الظواهر المتناقضة في مجتمعنا
- (١)
انتشار ظاهرة الأفلامِ الجنسيةِ الصارخةِ بالإثارة، وازدياد مساحاتِ العُرْيِ الجسديِّ فوق الشاشةِ والمسرحِ والمجلات، وغزو السوقِ ببضائعَ وإعلاناتٍ جنسيةٍ مثيرة، ومنها إعلاناتُ خمور معتَّقة، ومساحيق للزينة والتبرُّج والتأجُّج بالجاذبية والإغراء، وازدياد عددِ الفتيات والنساء المغرياتِ والمتأجِّجات بأحدث الأزياءِ والمساحيقِ والروائح.
- (٢)
انتشار المواعظِ الدينيةِ وازدياد مساحاتِ الصفَحاتِ الدينيةِ في الجرائدِ والمجلاتِ وأجهزة الإعلام، والمطالبة بتطبيقِ أحكامِ الشريعة، وفرض أزياءٍ مُحتشِمةٍ على الفتَياتِ والنساء، إلى حَدِّ انتشارِ ظاهرة الطُّرَح في مدارسِ وكلياتِ البنات، والمطالبة بإصدارِ قوانينَ لتحريم شُرب الخمور إلى حد مناقشةِ الموضوعِ في مجلسِ الشعب، وموافقة المجلسِ على حَظْر شُرب الخمور بالمحالِّ العامَّة (انظر جريدة الأهرام يوم ١٧ و١٨ مايو سنة ١٩٧٦م).
- (٣)
انتشار ظاهرة الشُّقَقِ المَفروشةِ، وعقودِ الزواج الصوريةِ، وانحراف بعضِ الطالبات، وانجذاب كثيرٍ من الشغَّالات والخادِمات للعمل في بيوت الرجال العرب في الداخلِ أو في الخارجِ، وانجذاب بعضِ الفنانات للعملِ في البلادِ العربية، وتعرية البعضِ منهن لأجسادهِنَّ فَوْق صفَحاتِ المجلَّاتِ العربية.
- (٤)
ارتفاع الأصوات ومطالبتها بعقاب المُنحرِفات من النساءِ، والمناداةِ بعَودةِ المرأة إلى البيت، وعدمِ خروجِها إلى العملِ حفاظًا على أخلاقها ودينِها وطبيعتِها، والمطالبة بتشديدِ الرقابةِ على البناتِ وعقابِ الفاسِدات، والمطالَبة بإسقاطِ الجنسيةِ المصريةِ عن أيِّ امرأةٍ من هؤلاءِ الفناناتِ العارياتِ فوقَ صفَحات المجلَّات (انظر جريدة الأهرام يوم ١٤ مايو ١٩٧٦م من مفكرة يوسف إدريس).
- (٥)
ظاهرة الإدمانِ على الحشيشِ والمُخدِّرات بين الرجال من الطبَقاتِ الكادحة، والحديث عن ظاهرةٍ جديدةٍ بدأت تَنتشِر بينَ الشباب، وهي تعاطي الحبوبِ المخدِّرة أو المنوِّمة أو المنبِّهة أو حبوبِ الهَلْوَسة، إلى حد ضَبطِ عصابةٍ كبيرةٍ تعيش على الاتِّجارِ بهذه الحبوبِ في بعضِ المحافظات (انظر جريدة الأهرام والجمهورية في ٢١ / ٨/ ٧٥ و١٨ / ٨ / ٧٥ وغيرهما).
- (٦)
ارتفاع الأصواتِ بمنع مشاهِدِ الجِنسِ والانحرافِ في الأفلامِ والمسرحياتِ إلى حد إصدارِ قراراتٍ وِزاريةٍ تمنَعُ بعضَ القُبُلاتِ منَ الأفلام، والمطالبة بمنعِ الشبابِ من مشاهدةِ الأفلامِ أو المسرحياتِ المُفسِدةِ للأخلاق؛ مثل مسرحية مَدرسَة المشاغِبين، وتنفيذ قانون «ممنوع» لأقل من ١٦ سنةً على هذه العروضِ السامَّةِ التي تُفسِد الأجيالَ الشابَّة (انظر جريدة الأهرام في ١٤ مايو ١٩٧٦م من مفكرة يوسف إدريس).
- (٧)
انتشار ظاهرة الاختلاسِ والنَّصْب والسَّرِقات في وَضَح النهار، والاعتداءِ على الناسِ وخطفِ البناتِ إلى حد مطالبة إحدى الصحُف بإقامةِ نظامِ «القاضي الليلي»، يُقدَّم إليه الذين يخْطفون البناتِ، أو يَعتَدون على رجالِ الأمن، أو يَعتَدون على الناس بالمطاوي (انظر جريدة الأخبار في يوم ٢٥ / ٨ / ١٩٧٥م).
- (٨)
انتشار ظاهرة المطالَبة بتنفيذِ العقوباتِ والحدودِ التي تتضَمَّنها أحكامُ الشريعةِ الإسلامية؛ مثل: عقوبةِ قَطعِ يدِ السارقِ وعقوبةِ الزنا وغيرِها من المُنكَرات إلى حد أنْ طالَبَ أحد كُتَّابنا في الصحُف باقتلاعِ الفَقرِ من المجتمَع قبلَ اقتلاعِ يدِ السارقِ، وحل مشكلةِ الشبابِ والجِنسِ قبلَ توقيعِ عقوبةِ الزنا؛ أُسوةً بما كان عليه الحالُ في المجتمَعِ الإسلاميِّ الحقيقي (انظر جريدة الأهرام في ١٧ مايو ١٩٧٦م من مفكرة نجيب محفوظ).
- (٩)
انتشار ظاهرة طوابيرِ الانتظارِ الطويلةِ أمامَ الجمعياتِ الاستهلاكيةِ من أَجلِ الموادِّ الغذائيةِ الضرورية، وازدياد مُعاناةِ الأُسَر المحدودةِ الدخل (والمتوسِّطة أيضًا) منَ ارتفاعِ الأسعارِ المتزايدةِ بشكل يُثير القَلقَ والفَزَع عند أغلبيةِ الشعبِ الكادح، ومعاناة الأغلبيةِ من أزمةِ المواصَلاتِ والمساكن.
- (١٠)
انتشار ظاهرة السِّلَع والبضائعِ المُستورَدة الباهظةِ الأثمان وغَمْرها الأسواقَ بكمِّياتٍ كبيرةٍ في نوافِذِ المحلَّاتِ وفي الإعلانات، وزيادة الإقبالِ عليها من ذَوِي الدُّخُول الكبيرةِ والأثرياءِ إلى حدِّ المطالَبةِ بتنفيذِ سياسةِ التقَشُّف.
وبرغم وضوح هذه الظواهر المتناقضةِ للعَين المجرَّدة ولا أقول: المتأمِّلة أو الفاحِصة، فإن الجهود التي تُبْذَل لعلاجها غيرُ مَوجودة، وإذا كانت موجودةً فهي غيرُ مَحْسوسة، ولا تَعكِس لي أفعالًا حقيقيةً تقضي على الأسباب التي دَعَت إلى وجود هذه الظواهر المَرَضِيَّة الخطيرة.
كلُّ ما نُحِسُّ به هو مَزيدٌ من الصَّيحاتِ العاليةِ المنادِيةِ بالعقوباتِ والتحريماتِ والممنوعات، يُصاحبُها في الوقتِ نفسِه مزيدٌ منَ الانغماسِ في الممنوعاتِ وزيادة الإقبالِ عليها، وفي وسَطِ هذه الصيحاتِ العاليةِ لا نكادُ نَسمعُ عن دراسةٍ لأسباب هذه الظواهر، أو المطالبةِ بعلاجِ الأسبابِ قبل عِقابِ الضحايا، اللهُمَّ إلا بعضَ الأصواتِ النادرةِ؛ مثل: صوت «أحمد مجاهد» في مجلسِ الشعبِ حين طالَبَ بعلاجِ أسبابِ شُرب الخمر وليس مجرَّد عقابِ الشارب، وصوت كاتبِنا «نجيب محفوظ» حين كتَبَ مطالِبًا بالبَدءِ في تطبيقِ التنظيماتِ الإسلاميةِ البنَّاءة قبلَ البَدءِ في تَوقيعِ العُقوباتِ، والبَحثِ عن حُلولٍ لمشاكل الفقر المُدقِعِ والثراءِ الشديدِ ومشاكلِ الشبابِ والجِنس قبلَ البحث عن عُقوباتِ السَّرِقة والزِّنا.
لكِنَّ مِثلَ هذه الأصواتِ الموضوعيةِ النادرةِ تَضِيعُ في زِحامِ الأصواتِ العاليةِ المُناديةِ بقَطعِ الأذرُعِ وبَترِ المشاهِدِ منَ الأفلامِ وقَطعِ دابرِ الفناناتِ العاريات، ومَنعِ الشبابِ من دخولِ المسرحيات السامَّة، ومَنعِ الناسِ من شُرب الخمرِ في المحلَّات العامَّة، وتنفيذ أحكام المَمنوعِ والقَطعِ والبَتْر على كلِّ مَنْ يقع في المَصيَدة المفتوحةِ في المجتمَعِ كفَمِ الأسَد، ليست مَفتوحةً فحسْبُ، ولكنها تَشُدُّ إليها بالقُوَّةِ والإغراءِ وبالإعلانِ وبالمالِ وبلُقمةِ العيش، تَشُدُّ إليها الرجالَ والنساءَ والشبابَ والأطفالَ المحرومين والفقراءَ منهم والأغنياء، تَشُدُّهم بالأجسادِ العاريةِ المُطلَّةِ منَ الشاشةِ والمجلَّاتِ، وبالبضائِعِ المغرية المُطلَّةِ من نوافذِ المحلَّات، وبالأصواتِ المُناديةِ في إعلاناتِ الراديو والتلفزيون، تَشدُّهم شدًّا إلى الوقوعِ فريسةَ وضحيةَ الإثمِ الذي يَنهَى عنه الدِّين.
والسؤال هنا هو: مَن الذي يَستحِق العِقابَ؟ فمُ الأسَد أمِ الأرنبُ الصغيرُ الذي يَقعُ في المصيَدة. من هو المُذنِبُ؟ الأسَد الذي يأكُل اللحْمَ ويَنهَشُه أم الضحيَّةُ المأكولة. من المجرِمُ؟ القاتلُ أمِ المقتولُ؟ الفاعلُ أم المفعولُ به؟
لماذا نتجاهَلُ الأسَد ونُمسِك بتلابيبِ الضحيَّة؟ لماذا نتجاهلُ الأسبابَ الحقيقيةَ التي تدفَع بعضَ الناسِ إلى الانتحارِ الجسَديِّ البطيءِ بالخَمرِ والمُخدِّرات أو إلى الانتحار النفسيِّ البطيءِ عن طريقِ بيعِ الكرامةِ أو الجسدِ أو بيعِ العقلِ؟ وهلْ سَرِقةُ كرامةِ الإنسانِ وجُهدِه وعَرقِه تحتَ أيِّ شِعارٍ وبهدف أيِّ ربح؟ وأيهما أكثر خطيئةً: الذي يَسرِق طعامًا ليأكلَ ويُطعِمَ أطفاله؟ أم الذي يَسرقُ الآلاف والملايين ليبنِيَ العِماراتِ والكازينوهات؟ هل الانحرافُ هو مجرَّد أن تبيعَ المرأةُ جسَدها؟ أم أن الانحرافَ هو بيعُ الجسد (امرأة أو رجل) لأيِّ هدفٍ وتحت سِتارِ أيِّ عقد؟ وأيُّهما أكثرُ انحرافًا: الذي يبيع جسَده أم الذي يَبيعُ عقلَه؟
لقد انتشَرَ شِعارُ العِلمِ والإيمانِ في مجتمعِنا المصريِّ، فلماذا لا نُطبِّق العِلمَ والإيمانَ على هذه الظواهرِ المرَضِيَّةِ المُتفشِّية؟ إن العِلم يقتضي منا دراسةً علميةً لهذه الظواهر؛ أي دراسة الأسبابِ والقضاء عليها وليس عقاب ضحاياها، العِلمُ يقول: إن علاج المرضى يكون بقَتلِ الميكروبِ وليس قتل المريضِ أو إعطاء المُسكِّناتِ والمُهدئات. هذا عن العلم، أما الإيمان فإن الدِّينَ الحقيقيَّ يدعو إلى العدالةِ والمساواةِ وليس إلى الظُّلمِ والبُهتان، وقد حارَبَ الإسلامُ الفقر أولًا، ثم أقام عُقوبةَ السَّرِقة، ولم يكُنْ عمر بن الخطاب ينام في فِراشِه حتى يَمُرَّ ببُيوتِ الناس لِيطمئنَّ إلى أنَّ طفلًا لم يَنَمْ بغير عَشاءٍ!
فأين نحن مِنْ هذا الإيمان؟ وأين نحن مِنَ العلم؟