قضية المرأة والسياسة العليا
بعض الناس يتصورون أن قضية المرأة في مجتمعنا قضية جنسية، أو قضية اجتماعية محدودة بحدود الأُسرة، وهذا تصور غير صحيح؛ لأن قضية المرأة سياسية اقتصادية وجنسية أيضًا، إنها قضية تَهُم كل فرد على حِدَة، وقضية تهمُّ المجتمع كله.
ولا يمكن بأيِّ حالٍ فصلُ مَصْلحة المجتمع عن مَصْلحة الفرد ولا مَصْلحة الأسرة، ولا مَصْلحة الأسرة عن مَصْلحة النساء والرجال والأطفال، فكل هذه المصالحِ مترابطةٌ، وليس من صالحِ أيِّ مُجتمَع أن تتناقض فيه هذه المصالح.
ولا شكَّ أن مَصْلحة المجتمع هي الهدفُ الأوَّل والأخير لأيِّ سياسة عليا في أيِّ بلد، بعبارة أخرى: إن السياسة العليا لأيِّ دولةٍ هي تفهُّم مصالح أفرادها جميعًا من النساء والرجال والأطفال، أي تفهُّم حياة أفرادها اليومية، ومَعرِفة هموم أفرادها اليومية، وحلُّها.
وهُموم الناس (ذكورًا وإناثًا، أطفالًا) اليوميةُ هي همومُهمُ الشخصية، وعلاقاتُ بعضِهم مع البعض ليلَ نهارَ، هي أكلُهم وشربُهم ونومُهم وممارستُهم الجنس وركوبُهم الأتوبيس، والسيرُ في الشارع والوقوفُ أمام الآلة في المَصنع، والعَزْق بالفأس في الحَقْل، وقراءةُ الصُّحُف والبيعُ والشراءُ والزواجُ والطلاقُ، وغيرُ ذلك من الأعمال اليومية التي يُمارسها جميعُ الناس.
إن حياةَ الناس اليوميةَ والشخصيةَ جدًّا هي التي تُحدِّد السياسة العليا لأيِّ بلدٍ، ومن هنا الأهمية القصوى لمفهوم حياة الناس اليومية والشخصية، ويَلعَب الجِنسُ بالضرورة دورًا هامًّا في حياة الناس اليومية، كما يَلعب الطعامُ دورًا هامًّا.
إن هؤلاء الذين يُقلِّلون من أهمية «علم الجنس» لا يدركون الأُسُس الأوَّليَّة لعلم السياسة، وإن هؤلاء الذين يُقلِّلون من البحوث الخاصَّة بقضية المرأة وعلاقتها بالرجل وبالمُجتمَع لا يُدْرِكون المشاكل الحقيقية في هذا المُجتمَع.
من أَهمِّ المشاكل التي تعترض أيَّ مُجتمَع هي أن يَقومَ على الاستعباد أو الاستغلال أو الاضطِهاد، والذي يَدرُس تاريخ المجتمع البشري يُدرِكُ أن أوَّل اضطهادٍ حدث في التاريخ هو اضطهادُ الرجلِ للمرأةِ لسبب اقتصادي أساسًا، وقد كان الفيلسوفُ العظيمُ «إنجلز» هو أوَّلَ مَنْ كشَف عن العلاقة الوثيقة بين الاضطهاد الجنسي والاضطهاد الاقتصادي، وأوضَح أن النشاط الاقتصادي والعلاقات الجنسية (بقاء النوع البشري) هما الأساسُ المادي للحياة الاجتماعية البشرية، وأن العامل الحاسم في التاريخ هو إنتاجُ البشَرِ (العلاقات الجنسية)، وإنتاجُ وسائلِ الحياةِ من طعامٍ وملابسٍ وسكنٍ (النشاط الاقتصادي). وقد وضع إنجلز إنتاج البشر وإنتاج وسائل الحياة في مستوًى واحدٍ؛ أي إنه وَضَع الاقتصادَ والجنسَ في مستوًى واحدٍ كشَرطينِ أساسيَّينِ لتطوُّر المجتمَعِ، كما أنه وَضَع التحريرَ الاقتصاديَّ والتحريرَ الجنسيَّ في مستوًى واحدٍ أيضًا، كشرطَينِ أساسيَّينِ لتحريرِ المجتمَعِ.
ومعنى ذلك — في رأيه — أن المجتمع الذي لم تَتحرَّر فيه النساء لا يمكن أن يكون مجتمعًا حرًّا عادلًا مهما أَعطَى العدالة الاقتصادية للعُمَّال والفلاحين، وحرَّرهم مِنَ استغلالِ الإقطاعيِّين والرأسماليِّين.
فالمرأةُ تظَلُّ تُعاني من اضطهادِ زَوجِها في الأُسرة الأبويةِ، ولا يُرفعُ عنها الظُّلمُ إذا كان زوجها حرًّا، وبالطبع يَزيد عليها الظُّلمُ إذا كان زوجُها مُستعبَدًا. وعلى هذا فإن المجتمع الاشتراكي لا يكون مجتمعًا اشتراكيًّا حقيقيًّا بإصدار القرارات الاقتصادية كالتأميم وغيرها فقط، ولكن يَجبُ أن يُصاحِب هذه القراراتِ الاشتراكيةَ الاقتصاديةَ قراراتٌ أخرى تُحرِّر المرأة من سيطرة الرجل في الأسرة، وتُساوي النساء بالرجال في جميعِ الواجباتِ والحقوقِ العامةِ والخاصةِ داخلَ الأسرة وخارجَها.
ولقد ظلَّتِ المرأة المصرية تسمع عن الاشتراكية والعدالة والمساواة سنواتٍ طويلةً (مُنذُ صدور القرارات الاشتراكية سنة ١٩٦١م) دُونَ أن تَنعكِس هذه العدالة والمساواة على حياتها اليومية، وفي الميثاق الوطني «١٩٦٢م» جاء هذا النص: «ضرورة إسقاط بقايا الأغلال التي تعوق حركة المرأة حتى تستطيع أن تُشارك بعمقٍ وإيجابيةٍ في صنع الحياة.» لكن الأغلال بَقِيَت حول الأغلبيةِ الساحقةِ من النساءِ المِصريات.
وكان المفروضُ أن تُصدِرَ الثورة المصرية — مع قراراتِها الاشتراكيةِ الاقتصاديةِ — قوانينَ جديدةً لعلاقة الرجل والمرأة، أو ما يُسمَّى قوانين الأحوال الشخصية، بحيث تزول سيطرة الزوج على زوجته، ويَتساوَى الاثنان في جميع الحقوق والواجبات، لكن هذا لم يَحدُثْ حتى اليومِ. وجميعُ النساء المصريات لا زِلْن يُحْكَمن حتى الآن بقانون الزواج والطلاق الذي صدر منذ نِصف قَرن، والذي لا زال يَعتبِر الزَّوجَ وصيًّا على زوجته، وصاحِبَ السلطةِ عليها.
وقد حصَلَتِ المرأةُ المصريةُ في ظلِّ ثورة يوليو ١٩٥٢م على فرصٍ أكثرَ في التعليم والعمَل، لكِنَّ الأغلبيةَ الساحقةَ من النساء لا زِلْن أميَّاتٍ كادحاتٍ — ليلَ نهارَ — في الحقول بغيرِ أَجرٍ، وفي المصانعِ والمكاتبِ والمُستشفيات والمدارسِ والبيوت، يَعملْن ضِعْف الساعات التي يَعملُها الرجل بسبب الجمع بين العملِ داخلَ البيت وخارجَه، ويَعِشنَ في ظروف اقتصادية واجتماعية سيئة، خاضعاتٍ بحُكم الطاعةِ لسُلطةِ الزوجِ، محكوماتٍ داخلَ الأسرةِ وخارجَها بالتقاليد العتيقة والقيم الأخلاقية المُزدَوجة التي تُعاقِب المرأةَ وحدَها. وتتحَمَّل النساءُ والبناتُ — وَحدَهُنَّ — بؤسَ العِلاقاتِ الجنسيةِ، وفوضى الرجال الجنسية، وازدواج القيم، وتَعَدُّد الزوجات والطلاق بغير سبب، ومآسي العُذْرية والشَّرفِ والخِتانِ، والخوف من الحمل داخلَ الزواج (بسبب تنظيم الأسرة) أو خارجَه. وعِبْءُ تحديد النسل يَقعُ على كاهِلِ النساء وحدَهن، وعبءُ تربية الأطفال يقع على كاهِلِهن فقط، إلى غير ذلك مِنْ أَعباءٍ ومشاكلَ ومآسٍ لا حد لها.
ولا شكَّ أن مشاكل المرأةِ المصريةِ تختلف باختلاف طبقتِها الاجتماعية، وتَزيدُ المشاكل والمآسي كلما هبطَتِ المرأة في السُّلَّم الاجتماعي، إلا أن هناك مأساةً واحدةً تشترك فيها جميعُ النساءِ، وهي مأساة الزواجِ والطلاقِ والازدواجيةِ الأخلاقيةِ.
وقد ظلَّ قانون الأحوال الشخصية في مجتمَعِنا موضوعًا صحفيًّا مثيرًا خلال نصفِ القَرنِ الأخير، لكنه لم يكن أبدًا إحدى القضايا الكبرى في مجتمَعِنا التي تُوجِبُ اهتمامَ كِبارِ أهلِ السياسة، وإنما ظَلَّ هذا القانون من الأمور الثانوية التي يُتْرَك أمرُها لوزارة الشئون الاجتماعيةِ أو الجمعياتِ النسائيةِ، بل إن بعضَ القياداتِ النسائيةِ المصريةِ التي وصَلَت إلى مقاعدِ البرلمانِ أو الحكمِ كانت تَبتعِدُ — في معظم الأحيان — عن الاهتمامِ بهذا القانونِ حتى لا تُتَّهم بأنها ضيقةُ الأفقِ محدودةُ الاهتماماتِ بما هو نسائي، وظَلَّ رجالُ السياسةِ — بما فيهم الاشتراكيون — يَنظُرون باستخفافٍ إلى قضيةِ المرأةِ أو تغييرِ قانونِ الأحوالِ الشخصيةِ. إنهم يَظُنُّون أنَّ الأحوالَ الشخصيةَ للمرأةِ والرجلِ لا علاقةَ لها بالسياسةِ العُليا التي تشغَلُها القضايا الكبرى، وتَرَى الواحِدَ منهم منهمكًا في اجتماع انتخابيٍّ داخلَ الاتحادِ الاشتراكي، أو في إحدى قاعاتِ البَرْلَمَان، أو في حَفَلاتِ السِّفاراتِ والسِّلكِ السياسي.
إلا أن السياسة العليا لأيِّ بلد لا تُجْرَى في هذه القاعاتِ والرَّدَهات والحَفَلات الدِّبلوماسية، وإنما هي تُجْرَى في حياةِ الناسِ الشخصيةِ الصغيرةِ اليومية، في خُروجِ الفَلَّاح إلى عملِه صباحَ كلِّ يومٍ دون أن يَبُول بألمٍ أو بدَمٍ، في خروج الفَلَّاحة إلى الحَقْل دُون أن يَضرِبَها زوجُها، في ركوب المُوظَّفة الأتوبيسَ دُونَ أن يدفَعَها أحدٌ منَ الخَلْفِ، في تناوُل العاملِ كلَّ صباحٍ قِطعةً منَ الجُبنِ أو بعضَ الفولِ المُدمَّس قبلَ الوقوفِ أمامَ الآلة، في استمتاعِ الزوجةِ والزوجِ بالجنسِ وعدمِ كراهيةِ أحَدِهما للآخر، في رعايةِ الأبِ لأطفالِهِ.
إن هذه الأمورَ الشخصيةَ والخاصةَ والصغيرةَ — كالأكلِ، والشُّربِ، والتبوُّلِ، وممارسةِ الجنسِ، وركوبِ الأُتوبيسِ، والوقوفِ على القدمَينِ أمامَ الآلةِ أو في الحَقلِ — هي التي تَصنَع الدولةَ، وهي التي تَصنَع السياسة العليا لأيِّ دولة، ولا يُمكِن لِمَن يَهتمُّ بالسياسة العليا في أيِّ دولةٍ أن يُهمِل هذه الأمورَ الشخصيةَ الصغيرة.
ولا يمكن بحالٍ من الأحوال فَصلُ حياةِ الناس العاطفيةِ والجنسيةِ عن الحياةِ الاقتصادية. إن أيَّ فَصْلٍ بَينَهما يَقودُ إلى فكر ناقص سَطحي ومُشوَّه. إن الذي يَصنَع تاريخَ الإنسانِ ليسَتْ هي العلاقات الاقتصادية وَحدَها، كما يؤمِن بعض الفُرويديِّين، ولكِنَّ الذي يَصنَع التاريخَ هما الاثنانِ في وَحدةٍ واحدةٍ، وفي مُستوًى واحِد.
ولهذا فإن الاهتمامَ بقضيةِ المرأة لا يُقلِّل من قيمة الرجُلِ السياسي الاشتراكي، بل إن الرجُلَ الاشتراكيَّ لا يكون اشتراكيًّا حقيقيًّا إلا إذا اهتم بقضيةِ المرأةِ كما يَهتمُّ بقضية العُمَّال والفلَّاحين.
وبالرغم من أن ثورة يوليو ١٩٥٢م قد مَنحَتِ العُمَّال والفلاحين ٥٠٪ من المقاعد في مجلس الأمة، فإنها لم تَمنحِ النساءَ أيَّ عَددٍ من المَقاعدِ، والسببُ في ذلك اعتبارُ قضيةِ المرأةِ ثانويةً أو أقلَّ أهميةً من القضايا السياسيةِ الأُخرى، ولستُ أظُن أن تحديد مقاعدَ معيَّنةٍ لِلمرأةِ يَحُلُّ المُشكِلة، لكنه يُعطيها بَعضَ الفُرصِ للنِّضال، وبرغم أن الفلَّاحِين والعُمال في مِصرَ حصَلوا على نِصف المقاعد نظريًّا؛ إلا أنه من الناحيةِ العمليةِ لم يَصِلِ الفلاحون والعُمال الكادحون الحقيقيون إلى كراسيِّ مجلِسِ الأمة، وإنما وَصَل إليها رجالٌ من طبقاتٍ أعلى تنكَّروا في زِيِّ الفلَّاحِين والعُمال.
ولا أَظُنُّ أن وَضْع المرأة يختلف كثيرًا عن وضع العمال والفلاحين، وربما لو خُصِّص للنساءِ بعضُ مقاعدَ في البرلمانِ لاحتلَّها بعضُ الرجال المُتنكِّرين في زيِّ النساء!
إلا أنني أعتقد أن تحرير المرأة المصرية بالمعنى الصحيح لن يَقومَ به إلا النساءُ أنفُسُهُن، كما أن تحريرَ العمال والفلاحين لن يقوم به إلا الفلاحون أنفُسُهُم، لقد أثبَتَ التاريخُ أن تحرير أيِّ فئةٍ مقهورةٍ من البشَرِ لم يَتِمَّ إلَّا على أيدي أفرادِها أنفُسِهِم، ولم يحدُثْ أبدًا أن حصَلَ المقهورون على حقوقِهِم كمِنحَةٍ أو قرار عُلويٍّ من أصحابِ السلطة والحكم. إن على المقهورين دائمًا أن يُنظِّموا أنفُسَهم ويتَّحِدوا ويصبحوا قوةً بشريةً مُنظَّمةً تستطيع أن تَنتزِعَ حُقوقَها من بينِ أنيابِ القُوى المُتحكِّمة.
وليسَ أمامَ النساءِ طريقٌ آخَر.