(١) تلخيص المقولات
هناك طريقتان لعرض التلخيص. الأولى تلخيص كتاب كتاب ابتداءً من كتب المنطق حتى كتب
الطبيعيات إلى كتب الميتافيزيقا والسياسة حفاظًا على وحدة العمل وخصوصيته. فقد يكون
لكل كتاب تلخيصه الخاص بالنسبة لأفعال القول أو مسار الفكر أو بيان الغرض أو جدل
الوافد والموروث.
١ فالكتاب هو وحدة التحليل، وعيبها هو تكرار المكونات الرئيسية للتلخيص
التي قد تتشابه مثل تكرار أفعال القول، ومسار الفكر، وبيان الغرض، والبدايات
والنهايات الإيمانية، والثانية عرض التلخيص ابتداءً من مكوناته التي تخترق الكتب
المنطقية والطبيعية والسياسية. فالمكون هو وحدة التحليل. والمكونات أفعال القول،
الغرض والموضوع، المنهج المتبع، وهو في الغالب البيان والإيضاح عن طريق القسمة، وجدل
الوافد والموروث لتعشيق الأول في الثاني، ووصف مسار الفكر واستدلالاته، ووضع
مقدماته ونتائجه، وأخيرًا البدايات والنهايات الدينية. وميزة هذه الطريقة الكشف عن
بنية التلخيص التي تندرج تحتها كل التلخيصات، وتفادي التكرار. وعيبها القضاء على
وحدة العمل وخصوصيته وعمليات الإبداع التي وراءه. وفي كلتا الحالتين هناك وحدة في
التلخيص متمثل في وحدة العمل الذي تحيل أجزاؤه بعضها إلى البعض الآخر.
٢ وواضح أن ابن رشد هو الذي جعل التلخيص نوعًا أدبيًّا مستقرًّا ودائمًا؛
إذ لخص فيه كل كتب المنطق وبعض كتب الطبيعيات.
٣
ويبدأ التلخيص بأفعال القول دون التنصيص في نصف الفقرات تقريبًا في صيغة «قال» أو
«يقال» أو «يقول» أو «قيل». كما تتداخل بعض أفعال الكلام مثل: «يتكلم» والإرادة
«يريد»، والظن «يظن». وباقي الفقرات التي تبلغ أكثر من النصف تبدأ بالأسماء أي
الأشياء ذاتها. فابن رشد لا يتعامل فقط مع القول غير المباشر نظرًا لغياب القول
المباشر ولكنه يتوجه إلى الأشياء مباشرةً محللًا إياها وواصفًا لها، عينه على
الموضوعات ذاتها مثل عين أرسطو عليها للاتفاق معه في الرؤية أو الاختلاف معها.
٤
الغاية من التلخيص توضيح النص أمام الذات، واستيعابه إلى الداخل وليس عرضه إلى
الخارج، وتحويله إلى بؤرة عقلية وموضوع ذهني. التلخيص هو تخليص النص من شوائبه
اللغوية وتحريره من الألفاظ من أجل اقتناص المعاني. ولا يخلو التلخيص من النقد
وتبديد الشكوك والتحول من الظن إلى اليقين. يكشف عن فكر باحث ومحقق وليس مجرد فكر
ملخص وعارض؛ لذلك تكثر ألفاظ الشك والمماراة والظن واليقين.
٥
والغرض من التلخيص بيان المعاني التي تضمنتها كتب أرسطو في صناعة المنطق. فإذا
كان الشرح يتوجه نحو اللفظ فإن التلخيص يتجه نحو المعنى وتحصيله بحسب الطاقة، وترك
الباب مفتوحًا لغيره دون إعطاء القول الفصل. وهو جزء من مشروع، متكامل، وذلك على
عادتنا في سائر كتبه، لعرض النسق الأرسطي من خلال أعماله.
٦
والبداية بالترتيب، بالمقولات ثم العبارة ثم القياس ثم البرهان في منطق اليقين،
ثم بالجدل ثم السفسطة ثم الخطابة ثم الشعر في منطق الظن. ويعتمد التلخيص على
القسمة، والقسمة أحد وسائل التعريف؛ إذ ينقسم كتاب المقولات إلى ثلاثة أقسام من
العام إلى الخاص إلى الأخص أو من الأصل إلى الفرع إلى فرع الفرع. فالأصول هي الأمور
العامة التي تخص كل المقولات، والفرع عرض مقولة مقولة من المقولات العشر، وفرع
الفروع اللواحق العرضية العامة المشتركة بين المقولات.
٧ ويظهر مسار الفكر في وضع المقدمات والانتهاء إلى النتائج.
٨
ومن الوافد يذكر أرسطو بطبيعة الحال فهو صاحب الكتاب. وينسب إليه الرأي الخاص مثل
تعريف المكان بالحاوي والمحوي والسطح الملامس. كما تنسب إليه باقي أعماله مثل ما
بعد الطبيعة والمقولات.
٩ كما يلجأ إلى ظاهر كلامه كمقياس لتأويل المتأول وشرح الشراح وتفسير
المفسرين مثل الحكماء والمسلمين خاصة أبا نصر. فالعودة إلى الأصول طريق الخلاص من
الشراح والمؤوِّلين والمفسرين، العودة إلى الكتاب نفسه كما هو الحال عند أهل السلف
وعند البروتستانت الغربيين. فالكينونة ليست من المضاف إلا بجنسها، ويحال إليه
لإثبات التضاد وجعله نسبيًّا متغيرًا. فالصالح قد يكون طالحًا والطالح قد يكون
صالحًا بالمعاشرة.
١٠ ويحال إلى أفلاطون في إحدى تعريفات المضاف بالرسم. ويحال مرة أخرى إليه
مع سقراط كمتضادين.
١١ كما يضرب المثل بسقراط على عادة اليونانيين دلالة على الشخص كما يضرب
المثل بزيد وعمرو على عادة العرب، وبطرس وبولس على عادة الأوربيين المحدثين.
١٢
ويظهر الموروث اللغوي على استحياء مثل اللسان العربي أو كلام العرب دون الموروث
الديني في مقابل اللسان اليوناني وعادة اليونانيين حتى يظهر التقابل بين الموروث
والوافد، بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر. ففي اللسان العربي يحمل الاسم دون الحد.
وليس ببعيد أن يوجد في اللسان العربي أفعال ليس لها مصادر. وقد تكون بعض الأسماء
غير مشتقة في اللسان اليوناني ومشتقة في اللسان العربي. وفي اللسان اليوناني قد
يكون للكينونة المجردة من حيث هي موضوع اسم مشتق من اسم آخر مثل اشتقاق مجتهد من
الفضيلة وليس فاضلًا. فكل لسان له اشتقاقه. ويدل اسم الملكة في اللسان اليوناني على
الأشياء الأطول زمانًا في الثبوت والأعسر حركة.
١٣
ومن الموروث الفلسفي لا يظهر إلا الفارابي في معرض النقد في تحديده للجوهر بسبب
تبعيته للمفسرين، وابن رشد يعود إلى كتاب أرسطو نفسه ويفسر الكتاب بالكتاب على
طريقة المفسرين المسلمين. كذلك أخطأ أبو نصر في تأويله الإضافة وضرب المثل عليها
بالكينونة على عكس ظاهر كلام أرسطو، وتظهر بعض ألفاظ الموروث مثل النحو والفقه بحيث
لا يبدو الوافد غريبًا على الموروث. بل إن ألقاب ابن رشد ألقاب موروثة فهو الفقيه
الأجل العالم المحصل.
١٤ ويبدأ التلخيص بالبسملة والصلاة والسلام على محمد وآله.
١٥
والموضوع نفسه رابط بين الوافد والموروث، ويسهل تعشيق الاثنين فيه لأنه موضوع
لغوي يتعلق بعلاقة اللفظ بالمعنى، والأسماء المترادفة والمشتركة والمتواطئة أي أنه
يتعلق بالجانب اللغوي للمنطق. فالنحو منطق العرب كما أن المنطق لغة اليونان كما هو
الحال في المناظرة الشهيرة بين المنطق والنحو بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي.
١٦ فهو منطق على مستوى اللغة حتى ولو بدت المقولات على مستوى الطبيعة مثل
الجوهر والعرض، الكم، الكيف، الزمان، المكان، الوضع، الإضافة، الفعل والانفعال
والملكية. بل إن الكليات الخمسة أو الأجناس الخمسة أو الأسماء الخمسة هي أيضًا
ألفاظ أكثر منها موضوعات، لغة أكثر منها أشياء أو هي تصورات منطقية تبدأ من اللغة
وتنتهي إلى الوجود، وبها التسلسل الهرمي الذي يتراوح بين الواحد والكثير أو الدوائر
المتداخلة ذات المركز الواحد.
١٧
(٢) تلخيص العبارة
وتتداخل موضوعات العبارة مع موضوعات المقولات. فالعبارة هي الجملة والمقولات
الكلمات. والجملة مكونة من كلمات. العبارة هو الخط، والمقولات النقاط، والخط مكون
من تكرار عدة نقاط على نحو متواصل؛ لذلك تظهر الأسماء والكلمات والأقوال والمعاني
قبل القضايا والموضوع والمحمول والجهات والمتقابلات والمتلازمات.
١٨
ومع ذلك، يقل النقل ويتزايد الإبداع من تلخيص إلى تلخيص لاحق. فالتلخيصات الأولى
أقرب إلى أرسطو، والأخيرة أقرب إلى ابن رشد، تدريجيًّا في مسار التحول من النقل إلى
الإبداع، يقل في منطق اليقين: المقولات، والعبارة، والقياس، والبرهان. ويزيد في منطق
الظن: الجدل، والسفسطة، والخطابة والشعر. الأول به قدر كبير من العمومية في حين أن
الثاني به قدر كبير من الخصوصية.
وتظهر أفعال القول في نصف الفقرات تقريبًا.
١٩ ولكن العبارة بعد القول ليست نصًّا حرفيًّا لأرسطو بل قولًا لابن رشد
يعبر فيه عن فكرة أرسطو كما هو الحال في الجوامع، ولم تذكر نصوص لأرسطو في تلخيص
العبارة إلا نادرًا؛ فالتلخيص هنا تأليف غير مباشر، إعادة إنتاج نص أرسطو بعبارة
أوضح وأكثر تركيزًا وأقرب إلى الفهم في الثقافة العربية. التلخيص هنا تعبير عن
معاني أرسطو وتحقيق مقاصده بعبارات جديدة. وهو يمثل قدرةً فائقة على الفهم والتمثل
والاستيعاب وإعادة العرض والتعبير.
٢٠ كما أن أرسطو هو البداية وابن رشد هو النهاية؛ لذلك يعرض ابن رشد
لقضايا جديدة لا نظير لها عند أرسطو فيما يقرب من خمس التلخيص.
٢١
فإذا كان ابن رشد في تلخيص المقولات قد لخص المعاني وتابع نفس قسمة الكتاب إلا
أنه في تلخيص العبارة غير ترتيب نص أرسطو وقسمته. ولخصه في خمسة أقسام فقط جامعًا
في كل قسم أكثر من فصل لأرسطو. وهو أيضًا تلخيص للمعاني وليس شرحًا للألفاظ كما
يصرح بذلك ابن رشد نفسه في آخر عبارة في «تلخيص العبارة».
٢٢
وأحيانًا يكون التلخيص أكثر طولًا من نص أرسطو دون أن يكون أقل دقة. وقد تجاوز
ابن رشد في «تلخيص العبارة» أفعال القول إلا نادرًا.
٢٣ ومنها ما لا يتبع أرسطو على الإطلاق.
ويتحدث ابن رشد بضمير المتكلم المفرد أو الجمع في عدة صيغ مثل «أقول» «أقوله» ثم
«نقول»، «قلنا». كما تظهر أفعال أخرى مثل «ذكرنا»، «فسرنا». فابن رشد يقول أكثر مما
يقول أرسطو، والأنا تتكلم أكثر مما يتكلم الآخر.
٢٤ وبينما يبدو فكر أرسطو مضطربًا في باقي بعض الموضوعات إلا أن ابن رشد
يقوم بتوضيحها، وحل إشكالاتها، وإيجاد بدائل أخرى لها. ثم ينتهي إلى أن يكون
الموضوع واضحًا بنفسه.
ويظهر مسار الفكر أكثر في «تلخيص العبارة». يبدو أن ابن رشد في «تلخيص المقولات»،
كان ما زال يتحسس الطريق. وربما لأن موضوع المقولات لم يسمح له بالاستقلال شبه
التام عن أرسطو كما هو الحال في «تلخيص العبارة». وتتم إحالة اللاحق إلى السابق،
والسابق إلى اللاحق لبيان وحدة الفكر ومساره وانتقاله من المقدمات إلى النتائج أو
من النتائج إلى المقدمات في منطق الاتساق الذي يمحى من الوقوع في التناقض.
٢٥ ويبحث ابن رشد عن السبب في نشأة الحروف والكلمات بالتواطؤ. ويدخل ابن
رشد في الإشكالات الفلسفية، ويأخذ طرفًا في المعارك الفكرية؛ إذ ينقد كل من يعلن أن
لكل معنًى ولكل لفظٍ دلالة طبيعية. كما يهاجم نظرية التوفيق في نشأة اللغة مدافعًا عن
الاصطلاح.
ويتجه ابن رشد بوضوح أكثر نحو غاية الكتاب، التلخيص بالقصد وبيان الغرض.
٢٦ ويعتمد ابن رشد على القسمة من أجل تفصيل جوانب الموضوع، ثنائيًّا
وثلاثيًّا ورباعيًّا.
٢٧
وقد تجاوز ابن رشد موضوعات أرسطو في تلخيص العبارة، إلى موضوعات أخرى لم يناقشها
أرسطو. فقد كان نص أرسطو مجرد مناسبة لإتمام الموضوع، مجرد بداية وليس نهاية. يذكر
أرسطو في حد الاسم كلفظٍ يدل بتواطؤ لهذا المعنى، وربما عنى باللفظ الصوت كما هو
الحال في اشتراك الاسم وهو الصحيح.
٢٨ كما يذكر أرسطو في باقي مؤلفاته المنطقية وضعًا للجزء في الكل،
وتفسيرًا للنص بالسياق الكلي ولكتاب العبارة في مجموع كتب المنطق الثمانية خاصة
القياس والشعر.
٢٩ كما يحال إلى كتاب النفس في دلالة المعاني في النفس على الموضوعات في العالم.
٣٠ وفي حد العدم يحال إلى المقولات. وقد قسم أرسطو موضوع القضايا. ذكر
البعض منها في العبارة وترك الآخر في القياس أو البرهان أو الجدل أو السفسطة. كما
أحال أرسطو في موضوع الأقاويل الجازمة وغير الجازمة والتامة والناقصة إلى الخطابة
والشعر. كما يحال في الحروف إلى كتاب الشعر، ويذكر سقراط كعادة اليونان في ضرب
المثل بأي شخص. كما يذكر زيد وعمرو وعبد الملك وعبد قيس وبعلبك. وقد يظهر امرؤ
القيس شاعرًا وامرؤ القيس موجود شاعرًا كمثل عربي تاريخي بدلًا من زيد وعمرو لشرح
الرابطة بين الموضوع والمحمول. هنا ينتقل ابن رشد من خصوصية اليوناني إلى عموم
الشعوب. ويتجاوز الحضارة الخاصة إلى مجموع الحضارات البشرية كما نادى ابن سينا في
آخر كتاب الشعر في الشفاء بالانتقال من الشعر الخاص إلى الشعر المطلق، الشعرية
ذاتها كمشروعٍ للأجيال القادمة.
٣١
بل إن ابن رشد نفسه على علم بحدود موضوع تلخيص «كتاب العبارة»، ولا يتطرق إلى
باقي الموضوعات التي لا تدخل فيه.
٣٢ وفي نفس الوقت يبين ارتباط المنطق بالطبيعة ويحيل الموضوعات الداخلة في
الطبيعة إليه. فالمنطق ليس علمًا صوريًّا بل هو مرتبط بالنفس والطبيعة وربما بما
بعد الطبيعة نظرًا لوحدة العلمين.
٣٣ فالتضاد ليس فقط في النفس بل خارج النفس، وليس فقط في النظر بل أيضًا
في الاعتقاد الصادق.
٣٤ وكما أن الطبيعة وما بعد الطبيعة علم واحد فكذلك المنطق والطبيعة علم
واحد. فثنائيات المنطق، الصورة والمادة، التقابل والتضاد، الكل والجزء لا تختلف
كثيرًا عن ثنائيات الطبيعة، الزمان والمكان، الحركة والثبات، العلة والمعلول.
المنطق طبيعة في النفس، والطبيعة منطق الوجود. المنطق وجود في العالم الأصغر،
والطبيعة منطق في العالم الأكبر.
وكان عند ابن رشد إحساسٌ بالتحول من القدماء إلى المحدثين. فهو يحيل إلى القدماء
باعتبارهم المغايرين، السابقين، مرحلة التجاوز إلى اللاحقين والمحدثين، كما أنه
يشير إلى المفسرين وتعدد التفاسير، فلا يوجد تفسير واحد للمنطق أو رؤية نمطية له.
بل تتعدد التغيرات بتعدُّد مستويات التحليل.
٣٥
ويوسع ابن رشد مفهوم اللغة إلى اللسانيات الثقافية.
٣٦ إذ تختلف معاني الألفاظ عند الأمم مما يدل على أن المعاني بالتواطؤ
وليس بالطبع. فاللغة وضعية. وتجاوزت الأمثلة اللغة اليونانية عند أرسطو إلى اللغة
العربية عند ابن رشد، وانتقل التحليل من المستوى المجرد العام في «تلخيص المقولات»
إلى المستوى العيني الخاص في «تلخيص العبارة». وكما أن الحروف والخطوط ليست واحدة عند
جميع الأمم فكذلك دلالاتها على معانيها. أما المعاني في النفس فهي واحدة عند
الجميع. يضع ابن رشد هنا أسس الفقه المقارن. تعدد الألفاظ في اللغات ووَحْدة المعنى
في النفس تطبيق لمبدأ التنوع والوحدة.
يذكر ابن رشد لسان العرب ثم كلام العرب ونحويي العرب.
٣٧ فالاسم المحصل وغير المحصل غير موجود في لسان العرب، وليس للزمان صيغةٌ
خاصة في لسان العرب، وإنما الصيغة التي توجد له في كلام العرب مشتركة بين الحاضر
والمستقبل؛ لذلك قال نحويو العرب بإدخال السين على المضارع ليتحول إلى المستقبل،
كما أن لسان العرب لا يقتضي وجود رابطة بين الموضوع والمحمول كما لاحظ الفارابي من
قبل. وقد يُضاف هو على أقصى تقدير.
٣٨ ويعطي ابن رشد نماذج من الأمثال العربية على الموضوعات الخيالية
الخارجة عن الصدق والكذب مثل عنز أيل وعنقاء مغرب. التلخيص بهذا المعنى هو الانتقال
من الخاص اليوناني إلى النظرية العامة ثم التحوُّل من النظرية العامة إلى تطبيقاتها
في نماذج أخرى في اللغة العربية والسنة الأمم على النحو الآتي:
وموضوع اللغة هو الذي يتم فيه تعشيق الوافد في الموروث في موضوعٍ عرضَه الأصوليون
وهو: هل اللغة توقيف أم اصطلاح؟ هل دلالتها بالطبيعة أم بالتواطؤ؟ فالقول عند ابن
رشد بالتواطؤ لا بالطبع.
٣٩ فإذا كانت عبقرية اليونان في المنطق فإن عبقرية العرب في اللغة كما هو
الحال في المناظرة الشهيرة بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي حول المنطق والنحو،
المنطق لغة اليونان، والنحو منطق العرب.
كما استرعي انتباه ابن رشد موضوع الأمور الاتفاقية وكيفية ربطها بموضوع النبوة،
وكذلك موضوع الأمور المستقبلة وعدم اجتماع السلبي والإيجاب فيهما؛ إذ لا يمكن
استنتاج شيءٍ بالنسبة للنبوة في المستقبل لأنها في حيز الإمكان وليست في حيز الوقوع،
وإلا تحوَّلت أمور المستقبل إلى أمور ضرورية وبالتالي تبطل الروية والاستعداد لدفع شر
أو توقع خير.
٤٠ وهنا يبدو ابن رشد أكثر إحساسًا بإمكانيات المستقبل دون إخضاعه لحتمية
تاريخية وقانون ثابت مثل قوانين المنطق الصورية. مع إنه يمكن التنبؤ بمصائر الأمم
والشعوب كما هو الحال في خصائص الأنبياء.
وتظهر بعض المصطلحات الأصولية مثل الأمر والنهي للتعبير عن مصطلحات المنطق مثل
الجازم وغير الجازم، وألفاظ العموم مثل إضافة ألف ولام التعريف.
كما يحيل ابن رشد كثيرًا من قضايا المنطق إلى الفطرة ويحكم عليها بها. وهو تصور
إسلامي
فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ.
٤١ ويبدأ ابن رشد بالبسملة والصلاة على محمد وآله.
٤٢
وكثير من التحليلات المنطقية للقضايا هي في الحقيقة تحليلات لغوية؛ فالموضوع
والمحمول في المنطق هما المبتدأ والخبر في النحو، والرابطة في المنطق هو الضمير في
اللغة، والقضايا الشرطية في المنطق هي الجمل الشرطية في النحو، والجهات في المنطق
الضروري والممكن والمستحيل هي أنواع الكلام في اللغة من خبر وإنشاء واستفهام وتعجب
وتساؤل وتمنٍّ. والتصورات في المنطق هي الألفاظ في اللغة، والتصديقات في المنطق هي
الجمل في الكلام، هنا يسير ابن رشد في نفس الطريق الذي اشتقَّه الفارابي من قبلُ وهو
تحويل المنطق إلى لغة وكما عبر عن ذلك في كتاب «الحروف».
واضح أن الغاية من التلخيص ليس فقط بيان المعاني بل أيضًا نقل المنطق كله من
المستوى الصوري إلى المستوى الطبيعي والإنساني، بداية من التحوُّل من منطق العقل إلى
لغة الخطاب كما حاول المناطقة المحدثون في الغرب.
٤٣ ومن ثم أصبح المنطق مفهومًا للخاصة والعامة، وتحول العلم من هيكل عظمي
إلى علم بلحمه ودمه. وانتقل المنطق من الرياضيات إلى الطبيعيات والإنسانيات.
كما يتحوَّل المنطق من لغة الخاصة إلى لغة العامة، من لغة المناطقة إلى لغة الجمهور.
٤٤ ومن ثم يمكن القول إن التلخيص هو تجاوز للمنطق الصوري الوافد إلى أسس
للمنطق الشعوري الموروث، وتحليل المقولات والقضايا والموجهات على أسس شعورية.
فالصدق والكذب، والتضاد والتقابل، والوجود والإمكان، والضرورة والاستحالة والسلب
والإيجاب إلى آخر هذه المقولات المنطقية موجودة في النفس وفي العالم
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ،
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ. وهو التوجه القرآني أصل الموروث الأول.
المنطق الصوري الخالص يفرغ الفكر من مضمونه، ويترك الشعور فارغًا خارج محليته. يقع
في بئر صوري لا خروج منه، في بعض أشكال ورسوم كمتاهة عقلية فارغة كما وقع ابن سينا
في أشكال القياس (٢١٦ شكلًا).
٤٥
وإذا كان المنطق الصوري يقوم على أكبر قدرٍ من التعميم فإن المنطق الشعوري يرعى
الفروق الفردية في استعمالات الناس للغة. فالصدق والكذب أنماط للاعتقاد، تختلف من
جزء إلى آخر.
٤٦ المنطق الصوري خارج الزمان، والمنطق الشعوري في الزمان. المنطق ليس مجرد
قواعد صورية تعصم الذهن من الخطأ بل له نتائج عملية في السلوك الإنساني، وقدرة
الإنسان على الإقدام والإحجام. فالمنطق الصوري هو منطق للفعل. المنطق النظري منطق
للاستعمال. إن خطورة المنطق الصوري هو أنه تحصيل حاصل، تمرينات عقلية، اتساق الفكر
مع نفسه، اطمئنان النفس إلى الاتساق بعيدًا عن التناقض، تطهر من العالم، وابتعاد عن
الموضوعات، واكتفاء بالشكل دون المضمون. يخلق المنطق من نفسه موضوعًا وهو بغير ذي موضوع.
٤٧ لذلك أبدع المسلمون في الجدل والسفسطة والخطابة والشعر أي في المنطق
الإنساني في الحوار مع الخصوم والجدال معهم، وفي التأثير على النفوس وإثارة
الخيال.
(٣) تلخيص القياس
وهو أكبر التلخيصات حجمًا
٤٨ وهو تلخيص على المعاني وليس على الألفاظ (الشرح) أو الأشياء (الجوامع).
ولا تظهر أفعال القول إلا في عشر الفقرات. وباقي الفقرات تبدأ بالأشياء ذاتها،
بالموضوعات وليس بالأقوال، صحيح أن «قال» هو الأكثر شيوعًا ولكنها صيغة مقابلة
أيضًا بصيغ «نقول»، «قلنا». فأرسطو يقول وابن رشد يقول في تقابل بين المشروح
والشارح، بين الموضوع والذات.
٤٩ أما باقي الأفعال فإنها تمثل ربع الفقرات أي أن الأشياء ما زالت لها
الأولوية على الأفعال.
٥٠ وهي أفعال الشعور المعرفي مثل الظن والاحتجاج والوهم والسؤال والإقرار
والعرض والتوهم والغلط. وبعضها أفعال الاستدلال المنطقي مثل الوضع والاستنتاج
والإيجاد والتخصيص والإيقاع والرفع والشرط. وتكون الأفعال إيجابًا مثل ينبغي،
يكون، أو سلبًا مثل لا ينبغي، لا يكون.
وتأتي أفعال البيان لتستغرق نصف الفقرات تقريبًا في صيغ «قد تبين» أو في صيغ أسماء
«بيان». ومعظمها في صيغ شرطية «لما كان»، «أما كيف»، «أما أن»؛ فالبيان نتيجة
الشرط، وانتقال عن فعل الشرط إلى جواب الشرط.
٥١ أما الأسماء فهي أيضًا حوالي ربع الفقرات ومعظمها موضوعات المنطق فردًا
وجمعًا مثل القياس والمقاييس، المقدمة والمقدمات، والقضايا والأشكال، والضروب
والأصناف، والمطالب والأجناس، والحدود والوجوه.
ويظهر مسار الفكر من المقدمات إلى النتائج، من البدايات إلى النهايات في الإحالات
إلى ما سبق أو إلى ما يلحق، ومن هنا تبدو أهمية الاتساق والاعتماد على منطق الخلف.
٥٢ كما يظهر الغرض الذي يحدد مسار الفكر نحو غاية.
٥٣ ويظهر تعليل الفكر ببيان أسباب الصدق والكذب. ويظهر مسار الفكر بوضوح
على أنه نظرية في البيان والإيضاح.
٥٤
ومن الوافد يتصدر أرسطو بطبيعة الحال ثم الإسكندر ثم سقراط كأسلوب يوناني يشير
إلى أي شخص ثم ثامسطيوس ثم ثاوفرسطس ثم أفلاطون، وأوديموس، ثم جالينوس، ثم زينون
ومانن من الشكاك.
٥٥ ويرد ابن رشد على الشكاك دفاعًا عن أرسطو؛ فقد صرح أرسطو في كتاب
البرهان أن المقدمات التي تحمل على الكل غير الضرورية. ويرى أن النتيجة تتبع جهة
المقدمة الكبرى. والاستقراء شاهد على صحة مذهب أرسطو ضد أبي نصر، فلا فائدة في شرط
لا يطابق المواد. وهذا خطأ الإسكندر. فلا فائدة في شرط لا يعم جميع أصناف المقدمات.
وبهذا تنحل الشكوك عند الناس في مذهب أرسطو في اختلاط الممكن مع الوجودي، كما حذر
من استعمال المقدمات الوجودية بالرغم من استعماله لها كلما استدعى الأمر، وأرسطو
وضح الأشكال الثلاثة الأولى. ويعد الأشكال كلها ضاربًا أربعة في تسعة في ستة
وثلاثين اقترانًا دون التفرقة بين المنتج وغير المنتج.
كما أضرب أرسطو عن ذكر بعض أشكال القضايا. ويرد أشكال الثاني والثالث إلى الأول
عن طريق العكس كمقاييس صناعية وليس في كل المقاييس، وعنده أن الصنفين الكليين من
الشكل الأول أكمل الأشكال.
٥٦
يعرض ابن رشد إذن للمقدمات المنعكسة في المطلق والاضطرارية حتى تنحل الشكوك التي
شكها القدماء في هذا الباب عليه. ويدافع ابن رشد عن أرسطو ضد جهل الشراح إذ إنه
أراد أن يعدد أصناف النتائج المقصودة بالذات، بالقصد الأول دون القصد الثاني. ويلجأ
ابن رشد إلى ظاهر كلام أرسطو المعرفة شرط المقول على الكل، والمقدمات الكلية عند
أرسطو صادقة على الأزمنة الثلاثة. يقول أرسطو إنه ليس يمكن أن يتبين بقياس الخلف
أنه ينتج مطلقة.
ويحلل ابن رشد آراء أرسطو ويبين وجاهتها. ويشير إليه باعتباره رياضيًّا له آراؤه
في القطر والضلع. ويبين لماذا يحتاج التناقض بالشكل الثاني إلى جهد كبير، ويدافع
ابن رشد عن أرسطو عن طريق تخيل سؤال له ثم التطوع بالإجابة نيابة عنه. وعند ابن رشد
مقاييس معيارية عليها ينبغي فهم أقوال أرسطو، والحق ما يقوله أرسطو، شاهد عليه
ومتفق من كل جهة. وإذا كان هناك نقد لأرسطو فإنه يكون خفيفًا للغاية مثل استعمال
أرسطو للعكس استعمالًا جزئيًّا.
٥٧
في حين أن الإسكندر أدخل ضمن المقدمات التي يجهل أمرها الضرورية أو غير الضرورية
لا الموجودة بالفعل ما دام الموضوع أو المحمول موجودًا. وليست المطلقة ما يحكى عن
الإسكندر ولا عن ثاوفرسطس كما بين ابن رشد في مقال سابق. كما شرط الإسكندر في
المقول على الكل أن يكون محمولًا باضطرار أو بإمكان، وجعلها ثاوفرسطس تشمل الضروري
والممكن على حد سواء، وجعل ثاوفرسطس وأوديموس من قدماء المشائين وثامسطيوس النتيجة
تابعة لأحسن المقدمتين، وتصح أقوال المفسرين عندما يطابق ظاهر لفظ أرسطو. ويشير إلى
نظرية أفلاطون في التذكر وعلاقة الحب بالجماع.
٥٨ وجالينوس هو واضع الشكل الرابع، وهو قياس لا يقع عليه الفكر بالطبع.
فالمنطق عند ابن رشد فطري وليس منطقيًّا آليًّا صوريًّا مصطنعًا، وما يقوله
ثامسطيوس من المقاييس الأربعة غير التامة لا غناء لها أصلًا قول باطل.
٥٩
ومن الفرق يتصدر المفسرون جميعهم أو بعضهم، ثم المشاءون قدماؤهم ومفسروهم، ثم
القدماء، وقدماء المفسرين والمفسرون.
٦٠ ومعظم الاستعمالات بمعنى سلبي، فمذهب جل المفسرين أن جنس الممكن هو
المعدوم، والفصل الذي يخصه هو إذا وضع موجودًا لم يلزم منه محال.
٦١
والأمر ظاهر بنفسه ولكنه خفي على المفسرين. وكان القدماء يظنون أن قياسًا لذلك
تبرهن به حدود الأشياء عن طريق القسمة وهو ظن خاطئ، وابن رشد هو الذي يعيد التاريخ
إلى مساره الصحيح بعد أن انحرف به جميع المفسرين إلا الإسكندر.
٦٢
ويحال إلى باقي كتب المنطق السابق على القياس مثل باري أرمنياس أو كتاب الجدل
نفسه كله أو المقالة الثامنة منه أو التالية له مثل كتاب البرهان كما يحال إلى كتاب الأسطقسات.
٦٣ ويبرر ابن رشد استبعاد أرسطو بعض الحدود المنعكسة لخروجها على موضوع
القياس وإخراج بعض الأقيسة لدخولها في موضوع الاستقراء.
٦٤
أما الموروث فبطبيعة الحال يتصدر الفارابي، وبعده بمراحل ابن سينا. فأقرب الشراح
لابن رشد هو الفارابي الذي نقل علم المنطق إلى علم اللغة.
٦٥ نقد وَهْم أبي نصر على أرسطو عندما جعل المقول على الكل من جهة المواد،
وهي موجودة في المقدمة الكبرى التي ظن أبو نصر أنه شرط أرسطو. ليس شرط المقول على
الكل في جميع المقدمات الثلاث المطلقة والضرورية والممكنة، واحدًا كما ظن أبو نصر،
والاستقراء شاهد على صحة مذهب أرسطو وخطأ أبي نصر، كما ذهب أبو نصر إلى أن ما زِيد
فيه أنه إذا وضع موجودًا لم يلزم عنه محال خاصة عن خواص الممكن لا فصلًا من فصوله.
وقد شك أبو نصر لما اعتقد أن الوجودية هي التي يوجد المحمول فيه لكل الموضوع في
زمان مشار إليه كما حكاه الإسكندر، وتلخيص ابن رشد يبدد كل شكوك أبي نصر، وتفسير
أبي نصر له ظاهر وباطن، واللزوم لأحد المقدمات لا يدخل تحت حد القياس كما ظن أبو
نصر، وأرسطو على حق بالاستقراء، وليس أبو نصر وابن سينا.
٦٦
ويظل الموروث قليلًا نظرًا لطغيان التحليلات الصورية لأشكال القضايا على عكس
المقولات والعبارة التي تكثر فيها التحليلات اللغوية؛ وبالتالي يظهر الموروث
باعتباره ثقافة لغة. ومع ذلك يبين ابن رشد التمايز بين علم المنطق مع العلم الإلهي،
الأول يتحدث عن شكل الفكر، والثاني يتناول موضوعه.
٦٧
وتظهر بعض مصطلحات علم الأصول على استحياء مثل السبارات من السبر والتقسيم. كما
يظهر الأسلوب العربي في استعمال زيد وعمرو وخالد كما يستعمل اليونانيون سقراط،
ويتحدث عن الاصطلاح عند المتكلمين، ولا يقصد به علماء الكلام بل أهل الاختصاص
بالعلم، وتؤخذ قضية قتل الخلفاء عثمان وعمر كنماذج يمكن استبدالها ووضع رموز رياضية
بدلًا عنها. فالمادة محلية. ويضرب المثل من الفقه المالكي على المقاومة من الرأي
المقبول قول القائل ليس ينبغي أن يعزر السكارى فيما جنحوا لأن مالكًا لا يعزرهم،
وكان يلزمهم الجنايات. ويظهر اللجوء إلى المشيئة أحيانًا. وكالعادة يبدأ التلخيص
بالبسملة وحدها وفي أول كل مقالة.
٦٨
(٤) تلخيص البرهان
وتلخيص البرهان أصغر حجمًا من تلخيص القياس
٦٩ تستغرق أفعال القول حوالي ثلث الفقرات. صحيح أن معظمها «قال»، ولكن
هناك أيضًا «قلت»، «نقول»، «قولنا»، قول الأنا في مقابل قول الآخر.
٧٠ والثلث الآخر من الفقرات تبدأ بأفعال الشعور مثل الشك والسؤال. ومعظمها
أفعال البيان مما يدل على أن التلخيص هو إيضاح وبيان. كما تظهر العبارات الشرطية
التي تبين مسار الفكر، بداية بفعل الشرط ونهاية بجواب الشرط.
٧١ وباقي الأفعال تتراوح بين الظهور والوجود والإقرار واللزوم والانقضاء
وبين ينبغي ويجب، الفكر بين الواقع والمثال، بين التقرير والاقتضاء. أما الأسماء
فهي الثلث الأخير تتراوح مفردًا وجمعًا بين البرهان والمقدمات والحمل والجدل
والقياس والنتائج والغلط ومواضع الشكوك والعلم والمطلوب والخلاف والشكل واللازم
والسبب والعلل والصنائع، وهي مصطلحات المنطق حتى الألفاظ العامة مثل الأمور
والأشياء. ويظهر التمايز بين الأنا والآخر خارج أفعال القول مثل «أما نحن».
٧٢
ويظهر مسار الفكر في إحالة اللاحق إلى السابق والسابق إلى اللاحق، والعودة إلى
الموضوع بعد الاستطراد.
٧٣ ويقوم مسار الفكر على الاتساق بين المقدمات والنتائج بحيث يستحيل الخلف
والشناعة. ويتضح مسار الفكر في القسمة القادرة على توضيح أنواع المقاييس مثل إنتاج
القياس المستقيم الأخفى بالطبع من الأعرف بالطبع، وإنتاج قياس الخلف من الأعرف
عندنا لا من الأعرف بالطبع. وما ينتج من الأعرف بالطبع فهو أفضل.
٧٤
ومن الوافد يتصدر بطبيعة الحال أرسطو ثم أفلاطون وبروش ثم أفروطاغورش وأناخرسس
وفوثاغورس وديوجانس وسقراط ومانن، ويضرب المثل بديوجانس وسقراط على كبر النفس
والاستخفاف بوجود البخت والاتفاق.
٧٥
والإشارة إلى أرسطو ليست كثيرة؛ فقد توارى الشخص لصالح الموضوع. ومع ذلك فعند
أرسطو كل ذاتية ضرورية وكل ضرورة ذاتية. وطعن عليه قوم في ذلك. وقد قصد أرسطو بقوله
هذا أن يجعل البرهان البسيط من باب الكمية من ثلاثة حدود فقط، وهي أسهل من طريق
القسمة. وشرط البرهان المطلق عنده أن يكون الحد الأوسط فيه علة الطرف الأكبر وضروري
فيه.
وعند أرسطو المبادئ العامة منها يكون البرهان في صناعةٍ إن كانت لا تستعمل
هي أنفسها في صناعة. والمبادئ الخاصة يكون منها البرهان نفسه إذا كانت هي أجزاء
البراهين أنفسها. ويذكر أفلاطون في معرض نقد نظرية الصور واستحالة البراهين على وجودها.
٧٦ ويذكر مرة أخرى في حده النفس على أنها عدد محرك لذاته لأنها علة الحياة
بذاتها.
ومانن نموذج الشكاك الذي يقول إن الإنسان لا يخلو أن يتعلم ما قد علمه أو ما لم
يعلمه جاهل به. فإن كان يتعلم ما علم فلم يتعلم شيئًا كان مجهولًا عنده، وإن تعلم
ما جهله فمن أين علم أن ذلك الذي جهله قد علمه.
وعند أفروطاغورش مقدمات البرهان مشهورة وليست برهانية وهو غاية البله
والجهل.
كما أن برهان بروش على تربيع الدائرة ليس برهانًا يقوم على مقدمات صادقة بل
مقدماته عامة مشتركة. وهو ما صرح به أرسطو في كتاب السفسطة أن برهان بروس برهان
سوفسطائي وإن لم يكن كاذبًا لكن سماه سوفسطائيًّا.
ويضرب المثل بأناخرسيس على الإتيان بالسبب البعيد وليس بالسبب القريب عندما فسر
غياب الموسيقى عند الصقالبة بغياب الكروم، وفيثاغورس على سبب وجود الرعد تخويفًا
به أهل الجحيم.
٧٧
ويحال إلى كتاب القياس ثم إلى كتاب طوبيقا وكتاب باري أرمنياس ثم إلى كتاب
السفسطة وكتاب البرهان.
٧٨ فقد تبين في كتاب «القياس» أن البيان بالدور يكون في المقدمات المنعكسة
التي تتألف من الحدود والخواص، وأن البرهان لا بد له من مقدمات، وأن النتائج الضرورية
تصدر عن مقدمات ضرورية، وأنه لا يلزم من وجود التالي وجود المتقدم، كما تبين أن كل
قياس يقوم على ثلاثة حدود وضروب الإنتاج. وتستنبط الحدود من كتاب طوبيقا وعدد آخر
من الأقيسة، وطريق القسمة أيضًا مجرد استنباط شيء مجهول من شيء معلوم ليس برهانًا.
٧٩
ومن الفرق يحال إلى السوفسطائيين ثم إلى القدماء.
٨٠ ينكر السوفسطائيون مقدمات العلوم وأوائل البرهان. والعلم علم حقيقي
وليس علمًا عارضًا كما يدعي السوفسطائيون، علم بالعلة الموجبة للوجود. هو علم العلم
أي العلم الثاني، ويعتمد السوفسطائيون على أمور مغلطة هي مبادئ القياس عندهم.
والإحالة إلى القدماء لأنهم مصدر الرواية مما يدل على الوعي التاريخي ومسار التاريخ
من الأوائل إلى الأواخر، ومن المتقدمين إلى المتأخرين.
٨١
ويظهر الموروث على استحياء. فعندما يكون التلخيص لكتب تتعلق باللغة مثل المقولات
والعبارة يظهر تعشيق الوافد في الموروث. وعندما يكون الموضوع صوريًّا خالصًا
كالقياس والبرهان تخف الدلالة، إلا من عمل العقل الخالص لمزيد من التوضيح والاتساق.
مع أن البرهان لفظ قرآني قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
والجدل ضد السوفسطائيين في أول تلخيص البرهان يشبه جدل المتكلمين في أول نظرية
العلم عند أصحاب المقالات مثل ابن حزم والشهرستاني. ويظهر التمييز بين علم الهندسة
والعلم الإلهي بمناسبة موضوع الضد؛ إذ لا تبرهن الهندسة على أن الضد له ضد واحد،
وأن الضدين علمهما واحد وإنما يستطيع ذلك العلم الإلهي، كما أن العلم الإلهي لا
يبرهن على أن المكعبين إذ ضوعف أحدهما بالآخر كان منهما عدد مكعب، وإنما يستطيع ذلك
علم الحساب، كذلك يختلف الموضوع الواحد بحسب وجوده في العلم الطبيعي أو في العلم
الإلهي. كما يسمي السوفسطائي اللفظ المعرب المرائي وهو اللفظ المنقول. والمراء لفظ
قرآني سلبي إذ يهاجم القرآن المراءين في الدين، والتفرقة بين العلم والظن التي تقوم
عليها قسمة المنطق إلى يقين وظن قسمة قرآنية إِنَّ الظَّنَّ
لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا.
وربما كانت هناك نية في تحويل المنطق إلى علم عمل، وجعل المنطق الصوري مجرد مقدمة
نظرية للعلم الخلقي.
وتظهر بعض الأمثلة العربية الشهيرة مثل عنز أيل للإشارة إلى الحيوان المركب. كما
يؤخذ مثال من التاريخ على الحد الأوسط، لم حارب أهل الجمل عليًّا؟ فيقال لمكان قتل عثمان.
٨٢
ومع ذلك يقلل «تلخيص البرهان» هندسة فكرية بلا مضمون، صورية العقل المتسق مع ذاته
دون موضوع، أقرب إلى الرياضيات منه إلى المنطق، فإن لم يتحول المنطق إلى علم إنساني
عن طريق اللغة فإنه يتجه نحو الرياضيات عن طريق قوالب العقل الفارغة. الأكثر دلالة
في هذه الحالة «الرد على المنطقيين» أو نقض المنطق عند ابن تيمية أو التقرب إلى حد
المنطق والمدخل إليه عند ابن حزم أو المنطق البديل في علم أصول الفقه. هنا تحضر
الدلالة على نحو سلبي أو بالقدرة على التمثيل أو بالتجاوز والإبداع. والصورية الآن
قد لا تفيد كثيرًا في مواجهة العصر والظرف الحضاري الآن بكل ما فيها من نتاج علمي
بالرغم من ثورة المعلومات ونظم الشفرة التي امتدت إلى علوم الحياة. ويكاد يدرك ابن
رشد محاذاة علم المنطق بالعلم الطبيعي والاقتراب من التماهي بين العقل والوجود.
٨٣ ويبدأ التلخيص بالبسملة في المقالة الأولى وتنتهي بالحمدلة، وتبدأ
المقالة الثانية بالبسملة والصلاة على محمد وآله، وتنتهي أيضًا بالحمدلة.
٨٤
(٥) تلخيص الجدل
وتلخيص كتاب الجدل وسط في الحجم بين «القياس» و«البرهان»، أصغر من القياس، وأكبر
من البرهان.
٨٥ لا تتجاوز الفقرات التي تبدأ بأفعال القول فيه العشر.
٨٦ وبالرغم من أن صيغ «قال» أكثر ترددًا إلا أن هناك أيضًا صيغ «نقول»
«قلنا» لتشير إلى التقابل بين الأنا والآخر، الموروث في مقابل الوافد «وصيغ» القول
إشارة إلى الموضوع المحايد الذي ينظر إليه كل من الأنا والآخر.
٨٧ وتشير باقي الأفعال الأخرى إلى أفعال الشعور المعرفي مثل الظن، والنظر،
والظهور، والشك، بالإضافة إلى أفعال الاقتضاء مثل ينبغي.
فالتلخيص في نفس الوقت فعل من أفعال الاعتقاد يقوم على اقتضاء عقلي، ما ينبغي أن
يكون عليه الفكر. وهي أكثر من أفعال القول مما يدل على أن التلخيص ليس تبعية لقول
بل إعادة إنتاج للنص بأفعال معرفية جديدة. كما تدل أدوات الشرط على مسار الفكر
وترتيب المقدمات واستنباط النتائج.
٨٨
وإذا كانت أفعال القول والنظر والشرط لا تتجاوز ربع الفقرات فإن باقي الفقرات
ثلاثة الأرباع تبدأ بأسماء مما يدل على أن التلخيص يتجاوز الأقوال إلى الموضوعات
التي يراها مؤلف النص الأول، أرسطو، ويراها مؤلف النص الثاني، ابن رشد.
٨٩ ويأتي اسم المواضع، جمعًا ومفردًا في المقدمة لأنه عنوان الموضوع،
«الجدل» أو «المواضع» طوبيقا كما يذكر ابن رشد في العنوان.
٩٠ وهي أكثر من ثلاثة أرباع الأسماء مثل الاستقراء والقياس، المقدمة
والنتيجة، الوجوه والأجزاء، المنفعة والمنافع، الجنس والخاصة، الأشياء والأصناف،
القدرة والقوة، الغرض والموضوعات، القوة والقانون، الشرط والآلات، الوجوب والخطأ …
إلخ؛ فابن رشد لا يلخص «كتاب الجدل» بقدر ما يدرس موضوع «الجدل». يتعامل مع الأشياء
أكثر مما يتعامل مع الألفاظ، ويعرض التلخيص في صيغة تساؤلية، أرسطو يسأل وابن رشد
يجيب، الآخر يسأل والأنا يجيب.
٩١ وطريقة التلخيص وضع الوافد في الموروث منعًا لازدواجية المعرفة من حيث
المصدر وازدواجية الفكر من حيث الرؤية، وازدواجية الحقيقة من حيث المنفعة العامة
ووحدة الأمة ومصالح الأوطان.
٩٢
ويتكلم ابن رشد عن أرسطو كشخص ثالث غائب وليس كمتكلم حاضر؛ فهو الآخر المغاير،
وليس الأنا المتناهي، إحساسًا بالتمايز بين الأنا والآخر، بين الشارح والمشروح، بين
الموروث والوافد. فابن رشد هو الذي يتكلم وأرسطو هو القناع، ابن رشد هو الذي يتكلم
في مواضع الحدود، وأرسطو هو الذي يذكرها في المقالة السادسة من الجدل، «لذلك يقول
أرسطو».
يدرس ابن رشد الموضوع ويذكر مكانه عند أرسطو اعترافًا بفضل القدماء وليس تبعية لهم.
٩٣ وفي نفس الوقت ليس التلخيص رجوعًا إلى الماضي بل استحضار الماضي لذلك
كثيرًا ما يشير ابن رشد إلى «زماننا هذا»، «المتكلمون من أهل زماننا».
٩٤
ويبدو مسار الفكر في إحالة السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق. كما يبدو مسار
الفكر في تلخيص بعض الفقرات لمراحله، ما تم قبل الآن وما سيأتي بعد ذلك مع تذكير
بأقسام الموضوع. ويتحدد المسار في أول فقرة بالغرض، تعريف القوانين والأشياء الكلية
التي منها تلتئم صناعة الجدل.
٩٥
وهو تلخيص حسب ما تأدَّى لابن رشد الفهم والنظر أي أنه عرض على العقل وليس مجرد
اختصار قاموس كمي، وبعد الفهم يأتي النقد والمراجعة. يمتاز بأنه مكتوب بأسلوب عربي
رصين واضح المعنى وكأنه موجه إلى القارئ العربي وليس إلى القارئ اليوناني. فالتلخيص
للمعاني على نحو موجز.
٩٦
ويضم ابن رشد العديد من مقالات أرسطو في جزء واحد. يترك المقالة الأولى من كتاب
أرسطو كما هو، التعريف بالأقاويل التي تلتئم منها المخاطبة الجدلية وبأجزائها،
ويترك الثالث كما هو، أحكام السؤال والجواب بتعبير الأصوليين وهو المقالة الثامنة
عند أرسطو، ثم يضم المقالات الست من الثانية حتى السابعة عند أرسطو في الجزء الثاني
لمزيد من التركيز دون الإسهاب والتفصيل في المواضع بالرغم من طول عرض المواضع
وأنواعها وكأن التلخيص لم يحقق غرضه وهو على وعي بهذا التركيب الجديد
المقصود.
ويبين في نهاية كل مقالة أنها تلخيص لمقالة في كتاب الجدل، كما يبين في أول كل
موضع ما يعادلها عند أرسطو، ومواضع الجنس في الرابعة والخاصة في الخامسة.
٩٧
ومن الوافد، يأتي أرسطو بطبيعة الحال في المقدمة مع لقبه مرة واحدة؛ الحكيم، ثم
شراحه ثامسطيوس وثاوفرسطس والإسكندر ثم أفلاطون ثم جالينوس وزينن ويحيى النحوي
وسقراط، وأوميروش وبارمنيدس.
٩٨ ويشرح ابن رشد لفظ الجدل بمعناه عند الجمهور لجوءًا إلى الثقافة
الشعبية ونقلًا للمنطق من الخاصة إلى العامة، وهو المعنى الذي يقصده أرسطو. فإن
عظمة الحكيم تكمن في أنه أخذ المعاني الشعبية وطرق الحوار بين الناس ووضع قواعد
وقوانين كلية لها. ولفهمها يرجع إلى مصدرها في ثقافة الجمهور؛ لذلك تسمى المواضع أي
المواقف التي يتم فيها الحوار بين الناس لإقناع بعضهم البعض.
٩٩ بل إن أرسطو يطبق الجدل أيضًا في باقي العلوم، الطبيعي والإلهي والمدني
على سبيل الشك قبل أن يتحول إلى البرهان. كما يستعمله أرسطو في باري أرمنياس في
التصديق بالأمور المشهورة مؤقتًا حتى يتحول الذهن إلى البرهان، وكما استعمله في
المقالة الأولى من السماع ضد الذين جحدوا الكثرة والحركة. كما استعمله في ما بعد
الطبيعة لتصحيح مبادئ العلوم الجزئية.
والمطلوبات الجدلية أصناف إلا أن أرسطو يجعلها خمسةً بضم الفصل إلى الجنس.
١٠٠ فالمواضع الجدلية كلها تصنف ابتداءً من الأجناس الخمسة. ويوحي أرسطو
بعدم استعمال القول المشهور إلا مقرونًا بضده حتى يكون أكثر ظهورًا. وللإثبات مواضع
أخرى، ويعطي أرسطو خمسة عشر قانونًا لتمييز الاسم المشترك، وثمانية وعشرين موضعًا في
إثبات الشيء وإبطاله على الإطلاق، وأربعين في مطالب المقايسات.
وعند أرسطو المواضع مطالب الوجود المطلق. وهي واحدة مع مطالب العرض. ولم يجعلها
حدية. ووافقه ثاوفرسطس على ذلك ويقسمها أقسامًا. وأول المواضع التي ذكرها أرسطو هو
النظر في محمول الوضع. ويعتمد كثيرًا على النوع الأول من المقايسات، مقايسة موضوعين
إلى محمول واحد. ومن مواضعه ما كان اقتناؤه صعبًا فهو آثر، ومثل إيثار العيش مع
الأصدقاء. ويضرب بنفسه المثل أن أرسطو آثر من أفلاطون. وبعض المواضع عند أرسطو يوجد
في الصحة والمرض، والأقل والأكثر جودة، ومواضع إخفاء النتيجة، وطلب الكثرة وأحكام
السؤال، وعدم قصد أحد تعليم الكذب ووجوه انتهار السائل، والقدرة على السؤال والجواب
والارتياض عليهما وعدم استحسان الجدل في كل شيء، ويعتمد أرسطو على أوميروش في
التصديق الشعري.
ويذهب الإسكندر إلى أن مطابقة ما في النفس ما في الخارج أدخل في باب العرض.
١٠١ كما يذهب أفلاطون إلى مطابقة العدل في النفس وفي المدينة. والنار لديها
ثلاثة أجزاء؛ لهيب وضوء وجمرة، ويرى أفورطغورش أن الأشياء في أنفسها بحسب
الاعتقادات الحاصلة فيها لمعتقد معتقد. وهو ما يسميه أرسطو الرأي المبتدع أو الوضع بخصوص.
١٠٢ ويشار إليه في الصور المفارقة. ونموذج القياس الكاذب أن العالم والشجاع
واثق إذن العالم شجاع. ونموذج للمشهور شكوك يحيى النحوي على المشائين في وجود القوة
متقدمة بالزمان للفعل في حدود الحركة. فالنصارى يشككون على أرسطو والمسلمون يبرِّئُونه
ويعطي أرسطو أمثلة لانتهارات السائل من أقوال مالسيس وبارمنيدس عن أن الوجود واحد
ومن أقواله زينن لنفي الحركة ومالسيس لنفي الكثرة. ويضرب المثل بإقليدس بالبراهين
على المقدمات البعيدة على عدم احتياج الجدل لمثلها وعلى حد الزاوية بعبارة
سهلة.
ويحدد الإسكندر وثاوفرسطس الموضوع بأنه أصل أو مبدأ تؤخذ منه المقدمات في قياس من
المقاييس التي تعمل على المطالب الجزئية في صناعة صناعة وهو نفس ما يراه أبو نصر؛
فابن رشد هنا يستعمل شراح أرسطو اليونان والمسلمين مستأنفًا دورهم وليس رافضًا لهم،
وهو حد قريب جدًّا من أرسطو في كتاب الخطابة ومثل أنواع المواضع التي بينها أرسطو
في كتاب أنالوطيقا الأولى، وحجة الإسكندر أن مقدمات المقاييس غير متناهية ولا
منحصرة. وهو أقرب إلى الصواب عند ابن رشد. فالمواضع عند الإسكندر أقرب إلى الأحوال
اعتمادًا على أن أرسطو لا يسمي المقدمات مواضع. ويتفق جميع المفسرين على ذلك. ولا
يعارض ابن رشد شراح اليونان على غير عادته، فهم أقرب إلى أرسطو؛ لذلك كان ابن رشد
قريبًا منهم. ويرتب الحدود بطريقة ثاوفرسطس وثامسطيوس، إذ كان أدخل في الترتيب
الصناعي وأسهل للحفظ.
أما ثامسطيوس فيرى أن الموضع هو المقدمة الكلية التي هي أحق المقدمات بالقياس،
وهو ما يتفق مع رأي أرسطو في كتاب الجدل.
١٠٣ ويتفق في أن أصول مواضع الجنس أربعة، وفي أن أحد المواضع برهاني، ويضيف
ثامسطيوس نماذج من الأبطال والإثبات ليس فقط الكون والفساد بل أيضًا من الفاعلات
والغايات والأفعال. ويجعل للشبه موضعًا ثانيًا وهو المأخوذ عن طريق الأبدال
والنقلة، ويجعل بعض المواضع مؤلفة من الشبيه والمقابل. ويدرك التشابه بين موضعين،
ولا يعني دخولهما تحت جنس واحد. ويرى أن بعض المواضع صعبة للقسمة لتشابهها وقلة
ظهور الفرق بينها. ويجعل المؤثر من أجل نفسه أثر من المؤثر من أجل غيره عند أرسطو
مأخوذًا من الأمر نفسه. وبعض المواضع عند ثامسطيوس قريبة من طبيعة الشيء. ويتفق
ثامسطيوس وثاوفرسطوس على ظهور بعض المواضع مثل الحد ومواضع الخطأ ويرى ثامسطيوس
استبعاد بعض المواضع لأنها ليست كذلك. وبعضها مموه وبعض المواضع في الخامسة وهي
ليست كذلك؛ لذلك لم يكررها أرسطو. وقد ألزم سقراط الخطأ في كتاب السياسة ثراسوماخوس
السوفسطائي لأن الأخس لا يكون نوعًا للأفضل. وهو ما يتفق مع ثامسطيوس، ويوحد
أيروقليطس بين الخير والشر، ويخالف ثامسطيوس وثاوفرسطس أرسطو في ترتيب الحدود.
١٠٤ ويعزل ثاوفرسطس أرسطو في تكريره مواضع الجنس، ويرصد ابن رشد الخلاف بين
أرسطو وجالينوس في سبب تعطُّل الحواس في النوم، القلب عند أرسطو والدماغ عند جالينوس.
وبقراط وجالينوس يقع عليهما حد الطبيب.
ويحال إلى باقي مؤلفات أرسطو وتلخيصاتها، ويأتي كتاب القياس أولًا ثم البرهان ثم
المقولات ثم السفسطة، أنالوطيقا الأولى، والجدل، وما بعد الطبيعة ثم الخطابة،
والمواضع، وباري أرمنياس، والمقالة الأولى من السماع، والسياسة.
١٠٥ ويحال إلى المقولات حين فحص الجوهر والعرض، والمضاف.
١٠٦ ويحال إلى ما بعد الطبيعة في اسم الواحد، وإلى القياس لمعرفة أنواعه
وطريقة الخلف وامتحان القياس والمصادرة على المطلوب، ويسمى أيضًا أنالوطيقا الأولى
الذي يحال إليه موضوع عكس القياس. ويحال إلى البرهان في حالة البراهين الذاتية
الكلية، والحدود المطلقة كبراهين بالقوة والأعراض والخواص وفي الموضوعات المفارقة،
وإلى الخطابة وأنالوطيقا الأول لبيان تحديد المواضع، وإلى الخطابة في الأقاويل
الخلقية والانفعالية، وإلى السفسطة الذي حذر فيه أرسطو من حمل الشيء على نفسه وفي
موضوع قياس الخلف.
ومن الفرق يذكر المفسرون، واليونانيون، والبابليون والقدماء، ثم السوفسطائيون.
١٠٧ يختلف المفسرون في إحصاء المواضع ويضرب المثل باليونانيين والبابليين
على موضع التساوي مثل: إذا كان شأن اليونانيين قبول الحكمة كشأن البابليين ثم وجدت
الحكمة لليونانيين فهي موجودة للبابليين، ويعتمد أرسطو على شهادة القدماء في أن
العمر الناسك والعمر الفاضل شيءٌ واحد، وهو ما يصدق فيه أنه أعظم وأفضل، وفي وضعهم
وجود الحركة والكثرة. والسوفسطائيون هم الذين يبغون من المناظرة الغلبة والفَلَح.
١٠٨
ويأتي الموروث حثيثًا ما دام الموضوع صوريًّا. فيتصدر الفارابي ثم ابن سينا من
الأعلام، والمتكلمون من الفرق، ولسان العرب ثم كلام العرب وقبائل العرب.
١٠٩ تبدأ الدلالة في الظهور في بداية التلخيص وتحديد الجدل ومنفعته ثم
تختفي بعد ذلك بتلخيص الموضع. ويحدد أبو نصر أن الموضع كما حدده الإسكندر
وثاوفرسطس، مبدأ تستمد منه مقدمات القياس في صناعة جزئية، ويعتبره رأي أرسطو الذي
صرح به في كتاب الجدل، ويرى أن المقايسة قد تكون في مقولة الجوهر اعتمادًا على ما
قاله أرسطو في كتاب المقولات، ويجعل ابن سينا بعض المقدمات المشهورة برهانيةً إذا
كان الأولى فيها هو المتقدم بالطبع. وربما استعمله أرسطو في المقالة الأولى من
السماء والعالم ويجعل بعضها موضعًا علميًّا، ولا يظهر لسان العرب تصاريف تدل على
وجود الموضوع في المحمول، وقد وضع الحرف «أو» في لسان العرب للتفضيل وواو العطف
للجمع، والكلبي اسم مشترك بين الحيوان وقبيلة من قبائل العرب. وتظهر عادة العرب في
ضرب الأمثلة بزيد وعمرو للإشارة إلى الإنسان العام غير المشخص. وكلام العرب وضع ألف
الاستفهام قبل ليس في «أليس» مفوضًا له الإجابة، سؤال تفويض وليس سؤال تقرير.
١١٠
وتظهر مصطلحات علم الأصول مثل السيارات البرهانية من السبر والتقسيم كمنهج
لاقتناص العلة. كما يظهر مصطلح الشريعة بالمعنى العام أي القانون ومصطلح القضية،
وضرورة طاعة الآباء أو الشريعة. وتذكر بعض الأمثلة التاريخية المحلية على معنى
الواحد؛ فالصقالبة والزنج شعبان مختلفان من حيث اللسان، ولكنهما واحد في الإنسانية.
والخليفة في الإسلام وقيصر الروم واحد في الوظيفة أو النسبة. ويظهر الشرق مثل الهند
لضرب المثل سواء كان من أرسطو، امتداد الشرق في اليونان بعد عصر الإسكندر أو من ابن
رشد والجناح الشرقي للحضارة الإسلامية، ويبدأ التلخيص بالبسملة والصلاة على محمد
وآله وتنتهي مواضع الإعراض بالحمدلة، كذلك مواضع الهوهو والغير، وكذلك الكتاب كله.
١١١
ويظهر الجدل في علم الكلام بطريق غير مباشر؛ فالجدل للجمهور، ونافع له، وليس عند
الحكماء أهل البرهان. يتجه نحو الفضيلة والعدل أي إلى الأمور العملية وليس إلى
الأمور النظرية كما هو الحال في منطق اليقين وأحيانًا في علم الكلام منعًا للمراءاة
والكذاب في الاعتقاد. وإذا كان الجمهور يعتبر الحد هو تبديل الاسم باسم أعرف منه
فإن المتكلمين يحددون العلم بأنه المعرفة. ولا تقتصر المنفعة فقط عند الجمهور بل
تمتد إلى العلم الطبيعي والعلم الإلهي والعلم المدني، ومطالب المقايسة تمتد إلى
الأمور الطبيعية والإلهية. ويضرب المثل بالعلم الإلهي على أن الأفضل ما كان في
العلم الأفضل، وأن ما هو موجود لله تعالى آثر مما يوجد للإنسان، ويضرب المثل على
المقدمة الجدلية بالقول المشهور وأولها عند الجميع «الله موجود» أو «النفس باقية».
وتبلغ شهرتها عند العلماء والجمهور أنه تصعب معها المخالفة. ونموذج الجدل الضار في
العمل هل ينبغي أن يعبد الله أم لا؟ كما يظهر «اللهم» كأسلوب وعادة عربية.
١١٢ ويضرب المثل بالإجابة بأن البخت هو قضاء الله وقدره ولا شيء أجرى على
نظام وأحرى بأن يقال باستحقاق من قضاء الله وقدره على سؤال أن الفضيلة أثر من جودة
البخت والاتفاق لأنه غير محدود ولا ثابت ويكون بالعرض وليس اختيارًا ولا بغير
استحقاق، وهي مناقضة تنتهي إلى السآمة وتقطع المحاورة.
ويمكن تحويل الجدل إلى منطق للعلاقات بين الذوات؛ فالأمثلة للمواضع إنسانية،
تعاطف بين البشر، انفعالات متبادلة. يمكن تحويل الجدل إذن من المستوى الصوري إلى
المستوى الإنساني، وهل تستطيع هذه القوانين الجدلية طبقًا لمواضعها طبقًا للمقولات
العشر أو الأسماء الخمسة إخضاع جدل الجمهور إلى منطق دقيق قابل للاستعمال طبيعيًّا
وليس اصطناعيًّا؟ وهل يمكن اكتسابها وتعلمها أم أنها مهارات طبيعية وبداهات أولية؟
ربما يقوم بها منطق الجدل على الإيحاء والإقناع والتأثير والتخييل والإغراء أكثر
مما يقوم على قوانين المواضع. ونظرًا لكثرة القوانين يصعب العد والإحصاء الدقيق.
والعجيب استيعاب التلخيص كل ذلك. هذا العد والإحصاء والترقيم يجعل التلخيص أقرب إلى
القاموس أو المعجم. هو أقرب إلى البداهات العامة وفطرة البشر وحكمة الشعوب
المتراكمة عبر التاريخ. ولا يمكن إخضاع العلاقات بين الذوات إلى حسابات كمية. فالعد
والإحصاء للموضوعات المنفصلة، والعلاقات بين الذوات كيفيات متصلة، بل ومنها ما هو
تعبير عن بعض الآيات القرآنية مثل جدل الحلو والمر الذي يشبه آية
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى
أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.
١١٣
(٦) تلخيص السفسطة
وهو في حجمه أصغر من القياس والجدل وأكبر قليلًا من البرهان
١١٤ وتغيب الدلالة عنه نظرًا لابتعاده عن اللغة، منطق العرب. كما أن الجهاز
النقدي للناشر مجرد معلومات نحوية مصمتة خالية من القراءة. أفعال القول فيها أقرب
إلى صيغة «قال» بالرغم من وجود «نقول» للتقابل بين الوافد والموروث، «نقول نحن».
١١٥ لذلك يبدو التمايز بين لسان اليونانيين ولسان العرب. فالسفسطة
والسوفسطائيون بلسان اليونانيين.
١١٦ وتختلف كل لغة عن الأخرى في أحوال الأعراب والتنقيط.
كان عند أرسطو إحساس بالإبداع النظري؛ فالسفسطة مارسها الناس عمليًّا، والعجيب أن
ينظرها جماعة من العلماء، ولكن الأعجب أن الذي نظرها ووضع قواعدها واحد فقط، من
البداية إلى النهاية؛ لذلك يجب شكره والثناء عليه. فإن كان فيها نقص فالصفح والعذر.
١١٧ وإذا كان أرسطو قد أبدع كل شيء فماذا سيضيف اللاحقون؟ فقد اكتملت
النبوة بظهور آخر الأنبياء، والكل بعده فقهاء مجتهدون!
ويتحدد مسار الفكر منذ البداية بتحديد الغرض وهو القول في التبكيتات السوفسطائية
التي يظن بها تبكيتات حقيقية وإنما هي مضللات. ويبدو مسار الفكر في الاستدراك؛
استدراك اللاحق على السابق، والسابق على اللاحق. كما يبحث الفكر عن الأسباب التي
تجعل القياس تبكيتيًّا، ولا يُكتفى بالرصد والتقرير بل يُذهب إلى التعليل. وتبرز أفعال
البيان لتكشف عن مسار الفكر؛ مقدماته ونتائجه، واستحالة التناقض فيه.
١١٨
ويعترف ابن رشد أن النص الذي قام بتلخيصه معتاص جدًّا إما بسبب المترجم أو بسبب
المؤلف وغموض العبارة. لم يشرحه أحد من قبل إلا ابن سينا في «الشفاء». فربما أضاف
ابن رشد من عنده شيئًا للتوضيح، وربما أوَّل شيئًا على غير قصده، فإن البادئ بالشرح
كالمنشئ له؛ لذلك هو تلخيص ممكن محتمل ظني لا يغلق الباب أمام تلخيصات أخرى. ومع
ذلك فلم يفُت ابن رشد شيئًا من أجناس أقوال أرسطو ولا من أغراضه الكلية. وربما فاتته
بعض التفصيلات الجزئية وأوجه استعمالها وتعليمها. فالأصل أولى من الفرع، والمبدأ
أخف من التطبيق. وتلك مهمة عدة أجيال أو مهام متتالية لجيل واحد.
١١٩
ومن الوافد يتصدر أرسطو بطبيعة الحال ثم أفلاطون ثم سقراط ثم زينن ثم مالسيس
وبقراط ثم جالينوس، وبروسن.
١٢٠ ويعرض التبكيت كما يقول أرسطو في المصادرة على المطلوب. وتقع المغالطة
في توهُّم ما ليس بنقيض أنه نقيض بإغفال الشرط وأخذ مسألتين في مسألة واحدة. وربما
ذكر أرسطو مواضع دون أخرى أكملها الشراح. فهل أغفلها أرسطو حقيقة وهو يعدد أصناف
المواضع المغلطة؟ واستعمل أرسطو موضع اللاحق، وقياس العلامة في الخطابة. ولم يعدد
أرسطو مواضع الإبدال لأنها مواضع شعرية. وجعل صناعة السفسطة جزءًا من صناعة الجدل.
ويسمي المقدمات الشنيعة الناقصة الإقرار. ويستعمل كثيرًا من المباكتات.
١٢١
ويذكر سقراط على أنه اسم لا شخص مثل زيد وعمرو عند العرب وبطرس وبولس في الغرب
الحديث. ويعتذر جالينوس عن أبقراط عن خطأ عدم وضع النقط على الحروف. ومن أمثال غلط
مالسيس أن الكل ليس له مبدأ. والخطأ في الكلام يعرض من جهة المسموع وليس من جهة
المتكلم كما قال أفلاطون. وينقد ابن رشد أفلاطون أنه أساء في التعليم حين أراد أن
يعلم التبكيتات السوفسطائية قبل القياس الصحيح. ومن السفسطة إنكار زينن الكثرة في
الحس، واعتبر الوجود واحدًا. وقام رجل من قدماء المهندسين هو بقراط ظن أنه عمل
مربعًا مساويًا للدائرة عندما عمل مربعًا مساويًا للشكل الهلالي. وهي مثل محاولة
بروسن في تربيع الدائرة، ويشار إلى سقراط كإشارة على الإنسان أو الواحد. وكان يفضل
أن يسأل لا أن يجيب.
١٢٢
ومن أسماء المؤلفات يتصدر كتاب الجدل ثم القياس ثم البرهان، والخطابة، وباري أرمنياس.
١٢٣ المخاطبة البرهانية في كتاب البرهان، والجدلية في كتاب الجدل، والخطبية
في كتاب الخطابة. ويعرض المصادرة على المطلوب في كتاب القياس وكتاب الجدل. وقد تبين
في باري أرمينياس أسباب توهم ما ليس بنقيض أنه نقيض، كما تبين في القياس متى يكون
فاسدًا. وإثبات المبادئ الأولى ضد من يجحدها في كتاب الجدل، وكذلك سؤال المتعلم
للمعلم، وقوانين القياسات الصحيحة في كتاب الجدل.
١٢٤
ومن أسماء الفرق يتصدر القدماء ثم قدماء المفسرين، وقدماء المهندسين.
١٢٥ وللتمايز يذكر لسان اليونانيين. قال قدماء المفسرين: إن المقدمات
الكاذبة إما دائمًا وإما في الأكثر خاصة بهذه الصناعة. كما أن الصادقة خاصة بالجدل
في الأكثر، والبرهان دائمًا. وللقدماء أمثلة مشهورة على الأقوال المغالطية. وتكامل
أمثلتهم تساعد على معرفة الموضوع.
١٢٦
ومن الموروث يتصدر الفارابي ثم ابن سينا. وللدلالة على التمايز يتصدر لسان العرب
ثم لساننا، وكلام العرب.
١٢٧ لقد زاد الفارابي على ما ذكره أرسطو بعض المواضع. ويرى وجود صناعة
متوسطة بين الجدلية والسوفسطائية. ويرى أن هذا الجنس من الكلام هو الذي يسمى عيًّا
في لسان العرب بسبب نقصان في العبارة، كما أن الهذر زيادة فيها؛ فالأقوال المستغلقة
ليست جنسًا في كلام العرب لأن ليس له موضع.
١٢٨
وعند ابن سينا يظن الفارابي أنه استدرك وضعًا في المغالطات وهو موضع الإبدال. ولم
يخف على أرسطو؛ لأنه إما أن يكون مغلطًا بالذات أو بالأكثر، وهو بالذات خطبي أو
شعري وإما أن يكون بالعرض فيذكر في الصناعة أو لا يُذكر. وما زاده الفارابي في
المطلقات والمقيدات وفي أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب فيه نظر، وهو أقرب إلى البسط
والشرح دون الإضافة أو يكون مزيجًا بينهما. وابن سينا هو الوحيد السابق على
الفارابي الذي تعرض للسفسطة في كتاب «الشفاء»، ويعترف بإبداع أرسطو الذي لم يزد عليه
أحد منذ ألف عام ولا ابن سينا نفسه. ولا يوجد من المغالطات إلا ما عدَّده ابن سينا.
١٢٩
ويظهر الموروث اللغوي على استحياء في الحديث عن زيد وعمرو طبقًا لعادة العرب، كما
تظهر خصوصية اللسان العربي.
١٣٠ وتظهر بعض الألفاظ الفقهية مثل أن المحمودات عند الشريعة كثيرًا ما
تضادها محمودات عند الطبيعة، فالتشنيع على أحدها يكون محمودًا في الآخر. وهو تضاد
مصطنع نظرًا لوحدة الشريعة والطبيعة. الطبيعة محمودة بالعقل والشريعة محمودة عند
الجمهور، والذي عنده الشريعة وعنده الأكثر هو محمود من أجل أنه مشهور وأن عليه
الأكثر. وتضرب الأمثلة الفقهية على المغالطات. فإذا سأل أحد: هل المحرم الكثير أم
القليل؟ وكانت الإجابة الكثير ألزم إلا يكون القليل غير محرم.
١٣١ ويكاد يختفي الديني تمامًا من الكلام أو الفقه أو الأصول الأولى
للموروث بالرغم من وجود ابن رشد في بيئة ابن حزم.
(٨) تلخيص الشعر
وهو آخر الكتب المنطقية الثمانية. أصغر من الخطابة، بل وأصغر حجمًا من الترجمة
العربية القديمة لكتاب الشعر.
١٨٤ فهو تلخيص بالمعنى الدقيق أي تركيز وضم وجمع وإضافة وليس شرحًا
وتفصيلًا وإسهابًا وإضافة وتأويلًا كما هو الحال في تلخيص الخطابة.
وهو مقسم إلى فقرات كل منها تبدأ بإحدى صيغ أفعال القول وهي الصيغة النمطية
«قال». مجرد العبارة الأولى من أرسطو دون إكمال الفكرة ثم يبدأ التلخيص أي الشرح
وعرض الفكرة، فلا يوجد نص من كتاب الشعر له بداية ونهاية، كما هو الحال في التفسير.
١٨٥ ويظهر التقابل بين الأنا والآخر، بين النحن والهم إدراكًا للتمايز بين
الثقافات، والمقارنة بين أشعارنا وأشعارهم، وأوزاننا وأوزانهم، ولساننا ولسانهم،
وعاداتنا وعاداتهم، وألفاظنا وألفاظهم.
١٨٦ وأحيانًا يكون التركيز على «الهم» فقط مثل ألفاظهم، عندهم، أشعارهم،
شعرائهم، بلادهم، طباعهم، عاداتهم، لسانهم، قولهم، تشبيهاتهم.
١٨٧ وأحيانًا يكون التركيز على «النحن» فقط مثل أهل زماننا، عندنا، بيننا،
شعراؤنا، لساننا.
١٨٨
وهناك إحساس بتقدم التاريخ عند ابن رشد بين المتقدمين والمتأخرين؛ فقد كان
الأقدمون من واضعي السياسات يقتصرون على تمكين الاعتقادات في النفوس بالأقاويل
الشعرية حتى شعر المتأخرون بالطرق الخطبية وكأن هناك تقدمًا من الشعر إلى الخطابة.
١٨٩ كما يتحدث من تسمية بعض القدماء الشيخوخة عشية العمر، والعشية شيخوخة
النهار كنموذج للاسم المنقول.
ويحال إلى كتاب الخطابة إذ يقتصر الشعر على الوزن واللحن ولكن الخطابة تجعل القول
إثم بإضافة الإشارات والأخذ بالوجوه. والأقاويل الانفعالية والخطبية وضروب
الانفعالات أقرب إلى الخطابة منها إلى الشعر.
١٩٠
والتلخيص هو بيان للقصد والغرض، والغرض تلخيص ما في كتاب أرسطو في الشعر من
القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر سواء الموجود في أشعار العرب أو في
أشعار غيرهم من الأمم، ويتضح من مسار الفكر أيضًا على أن الغاية من التلخيص هو
البيان والإيضاح باستعمال أفعال البيان، ومن الوضوح الفكري تأتي القسمة العقلية
الجامعة المانعة للموضوع؛ فالتشبيهات ثلاث وفصولها ثلاثة، وأصنافها ثلاثة. وإذا ما
استقرِئَت الأشعار تأكد أنه لا يوجد صنف أو فصل رابع.
١٩١
(أ) الوافد
ومن الوافد يتضح أوميروش ثم أرسطو ثم أنبادقليس وسقراط
١٩٢ فأشعار أوميروس يوجد فيها الوزن واللحن في حين أن أقاويل سقراط
وأنبادقليس بها الوزن فقط. وكانت طريقة أوميروش أنه كان يأتي في تشبيهاته
بالمطابقة والزيادة المحسنة أو المقبحة. فمن الشعراء من أجاد في المطابقة فقط،
ومنهم من أجاد في التحسين والتقبيح، ومنهم من أجاد في الاثنين مثل أوميروش.
ويثني أرسطو على أوميروش لأنه هو الذي أعطى مبادئ هذه الصنائع. ولم يسبقه أحد
في صناعة المديح بعمل يعتد به ولا في صناعة الهجاء ولا في غير ذلك من الصنائع
المشهورة عندهم، وميزة أوميروش أنه يلتزم في شعره بغرض واحد. ولا يتنقل بين
الأغراض كما يفعل باقي الشعراء.
وذكر أوميروش شعرًا في وصف قضية عرضت لرجل عن طريق التشبيه والمحاكاة، وهي
مدائح الأشياء في غاية الفضيلة، وهي مهمة الشاعر، محاكاة كل شيء كمحاكاة
الأخلاق وأحوال النفس. وقد خاطب أوميروش في شعره أيضًا الديار والأطلال، وسمع
ردودها عليه. كما أثنى أرسطو على أوميروش لإبداعه في الأشعار القصصية وفي
اختيار أجود الأوزان وأليقها للأشعار وأنواعها، ومن قوانين الشعر أن يكون كلام
الشاعر يسيرًا بالإضافة إلى الكلام المحاكي، وهو ما فعله أوميروش، فقد كان يعمل
صدرًا يسيرًا ثم يتخلص إلى ما يريد محاكاته.
١٩٣
ويأتي أرسطو بعد أوميروش. فالغرض هو تلخيص ما في كتاب أرسطوطاليس في الشعر من
القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر، ليس في الشعر اليوناني وحده
أو في الشعر العربي وحده. فالشعر خاص بكل أمة، وما يوجد في لسان قد لا يوجد في
لسان آخر، الغرض إذن الخروج من الشعر الخاص إلى الشعر المطلق كما أراد ابن سينا
قبل. وابن رشد يجتهد رأيه في فهم ما ذكر أرسطو من الأقاويل المشتركة للأكثر أو
للجميع، جميع أصناف الشعر والخاصة بالمديح، فتلخيص ابن رشد وكتاب أرسطو كلاهما
يساهم في وضع القوانين العامة لصناعة الشعر.
١٩٤
ومن الوافد الشرقي يذكر كتاب كليلة ودمنة كنموذج للأقاويل المخترعة الكاذبة
كنوع من أنواع المحاكاة، مثل الأمثال والقصص. في حين أن الشعر لا يتكلم إلا في
الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود.
١٩٥
(ب) الموروث
ويطغى الموروث على الوافد خاصة الموروث الشعري. ويأتي في المقدمة المتنبي ثم
امرؤ القيس ثم أبو تمام، ثم ذو الرمة، ثم النابغة، ثم الأسود بن يعفر، والأعشى،
والبحتري، والخنساء، وزهير، وعنترة، وأبو فراس، وقيس المجنون، والكميت، ومتمم
بن نويرة، وابن المعتز، والمعري والهذلي.
١٩٦ ونظرًا لانتشار الموروث في كل صفحات التلخيص فإنه يمكن عرض الشعراء
معًا دون عرضهم شاعرًا شاعرًا؛ فالموضوع الواحد المستقى من الشعر العربي له
أكثر من مثل عند مجموعة من الشعراء. فالقصد هو مجموع الموروث الشعري وليس شعر
كل شاعر بمفرده بالرغم من تفرُّد المتنبي وامرئ القيس وأبي تمام وذي الرمة
والنابغة على غيرهم.
يضرب المثل ببيتين للمتنبي لبيان أن الاستدلال والأداة في غير المتنفسة هو
الغالب على أشعار العرب. في البيت الأول استدلال وفي الثاني إرادة وهما صنفا
المحاكاة التي في غاية الحسن.
١٩٧
ويضرب المثل بشعر للمتنبي وامرئ القيس والنابغة على الشعر السوفسطائي الذي
يقوم على الغلو الكاذب. وقد يوجد من المطبوع من الشعراء قول محمود مثل شعر
المتنبي، ويضرب المثل بأشعار المتنبي وأبي تمام على الربط بين الأجزاء في النسب
وهو المسمى الاستطراد ربط صدر القصيدة بالجزء المديحي، ويذهب على الحل، تفصيل
الجزءين أحدهما من الآخر يُؤتى بهما مفصلًا.
وأفضل أنواع الاستدلال الشعري والإرادة في غير المقدمة بيتان للمتنبي. ويضرب
المثل بالمتنبي مع أبي تمام بالمدائح دون صدور. والتشبيه والمحاكاة هي مدائح
الأشياء في غاية الفضيلة، محاكاة الأخلاق وأحوال النفس مثل قول المتنبي يصف
رسول الروم إلى سيف الدولة. والمحاكاة لأمور معنوية بأمور محسوسة إذا كانت لها
أفعال مناسبة في شعر المتنبي، وهناك شعر أدخل في التصديق والإقناع منه إلى
التخييل وأقرب إلى المثالات الخطبية منها إلى المحاكاة الشعرية مثل بعض أشعار
المتنبي وأبي فراس ومتمم بن نويرة والخنساء والهذلي.
١٩٨
ويستعمل المحدثون من الشعراء بعض الأسماء المنقولة إلى الصنائع على طريقة
الاستعارة أو استعماله في تعريف لم يستعمله أحد من قبل مثل المتنبي. ويضرب
المثل بشعر المتنبي على الموافقة في بعض اللفظ وبعض المعنى، الأسماء المشتقة من
تصريف واحد، ويقول المعري على الموافقة في كل اللفظ فقط مثل الأسماء المشتركة
والمتقدمة في بعض اللفظ فقط قول حبيب والمتنبي. ويؤخذ المثل من المتنبي عندما
يكون صورة البيت الأول صورة الثاني وصورة الثاني صورة الأول وهو المتناسب.
وحروف التشبيه عند العرب تقتضي الشك، وكلما كانت المتوهمات أقرب إلى وقوع الشك
كانت أتم تشبيهًا. وكلما كانت أبعد من وقوع الشك كانت أنقص تشبيهًا، وهي
المحاكاة البعيدة وينبغي أن تطرح مثل قول امرئ القيس في الفرس.
١٩٩ وفي شعر امرئ القيس أيضًا نماذج لمحاكاة الأمور المعنوية بأمور
محسوسة، أفعال مناسبة للمعاني. أما ما كان غير مناسب فينبغي أن يطرح وهو كثير
في أشعار المحدثين مثل أبي تمام وهو محدث بالنسبة لشعراء الجاهلية، ويستشهد
بشعر امرئ القيس على ذكر الشخص بشبيهة كنوع من المحاكاة، وبعوائد الأمم في
التشبيهات. ويضرب المثل بابن المعتز على المحاكاة بالمجتمع في وصف القمر في
تنقصه، وبامرئ القيس على ترك المحاكاة الشعرية إلى الإقناع والأقاويل التصديقية
خاصة لو كان مجبنًا قليل الإقناع في تبرير الجبن.
٢٠٠
ويقيم العرب الجمادات مقام الناطقين في مخاطباتهم ومراجعاتهم إذا كانت فيها
أحوال تدل على النطق مثل مخاطبتهم الديار والأطلال ومجاوبتها إياهم مثل أشعار
ذي الرمة وعنترة. ويضرب المثل بشعر الكميت وامرئ القيس على الموازنة في أجزاء
القول عن طريق المناسبة مثل الملك والإله على الرغم من اعتراض البعض أنه غير
متناسب. ويضرب المثل بشعر النابغة على التغيير من الإيجاب إلى السلب وعلى جمع
الأضداد في شيء واحد. ويضرب المثل بشعر الأسود بن يعفر على الأشعار القصصية وهو
قليل في لسان العرب وكثير في الكتب الشرعية.
٢٠١
ويضرب ابن رشد مثلًا لقول الأعشى على المديح القائم على محاكاة الأمور
الموجودة وليس المخترعة تحريكًا للأفعال الإرادية لحصول التصديق الشعري لأن
التخييل بأمور غير موجودة لا يوافق كل الطباع بل قد يزدريه كثير من الناس
بالرغم من أن شعر الأعشى ليس عن طريق الحث على الفضيلة، ويضرب المثل على
المحاكاة بالتذكير بأشعار متمم بن نويرة وقيس المجنون والخنساء والهذلي، وتفنُّن
العرب في الخيال كثير. يدخل في النسيب والرثاء كما قال البحتري.
٢٠٢
وما يهم هو الشعر لا الشاعر لذلك يذكر ابن رشد كثيرًا من الأمثلة دون نسبتها إلى
أصحابها؛ فيضرب المثل بالشطر الأول من بيت شعر على النوع الثاني من التخييل والتشبيه
وهو أخذ الشبه بعينه بدل الشبيه
٢٠٣
ويضرب المثل بقول الراجز على طرح التشبيه بالخسيس، وأيضًا مدح أحد
الشعراء لسيف الدولة، وبأشعار العرب على المحاكاة بالتذكير، وتذكر الأحبة
بالخيال، وإقامة الجمادات مقام الناطقين في مخاطبتهم ومراجعتهم إذا كانت فيها
أحوال تدل على النطق، وبشعر أحد الفقهاء لتحريض عبد الرحمن الناصر على حسداي
اليهودي كنموذج القول الذي لا يخرج عن الوقار. ويضرب المثل بشطر للموافقة في كل
اللفظ وفي كل المعنى وبالفرق بين القول والشعر عندما يوضع في القول الموازنة
والمقدار وتتغير الأسماء مثل قول أحد الشعراء. ويضرب المثل على تحريف المحاكاة
من بعض أشعار الأندلسيين المحدثين في وصف الفرس وعلى تشبيه الشيء بضده مقبول
أحد الشعراء. كما يضرب المثل على التحول من القول الشعري إلى الخطابي بشرط
الصدق بقول أحد الشعراء معتذرًا عن الفرار.
وكما تذكر الأشعار دون الشعراء يذكر الشعراء دون الأشعار؛ إذ يضرب المثل
بالمتنبي وحبيب على الشعراء الذين اعتادوا القول في الأشياء الكثيرة الخواص أو
هم بفطرتهم معدون لمحاكاتها أو اجتمع لهم الأمران جميعًا، ويضرب المثل بشعر ذي
الرمة على الألفاظ غير المشهورة.
٢٠٤
ويتوارى الموروث أمام الموروث الشعري.
٢٠٥ ويبدأ الموروث الفلسفي بالإحالة إلى الفارابي المعلم الثاني وحده.
فابن رشد يستشهد به على أن أكثر أشعار العرب في النهم والكريه لأن النسيب حث
على الفسوق. وفي الخاتمة يستشهد به ابن رشد على أنَّ في كتاب الخطابة نزر يسير
بالإضافة إلى كتاب الشعر لأرسطو في القوانين الشعرية.
ويظهر لفظ العرب ولا يكاد يذكر لفظ اليونان أو اليونانيين.
٢٠٦ ويضاف اللفظ إلى عدة مضافات أخرى مثل أشعار العرب، ثم لسان العرب،
ثم العربي بلا مضاف، ثم قول العرب، وشعراء العرب، ثم كلام العرب، وتشبيهات
العرب، وعادة العرب، ولغة العرب.
٢٠٧ فأشعار العرب ليس فيها لحن وإنما فيها إما الوزن فقط وإما الوزن
والمحاكاة معًا.
وأجزاء صناعة المديح الستة: الأقاويل الخرافية والعادات والوزن والاعتقادات
والنظر واللحن. وهذا كله لا يوجد في أشعار العرب. وإنما يوجد في الأقاويل
الشرعية المديحية. ولا توجد مدائح الفضائل في أشعار العرب بل في السنة المكتوبة
أشعار العرب خلية من مدائح الأفعال الفاضلة وذم النقائص. والمدائح الأربعة
للفعل الإرادي الفاضل غير موجودة في أشعار العرب. ويعسر وجود في أشعار العرب من
التخييلات والمعاني ما يناسب الأوزان الطويلة والقصيدة، وربما كان الوزن
مناسبًا للمعنى دون التخيل أو للتخيل دون المعنى أو غير مناسب لكليها.
٢٠٨
وليس يعسر وجود احتمالات ذلك في أشعار العرب، المطابقة والتحسين والتقبيح.
وكثيرًا ما يعرض في أشعار العرب المحدثين وبخاصة عند المديح أنه إذا عنَّ لهم شيء
ما من أسباب الممدوح مثل سيف أو قوس اشتغلوا بمحاكاته وأضربوا عن ذكر الممدوح.
وهذا النوع من الاستدلال هو الغالب على أشعار العرب أي الاستدلال والإرادة في
غير المتنفسة، وإقامة الجمادات مقام الناطقين في مخاطبتهم ومراجعتهم إذا كانت
فيها أحوال تدل على النطق.
ويوجد في أشعار العرب من أجزاء المديح ثلاثة. أولًا الجزء الذي يجري مجرى
الصدر في الخطبة الذي يذكر فيه العرب الديار والآثار ويتغزلون فيه، والثاني
المدح. والثالث ما يجري مجرى الخاتمة دعاء للممدوح أو تقريظًا لشعره. والمحاكاة
لأمور معنوية بأمور محسوسة كثيرة في أشعار العرب. والمحاكاة التي تقع بالتذكير
كثيرة أيضًا في أشعار العرب. وتذكر الأحبة بالديار والأطلال. وما يستعمله
السوفسطائيون من الشعراء، وهو الغلو الكاذب، والحل بين أجزاء المديح كثير في
أشعار العرب.
٢٠٩
والاستدلال الفاضل والإرادة إنما تكون للأفعال الإرادية وهو قليل في أشعار
العرب. والرمز واللغز هو القول الذي يشتمل على معانيَ يصعب اتصالها حتى تقابل
أحد الموجودات ويكون بحسب الألفاظ غير المشهورة، وهو غير ممكن أو بحسب الألفاظ
غير المشهورة وهو ممكن وذلك كثير في شعر ذي الرمة من شعراء العرب، ويتفرد كل
شاعر عربي بخصائصه داخل الخصائص العامة لأشعار العرب. فلا بد من معرفة من
الغالب على شعره من هذا النوع من الألفاظ المشهورة المبتذلة من شعراء العرب.
ووجود بعض أنواع الأشعار في الشعر العربي قد لا يرى من أول وهلة ولكنه يحتاج
إلى بحثٍ وتدقيقٍ مثل تحريف المحاكاة ومثله يمكن أن يتفقد في أشعار العرب.
٢١٠ والاسم المعمول المرتجل الذي يخترعه الشاعر اختراعًا ويكون أول من
استعمله غير موجود في أشعار العرب بل في الصنائع الناشئة.
ويكون التشبيه في كل لسان بألفاظ خاصة به مثل كأن وإخال وما أشبه ذلك في لسان
العرب. والألفاظ البينة الدلالة والتي تدل على أشياء بعينها لا على أشياء
متضادة أو مختلفة هي التي تسمى في لسان العرب الفصاحة، وهو قول ظاهر الصدق.
والتعديلات للاسم والقول والكلمة. والاسم المعرف هو الاسم المضاف أي المنسوب
إلى شيء بمنزلة الأسماء التي تسمى المنصوبة في لسان العرب أو المخفوضة. وهناك
أسماء دخيلة في لسان العرب مثل الإستبرق والمشكاة وغيرها من الأسماء الأعجمية.
والأسماء المركبة تصلح للوزن الذي يثنى فيه على الأخيار من غير تعيين رجل واحد
منهم. وهذه الأسماء قليلة في لسان العرب مثل العبشمي المنسوب إلى عبد شمس، وهي
الأسماء المركبة من مجموع اسمين مثل عبد الملك وعبد القيس. والأشعار القصصية
قليلة في لسان العرب مع أنها كثيرة في الكتب الشرعية. والمفارق والمعقول لا
يوجدان في لسان العرب. ومن أغلاط الشعر الأسماء المتضادة، مثل: الصريم في لسان
العرب والقرء والجلل وغيرها مما يعرفه أهل اللغة. وتستعمل العادة العربية في
ضرب الأمثلة بأسماء العرب.
٢١١ «جاء شبيه يوسف» أو بالإشارة إلى فلان «لم يأتِ إلا فلان».
وكثير مما في كتاب الشعر قوانين خاصة بأشعار اليونان وعاداتهم فيها. وربما لا
توجد في كلام العرب أو غير موجودة في غيره من الألسنة.
٢١٢ ولا تتحدث العرب على الفضائل في أشعارها كما تحث على فضيلتي
الشجاعة والكرم.
على عكس اليونانيين الذين لا يقولون شعر إلا وهو موجه نحو الحث على الفضيلة
أو الكشف عن الرذيلة أو ما يفيد الآداب والمعارف وهو الشعر الأخلاقي التعليمي.
وتصرف العرب والمحدثين في الخيال متفنن وأنحاء استعمالهم كثير. وقد عرض للعرب
في هذه الأشياء أشعار المديح في الأوزان والأجزاء والمحاكاة والقدر، أمر خارج
عن الطبع، ولم يذكر في كتاب الشعر ما هو خاص بأمة واحدة بل ما هو مشترك بين
جميع الأمم. ومن أغلاط الشعر تشبيه الشيء بضده مثل قول العرب «سقيمة الجنون»
وجرت عادة العرب بتذكر الأحبة بالخيال وإقامته مقام المتخيل.
وجل تشبيهات العرب راجعة إلى هذه المواضع محاكاة الأشياء المحسوسة بأخرى
محسوسة؛ لذلك كانت حروف التشبيه تقتضي الشك. وكلما كانت التشبيهات أقرب إلى
المطابقة كانت أتم. وكلما كانت أبعد كانت التشبيهات أنقص وحسن القول وصدقه
عندما يكون التغيير فيه يسيرًا مثل قول القائل: «يا معشر العرب لقد حسَّنتم كل شيء
حتى الفرار».
وتظهر بعض أسماء المواقع من الجغرافية العربية في مقابل الجغرافية اليونانية.
فيشير ابن رشد إلى الموشحات والأزجال «وهي الأشعار التي استنسقها في هذا ألسان
أهل هذه الجزيرة.» ويعني بها الأندلس. ويضرب المثل بأقوال بعض المحدثين
الأندلسيين على تحريف المحاكاة.
٢١٣
وتظهر بعض المصطلحات التراثية مثل الحسن والقبح والتحسين والتقبيح في الشعر
الذي أجاد فيه بعض الشعراء. كما أجاد أوميروس فيهما وفي المطابقة في آنٍ واحد.
كما تظهر بعض المصطلحات القرآنية من قصص الأنبياء مثل المزامير ووجود الترنُّم في
المزامير والوزن في الرقص. وفي مقابل أشعار العرب توضع الأقاويل الشرعية
المديحية. ففي أشعار العرب لا توجد إبانة صواب الاعتقاد إنما توجد في الأقاويل
الشرعية المديحية. وتوجد المحاكاة في الأشعار وفي الأقاويل الشرعية فهي أقاويل
مديحية تدل على العمل مثل ما ورد من حديث يوسف وإخوته وغير ذلك من الأقاصيص
التي تسمى مواعظ. وهذا هو السبب في أن كثيرًا من الذين لا يصدقون بالقصص الشرعي
يصيرون أراذل لأن الناس يتجهون بالطبع لأحد قولين، برهاني وغير برهاني. وهناك
صنف من الناس لا يتحرك لكليهما. ومن الشعراء من يُدخل في المدائح محاكاة أشياء
يقصد بها التعجب فقط من غير أن تكون مخيفة ولا محزنة. وكثير منها مقصود في
المكتوبات الشرعية. وهناك بعض القصص مثل قصة إبراهيم في أمر ابنه في غاية
الأقاويل الموجبة للحزن والخوف. وتظهر بعض المصطلحات العقائدية مثل أهل الجحيم
والشياطين. فيقال في أهل الجحيم أمور محزنة ومفزعة. ويحاكي الأشرار بأمور غير
موجودة مثل الشياطين.
٢١٤
ويظهر الموروث الأصلي، القرآن، كمصدر رئيسي للأمثلة الشعرية دون الحديث.
٢١٥ فالقرآن وريث الشعر، وكلاهما المكونان الرئيسيان للوجدان العربي.
فأصناف التخييل والتشبيه ثلاثة؛ اثنان بسيطان وثالث مركب، والبسيطان أحدهما
تشبيه شيء بشيء وتمثيله به، والثاني أخذ الشبيه بعينه بدل الشبيه وهو الإبدال
مثل قوله تعالى
وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، وفي
هذا النوع تدخل الاستعارة والكناية مثل
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ. والاستدلال الفاضل والإرادة إنما يكون
في الأفعال الإرادية. وأكثر ما يوجد هذا النوع من الاستدلال في الكتاب العزيز،
مدح الأفعال الفاضلة وذم الأفعال غير فاضلة. ومثال الإرادة في المدح
ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً … مَا لَهَا مِنْ
قَرَارٍ. ومثال الاستدلال قوله تعالى
كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ. وأشعار العرب خلية من مدائح
الأفعال الفاضلة وذم النقائص؛ لذلك أنحى الكتاب العزيز عليهم واستثنى منهم من
ضرب قوله إلى هذا الجنس، ويعني ابن رشد الآية الأخيرة في سورة الشعراء.
٢١٦ ومن أنواع المجاز الحذف مثل قوله تعالى
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ، وقوله:
وَلَوْ أَنَّ
قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ
كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى، والتقديم والتأخير مثل قوله تعالى:
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا وقوله:
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ، والزيادة مثل
قوله تعالى:
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ، ومثل قوله
تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ومثل قوله تعالى:
وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ، وكون
الضد سببًا للضد قوله تعالى:
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ. وربما عرض من الإبدال المناسب قلة فهم بعض السامعين كما
عرض في قوله تعالى:
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ظن بعضهم أنه الخيط
الحقيقي فنزلت
مِنَ الْفَجْرِ. ولكل أمة
تشبيهاتها، تشبيه اليونان الضب بالنون لمكان السراب الموجود في بلادهم، وتشبه
القرآن في قوله تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ
كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ، ويحال أيضًا إلى الكتاب العزيز سواء تم
الاقتباس منه أم لا، مقارنة بأشعار العرب. فكثير من الشعر السوفسطائي موجود في
أشعار العرب ولا يوجد في الكتاب العزيز، فهذا النوع من الشعر أشبه بالكلام
السوفسطائي من البرهان. كما أن أمثال أنواع المدائح الأربعة للفعل الإرادي
الفاضل غير موجودة في أشعار العرب وإنما هي موجودة في الكتاب العزيز.
٢١٧ وكما بدأ الكتاب بالبسملة والصلاة على محمد وآله ينتهي أيضًا بدعوة
الله بالتوفيق للصواب بفضله ورحمته.