قضية المرأة والأخلاق المزيفة
يمكنني أن أقول (بعد دراسة الماضي والحاضر): إن أهم الاعتراضات التي يَسُوقها الرجال المعارضون لتحرير المرأة المصرية هو مَوضوعُ الدِّين والشرف والأخلاق، وهم يُعارِضون دائمًا خروج المرأة سافرةً للعمل أو التعليم؛ بحُجَّة أن الخروج من البيت يُعرِّضها للاختلاط بالرجال مما قد يعرِّضُها للفساد الأخلاقي أو عدمِ صيانتِها لدينِها وشرَفِها، ويقولون أيضًا: إن خروج المرأة للعمل خارجَ البيت يُخرِجُها عن أُنوثتها التي خصَّتْها بها الطبيعة، ويُعطِّلُها عن دَورِها الأساسيِّ في الحياةِ الذي خلقَه اللهُ لها … وهو البيتُ.
ويَتجاهلُ هؤلاءِ الرجالُ بهذا المَنطِق أن أغلبية نساءِ مِصرَ (٨٠٪ أو أكثر) فلَّاحاتٌ لم يَعرِفنَ الحِجابَ أبدًا، ويَخرُجنَ من بُيوتِهِنَّ صباحَ كلِّ يومٍ للعملِ بالفأسِ في الحَقلِ، أو حَملِ أثقالٍ من السِّباخِ أوِ الرَّوَثِ أو زِلَعِ المِياهِ فَوقَ رُءوسِهِنَّ، هلْ مَعنى ذَلِك أن هؤلاءِ الرجالَ يَعتبِرون هذه الملايينَ من النساءِ المِصرياتِ خارجاتٍ عن أُنوثتهِن التي خصَّتْها بِهِنَّ الطبيعة؟ ومُعرَّضاتٍ للفَسادِ الأخلاقيِّ أو عدمِ صيانتِهِنَّ لدِينِهِنَّ وشَرَفِهِنَّ؟ وإذا كُنَّ كذَلِكَ، فَلِماذا سَكَتَ هؤلاءِ الرجالُ ولم يَنطِقْ أحَدٌ مُعترِضًا على خُروجِ الفلَّاحاتِ من بُيوتِهِن؟ ولماذا لم يُطالِبْ هؤلاءِ بحمايةِ الفلَّاحاتِ داخلَ البيوتِ وعدمِ خُروجِهنَّ للعمَلِ في الحُقولِ؟
وحيثُ إننا لم نَسمعْ أن أحدًا منهم قد طالَب بذلك، فهل معنى ذلك أنهم اعتبروا هذه الملايين من نساء مصر فاسداتِ الخُلُق أو عَديماتِ الأُنوثةِ أو قليلاتِ الشرفِ والدِّين؟ أم أنهم آمنوا أن الأنوثةَ والشرفَ صفاتٌ لا تتمتَّع بها إلا القِلَّة القليلة من نساءِ مِصر؟ أو أن الله حين خَلَق النساءَ مَنحَ الرِّقَّةَ والأُنوثةَ للطبقاتِ المُستريحةِ وحَرمَ مِنها الأغلبيةَ الساحِقةَ مِنَ النساءِ المِصرياتِ الكادحاتِ في الحُقولِ والمَصانع؟!
إن هؤلاءِ الرجالَ الذين يُعارِضون خُروجَ المرأةِ للعملِ بِدَعوى المُحافَظةِ على أُنوثتِها أو شَرفِها أو دِينِها لا تَهتزُّ في جَسدِ الواحدِ منهم شَعرةٌ واحدةٌ حين يَسيرُ في الشارع ومن خَلفِه خادمتُه تَحمِل عنه الحَقائبَ الثَّقيلةَ، ولا يَهتزُّ أحدُهم حين يَرى كلَّ يومٍ طوابيرَ النساءِ الشغالاتِ والكادحاتِ في الحُقولِ والمَصانعِ … وهذا دليلٌ واضحٌ على أن دفاعَ هؤلاءِ الرجالِ عن أُنوثةِ المرأةِ أو شَرفِها أو دِينِها ليس موقفًا أخلاقيًّا أو إنسانيًّا، ولكنه مَوقفٌ سياسيٌّ طبَقيٌّ استغلاليٌّ وغيرُ إنسانيٍّ وغيرُ أخلاقيٍّ أيضًا.
وقد خَرجَتِ المرأةُ المصريةُ من بيتِها لِتعملَ في الحَقل جنبًا إلى جنب الرجل المصري مُنذُ آلاف السِّنين، ويَعتمِد الاقتصادُ المصريُّ في أساسِه على عَرَقِ الفَلَّاحاتِ المصرياتِ والفلَّاحِين، وبغير خروج الفَلَّاحةِ المصريةِ من دارها كلَّ يومٍ قَبلَ شُروقِ الشَّمسِ لمَا كان في استطاعةِ هؤلاءِ الرجال الغَيورِين على أُنوثة المرأة وشرفِها ودينِها أن يتناولوا فُطورَهم كلَّ يوم، أو يجدوا الكِساءَ الذي يَستُر أجسادَهم، أو الوَرقَ الذي يَكتُبون عليه أفكارَهُم ضِدَّ خُروج المرأة.
وهذا يَكشِف لنا كَمْ يَستخدِم بعضُ الرجالِ الشرفَ والدِّينَ والأخلاقَ في أشياءَ لا علاقةَ لها بالدِّين أو الشرفِ أو الأخلاق، وفي مَنطقتِنا العربيةِ والإسلاميةِ حاول المُستعمِرون الأجانبُ والحكوماتُ العربيةُ رجالًا ونساءً وذلك بادِّعائِهم أن الدينَ الإسلاميَّ هو السببُ الرئيسيُّ في القُيودِ المفروضةِ على المرأة، وبذلك لا تَتنبَّه الأذهان إلى الأسباب الحقيقية وهي الاستعمار الأجنبي أو الاستغلال الطبَقي الداخلي، وهم أيضًا بِرفعِهم شِعارَ الدِّين يُرهبون الناس، فلا يُحاولُ أحد أن يتعرَّض لموضوعِ تحريرِ المرأة اقتصاديًّا وجنسيًّا؛ بسبب الحسَاسِية والقدسيَّة المحاطَة بالدين … وبذلك تأخَّر التحريرُ الحقيقي للمرأة، أو لم يَتِمَّ على الإطلاق، كما أن اعتبار الإسلام هو السَّببَ في اضطهادِ المرأةِ المصريةِ أو العربيةِ يجعل أيَّ داعيةٍ لتحريرِ المرأةِ داعيةً بالضرورة للقضاء على الدِّين، ومن هنا استِباحة عِقابِ أيِّ رجلٍ أو امرأةٍ تدعو إلى تحريرِ النساء.
إن السَّبب الرئيسي لاضطهاد المرأة سببٌ «اقتصادي» وليس سببًا «دينيًّا» في أيِّ مُجتمَعٍ من المجتمَعاتِ ومنها المجتمعُ العربي، ولا شكَّ أن أيَّ دارسٍ للأديان يُدرك أن أكثر الأديان اضطهادًا للمرأة هو الدينُ اليهودي «الرجل اليهودي يُصلِّي كل صباح قائلًا: أحمَدُك يا رب؛ لأنك لم تَخلُقْني امرأة.» وقد فُرِضَ الحجابُ على المرأة في الدينِ المسيحي قبلَ مجيءِ الإسلام، وتَرتكِز فكرةُ الحجابِ على الآيةِ الموجودةِ في التوراة التي تَنصُّ على أن يُصليَ الرجلُ لله، أما المرأةُ فلا بُد أن تُغطِّيَ رأسَها وهي تُصلي، وفُسِّر ذلك على أن المرأةَ ناقِصةٌ، والذي يَنقُصها بالذاتِ هو الرأسُ، ومن هنا خَرجتِ الفكرةُ بأن المرأةَ لا عَقلَ لها، أو أن عَقلَها ناقصٌ.
إن الذي يَدرُسُ تاريخَ الحضاراتِ القديمةِ — كحضارةِ مِصرَ القديمةِ واليونانِ — يُدرِكُ أن الأديان القديمة لم تكن تُفرِّق بين الذكَر والأُنثى، وكانت هناك آلهةٌ ذكورٌ وإناثٌ، وكانتِ الإِلهةُ الأُنثى القديمةُ تَرمُز إلى الحياةِ والخيرِ والخُضرةِ والوِلادةِ والخُصوبة … وكانتِ الأمُّ هي عَصبَ الأُسرَة وإليها يُنْسَب أطفالُها، لكن ما إن تَغيَّر النظامُ الاقتصاديُّ ببَدءِ المَلكيَّة والأُسرةِ الأبَويةِ والطبَقاتِ حتى تغيَّرتِ الأديان، وأصبَح الإلهُ مَنصِبًا ذَكَرِيًّا فقط، وكذلك مَنصِبُ الأنبياء، واختَفَت من البشرية الآلِهاتُ الإناثُ، وكان ذلك ضروريًّا حتى يبدأ النظامُ الأبَويُّ والأسرةُ الأبويةُ التي انتزَعَ فيها الرجلُ النسَبَ من الأُم، ونَسبَ الأطفالَ إليه من أجْل أن يُورثَهم أرضَه وأملاكَه … ومن أجل أن تُعرفَ الأُبوَّة (التي كانت مجهولة في العصر الأموي) كان لا بُدَّ أن يَفرِض على المرأة زوجًا واحدًا، أو ما سُمِّي بالزواج الواحِداني، لكنَّ هذا الزواجَ الواحِداني — كنظامٍ اجتماعيٍّ جديد — كان يَتعارَض مع طبيعةِ المرأة البَيولوجيةِ والجِنسيةِ والنَّفسية؛ ولهذا كان على الرجُل أن يَقمعَ طبيعةَ المرأةِ هذه بجميعِ الوسائلِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والأخلاقيةِ والنفسيةِ والقانونية.
واستُخْدِمَ الدِّينُ في النظام الأبَوي لقَمعِ طبيعةِ النساءِ وإخضاعِ الزوجةِ لزوجِها الواحد، أمَّا الرجلُ فلم يَفرِضْ على نفسِه زوجةً واحدةً، وإنما أعطَى نفسَه حَقَّ تَعدُّد الزوجاتِ داخلَ الزواج، وتَعدُّد الخليلاتِ أو المُومِساتِ خارجَ الزواج.