الازدواجية والمفهوم الخاطئ للشرف
إن المقاييس الأخلاقية والقِيم التي يضعها المجتمع لا بُدَّ أن تَسرِيَ على جميع أفرادِه بصَرْف النظرِ عن الجِنسِ أو اللونِ أو الطبقةِ الاجتماعية، وإذا كان مجتمَعُنا يؤمن بالعِفَّة كقِيمة أخلاقية، فلا بد أن تَسرِيَ هذه القِيمةُ على جميعِ أفرادِ المجتمَع بالتساوي، أما أن تَسرِيَ على جنسٍ دون الجِنس الآخَر، أو طبَقةٍ دونَ طبَقةٍ، فهذا يدُل على أن هذه العِفَّة ليست قِيمةً أخلاقيةً، وإنما هي قانونٌ يَفرِضه النظامُ الاقتصاديُّ والاجتماعيُّ القائمُ، ويُخفِي المجتمَع الأسبابَ الاقتصاديةَ والاستغلاليةَ وَراءَ مِثلِ هذه القِيَم، ويَسوقُ أسبابًا دينية وشعاراتٍ كبيرةً، منها الشرفُ والفضيلةُ.
ولا شكَّ أن من أهَمِّ سِماتِ مجتمعنا العربي الأخلاقيةِ هي الازدواجية؛ فإن كثيرًا من هؤلاء الرجالِ الذين يُعارِضون تحريرَ المرأةِ — بحُجَّة المحافَظة على الشرفِ والأخلاقِ — يرَونَ أن هذه القِيَم تُنْتَهَك كلَّ يومٍ وليلةٍ في حياتِنا الاجتماعيةِ أو الاقتصاديةِ أو السياسيةِ أو الثقافيةِ أو الجنسيةِ، ومع ذلك لا يَرتفِع صوتُ أحدِهم بالاعتراضِ، بل إن بعضًا منهم يُشارِك بإيجابيةٍ في انتهاكِ هذه القِيَم سرًّا أو عَلنًا.
وانتهاكُ القِيَم الأخلاقيةِ في السِّر كانتهاكِها في العلَن من حيث الفضيلة بمعناها الحقيقي، لكِن الناس في مجتمعاتِنا العربيةِ قد تعوَّدُوا انتهاكَ القِيَم في السِّر إلى حَد أن أصبَح للواحِد حياتان: حياةٌ علنيةٌ يدَّعي فيها الفضيلةَ، وحياةٌ سِريةٌ يُمارِس فيها الرذيلةَ، وتَمشي الحياةُ على هذا النَّحوِ المُزدوجِ في حياةِ مُعظَم الناس رجالًا ونساءً.
ومن أهَمِّ سِماتِ مجتمَعِنا الأخلاقيةِ أيضًا هو وجودُ مقياسَين للشرف والفضيلة: مِقياس للنساءِ ومِقياس للرجالِ؛ فالفعلُ الواحدُ الذي يَقومُ به رجلٌ وامرأةٌ معًا نَجِد أن المرأة تعاقَب وحدَها، لكنَّ الرجُل يُطلق سَراحُه، بل إنه يَفخَر بتعدُّد تجاربِه الجنسيةِ مع النساء.
ويَنتُج عن هذه الازدواجيةِ مشاكلُ عديدةٌ للرجال والنساء معًا؛ لأن المجتمَع يُطلِق نِصفَه من الذُّكور حرًّا جنسيًّا بل فَوضويًّا، ويُكبِّل نِصفَه الآخَر من الإناثِ بقُيودٍ حديديةٍ.
والسؤالُ الآنَ هو: مع مَنْ يُمارِس الذكورُ الأحرارُ الفوضويون الجنس؟! معَ أنفُسِهم؟! أم إنَّ على المجتمَع أنْ يخلُق لهؤلاء فِئةً من النساءِ تكونُ مُهِمتُها ممارَسةَ الجنسِ مع هؤلاء الذُّكورِ خارجَ الزواجِ؟ وقد خلَق المجتمعُ منذ بَدء الأسرة الأبَوية مِهنةَ البِغاءِ وفئةَ المُومِساتِ من أجل هذا السبب.
وبِدراسةِ الحياةِ الجنسيةِ للشبابِ الذُّكورِ في مجتمَعِنا قبلَ الزواج، نجِدُ أن الشبابَ يَتحايَلون على إشباعِ حاجتِهم الجنسية والعاطفية بشتَّى الطُّرق، خاصةً وأن المجتمع يُذِيعُ عليهم — ليلَ نهارَ — الأغانِيَ المُلتهِبة بالحُب والجنس والأفلام العارية والرقَصات الخليعة والإعلانات التي تَعْرِض أجساد النساء العاريات وصُوَر المجلَّات العارية، وغيرَ ذلك منَ الإثاراتِ الجنسيةِ المُستمرَّة التي تتطلَّبها الأرباحُ التجاريةُ للبضائعِ والأفلامِ والفُنونِ الرخيصةِ، والتي تتناقَض مع المواعظِ الدينيةِ والمستمرة أيضًا ليلَ نهارَ، والتي تَزيد حدَّتُها في المراحلِ الوطنيةِ الحَرِجةِ، حين تَلجأ بعضُ القُوى الاقتصاديةِ الأجنبيةِ أو الداخليةِ إلى إشعالِ الحماسِ الدينيِّ للتغطية على أزماتٍ اقتصاديةٍ أو سياسيةٍ مُعيَّنةٍ.
وتحايُلُ هؤلاءِ الشبابِ على إشباعِ حاجاتِهم الجنسيةِ والعاطفيةِ باللجوء إلى المُومِساتِ في حالة هؤلاءِ الشبابِ القادرين ماليًّا، وخاصةً بعد أنِ ارتفَع سِعرُ المُومِسات مع ارتفاعِ الأسعارِ، ولا شكَّ أنَّ البِغاء ممنوعٌ بالقانونِ في مجتمَعنا، لكنَّه منَ المعروفِ في علمِ المجتمعِ وفي كلِّ العُصورِ أن إلغاءَ البِغاءِ بالقانونِ لا يُلغي ممارستَه في السِّر، بل يَزيده أحيانًا، وقد نستطيع أن نَتصوَّر المخاطرَ الاجتماعيةَ والنفسيةَ والجسديةَ والصحيةَ التي يَتعرَّض لها الشبابُ، والتي تَتعرَّض لها المُومِساتُ أيضًا.
ويَلجأ الشباب أيضًا إلى الاعتداءِ الجنسيِّ على أبناءِ الطبَقاتِ الفقيرةِ، أو الخادِمات بالذاتِ، في حالة كَونِ هؤلاء الشبابِ من الأُسَر المتوسِّطةِ أو ما فَوقَها ممَّن هُم قادرون على استئجار الخادِمات، ويؤدِّي ذلك إلى مشاكِلَ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ وأخلاقيةٍ للخادِمات، كما يؤدِّي إلى مشاكلَ للشبابِ أيضًا.
وهُناك بالطَّبعِ هؤلاءِ الشبابُ الذين لا يَجِدون أمامَهم مِن وسيلةٍ إلا الالتصاقَ بالنساءِ في المواصَلاتِ العامَّة، أو مُمارَسةَ الجنس مع ذُكورٍ مثلهم، أو اللجوءَ إلى العادةِ السرِّيةِ أو الخيَالَاتِ الجنسيةِ أو أيِّ وسيلةٍ أخرى طبيعيةٍ أو غيرِ طبيعية؛ فالمعروفُ أن الطاقة الجنسية كأيِّ طاقة أُخرى لا بُد أن تُصْرَف ولا تَضِيع إذا كُبِتَتْ، ولكنَّها تَنحرفُ عن مسارِها الطبيعيِّ إلى طُرق أُخرى.
إنَّ الازدواجيةَ الأخلاقيةَ والاجتماعيةَ تَنعكِس بالطَّبعِ على نُفوس الرجال والنساء، وتُفسِد حياة الرجال والنساء والأطفال. إنَّ فَرْض العِفَّة والشرف على النساءِ وحدَهن وإطلاقَ الذكور جنسيًّا يُصيب المجتمعَ والأُسرةَ بكثير من المشاكلِ الاجتماعيةِ والأمراضِ النفسيةِ والجسَديةِ، بالإضافة إلى أن ذلك وَضعٌ غيرُ أخلاقي وغيرُ إنساني، ويَتناقَض مع مفهوم الشرف الحقيقي، فما هو الشرف؟ هلِ الرجُل الذي يَكذِب يَكون شريفًا؟ هل البنت التي تَكذِب تُصبِح شريفةً لمجرَّد أنها وُلِدَت بغِشاءِ بَكارة؟ هلْ منَ المُمكِن أن يَكونَ الشرفُ صفةً تشريحيةً يُولَد بها الإنسانُ أو لا يولَد؟
وهل يَقتصِر مَفهوم الشَّرف على الجِنسِ فقَط؟ وهل يَقتصِر على جِنسِ النساءِ فقط؟
ولا شك أنَّ من أهَمِّ نتائجِ الازدواجيةِ الأخلاقيةِ التي نَتجَت عنِ النظامِ الأبَويِّ في مُختلفِ المجتمعاتِ هو ذلك المفهومُ القاصِرُ عن الشرفِ، فقدِ ارتبَطَ الشرفُ بالحفاظِ على الأعضاءِ الجنسيةِ وارتبَط بالمرأةِ فقَط، بل إنَّ شرفَ الرِّجالِ لا يَتعلَّق بسلوكِهِم هُم، وإنما يَتعلَّق بسلوكِ زوجاتِهم أو بناتِهم أو أمهاتِهم، فالرجلُ الفاسقُ شريفٌ إذا كانت زوجتُه لا تخونُه مع رجلٍ آخَر، والرجلُ المنافِقُ شَريفٌ طالما أن ابنتَه تُحافِظ على غشائِها قبلَ الزواجِ.
والموظَّف الذي يُهمل عَملَه شَريفٌ طالما أن نساءَ أُسرته حسَناتُ السُّمعةِ، والصحَفيُّ الذي يَنشُر الأكاذِيبَ في أيِّ عَهدٍ شريفٌ طَالما أن الإناثَ في أسرتهِ مُتزوِّجاتٌ ومَستورات في كَنَف أزواجِهِن، بمعنى آخَر: إنَّ شرفَ الرجُل يتعلَّق بسلوكِ امرأتهِ في البيتِ أو في الشارعِ، ولا يَتعلَّق بسُلوكِ هذا الرجُلِ، أو قُدرتهِ على العمل الخلَّاق، أو الصِّدقِ، أو الدفاعِ عنِ الحقِّ والعدالةِ والحُريةِ.
وهذا مَفهومٌ قاصِرٌ وهَزيلٌ للشرف، وهو أيضًا هُبوطٌ بمفهومِ الشرفِ إلى حَيِّز صغيرٍ جدًّا في جسَد الأُنثى، والمَفروضُ أن يَرتفِعَ مَفهومُ الشرفِ لِيشملَ الإنسانَ كُلَّه.
والإنسانُ إنسانٌ بعَقلِه وليس بجسَده؛ ولهذا يَجِب أن يرتبطَ مَفهومُ الشرفِ بعَقلِ الإنسانِ سَواءٌ ذكرًا أو أُنثى، فالعقلُ الصادقُ هو الإنسانُ الشريفُ، والعقلُ المُفكِّر المنتجُ هو الإنسانُ الشريفُ.
إننا في أشَدِّ الحاجة إلى تعميقِ مَعنى الشرفِ في مُجتمعِنا، ونحن في حاجة إلى أن يَكون لنا مِقياسٌ أخلاقيٌّ واحدٌ نحكُم به على جميعِ أفرادِ الشعبِ، بحيث يَنطبِق على الحُكَّام كما يَنطبِق على المحكومين، ويَنطبِق على الرجَالِ كما يَنطبِق على النساءِ، ويَنطبِق على الكبارِ كما يَنطبِق على الأطفالِ.
إن تَوحيدَ المِقياسِ الأخلاقيِّ في مُجتمعِنا سوفَ يَقضي على الازدواجيةِ في حياتنا، فلا يَكون للواحدِ حياةٌ علَنيةٌ يدَّعي فيها الأخلاقَ، وحياةٌ سِريةٌ يَنتهِك فيها الأخلاقَ، وسوف يَقضي أيضًا على البِغاءِ الذي يُمارَس في الخَفاء، كما سيَقضي على الظُّلمِ الواقعِ على النساءِ والأطفالِ الناتجِينَ عن أخطاءِ الرجالِ.