينُ في جذوعها المنتنة، فاتجهت نحو المغارة بأقدام متثاقلة مضطربة ومشيت على أوراق الخريف المتراكمة على بابها، وبينما أنا أطأ تلك البقايا سمعت شيئًا يطقطك تحت أقدامي فانحنيتُ إلى الحضيض المصفر فأبصرت عظامًا عرفت أنها عظام تلك الوعلة المسكينة، وقد أغفلناها بين تلك الصخور الجرداء فماتت من الجوع تاركة عظامها تبيضُّ على عتبة الكهف، وأخيرًا دخلتُ إلى منفاي القديم وقد أمسكت لهاثي من الرهبة فجمد الدم في عروقي وتصبب العرق البارد من جبيني! إيهِ معبدَ السعادة المائتة ما الذي أخنى عليك في مدة قصيرة من الوقت؟ ما هذا التراب، وما هذه الوحول على بابك السري؟ لمَ هذا العوسج يمنع النسيم عن الدخول إليك؟ لماذا لم تعد الطيور تشرب من المياه المتجمعة في حفرة صخرك؟ أين أعشاش الحمائم والسنونو، هل فتكت بها أضراس الثعالب؟ لماذا أصبحت دمارًا وتدنيسًا بعد أن كنت مأوى السلام والشفقة؟ ما هناك؟ إني أرى عظامًا ضامرة وهياكل زرقاء تلطخ هذا المقعد المقدس، حيث كانت لورانس ترقد رقادها العذب على فراش من القش!
أيتها الأرض، يا حمأةً تُنبت الأزهار وتعفِّرها، لماذا تحرثين أقدامنا في مروجك؟ ألا تأذنين لنا أن نطبع على وجهك ولو آثار حسراتنا؟ أتأبين أن نشاهد أفراحنا، حيث ذرفنا الدموع؟ ألا تُبقي قبورنا في أحشائك بعضَ رمادٍ من أجساد أحبابنا؟ أُفٍّ منك أيتها الأرض، فما أنتِ إلا حُقارة وتدنيس!
خرجت من الكهف بحدَّة وغضب فرأيت السيول قد بلغت البحيرة، وغطت الثلوج أعشاب الأرض كبساط أبيض، فبرز قبر لورانس كأنه رابية خفيفة أو كمندوفٍ من القطن يجمعه ولد صغير! عندئذٍ أبصرت شحرورين، وقد راعهما ذلك القبر المتحرك، يحاولان أن يهربا فيواربان تارة وينتفضان أخرى تحت الهواء البارد فعرفتهما وناديت كلًّا منهما باسمه، غير أن دوي السيول حمل ندائي وخنقه في لجته، فنزلت تلك القمة مشتِّتًا أفكاري حتى لا أفكر ولا أرى وكأن رصاصًا كان يجر قدمي!
فلنيج في ١٦ كانون الأول سنة ١٨٠٢
هذا المساء، صعدتُ إلى المرتفعات البعيدة لأتفقد بؤساء الأكواخ، وكان الظلام يغلف السهول الخرساء بغلاف حالك، والقمر المتأخر يبرز كجمرة من النار في وسط قمين عظيم فيُذوِّب أشعته على الروابي والمنحدرات، ولما بلغت منتصف الطريق جلست لأستريح فترة من الوقت، وكان السكون شاملًا في مذاهب الطبيعة فخلتني أسمع خفقان الكواكب في أبراجها، وبعد دقائق قليلة خُيل إلي أني أسمع لهاثًا فاستفقت من تأملاتي وأصغيت، فإذا هو لهاث شاق صاعد من صدر إنسان تخلله نحيب وشهيق، فانحنيت إلى جهة الصوت وناديت مرارًا فلم يجبني أحد، فنزلت إلى الجسر من عقيق السيل وكان القمر يتموج على الحصى فينير تلك العقبات، ولما دخلت إلى خميلة غضَّة تحت ذلك الجسر أبصرت ويا للعجب رجلًا لا يزال في ميعة العمر مستلقى على التراب ورعشة الموت منتشرة على قسمات وجهه، وأبصرت ذراعه ملقاة على شيء أبيض مستطيل ويده تضغط على قلبه كأنما هي تخفي كنزًا عزيزًا لديه، فتراجعت قدمًا إلى الوراء غير أن الشفقة دفعتني إلى الاقتراب منه، فأخذت قليلًا من الماء وألقيته على جبينه المغمى عليه، فاستفاق وفتح عينًا مائتة ونظر إلى ثوبي، ثم رأى إذا كان حملُه لا يزال في موضعه، فسقيته بعض نقطٍ من نبيذٍ كنت قد أعددته في قربة علقتها في وسطي للطريق، وعندما استعاد قوته أخذ يبحث في نفسه عن عبارة شكر يسديها إليَّ ثم جلس جلسته، فسألته قائلًا: «ماذا تفعل هنا يا صديقي، تحت هذا الجسر وفي مثل هذه الساعة من الليل؟ أأنت مجرم يطاردك إثمك، أم بائس لم يعد لديه مأوى يلجأ إليه في ليالي الشتاء فجاء يختبئ تحت هذا الجسر؟ لا تخف مني يا بُني، فأنا عين الله وأذنه، وواجبي المؤاساة وغفران الذنوب! أنا كاهن هذه الجهات فقل ولا تخف»، عند هذا رأيت شعاعًا من الأمل يمر على جملة وجهه فجمع كلتا يديه، وقال: «كاهن القرية؟ أحقيقة ما تقول؟ آه! إن الله هو الذي أرسلك إليَّ لأرتمي على قدميك، أيها السامري الصالح دعني أموت بين يديك»، فقلت له: «وماذا تنتظر مني؟» فأجابني: «انظر أي شيء أضعه على قدميك وتحت رحمتك!» عند هذا نهض من مكانه فأبصرت على التراب صندوقًا من الخشب كبيرًا تُغطي جوانبه قماشة من الكتان الأبيض عُلقت في أطرافها باقات من الزنبق، ورأيت غصنًا من البقس اليابس يعلوه إكليل من الأزهار الاصطناعية كتلك التي يرفعها المهنئون إلى الخطيبين ساعة زفافهما، فعرفت أنه نعش امرأة، فصرخت فجأة في وجهه قائلًا: «أيها المسكين! ماذا كنت تصنع؟ تكلم! أكنت تدنس الأموات فسرقت من القبر سرَّه؟» عندما سمع كلامي علا جبينه مسحة من الألم فجمع يديه على التابوت، وقال: «آه! يا سيدي أأنا أُدنس الأموات وأنزع من القبور أكفانها؟ لقد مضى عليَّ يومان وأنا رازح تحت ثقل هذا النعش، ذلك لأني لم أستطع أن أنال من الأحياء مساعدة يدٍ تباركها أمام هيكل الرب، أو صلاة لنفسها المسكينة! فهذا النعش ملكي وهذه الميتة امرأتي!»
فأجبته: «أوضح ما تقول، فسوف لا تصلي وحدك على هذه الجثة»، ثم جلست قريبًا من النعش وأصغيتُ إلى كلامه!
«كنت يا سيدي حائكًا مسكينًا، أعيش مع امرأة تزوجت منها صغيرًا فرُزقت منها طفلًا تعهدته حتى بلغ الثالثة من عمره، كانت امرأتي تطرز الحرير، وابني يجهز المغزل أو يحل الخيوط، وفي المساء كنا نجلس إلى بعضنا أمام النافذة ناظرين إلى الشمس هاوية حتى تغيب فنأنس برائحة الأزهار المنتشرة من أواني الخزف ونأخذ طعامنا المؤلف من الثمار والخبز وبعض الحبوب، بينما أحدنا يهز سرير الصغير الباسم تحت ضباب أحلامه العذبة، آه! يا أبت يخيل لي أني لا أزال أراهما كما كانا، فهذا المشهد يؤلمني ألمًا لا ألم بعده! واحسرتاه! إن أيامنا السعيدة لم تطل، فالله ما لبث أن أخذ الصغير من بين ذراعينا على أثر حمى شديدة أودت بحياته فجأة فبعت صليبه الذهبي وابتعت به نعشًا وأريته فيه، وألبسته أمه ثوبه الأبيض بيديها كما كانت تزينه به في أيام الأعياد ثم نثرت الأزهار على رأسه وزودته دموعها وقبلاتها، أما أنا فقد نزعت من إصبعي خاتمي الذهبي لأشتري بثمنه حفرة لا تزيد عن أربعة أقدام!»
«وكأنَّ هذا الألم الفجائي كان شديدًا على قلب زوجتي فماتت في الليلة نفسها التي مات فيها الطفل! أجل ماتت بدون أن أتمكن من معونة طبيب يتعهد مرضها أو كاهن يحضر ساعة نزعها الأخير، فلجأت إلى القديسين أطلب عونهم وكانت قد زودتني بهذه العبارة الأليمة: «عِدني أنك لا تلقي بجسدي عاريًا في حفرة الأموات، وأنك تصلي على جثتي في الكنيسة حتى يحملني ملائك الرب إلى ذراعي خالقي طاهرة نقية كزنابق نافذتنا»، فوعدتها يا أبتِ ولدى هذا الوعد فاضت روحها سعيدة مغبوطة، واحسرتاه! كنت أخالني سأنجز وعدي، غير أن العالم عديم الرفق بالبائس، فأخذت أبحث بلا جدوى عن أخشاب أؤلف منها نعشًا للفقيدة وعن كاهنٍ يصلي على نفسها بلا أُجرة!»
«عدت إلى الغرفة وحيدًا وجلست أمام الشموع ناظرًا إليها تذوب شيئًا فشيئًا وتحترق بيأس، وعندما انطفأت كفنتها بثياب عرسها ونزعت أخشاب سريرها وسمرتها على بعضها، ثم وضعت جثتها في تابوت الحب وانتظرت حتى انبثق الفجر وحان وقت جنازة الأموات فحملت على ظهري ذلك الحمل المقدس وخرجت إلى الكنيسة، غير أن الساحة كانت مزدحمة بعربات الموتى والأغنياء يمرون أمام الجميع، فبقيت أُدفع إلى الوراء رازحًا تحت ثقل الحمل حتى غصَّت الكنيسة وأصبح الدخول أمرًا صعبًا عليَّ، فجاء من يطردني من عتبة بيت الله!»
«قضيتُ يومين يا أبت أطوف من كنيسة إلى كنيسة راجيًا الحصول على الصلاة، غير أن المعابد كانت صماء عن توسلات الفقير فرجعت إلى غرفتي، حيث لا طعام ولا فراش ولا نار وألقيت التابوت عن ظهري، تابوت الآلام والبؤس! في تلك الساعة، خطر لي خاطر أسقطه الله على قلبي، فقلت في نفسي: «فلأذهب إلى أعالي الجبال، فهناك كاهن ربما يتعهد نفسها رحمة وشفقة ويباركها بدون أن يطلب أجرة لعمله.»
«أعدت الحمل على ظهري وخرجت في الليل من المدينة الراقدة كلصٍّ متستر يضطرب لدى أية ضجة يسمعها، وتوغلت في مضايق الأحراج مهتديًا بدوي الأجراس إلى وجهتي المقصودة، رازحًا تحت ثقل نفسي والأيام الثلاثة التي قضيتها في أشد حالة من حالات اليأس، وكنت أسقط أحيانًا على الطريق ثم أنهض متثاقلًا، مهشم اليد والقدم من نواتئ الحجارة، حتى بلغت هذا الجسر فشعرت بقلبي يهن ويضعف فلجأت إلى هذه الخيمة مخافة أن تعثر بي قدم مارة وأُغمي عليَّ حتى ما عدت أشعر بوجودي.»
•••
فقلت له: «آه يا أخي، يا قدوة الرجال! … أية رحمة لا تخجل أمامك وتنطرح بين ذراعيك؟ مهما أعطاك العالم من الأسماء المظلمة فأنا أفتخر بك تحت ثقل بؤسك وأرى نفسي كبيرًا متى دعوتك بيا أخي! تعال معي وتشجع! انهض، فملاك حبك يتقدمنا في الطريق! تعال معي، فسأحمل بنفسي جثة امرأتك إلى معبد الله، وأحفر قبرها بيدي في ظلال الرب، ولكن يجب عليك أن تعتصم بالصبر يا بني، فنفس هذه المسكينة لا تحتاج إلى صوتي لكي يتوسل لها في السماء، أية صلاة توازي ما صنعته في سبيلها لدى الخالق العظيم، فالزفرات يا أخي أسمى صلاة يرفعها البائس إلى خالق البائسين، أية جنازة أقدس من تجوالك في هذه الليلة الرهيبة، ومما ذرفته من الدموع والدم والعرق البارد في سبيلها! تعالَ معي، فلم يبقَ علينا إلا أن نعيدها إلى الأرض!» قلت ذلك وأخذت طرف التابوت تحت ذراعي فأخذ الشاب طرفه الآخر، وسرنا في تلك العقبات بأقدام بطيئة متثاقلة، فكان العرق يتصبب من جبهتينا ويتقطر على النعش إلى أن بلغنا المعبد وكان الفجر قد بدأ يرمي أشعته الأولى فوضعنا الميتة على العتبة ودخلت فأشعلت الشموع وزينت الهيكل بدون أن أوقظ «مرتا» من رقادها، ثم صليت على الجثة، وكان الزوج ساجدًا بخشوع يردد بعدي صلاة الموت، فتخرج العبارات زفرات من فمه، ثم حفرت بيدي قبرًا بين القبور وأنزلت التابوت في ترابه، وعندما انتهى كل شيء جلس الشاب على الضريح كمسافر نهكه التعب بعد تجوال طويل فجلس يستريح على حمله!
فلنيج في ٢٧ كانون الأول سنة ١٨٠٢
مات الشاب في هذا الصباح، فسلام على نفسه! لقد أرقدته في ضريح زوجته!
في ٢٨ كانون الأول سنة ١٨٠٢
هنيئًا للأعين الراقدة في أسرَّة الموت! إيه أمي! إيه لورانس! متى تُغلق جفني يد الحمام الرطبة؟
•••
أشعر بحاجة إلى الراحة السرية، ويخيل لي أن غشاءً رهيبًا يحجب بصري، وأن أخيلة تتيه في مخدعي، وأجنحة بيضاء ترفرف في قلبي! هو ذا كلبي الأمين يلجذ يدي، أتراه شعر بموتي؟