بداية معركة
كانت الفجوة السوداء مدخلًا لدهليزٍ طويل، ودُهش «أحمد» لوجود مثل هذا الدهليز في الثلج … ولكنه تذكَّر أن «الإسكيمو» وهم سكان هذه المناطق المتجمدة يقيمون مدخلًا لمساكنهم الثلجية، عبارة عن دهليزٍ طويل تنام فيه كلابهم ينتهي بالمسكن.
ودخل مسرعًا وهو يَحني ظهره؛ فقد كان ظهر الدهليز منخفضًا، وواجهَته فيها رائحةٌ كريهة، لكن ذلك لم يكن مهمًّا … وسمع صوت الكلاب المتوحشة يقترب من الدهليز … وخشي أن يصبح محاصرًا في داخل هذا المكان الذي يُعتبر سجنًا حقيقيًّا له، فخرج بسرعة … وعلى ضوء بطاريات الحرس أطلق طلقتَين … وسمع رجلَين يصيحان، ثم جرى بأقصى سرعته تجاه الشاطئ … ولكن المفاجأة الأخيرة في تلك الليلة كانت بانتظاره … فقد انطلق ضوءُ كشَّافٍ ضخم من المياه أضاء البقعة التي يقف فيها، وسمع صوتًا قويًّا ينطلق من مكبِّر صوتٍ يقول له: قف مكانك. لا جدوى من المحاولة!
وتعزيزًا لهذه المحاولة انطلق حوله سيلٌ من الرصاص في شكل دائرة أحاطت به … ووقفَت الكلاب المتوحِّشة تعَضُّ على نواجذها الحمراء، وكأنها تتمنى التهامه.
كانت أي محاولة للفرار غير مجدية … فقد كان كشَّاف الضوء القوي القادم من قاربٍ كبير، يبهر عينَيه … وكانت الكلاب تقف متحفزة، وأشباح أربعة رجال أو خمسة رجال تحيط به.
ووقف مكانه ثابتًا، وتقدَّم الرجال منه … وعلى ضوء الكشَّاف لاحظ هيكل «عوني مسعود» الضخم يقترب، وسمع صوته الذي يعرفه جيدًا يقول له: مرحبًا برقم «١»، في جزيرتنا الصغيرة.
بعد لحظاتٍ كان يسير عَبْر سلسلةٍ من الممرات الطويلة، داخل مباني هذا المعسكر العجيب … كان واضحًا أنهم يريدون ألا يعرف أين يسير … وأخيرًا أدخلوه غرفةً مؤثَّثة بأثاثٍ فاخر … كانت الغرفة تموج في ظلامٍ حالك، لا يُبدِّده إلا مصباحٌ قوي للقراءة، يلقي دائرة من الضوء على مكتبٍ ضخم، جلس خلفه «عوني» بوجهه القوي، وكان يضع بعض الضمادات على جبهته وعلى إحدى يدَيه.
قال «عوني»: اجلس يا عزيزي رقم «واحد».
جلس «أحمد» وهو يتأمل «عوني»، الذي استمر يقول: كيف حال صديقنا رقم «صفر»؟
لم يردَّ «أحمد»، فعاد «عوني» يقول: إنكم تتمتعون بكفاءةٍ عالية، والحقيقة أنني معجبٌ جدًّا بهذا الرجل … وبكم أيضًا … ولكن …
وسكت «عوني» ثم قال: كم معك من الشياطين؟
لم يردَّ «أحمد»، فعاد عوني يسأل: إنني أريد كل المعلومات الهامة عن المقر السري للشياطين … إنني أعرف أنكم غيَّرتم مكانكم.
وأحَسَّ «أحمد» بقلبه ينبض بسرور … فمعنى ذلك أن «عوني» لا يعرف المقر الجديد … وعاد «عوني» يقول: لا تُحاول أن تخفي شيئًا يا رقم «واحد» … إن عندنا وسائل ستُجبِرك على الكلام.
أحمد: لعلك تعرف قبل أي إنسانٍ آخر، استحالة أن أقول لك أي شيء عن المنظمة!
عوني: حتى إذا كنتَ ستنتقل إلى منظمةٍ أقوى وأغنى؟!
أحمد: ليس هناك إغراء في العالم يجعلني أخون المنظمة، ولم يخُنها أحدٌ من قبلُ …
أنت فقط!
بدا وجه «عوني» هادئًا، ولكن كان من الواضح أنه يُحاول ضبط مشاعره أمام اتهام «أحمد» له بالخيانة … وبعد لحظاتٍ عاد يقول: ليس هذا وقت الكلام عني … من الأفضل أن تقول لي من معك؟ وأين هم؟ فقد طوَّقنا الجزيرة … ولن يستطيعوا الفرار … وبدلًا من تعريضهم للقتل … دعنا نتفق!
أحمد: أنت تعرف أننا لا نخاف شيئًا.
عوني: سنُجبِرك على الكلام.
أحمد: لا بأس من المحاولة.
ظهر الغضب على وجه «عوني» ودق جرسًا أمامه، وبعد لحظاتٍ ظهر اثنان من الحُراس المسلَّحين، وقام «أحمد» واتجه بينهما خارجًا عبر الممرَّات الطويلة، كان يُفكِّر في زملائه … وفي الوسائل الجهنمية التي سيُجرِّبها معه «عوني» لإجباره على إفشاء أسرار المنظمة … وفكَّر أن الحل الوحيد هو الفِرار فورًا.
كانت الدهاليز نصف مضاءة … وعلى الجانبَين نوافذُ زجاجيةٌ كبيرة، وفي لحظةٍ انحنى «أحمد» إلى الأمام ثم أمسك بساقَي الرجلين وجذبهما بشدة … وسقط الرجلان على ظهرهما … واندفع «أحمد» كالصاروخ من إحدى النوافذ الزجاجية فحطَّمها وسقط في الخارج … واتجه شمالًا حيث كان قد شاهد شبح طائرة تربض في الظلام … وبدأت صفَّارات الإنذار تدُق مرةً أخرى.
واستخدم «أحمد» كل سرعته في الجري حتى وصل إلى قرب الطائرة … كان هناك حارسٌ واحد يتجوَّل حولها … ولم يمهله «أحمد» لحظةً واحدة … بل اقترب منه في هدوء، ثم انقض عليه كالوحش … وأداره ناحيته ثم ضربه ضربةً أسقطَته على الأرض … وقفز إلى الطائرة، وأدار المُحرِّك … وشاهد بضعة حُراسٍ يتجهون مسرعين إليه … وأدار الطائرة ناحيتهم، وأطلق لها العِنان على الأرض … واضطُروا جميعًا إلى إلقاء أنفسهم على جانبَي الممر حتى لا تدوسهم الطائرة … وسار «أحمد» بالطائرة حتى أخذَت سرعتها القصوى، وصَعِد بها إلى الجو … واستطاع من مكانه أن يشاهد المباني والمصانع التي لا تكُف عن العمل، وتمنى لو كان معه بعض القنابل حتى يحيل المكان إلى رماد.
أُطفئَت أنوار المعسكر الكبير فجأةً وساد الظلام، وأسرع «أحمد» يتجه غربًا إلى حيث مطار «سيورد»، وفي أقلَّ من نصف ساعة كان يحلِّق فوق المطار، وشاهد طائرتهم «الضفدعة» تقف في آخر الممر … كانت مغامرةً محفوفة بالمخاطر أن ينزل أرض المطار دون إرشادات ودون أنوار، ولكنه كعضو في فريق الشياطين كان قد تمرَّن على كل شيء.
وسرعان ما كان يدور ليهبط إلى أرض المطار، عندما لفت نظره في الخليج الممتد بين جزيرة «سيورد» وجزيرة «كودياك» ما يشبه كُراتٍ من النيران الصغيرة تنطلق من الشاطئ إلى البحر ومن البحر إلى الشاطئ … وأحَسَّ «أحمد» أن خطرًا ما يُحيط بالشياطين، وأسرع يدور مبتعدًا عن المطار … ثم يأخذ طريقه إلى الخليج.
على الفور أدرك أنه كان على حق … فقد كان قارب الشياطين يتعرض لإطلاق النار عليه من الشاطئ … بينما كان هناك قاربٌ كبير يقترب منه.
أدرك «أحمد» أن الشياطين في مأزقٍ حقيقي … ولا بد أنهم عندما سمعوا إطلاق النار في المعسكر سارعوا بالابتعاد، حتى يتمكَّنوا من وضع خطَّة للهجوم.
أخذ «أحمد» يبحث في الطائرة عن أسلحةٍ كبيرة … وكم كانت دهشته عندما لاحظ أن الطائرة تُخفي في أجنحتها مدفعَين رشاشَين … أدرك ذلك من متابعة مجموعة المفاتيح في تابلوه الطائرة … ووجد مقبضَين بارزَين، ضغط على أحدهما، فانطلق من جناح الطائرة الأيمن دفعاتٌ من القذائف الصغيرة.
مال «أحمد» بجناحه ناحية القارب الذي يطارد الشياطين … ثم ضغط على المقبضَين معًا، فانطلق سيلٌ من القذائف أصاب القارب إصاباتٍ مباشرة … وبعد لحظات … شاهد النيران تشتعل فيه … ثم اتجه إلى الشاطئ … ورش مصدر النيران بسلسلةٍ متقنة من الطلقات، ثم ارتفع إلى فوق، عندما وجدهم يصوِّبون مدافعهم نحوه، فدار دورةً واسعة، ثم عاد من الخلف، وأعاد رشَّ المكان بالمقذوفات.
مال «أحمد» بالطائرة ميلًا مفاجئًا، ثم حلَّق فوق قارب الشياطين واقترب منهم … وشاهدَت «إلهام» الألعاب البهلوانية التي يقوم بها وصاحت: «أحمد»!
وتجمَّع بقية الشياطين على اللنش … وشاهدوا صديقهم الرائع يقترب من سطح البحر رغم الظلام، ثم يحوم حولهم مشيرًا بيده إلى جزيرة «سيورد»، وفهموا أن عليهم أن يتجهوا إلى هناك سريعًا.
وصل «أحمد» قبل الشياطين بمدةٍ طويلة، ونزل من الطائرة وأسرع إلى الميناء الصغير … وسرعان ما شاهد القارب يقترب من الشاطئ فأسرع إليه … وقفز الشياطين منه ومعهم الكلبان، وصاح «بو عمير»: ماذا حدث؟
ردَّ «أحمد»: حدث الكثير … إن «سادة العالم» سيُطارِدوننا إلى أقصى الأرض.