(١) تلخيص السماء والعالم
وهو الكتاب الثاني بعد «السماع الطبيعي» من العلم الطبيعي عند أرسطو.
١ ويقسم ابن رشد بالإضافة إلى قسم الكتاب التقليدية إلى مقالات أربع كل
منها عدة جمل إلى أقوال، كل منها يبدأ بإحدى صيغ فعل القول، الصيغة النموذجية في
ضمير الغائب «قال».
٢ ويحيل إلى تلخيصاته السابقة وشروحه مثل شرح السماء والعالم وكتاب
الآثار. وبالرغم من أن التلخيص مكتوب للخاصة إلا أن العامة لم تكن غائبة عن ذهن ابن
رشد التي وضع لها «الفلسفة الخارجية» مثل أنه يجب للشيء الروحاني الذي هو في غاية
الفضيلة ألَّا يتغير ولا يبيد.
٣ بالرغم من أن فقرات التلخيص تبدأ بفعل القول في صيغة «قال» إلا أن
«نقول» و«أقول» أو «قلت» تتخلل ثنايا التلخيص إما بمفردها أو بالتقابل «أما نحن
فنقول» للتمييز بين الأنا والآخر، «وهو الذي يدل عليه اسم العالم عندنا».
٤
والقراءة المدققة للتلخيص تتطلب ثلاث خطوات؛ الأولى: قراءة أرسطو أولًا في ترجمته
العربية كما بدأ ابن رشد. والثانية: قراءة تلخيص أرسطو، قراءة على قراءة. والثالثة:
مقارنة النصين من أجل التعرف على آلياتها بين النقل والإبداع. وعند ابن رشد إحساس
بالجدة وأنه لم يسبقه أحد على هذا القدر.
٥
وابن رشد يلخص المعاني ولا يشرح الألفاظ «فمعنى قول أرسطو أن …» والمعنى قصدي
يبينه ابن رشد «فقد تبين من هذا القول المعنى الذي قصده أرسطو.» يبين ابن رشد منذ
فاتحة الكتاب، بداية المقالة الأولى غرض أرسطو في الكتاب؛ لذلك تكثر أفعال البيان.
ويدخل ابن رشد في حجاج أرسطو ومسار فكره. ويتابعه في مقدماته ونتائجه وجدله ومعاناته
للخصوم حتى يلزمهم بتناقضاتهم. ويبرر أجزاء الكتاب بأنه تابع لمسار الفكر، الكلام
في المحسوسات في «السماء والعالم» بعد الكلام في العموميات في «السماع الطبيعي».
ويعد ابن رشد الأفكار والخطوات والمراحل ويحيل السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق.
٦
والمعنى اقتضاء ومعيار «فعلى هذا ينبغي أن يفهم قول أرسطو»، ويبحث ابن رشد عن
الاتساق في القول، وتطابق النتائج مع المقدمات وغياب التناقض «وذلك خلف لا يمكن».
يبحث عن براهين أرسطو، مقدماته ونتائجه واستدلالاته ويضيف براهين جديدة لمزيد من
الأحكام. ويستعمل العبارات الشرطية «إذا … كان». ويبدأ في كل مقالة أو فصل أو قسم
أو مطالب بتلخيص مسار فكر أرسطو، مقدماته ونتائجه، مراحله وخطواته، أهدافه، وأغراضه
والمطلوب إثباته.
فتلخيص ابن رشد قراءة منهجية للسماء والعالم حول القياس والبرهان الاستنباط
والاستقراء، والمقدمات والنتائج، والتصديق والخلف ويدخل في الشكوك ويبددها ويحلها،
ويبدد الأوهام والظنون.
٧ ويضع في بداية كل مقالة خطواتها وأقسامها، بداياتها ونهاياتها، نظرة
كلية للموضوع في حدس واحد. ثم يأتي التلخيص تفصيلًا للجمل كما يفصل المقالة الأولى
في عشر جمل، واحدة تلو الأخرى واستنباط النتائج من المقدمات، يفرغ من السابق ليبدأ
باللاحق. ثم يعيد تلخيصها للتذكير بها في النهاية. وما يحصيه ابن رشد ليس النتائج
بقدر البراهين التي تؤدي إليها والمقدمات التي تقوم عليها هذه البراهين، فما يهم هو
مسار الفكر وليس موضوع الفكر، المنهج وليس الموضوع؛ لذلك يعدد البراهين ويصنفها،
والبيانات ويفصلها، والشكوك ويحلها. ويتعامل مع وحدات الفكر باعتبارها وحدات براهين
وليست موضوعات بل إن كل برهان ينقسم إلى أقسام كما هو الحال في البرهان الهندسي،
ويعتمد على أصول، ويستعمل برهان الخلف، «وإذا كان ذلك كذلك فلم يبقَ إلا الوجود الذي
قلناه وذلك ما أردنا بيانه.» إبطال كل الآراء حتى لا يبقى إلا رأي واحد صحيح كما هو
الحال في اللاهوت السلبي عند المتكلمين.
٨
ويطغى الوافد على الموروث.
٩ وبطبيعة الحال يتصدر أرسطو الوافد ثم ثامسطيوس.
١٠ ومن أفعال أرسطو لا تتجاوز أفعال القول ثلثها. وكلها تقريبًا في صيغة
المضارع «يقول» أي التعبير عن حقيقة فلسفية وليس تقرير حقيقة ماضية أعلنها أرسطو.
وكل الأفعال بعد ذلك أفعال الشعور المعرفي، أنماط الاعتقاد مثل ظن، حد، رسم، قصد،
جزم، نسق، استقصى، أطلق، ألزم، تأول، سمى، تعرض، فهم، أصبح، رأى، عبر، وضع، حكى،
أوجب، رد، اعتمد، شبه، ذكر، بين. وفي قليلٍ من الاستعمالات يسبق أرسطو حرف الجر.
١١ ومعظمها أفعال مثبتة وأقلها منفية مثل «ما فهم» أي التعامل مع أرسطو
بالإيجاب وليس بالنفي. ويبين ابن رشد أنواع الأقاويل، «وإنما نسق أرسطو هذه
البراهين على جهة الاستظهار.» وابن رشد هو الذي يصف ويحلل ويقرر ثم يستشهد بأرسطو
«ولذلك يقول أرسطو.» يلخص القول بل يصف الشيء ثم يستشهد على رؤيته بقول أرسطو. فإذا
اجتمع القولان، صح الحكم على الشيء. ويذكر أرسطو باعتباره راويًا عن القدماء «أرسطو
مؤرخًا»، مصدر علم وليس أرسطو فيلسوفًا صاحب موقف. فأرسطو أحد مصادر المعرفة
بالقدماء. ويراجع ابن رشد موقف أرسطو، ويتحقق من صدق وصفه، وقد يظن أن هذا يوافق
«مذهب أرسطو». ويضع التقابل بين قول أرسطو وقوله ويتساءل عن صدقه «فكيف أطلق أرسطو
أنه يلزم …» «أما أنا فإني أقول» يستقصي ابن رشد مدى صدق أقوال أرسطو.
ويصل ابن رشد إلى برهان لإثبات صدق الوصف وهو برهان لم يستعمله أرسطو «وهذا
البرهان صحيح وإن لم يذكره أرسطو.» «وهذا هو البرهان الذي اعتمده أرسطو.» بل يتخيل
اعتراضًا على أرسطو «لكن قد يعترض في هذا معترض على أرسطو ويقول» ويتحقق من صدق
اعتراضات الشراح مثل ثامسطيوس على أرسطو، ويدخل كقاضٍ بينهما «فهذه جملة ما يعترضه
به ثامسطيوس في هذه المواضع على أرسطو فنقول نحن» ويصدر حكمًا ببراءة أرسطو وذنب
المعترض «فقد تبين من هذا القول صحة قول أرسطو وفساد ما اعترض به عليه ثامسطيوس.»
ويعطي حيثيات الحكم وهو مطابقته مع الحس وخلوه من الشك «فقد تبين من هذا القول أن
ما يقوله أرسطو في الثقيل والخفيف وفي طبائعهما هو الرأي الذي لا يلقاه شكٌّ ولا
يخالفه حس.»
١٢ يدرس الموضوع نفسه ثم يحيل إلى أرسطو إما استشهادًا به وتدعيمًا لنتائجه
أو مراجعة لأقواله كما راجع أرسطو أقوال القدماء؛ فالتلخيص هو دراسة الشيء وتجاوز
اللفظ إلى المعنى ثم إحالة المعنى إلى الشيء، والاتفاق في المعنى ثم التعبير عنه
بلفظ الأنا ثم نقد الشراح اليونان والمسلمين، ثم توجيه كل ذلك إلى الداخل وهو
الموقف الفقهي.
١٣
ويأتي ثامسطيوس بعد أرسطو، فهو الذي تأول على أرسطو عباراته وأساء فهم أقواله.
١٤ فقط تشكك وافترض وجود أصوات لا نسمعها لبعد المسافة بيننا وبينها. وظن
أن وجود الرباط لا يمنع من الصوت. أميل إلى أفلاطون في طيماوس أن الشيء المتشابه
إذا وضع في الشيء المتشابه لا يحيل إلى أحد الجوانب. ويستجفي قول أرسطو ويقول: إن
علة سكون الأرض الطبع. ويظهر غلطه فيما ظنه بأرسطو؛ فقد استعمل مقدمة ممكنة في
نتيجة ضرورية. وأراد الاعتذار بقوله إن الأجسام مركبة من السطوح المحددة الأبعاد
الثلاثة. وهو عذر غير مقبول لأنه أساء فَهْم عبارة أفلاطون في حين أن عبارة أرسطو
صحيحة دون تأويل ثامسطيوس لها. كذلك يعتذر عن قوم لا يجوز الاعتذار فيهم. وزعم أن
الأشكال المثلثة الأبعاد متناهية والأشكال غير المنتظمة غير متناهية قول لا معنى
له. وظن صحة قوم وانتصر لهم. كما أخطأ في الفرق بين الأشياء البسيطة والمركبة في
الحركة. ويرد ابن رشد على جملة ما يعترض به ثامسطيوس على أرسطو ويبين فساد
اعتراضاته. لم يفهم ثامسطيوس قول أرسطو وألزم منه محالات.
وقد شعر يحيى النحوي بشك حاول ابن رشد حله ويستشهد بالإسكندر بتعرض الهواء لحرارة
الكواكب وهو غير مماس لها.
١٥
كما يعتمد ابن رشد وأرسطو على آراء القدماء للاستشهاد بها أو لشهادة القدماء
عليها؛ وبالتالي يكون الاتفاق في الآراء دليلًا على صدقها؛ فقد شهد فيثاغورس على
صدق تحليلات ابن رشد وأرسطو وقال بأن النار في الوسط والأرض متحركة حولها، كما يذكر
في نظريته في تركيب العالم من الأعداد. وكان أنكساغوراس يظن أن اسم الأثير يدل على
النار، وأن الأشياء كانت ساكنة زمانًا لا نهاية له ثم حركها العقل، وأن الأسطقسات
متشابهة الأجزاء غير متناهية. ويتم الاعتماد على إقليدس لمعرفة النسب. ويعترض
ديموقراطيس ولوقيش بالأجزاء التي لا تتجزأ التي منها تتكون الأجسام بطريقة الانفصال.
ويقول أفلاطون بصور الأشياء المحسوسة المفارقة وأن العالم متكون ولكن لا يفسد،
فالسماء مكونة وثابتة لا فناء لها كما عبر عن ذلك في طيماوس واعتقد أن السماء لها
جهات. وكان يرى أن حركة الأسطقسات كامنة غير منتظمة قبل كون العالم ثم أصبحت إلى
نظام. ويرى أنبادقليس أن الأرض دائمة الحركة وثابتة في موضعها من أجل سرعة حركتها
ونقد من قال بأن الأرض غير متناهية، وأن سبب سكونها الزوبعة ذات الجولان، وأن
العالم تارة كائن وتارة فاسد. ويرى فيثاغورس أن للسماء يمينًا ويسارًا. والرأي
المنسوب إلى القميدروس القديم هو الأكثر اقتناعًا وهو أن سبب سكون الأرض في الوسط
أنها موضوع من جميع الآفاق بالسواء.
١٦
ويحال إلى بعض الأعمال الأخرى لباقي الحكماء. ويتصدرها كتاب إقليدس ثم طيماوس لأفلاطون.
١٧ وينقد أرسطو الرأي الوارد في طيماوس أن الأرض مكونة من السطوح. ويستشهد
بصاحبي المجسطي على صحة إحدى العلل وبرصد بطليموس لحركة الكواكب. ويثبت بالبراهين
أن الأرض وسط العالم. ويحال إلى نظرية إقليدس في الأشكال الخمسة المذكورة في آخر كتابه.
١٨ وتتم الإحالة إلى مؤلفات أرسطو الأخرى، ويتصدرها السماع الطبيعي ثم
القياس ثم البرهان ثم الكون والفساد ثم النفس ثم حركة الحيوان. وقد يحال إلى مقالاتٍ
بعينها مثل السادسة من السماع.
١٩
ومن الفرق يتصدر القدماء الأولون والمتقدمون والأقدمون ثم المهندسون ثم الطبيعيون
والمفسرون ثم الروحانيون والأطباء والمشاءون.
٢٠ ويعني ابن رشد بالقدماء كل السابقين، يونان وغير يونان وآراءهم في
الخلاء والدهر، ويبدأ ابن رشد وأرسطو قبل فحص أي موضوع بذكر آراء الأقدمين
المخالفين وحججهم لحل الشكوك ومتى يكون قول أرسطو وابن رشد أتم تصديقًا وأكثر
قبولًا عند محبي الحق، فلا يوجد فكر بلا جدل في التاريخ. وتتعدد آراء القدماء
وتتضارب حتى يظهر أرسطو وابن رشد فيحق الحق الواحد أمام الاحتمالات الكثيرة. ويدل
لفظ «القدماء» على معنى سلبي إذ يزعم القدماء ويظن القدماء ويرى القدماء. أقوال
القدماء خارج الإقناع والقبول. القدماء أصحاب مذاهب في حاجة إلى تمحيص وفحص ومراجعة
حتى يختتم أرسطو الحق ويعلنه ابن رشد، وكلاهما خاتما الحكماء. وطبيعة التلخيص
تبديد شكوك القدماء والانتصار لأرسطو ومعرفة إذا كانت أقوالهم مقنعة أم لا.
٢١
ولا يخطئ ابن رشد أرسطو القدماء دائمًا بل يحمد القدماء في طلبهم علة المشاهدة؛
فطلب العلة هو الفلسفة الحق. بل يتعرف ابن رشد وأرسطو معًا على مقصد القدماء
وغرضهم. لكلام القدماء ظاهر وباطن وفي حاجة إلى تأويل ومع ذلك غمضت بعض المواقع على المفسرين.
٢٢
ومن الوافد الشرقي يظهر اسم الكلدانيين الذين يتفقون مع آراء الإسلاميين
واليونانيين على أن الجرم موطن الروحانيين والملائكة. فقد كانت لديهم حكمة موجودة
قديمًا، ويحقق ابن رشد المناط على طريقة الفقهاء عندما يتحدث أرسطو عن أقاويل
الآراء السالفة في الأحقاب الدائرة ويعينهم ابن رشد بالكلدانيين وقولهم إن في
الوجود شيئًا من الأشياء المتحركة فاسدًا ومنقضى وشيئًا دائم الوجود غير فاسد ولا
منقضى، وليس لحركتها بداية ولا نهاية. هو نهاية كل نهاية، وغاية كل غاية، والمحيط
بكل محيط، تام غير ناقص.
٢٣
ومن الموروث يتصدر ابن سينا ثم الفارابي.
٢٤ ويبدو الفارابي شارحًا أرسطو مثل ثامسطيوس ومتفقًا معه فلا خلاف بين
المفسرين في ظاهر كلامهم لشرح السماء والعالم في أن الجرم السماوي لا موضوع له. وهو
رأي الفارابي أي مذهبه، وأحيانًا يتشكك أبو نصر على أرسطو وهو أن المعنى الموجود
للسماء من هذه الجهات مقول بالتشكيك. والواقع أن المقدمات المشهورة قد تستعمل بوجه
ما في البرهان خاصة في الأشياء التي ليس بأيدينا فيها مبادئ إلا من هذا الجنس. وإن
لم يفهم مذهب أرسطو حسب هذا القول تلحق شكوك ليس يخلو منها كما عرض لأبي نصر وغيره.
٢٥
ولكن ابن سينا هو الذي انحرف كلية عن أرسطو؛ فقد تابع الإسكندر في بعض مقالاته
وقال إن واجب الوجود قسمان؛ واجب الوجود بذاته وممكن الوجود بذاته واجب بغيره؛ ظانًّا
أن هذا ما يوافق مذهب أرسطو. كما اعتقد ابن سينا أن الجرم السماوي المتحرك عن
الصورة المحركة له مؤلف أيضًا من صورة ومادة؛ ومن ثم لزم الشك، ولوجب الاعتقاد أنه
يوجد شيء أزلي فيه إمكان الفساد من غير أن يفسد. ولا عجب أن يخفى هذا المعنى على
ابن سينا والإسكندر مع أنه يسلم أن الجرم السماوي بسيط غير مركب من مادة وصورة،
وذلك ظاهر من قوله في شرح مقالة اللام.
ويظهر لسان العرب على استحياء كمقياس للمصطلحات. فالأصل في لسان العرب أن الثقل
والخفة ليسا قوة في حين أنهما كذلك عند أرسطو.
٢٦
ومعظم أسماء الأماكن، البلاد والجزر والبحار والأهالي كلها موروثة وليس فيها اسم
وافد واحد مما يدل على السياق، سياق الأنا الجغرافي والبشر الذي توضع فيه ثقافة
الآخر، العالم الإسلامي شرقًا وغربًا؟
٢٧ ويعترف ابن رشد وأرسطو بتقدم الأرصاد عند أهل بابل ومصر قبل أرسطو
وبطليموس. ويرصد ابن رشد الكواكب ويعرف مطالعها من أرض مصر وأرض قبرص. ويتحدث عن
النجم سهيل «الذي لا يظهر في بلادنا هذه التي هي جزيرة الأندلس ولكن يُحكى أنه يظهر
في جبل سهيل. ويظهر في بلاد البربر خلف البحر الذي بيننا وبينهم المسمى بالزقاق.»
وقد عاين ابن رشد نفسه بمراكش عام ٥٤٨ كوكبًا على جبل درن فزعموا أنه سهيل. وقد حكى
أرسطو عن قومٍ يَرَوْن صغر الأرض وأن موضع صنم هرقل وهو المعروف عندنا بجزيرة قادس قريب
من حدود الهند. فالطرح واحد بدليل وجود الفيلة في الهند والمغرب وفي الجنوب في بلاد
السودان. كان أرسطو على وعي بجغرافيا المنطقة كلها خاصة بلاد الشرق بعد فتوحات
الإسكندر. كما يزيد ابن رشد من معلوماته عما سمع من أخبار عن وجود الفيل في الصحارى
وهو ما لاحظه أيضًا أصحاب المجسطي.
٢٨ ويُضرب المثل باختلاف الغربي والرومي والبربري كأفراد واتفاقهم بالنوع
كإنسان. وتظهر عادة الأسلوب العربي في الإشارة إلى الواحد الشخصي بزيد أو عمرو.
٢٩
ويتم تعشيق أيضًا الإلهيات الصريحة بالإضافة إلى الإلهيات الضمنية في المثاليات
العقلية؛ فالطبيعة لا تخلق شيئًا عبثًا. فقد وفقت الطبيعة الإلهية إذ كان قصدها أن
تسير هذا الجرم غير مكون ولا فاسد بأن باعدته عن الأضداد. هو جرم كريم. وهذا القول
لا يليق إلا بالجرم السماوي. وقد اتفق جميع الأولين الذين أقروا بالله والملائكة
على أن هذا الجرم هو موضع الروحانيين والملائكة الذين لا يلحقهم كون ولا فساد.
والشيء الروحاني هو في نهاية الفضيلة لا يتغير ولا يبيد لأنه العلة الأولى ولو كانت
لها علة أولى لكانت هذه أفضل منها، وقد جعلت جميع الأمم المتقدمة والفرق السالفة
السماء موضعًا لله عز وجل لاقتناعها دوام وجودها وامتناع الفساد عليها من بين سائر
الموجودات. وإذا كان كل شيء موجودًا من أجل فعله كان الشيء الإلهي الأزلي واجبًا أن
يكون الدوام والبقاء هو فعل جوهره وذاته، وهذه هي الحياة الأزلية. ولم يكن ذلك مما
يخفى على مرور الأحقاب مع عناية السلف الصالح بتفقد أمثال هذه الأحوال في السماء
وقول القدماء إن الآلهة كثيرة، خارج عند الاقتناع. وقال أفلاطون إن حركة الأسطقسات
كانت قبل كون العالم غير منتظمة، ثم صار بها الله إلى نظام.
٣٠
وفي سياقات أخرى يرفض ابن رشد نظرية الخلق من عدم، ويقول بخلق الشيء من الشيء كما
قال القدماء وليس المتكلمين من أهل ملتنا.
٣١ وتظهر بعض التعبيرات الإيمانية مثل «فسبحان الخلاق العليم»، «ما شاء
الله» تعبر عن الإطار المرجعي للشارح.
٣٢ وتبدأ كل مقال بالبسملة والصلاة على النبي وآله. وتنتهي بعون الله
وتوفيقه، وتنتهي المقالة الثانية بالحمدلة والرابعة بعون الله.
٣٣
(٢) تلخيص الكون والفساد
وهو الكتاب الثالث من الطبيعيات بعد السماع الطبيعي والسماء والعالم، ضاع الأصل
العربي وبقي نقله إلى الحروف العبرية.
٣٤ أتمه ابن رشد عام ٥٦٧ﻫ. وبالرغم من أنه تلخيص إلا أنه مقسم إلى اثنين
وأربعين مقطعًا يبدأ كل منها بفصل «قال» دون فصل بين النص الأول والنص الثاني.
ونادرًا ما يظهر التعبير النمطي «قال أرسطو» يبدأ ابن رشد بتلخيصها في ثمان جمل:
غرض الكتاب، مذاهب القدماء، الكون والفساد، في الجوهر، والكون والاستحالة، حركة
النمو، المماسة والأشياء المتماسة، الفعل والانفعال، الاختلاط والأشياء المختلطة.
٣٥ وتستمر القسمة كأداة للضم وجمع الأجزاء المتناثرة في بنية واحدة، وعد
وإحصاء جوانب الموضوع. ويتكلم ابن رشد أيضًا بصيغة المتكلم الجمع «فنقول» للدلالة
على التمايز بين الأنا والآخر، بين النص الأول والنص الثاني، بين الحضارة الإسلامية
والحضارة اليونانية. وأحيانًا يتم الإعلان عن ذلك بطريقة احتمالية مثل «فأما نحن»
أي نهاية المطاف.
٣٦
ويغيب الموروث إلى حدٍّ كبير في التلخيص على عكس تلخيص الخطابة وتلخيص الشعر. إنما
تظهر اللغة على استحياء في تحليل الألفاظ على أنها أسماء مشتركة. وكذلك استعمال بعض
الأمثلة والمصطلحات الفقهية مثل «قد مسني الضر» على الفعل والانفعال. كما يظهر
الأسلوب العربي في استعمال زيد وعمرو وأيضًا في «يا ليت شعر».
٣٧ ويتدخل التصوُّر الإسلامي للعالم. فالله هو الذي يقوم بالاتصال بين أجزاء
الوجود والوجود العام عن طريق النقلة. وتظهر آلهة اليونان. فمن الشنيع أن تكون
الأسطقسات والمحبة عند أنبادقليس أقدم من الآلهة وذلك لأن الآلهة عنده هي الكرة السماوية.
٣٨ وبطبيعة الحال يبدأ التلخيص بالبسملة وينتهي بالحمدلة.
٣٩
(٣) تلخيص الآثار العلوية
وهو الكتاب الرابع من الطبيعيات، نص عربي بحروف عبرية مثل «تلخيص الكون والفساد».
٤٠ وهو مقطع إلى فقرات يسبق كل منها فعل القول في صيغة «قال».
٤١ وفي مقابل قال هناك أيضًا «أقول»، «نقول» تقابلًا بين الأنا والآخر،
بين الحضارة الإسلامية والحضارة اليونانية. وقد لا يكون قول ابن رشد مخالفًا
للفلسفة اليونانية كلها بل قد يتفق مع بعض حكمائها، «وهذا القول لم نختص نحن به بل
شاركنا فيه كثيرٌ من الفلاسفة.»
٤٢ والتلخيص ليس مجرد بيان بل تصحيح وبيان أخطاء ومراجعة «وقد بان خطؤهم»،
«وخطأ هؤلاء»، «وقولهم خطأ».
٤٣
ويلخص ابن رشد ابتداء من الغرض أي القصد الكلي حتى يتم توجيه الأجزاء كلها نحو
الغاية المطلوب إثباتها.
٤٤ لذلك كان للفكر مقاماتٌ ونتائج، بدايات ونهايات، يعبر عنهما بفعل الشرط،
وجواب الشرط في صيغة «لما … كان» أو «إذا … كان» «وإذا كان ذلك كذلك». كما يحال إلى
ما سلف وإلى ما تقدم تذكيرًا به وإلى ما سيأتي وعدًا به.
٤٥ ويبحث ابن رشد عن الأدلة والبراهين على صدق تحليلات أرسطو. فهو لا يلخص
أقوالًا بل يراجع الاستدلالات، ويبحث عن البراهين؛ لذلك تكثر أفعال الاستدلال
وأسماؤه مثل الدليل، يدل، يستدل.
٤٦ وينتهي بأسماء الاستدلال مثل «ولذلك».
كما تكثر أفعال البيان.
٤٧ وتأتي باقي أفعال الشعور المعرفي مثل الشك والظن واليقين والنظر.
ويستطرد ابن رشد ثم يعود إلى تلخيص أرسطو. وهذه الاستطرادات هي إكمال لمذهبه وزيادة
في تعليلاته، وإيجاد مزيد من البراهين عليه والتطبيقات له.
٤٨ ويجمل ما يقوله أرسطو في فقرة واحدة حتى تتسلسل الموضوعات في ترتيب متسق.
٤٩ يعلن عن نهاية مقالة، وبداية أخرى، وموضوع ما انتهى إليه وما يبدأ
منه.
ويظهر عند ابن رشد منهجه الجغرافي في الجمع بين القياس والحس، البرهان والمشاهدة،
الاستدلال والتجربة.
٥٠ «ولم نر نحن قوس قزح بالليل في خمسين سنة إلا مرتين.» «وهذا الذي ذكره
ظاهر بالاستقراء في جميع المركبات الصناعية والطبيعية.» والفكر اقتضاء ومعيار أي أن
هناك قواعد نظرية تحكم الفكر قبل شرح الألفاظ.
٥١ وقد يكون الاقتضاء إيجابًا أو سلبًا، ما ينبغي وما لا ينبغي، ما يجب وما لا
يجب، ويحال الجزء إلى الكل، هذا الموضع إلى موضع آخر، فالموضوع كلي، والتلخيص لأحد أجزائه.
٥٢ لذلك ارتبط علم الآثار العلوية بعلم المناظر الاعتماد الأول على الرصد
والهندسة. ولا يكتفي ابن رشد ببيان الأدلة والبراهين العقلية بل يبحث عن الأسباب
والعلل القائمة على المشاهدة. وقد يرصد الحكماء الظاهرة ويختلفون في أسبابها.
٥٣
ويتصدر الوافد الموروث بإطلاق. وبطبيعة الحال يتصدر أرسطو (الحكيم) الوافد ثم
الإسكندر شارحًا له ثم أنكساغوراش ثم ديموقراطيس من الطبيعيين ثم فيثاغورس ثم
أبقراط المهندس ثم أراطيس، وجالينوس، وابن دقليس، ومالسيس وأوميروش،
٥٤ويؤيد ابن رشد أرسطو في حد النار والجليد في «الكون» كبسائط، وأن الحركة
سبب السخونة. ويوافق ظاهر قوله أنه في ذوات الذائب نار ملتهبة، ويؤيد براهينه.
«فهذه البراهين هي التي اعتمدها أرسطو في هذا الموضع وهي، كما ترى، براهين طبيعية
صحاح.» وقد وعد أرسطو في كتاب الحيوان بالفحص عن النار كمكان للأخلاط. ويكمل ابن
رشد ما نقص أرسطو اعتمادًا على الأصول الأولى واستنباطه منها «وإن كان لم يذكر هذا
أرسطو لكن هو معلوم من الأصول التي قررناها.» ويحدد ابن رشد نوع النسخة التي وصلت
إليه والتي منها نص كلام أرسطو. ويعبر عما سكت عنه أرسطو، ويكمل مذهبه، ويتحدث
بلسانه، ويبرر النقص بأنه خارج الموضوع، وأدخل في علم المناظر. لم يقصر أرسطو ولم
يترك شيئًا كان يجب ذكره «فسبحان الذي خصَّه بالكمال الإنساني.» يدرك بسهولة ما يدركه
الناس بصعوبة، وما يدركه الناس بصعوبة يدركه بسهولة. وهو حكيم عاقل واضح لا يخلط
بين الأمور «ولم يكن أرسطو ليخلط بين النظرين.» ويستعمل ابن رشد أرسطو راويًا عن
السابقين. ويستعمل ألفاظه وظاهر قوله، «فهذه هي ألفاظ أرسطو في هذا الموضع في
النسخة التي وقعت إلينا.» ولا يقطع برأي ولا يجزم به بل يستعمل صيغة الاحتمال.
ويشبه أن يكون هذا رأي أرسطو. وأحيانًا يكون على يقين «وهذا شيء صرح به أرسطو.»
٥٥ كما يعرض لرأي أبقراط المهندس في ذوات الذوائب وفي المجرة.
ومن أسماء الفرق يذكر المفسرون ثم المتقدمون أو القدماء ثم أهل إيطاليا والفلاسفة
والحكماء ثم المشاءون والإسبانيون.
٥٦ ومن أسماء الأماكن لا يظهر إلا بلاد اليونان مما يدل على نقل البيئة
الجغرافية اليونانية إلى البيئة العربية.
٥٧
وتتم الإحالات إلى مؤلفات أرسطو الطبيعية وغالبها من أرسطو وأقلها من ابن رشد.
فيحال أولًا إلى السماء والعالم والكون والفساد ثم إلى الآثار العلوية ثم إلى
الحيوان ثم إلى السماع الطبيعي والنبات والمعادن.
٥٨ ومن الصعب معرفة هذه الإحالات هل هي من أرسطو أم من ابن رشد. والأغلب
أنها من أرسطو لأنه يتحدث عنها بضمير المتكلم الجمع «كتابنا» كما يحيل إلى تلخيص
الآثار العلوية للإسكندر.
وينقد ابن رشد الإسكندر كيف ذهب عليه أن النار ليست محرقة؛ فقد استقل الإسكندر
بمذهب ولم يعد مجرد شارح لأرسطو.
٥٩ ويرى أن كل كوكب ذو ذئابة نار ملتهبة، ويرصد ابن رشد أوجه الخلاف بين
أرسطو وشارحه الإسكندر. وينتصر لأرسطو عودًا إلى الأصول الأولى؛ فالأصل أفضل من
الفرع، والنص المشروح أدق من النص الشارح «وأما على مذهب الإسكندر فليس يكون بين
قولهم وبين قول أرسطو موافقة أصلًا.» ويذهب الإسكندر مذهبًا في المجرة ويزعم أنه
مذهب أرسطو. وظاهر كلام أرسطو في النسخة أي الترجمة التي عند ابن رشد ليس على ما
توهم الإسكندر. ويتحقق ابن رشد من الخلاف بين أرسطو والإسكندر بالتجربة. فإذا اختلف
عدد الرياح فإن «الوقوف على صحة هذين القولين يكون بالتجربة.» ويسلم الإسكندر وجميع
مفسري أرسطو بأن الأسطقسات مركبة. ويوافق ابن رشد على رأيه من أن النار سبب الكون.
كما يفسر رأي الإسكندر بأرسطو في العفن، وليس رأي أرسطو بالإسكندر؛ فأرسطو هو الذي
لديه القول الفصل. أرسطو هو الشارح والإسكندر هو المشروح، وليس الإسكندر هو الشارح
وأرسطو هو المشروح. وما قاله الإسكندر من أن النار سبب للكون صحيح. يتفق ابن رشد مع
كثير من آراء الإسكندر. وأقواله وأقوال ابن رشد غير متناقضين لأنهما على نحوين
مختلفين في منشأ الريح الجنوبية.
ويروي الإسكندر عن أرسطو راويًا عن فيثاغورس. وسبب كثرة الرياح من الجنوب والشمال
عنها من المشرق والمغرب عند أرسطو غيره عند الإسكندر. كما تختلف المسائل في كتب
أرسطو عنها في كتب الإسكندر فيما يتعلق بالريح وعلل هبوبها. والإسكندر أيضًا ولا
غيره من المفسرين لم يعرض أيضًا لبعض الموضوعات مثل أثر الجغرافيا على الأمراض،
والحر على الرمد كما عرض ابن رشد.
٦٠
ويرى أنكساغورش أن هناك عنصرًا خامسًا هو النار أو الأثير، فمعناهما واحد.
٦١ وقال مع مالسيس: إن الأثير هو الهواء الملتهب. وتختلف أنكساغورش مع ابن
دقليس في تفسير الرعد في مصدر النار، الأثير عند الأول، والسحاب عن الثاني، وشبه
ابن دقليس اختلاط الرطوبة واليبوسة في الأجساد حتى تتحدد ويعسر انفصالها بالغذاء،
ويقول فيثاغورس في المجرة: إنها أثر طريق كان من سلوك بعض الكواكب في قديم الدهر حين
فسدت على عهد فلان فصارت نورًا مستطيلًا لما فسد بعضها إلى بعض وتحركت واختلطت.
وقال أنكساغورش وديموقراطيس: إن المجرة ضياء الكواكب التي لا يصل إليها ضوء الشمس من
ستر الأرض إياها. ولهما تفسير مشابه للزلزال وأثر الماء في الأرض. وللإسكندر تفسير
آخر للزلزال، مكوث الماء في الأرض ثلاث سنين. وأثبت أراطيس كواكب صغيرة وكبارًا
مضيئة. والإقليم المعتدل هو الإقليم الخامس كما يقول جالينوس لا الرابع كما يعتقد
كثير من الناس. يؤيد ابن رشد الجغرافيا العلمية ضد الجغرافيا الشعبية.
ويستعمل ابن رشد لفظ المتقدمين ويعني به القدماء مثل أنكساغورش إحساسًا منه
بالتاريخ، وبتوالي المضادات.
٦٢ وقد تعني القدماء كل السابقين على أرسطو أي قبل أن تكتمل الحقيقة فيه.
وقد يعني لفظ القدماء آل فيثاغورس على التخصيص باعتبارهم مؤسسي الفلسفة. وأقوال
القدماء بطبيعة الحال متناقضة ينقصها الاتساق. وظن المتقدمون من الحكماء أن قوس قزح
لا يكون بالليل. وأحيانًا يتفق القدماء على شيء بديهي علمي يؤيده القياس والتجربة.
كما يتفقون على حدود الأسماء. ويعني ابن رشد بلفظ الحكماء الفلاسفة على الإطلاق دون
تخصيصهم باليونان أو بالمسلمين. فالحكمة خالدة، والحكيم نمط العقلاء. ويسمي
الفلاسفة أنكساغورش وديموقراطيس في مقابل قوم من أهل أنطاكيا من أصحاب فيثاغورس.
٦٣ ويعني المفسرون مجموعة شراح أرسطو الذين أصبح لهم مذهب مستقل عن أرسطو
استقلالًا عنه وربما انحرافًا منه. فهم يعطون سببًا لتسخين الكواكب غير السبب الذي
يعطيه أرسطو في «السماء والعالم». ولم يقسم أرسطو الجنوب إلى مسكون وغير مسكون كما
فعل المفسرون. لقد عرض للمفسرين شكوك كثيرة على «أقاويل هذا الرجل» ثم تبين بعد
زمان طويل صوابه وتقصير غيره. والمفسرون رواة عن الآخرين فيما حكوه عن الصاعقة.
وأحيانًا يصيب المفسرون ومعهم الإسكندر مثل القول بأن الأسطقسات المحسوسة مركبة
وليست بسيطة. والمشاءون متفقون على ما يذهب إليه أرسطو. وهم الأرسطيون الأصلاء وليس
المفسرين. ويسقط ابن رشد اسم العلم اليوناني ويكتفي بقوله في «عهد فلان الملك» إما
لأنه لا يعرفه وإما لأن التحديد الشخصي لا يهم.
٦٤
ويحيل ابن رشد إلى جوامع الآثار العلوية «الجوامع الصغار التي لنا» التي جمع فيها
بين الحس والعقل في بناء مقدماته. ويثني على «صاحبنا أبو عبد الرحمن بن طاهر»
وإطالته القول في المسألة التي عرضها ابن رشد في جوامعه واستعماله مقدمات كثيرة لا
يخفى جنسها على من ارتاض العلوم الطبيعية، وما أثبته هو بالرغم من منازعته قومًا «من
أهل زماننا» ورده عليهم. وأقاويله مشهورة بين أيدي الناس. ولابن طفيل قول جيد في
الاعتراض على المقدمات التي استعملها في ذلك البيان وناقصة. كلها أو جلها أقاويل
جدلية. فابن رشد يعيد دراسة الموضوع في بيئته العلمية الخاصة وينقد أستاذه ابن
طفيل، ويصف أقواله بأنها جدلية، ويرجح عليها أقوال العالم ابن طاهر. ويراجع نفسه في
«الجوامع الصغار» حين ظن أنه كابن الهيثم يمكن الجمع بين الصناعتين، الآثار العلوية
والمناظر في علم برهاني واحد. وأثبت العلل التعاليمية والتي هي في الآثار العلوية
على جهة المصادرة. والأمر ليس كذلك لأن العلل في الآثار العلوية بينة بنفسها مباشرة
في حين أن علل المناظر غير مباشرة.
٦٥ كما يحيل ابن رشد إلى تلخيص الحواس والمحسوسات لتُعرف منها المقدمات
المعرفية الخاصة بالرؤية. كما يحيل إلى بعض كتبه الأخرى دون تحديد.
٦٦
ومن الموروث يظهر ابن الهيثم ثم ابن سينا ثم ابن طفيل وابن باجه وابن الطاهر.
٦٧ ويحيل إلى مقالة ابن الهيثم تدعيمًا لرأيه ولذيوعها بين الناس، وهي
أدخل في علم المناظر. لذلك لم يعرض لها أرسطو. ولا يمكن الجمع بين النظرين
الجغرافيا والمناظر وإلا وقع في الخطأ. لذلك قرر ابن الهيثم أن الصناعتين مختلفتان.
هناك فرق بين التعليل الطبيعي في الآثار العلوية والبرهان التعاليمي في علم
المناظر. لم يخلط أرسطو بين النظرين في حين خلط ابن الهيثم، وعسر عليه إعطاء بعض
الأسباب الطبيعية. وينقد ابن رشد قول ابن سينا أن الأسطقسات بسيطة لأن ذلك يفسدها.
ويبين كيف عدل عن رأيه في علل ألوان القوس التي اعتمد فيها على المفسرين. ولا تحتاج
أقوال أرسطو إلى تدعيم كما زعم ابن باجه، نعم بها أشياء لم يفهمها هو ولا غيره من
بعده بما في ذلك ابن رشد وبخاصة في الكتب التي لم تصل إلينا منها أقاويل المفسرين؛
لذلك وجب عليه الفحص عن كلامه لإضافة أشياء خارجية عنه. فابن رشد يكمل الناقص ويخرج
المنطوق به من المسكوت عنه ولا يسمح لابن باجه أن يقوم بمثل ذلك؛ لأن ابن رشد
يستنبط من الداخل وابن باجه يضيف من الخارج.
٦٨
ومن البيئة الجغرافية العربية يذكر البربر ثم العرب والحبشة.
٦٩ ومن أسماء المدن والمناطق والأماكن تذكر قرطبة ثم الأندلس ثم مصر أرضًا
وأهلًا والبحر الشامي ثم إشبيلية وأندوشر ومراكش والشام وشريس والعراق والبحر
المحيط وبحر القلزم والأصنام الهرقلية وكنيسة الغراب.
٧٠ والجزائر القريبة من البحر متحرك بتحريك البحر كما عرض في الموضع الذي
يسمى «عندنا» بكنيسة الغراب عند البحر المحيط، ويقاس الرصد بالمدن القرية مثل قرطبة
ومراكش. كما حدث زلزال في قرطبة في ست وستين وخمسمائة للهجرة. وقد شاهد ابن
رشد نفس الأعراض التي وصفها أرسطو.
٧١
ويذكر أوميروش أرض مصر وعلاقة الماء باليابس فيها؛ فالبيئة العربية حاضرة في
أمثلة اليونان. فالمقارنة بين البيئتين، بيئة اليونان وبيئة العرب داخل النص الأرسطي
نفسه مما يسمح لابن رشد بالاستمرار فيها وتحويلها من اليونان إلى العرب، والانتقال
من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، كان اليونانيون يسمون إغريقية من الغرق الذي
أصاب بلادهم، وهو ما يتفق فيه لسان اليونان ولسان العرب. كما ذكر أوميروش البحر
الشامي مما يدل على حضور الشام حضاريًّا ونسبة شرق البحر المتوسط إليها وهو شرق
الأندلس الذي يقطن فيه ابن رشد. كما يتحدث عن الأصنام الهرقلية في البحر الذي فيه
العبور من جزيرة الأندلس إلى بلاد البربر، يعتمد ابن رشد على المشاهدات في بيئته
الأندلسية مصدقًا مشاهدات أرسطو في البيئة اليونانية. فالصبا والدبور «في بلادنا هذه
التي هي جزيرة الأندلس» ليست أكثر هبوبًا من الجنوب بل أكثر منها، الصبا في النصف
الغربي منها والدبور في النصف الشرقي. ثم يعمم ابن رشد من ذلك على «جميع المواطن
المسكونة من الأرض». هناك فرق بين بلاد اليونان التي في وسط العرض والطول، البلاد
الطبيعية جدًّا، وباقي المناطق. «وبلادنا» موافقة لبلاد اليونان في العرض ومقصرة
عنها في الطول. وبلاد الشام والعراق مقصرة عن بلاد اليونانيين في العرض وموافقة لها
في الطول. فبلادنا أقرب إلى طبيعة بلاد اليونانيين من بلاد العراق. وتؤخذ قرطبة أحد
نقاط القياس. وليس لبعض الرياح أسماء في لسان العرب إلا أن العرب تسمي كل ريح تعدل
عن الجهات الأربع النكباء.
٧٢
والدليل على الأمزجة اللون والشعر، المعتدل الخالص البياض. والشعر المعتدل أقرب
إلى السبوطة منه إلى الجعودة. ووجود هذا اللون والشعر قليل في بلاد العرب؛ لذلك
كانت تسمي الأبيض أحمرَ. وبلاد العراق على النصف من بلاد العرب، الحمرة غالبة على
أهلها كالحال في العرب. ويوجد اللون والشعر بالطبع ما لم تتداخل الأقوام كما يتداخل
العرب والبربر بجزيرة الأندلس. فإذا ما طال التداخل يعودون إلى الأمة التي يعيشون
فيها وهم الإسبانيون. لذلك كثرت فيهم العلوم. هنا يظهر ابن رشد عالمًا بالأجناس،
ويميز بين الصفات المكتسبة جغرافيًّا والصفات الموروثة، وتداخل الاكتساب مع
الوراثة. هناك الوراثة ثم الاكتساب ثم الوراثة من جديد في طبائع الشعوب. ويقارن ابن
رشد بين الحبشة والصقالبة. الأحباش معايشهم غير طبيعية، وأمزجتهم خارجة عن
الإنسانية. وعلى نقيضهم الصقالبة، وكلاهما كذلك نظرًا لقربهم من الشمس أو بعدهم
عنها وليس لخصائص عرقية.
٧٣
ويظهر الأسلوب العربي المميز مثل «لعمري»، «ليت شعري». وقد يظهر الأسلوب الفقهي
مثل «وقد يسأل سائل عن الخمر.» وقد يبدو مستوى التحليل اللغوي وكأنه موروث يظهر على
استحياء مثل ضرورة شرح الأسماء غير المحصلة. فابن رشد يفكر باللغة العربية «وهذا
يسمى عندنا من اسم مشتق من أسماء التمام إذا قوي بزره وعجمه على أن يولد مثله.»
٧٤
وبالرغم من أن الآثار العلوية تتعلق ببعض الموضوعات الإلهية مثل الأجرام السماوية
إلا أن الإلهيات تقل في التلخيص، بل إن ابن رشد يرفض القوم الذين تكلموا بالكلام
الأول الإلهي «لأن أكثر كلامهم خارج عما يفعله الإنسان» مثل أن البحر ليس له كون
وأن مبدأه عيون تنصب فيه، وأن هذه العيون أبدية.
٧٥ لقد أجادوا في قولهم إنه غير متكون ولم يجيدوا في قولهم إن مبدأه
العيون. فالكلام العلمي شيء والديني شيء آخر تمايزًا بين الدين والعلم، وينطلق
تعبير «سبحان» إعجابًا بأرسطو الذي لم ينس شيئًا ولم يقصر في شيء «فسبحان الذي خصه
بالكمال الإنساني وبهذه القوة الإلهية التي وجدت فيه. كان هو الموجود للحكمة
والمتمم لها.» والعجيب غياب البسملة. ويسقط لفظ الحمدلة في آخر المقالة الثانية في
النسخة الأم وكذلك في آخر الثالثة والرابعة.
(٤) تلخيص النفس
وهو تلخيص بالجملة أي تركيز على المعاني
٧٦ يتكون من مقالات ثلاث متساوية كمًّا تقريبًا.
٧٧ ولا تظهر كلمة فصل إلا مرة واحدة في الثالثة. ويعبر ابن رشد عن قصد
أرسطو أي عن الموضوع القصدي الذي هو قصد ابن رشد أيضًا، والتلخيص مكون من عدة فقرات
أكثر من نصفها يبدأ بصيغة «قال» كما هي العادة في التلخيص عندما يبدأ ابن رشد من
قول أرسطو وينتهي إلى ابن رشد. هناك أيضًا صيغة «نقول» أي إن ابن رشد يقول مع أرسطو
على التبادل.
٧٨ ويحيل ابن رشد السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق تأكيدًا على وحدة الموضوع.
٧٩
ويظهر منطق الاستدلال والبرهان في التلخيص في صيغ أفعال البيان مثل «تبين». كما
يظهر لفظ «البرهان» و«الدليل». كما تظهر صيغ الشرط التي تضع المقدمات وتستنبط
النتائج مثل «لما كان»، «إذا كان»، «لما»، «كما أن». وتظهر أفعال الشعور المعرفي
الأخرى مثل «ظن»، «شك»، «لزم»، «تقرر»، «فرض». والفكر معيار واقتضاء له بنيته
الداخلية، ويقينه وصدقه من ذاته كما يبدو ذلك من أفعال «ينبغي».
٨٠ والفكر أيضًا يبحث عن العلة والسبب فهو فكر تجريبي. وباقي الفقرات
تبدأ بالموضوعات ذاتها مثل الحاسة والحواس والمحسوسات، والعقل والمعقولات، والحق
والباطل، والنفس والحركة.
ويتصدر الوافد الموروث على الإطلاق. يتصدر أرسطو بطبيعة الحال، ثم ابن دقليس، ثم
ديموقريطس، ثم أفلاطون، وأنكساغوراش، ثم فيثاغورس، والإسكندر، ثم مالسيس،
وأبورقليطس، وجالينوس، وأوميروش، وثامسطيوس.
٨١ وواضح أن المعركة مع الطبائعيين الأوائل أو الماديين الذين يجعلون
النفس مادة غير مفارقة فهي عند ديموقريطس نار. وهو قول أقرب إلى الحق لأنه حكم على
النفس والعقل وجعلها من طبيعة واحدة، من الأجسام النارية الكرية الشكل التي لا
تتجزأ، وأن النفس تحرك البدن. ولم يصب في قوله إنه لو كان التوسط بين الحاس
والمحسوس خلاء لكان الإبصار أتم لدرجة إبصار النحلة بين السماء والأرض، واعتقد
مالسيس أن التحريك أولى شيء بالنفس. أما ديوجانيس فقد ظن أن النفس هواء لأنه ألطف
بالأشياء، وجعلها أبورقليطس بخارًا. وكان يتصور مع كثير من القدماء أن كل شيء متحرك
ولا شيء ساكن.
وفي مقابل الماديين هناك المثاليون مثل فيثاغورس (وشيعته) الذي يعتبر النفس
الهباء. وقد تكلم رمزًا باللغز على طريقة السياسة المدينية واعتبره الناس حقيقة. وهي
عدد وكأن العدد يحرك الحيوان. وهو مذهب أفلاطون. وقد اعتقد في بعض كتبه أن النفس من
طبيعة المبادئ، وعند أنكساغورش الظاهر أن النفس والعقل شيء واحد وأن العقل هو الذي
يحرك القول، وأن العقل هو سبب الاستقامة. ويظهر أحيانًا من قوله إن النفس غير
العقل، فالعقل مبدأ المعرفة والتحريك، ويُحمد على هذا القول.
وكذلك الأمر عند ديموقريطس مستشهدًا بقول أوميروش في بعض أشعاره أن من فقد حواسه
فقد فقد عقله. والعقل غير مخالط حتى يمكن أن يعرف. وأنبادقليس جعل المبادئ كثيرة
وهي الأسطقسات الأربعة والبغضة والمحبة، وجعل النفس مركبة منهما، وأن كل واحد من
الأعضاء على نسبة من اختلاط الأسطقسات. والعظم عنده ثمانية أجزاء جزءان من الأرض
وأربعة من النار واثنان من الماء والهواء. وكل واحد منها يعرف بشبيهه وهو قول شديد
الغموض، ويلزم منه أن كل مبدأ يمهل أكثر مما يعرف وبالتالي نسبة الجهل إلى الله.
ولم يُصِب ابن دقليس حين نسب هذه الأفعال في النبات إلى الأسطقسات. وكذلك لم يُصِب في
قوله إن الضوء متحرك ينتقل من جسم إلى جسم، من الهواء إلى الأرض، لأنه خارج عن
القياس. ويقول إن الفهم والإحساس شيء واحد كما قال أوميروس أن الحس والعقل شيء واحد.
٨٢
وأرسطو هو مصحح آراء القدماء والمفند لها. رد على آراء أفلاطون بالرغم من شهرته.
فليست النفس عظمًا من الأعظام أي جسمًا من الأجسام. ويبدو أرسطو راويًا عن
القدماء، فقد أتى في نهاية الفلسفة اليونانية كما أتى ابن رشد في نهاية الفلسفة
الإسلامية قبل ازدهارها من جديد في إيران. فالخلد كما يروي أرسطو له عينان تحت
الجلد وليس يبصر إلا ما زعم بعضهم أن يبصر ظلال الأشباح. وقد أحسن الإسكندر تأويل
معنى العقل المنفعل عند أرسطو. أما سائر المفسرين فإنهم فهموا، من قوله إن العقل
الهيولاني غير مخالط، أنه جوهر مفارق، وطبقًا لتأويل الإسكندر العقل بالقوة مجرد
استعداد. إن ثامسطيوس وأغلب المفسرين يرون أن العقل الذي فينا مركب من العقل بالقوة
والعقل بالفعل أي الفعال. ولأنه مركب فإنه لا يعقل ذاته بل يعقل المعاني الخيالية،
ولأنها فاسدة يفسد ويعرض له الغلط والنسيان، ويتأولان قول أرسطو في ذلك. ويحال إلى
باقي أقوال أرسطو في الموضوع تفسيرًا لأرسطو بأرسطو. ويستعمل ابن رشد تشبيهات أرسطو
مثل تشبيه حالة العقل بالخط المنعطف لأنه يشبه أخذ العقل الصورة بالخط المستقيم.
٨٣
ولا يقبل ابن رشد أقوال أرسطو على طول الخط بل يراجع بعضها لأن بها نظرًا. فيقول
مثلًا إن الطعم هو بمنزلة اللمس وفيه نظر، وهو نفس رأي أفلاطون وجالينوس. وقد وعد
أرسطو بأن يفحص موضوع المفارقة في العقل ولكنه لم يحقق وعده؛ إذ لم يجد ابن رشد له
شيئًا في ذلك، وكأن ابن رشد يريد إكمال مذهب أرسطو من داخله حتى يكتمل، ففيه اكتملت الحقيقة.
٨٤
ومن مؤلفات أرسطو يحال إلى البرهان ثم القياس ثم الحس والمحسوس. ومن أفلاطون يحال
إلى طيماوس.
٨٥ فقد تبين في كتاب البرهان أن كل معرفة تنتهي إلى البرهان أو إلى الحد.
فالبراهين تتكون من حدود على ما تبين أيضًا في كتاب القياس، والموجود لا يعني
بالضرورة ما قيل في كتاب البرهان وهو كون المحمول في جوهر الموضوع أو كون الموضوع
في جوهر المحمول، أي الجوهر والعرض. فقد يعني الوجود بالذات ما يقابل الوجود
بالقياس على غيره. أما سبب رؤية الأشياء في الظلمة فقد تم عرضه في كتاب الحس
والمحسوس، وكما تبين في الثامنة من السماع أن لا شيء يحرك ذاته. كما تبين في السادسة
منه أن كل متحرك جسم. وفي الكون والفساد تم عرض موضوع الفعل والانفعال. وقد عبر
أيضًا أفلاطون عن النفس محركًا للبدن في محاورة «طيماوس» وهي في المحاورة جسم من
الأجسام السماوية.
٨٦
ومن الفرق يحال إلى القدماء ثم المهندسين ثم المفسرين، والجدليين، وأصحاب الجدل،
والسوفسطائيين، والطبيعيين، وصاحب علم التعاليم، وصاحب العلم الطبيعي إذ يوجد نفس
المذهبين عند القدماء في النفس، المذهب المادي والمذهب الصوري.
٨٧ وكثير من القدماء يرون أن النفس تحرك البدن. ويختلف أصحاب العلم
الطبيعي في الحدود عن الجدليين نظرًا لاختلاف العلمين، المنطق والطبيعة. ولم يُصِب
الطبيعيون المتقدمون في قولهم إنه لا يوجد شيء أبيض ولا أسود دون بصر ولا طعم ولا
فرق. فهو قول صحيح من وجه وغير صحيح من وجه آخر، صحيح على المحسوس بالفعل وغير صحيح
على المحسوس بالقوة. ويقول المهندسون: إن النقط إذا تحركت أحدثت خطوطًا وإن الخطوط
إذا ركبت أحدثت سطوحًا، والسطوح إذا تحركت أحدثت أجسامًا، فإذا كانت النفس تتحرك
فعليها إحداث ما تحدثه النقطة. والنقط تتطابق عند المهندسين لأنها لا تنقسم. ويقول
السوفسطائيون إن جميع ما يسنح في الذهن ويتصور فهو حق فلا يوجد غلط أصلًا لأن النفس
لا تدرك إلا ما هو موجود في طبيعة الأشياء.
٨٨
ويختفي الموروث كلية بالرغم من إمكانية تعشيق الوافد الموروث في موضوع النفس. وقد
قيل إن الباري لما صاغ النفس من الأسطقسات صاغها أولًا خطًّا مستقيمًا ثم جناها إلى
دائرة ذات عرض ثم قسمها قسمين وكل واحدة سبع دوائر وهي الأفلاك. ويبدو الله تصورًا
حديًّا للنفس لأن تصورها عند ابن دقليس مكونة من ثمانية أجزاء يجعل المبدأ يجهل
أكثر مما يعلم، يعلم ذاته ويجهل سائر المبادئ، وهو ما يستلزم نسبة الجهل إلى الله
عز وجل وهو الفلك عنده، وقال قوم إن النفس شائعة في كل العالم، وهذا هو أحد المواضع
التي يظن منها أن الأشياء كلها مملوءة من الله. وإذا كان الله تبارك وتعالى صيرنا
من السكون إلى الحركة فإن الحركة تكون أفضل من السكون، وأفضل من سائر الحركات.
فأفعال الله كلها كمال وعرية عن النقص. والعقل خليق أن يكون أحق الأشياء مما فينا
وأن يكون شيئًا إلهيًّا غير منفعل أي غير مركب من هَيُولَى وصورة. والحركة المتصلة
الدائمة توجد للآلهة التي هي الشمس والقمر وسائر الكواكب والسموات بأسرها.
٨٩ وكعادة اللسان العربي يضرب ابن رشد المثل بزيد وعمرو كمثل على الشخص
العام في مقابل اللسان اليوناني. فإن فعل البصر يقال له إبصار، وفعل اللون في
الحاسة لا اسم له في اللسان اليوناني.
٩٠ وكما يبدأ التلخيص بالبسملة والعون تنتهي كل مقالة بالحمدلة والتوحيد.
٩١
(٥) تلخيص الحاس والمحسوس
وهو ثلاث مقالات، يشمل الصحة والمرض، والشباب والهرم، والنوم واليقظة والذاكرة
والتذكر، والرؤيا والأحلام وهو ما يعرف باسم الطبيعيات الصغرى.
٩٢ وهو مرتبط بكتاب النفس الذي له تفسير كبير وجوامع. ويتضمن ثلاث مقالات؛
الأولى عن القوى الجزئية للنفس، والثانية عن الذكر والفكر، والنوع واليقظة والرؤيا،
والثالثة عن طول العمر وقصره. وواضح أن التلخيص سابق على مرحلة تالية هي الشرح إذا
شاء الله في العمر كما يَعِد ابنُ رشد.
٩٣ ويبدأ أول التلخيص بفعل «قال» مرة واحدة ولا يتكرر في أول كل فقرة مما
يجعله ينحو نحو الجوامع. كما يبلغ من وضوحها وتركيزها أنها أقرب إلى الجوامع، ومع
ذلك تتكرر أفعال «نقول»، «قلنا» أكثر من فعل «قال» مما يدل على أن ابن رشد هو الذي
يتحدث بمناسبة أرسطو ولا يلخص أرسطو أو يشرحه، إذ تفوق صيغ المتكلم، مفردًا أو
جمعًا صيغة الغائب عشرات المرات.
٩٤
والعنوان حديث للغاية «الحاس والمحسوس» أي الذات والموضوع وكلاهما وجهتان للذات.
٩٥
ويضع ابن رشد «الحاس والمحسوس» في مجموع فلسفة أرسطو الطبيعية مفسرًا الجزء بالكل.
٩٦ ويصف مسار فكر أرسطو بداياته ونهاياته، مقدماته ونتائجه.
٩٧ ويقسم المقالات طبقًا لمنهج الاستدلال، الأولى للبرهان، والثانية
للتعليل. وكثيرًا ما يستعمل ابن رشد أفعال البيان.
٩٨ والفكر اقتضاء ومعيار، وضع لما ينبغي أن يكون. كما يبحث ابن رشد عن
العلل جامعًا بين البرهان والمشاهدة، بين القياس والتجربة. ويستطرد ثم يعود إلى الموضوع.
٩٩
وبطبيعة الحال يتصدر الوافد الموروث على الإطلاق. ويتصدر الوافد أرسطو ثم جالينوس
ثم سقراط وهرقل وفيثاغورس وأفلاطون.
١٠٠ فأرسطو هو مؤلف كتاب النفس، وضع فيه القول الكلي والتعليل. والصناعة
مقصرة عن الطبيعة، والطبيعة أكمل من الصناعة. ويلخص ابن رشد أسباب طول العمر وقصره
ليس بحسب رأي أرسطو وحده بل أيضًا بحسب ما تقتضيه الأصول الطبيعية أي أن ابن رشد
يدرس الموضوع أولًا بنفسه ثم يراجع الأدبيات حوله ثانيًا للتحقق من صدقها.
وعند أرسطو للصورة مراتب بين الطيف والكثيف. وكل حاسة عنده هي الطريق إلى
المعقولات. والذين لم يعدموا هاتين الحاستين هم أكثر عقولًا وأجود إدراكًا.
والذاكرة عند أرسطو تتم بتعاون القوة المحضرة للمعنى والقوة المركبة له في الخيال.
تعمل هذه القوى بمفردها أو بتعاونها مع بعضها البعض، ويبدو أرسطو راويًا عن
الآخرين مثل حجج الذين يقولون إن النفس لا تحتاج إلى المتوسط ثم رد أرسطو عليها.
كما يبطل قول من قال إن القوة المبصرة تمتد من العين إلى الشيء وهو قول أفلاطون.
لقد أخطأ المعبر عبارتها، وصمت حين نام، وبقي مشغول النفس بها. وعند أرسطو الحس
بالفعل جسماني والذي بالقوة روحاني؛ ومن ثَم يجب العدل بين القوتين. وقد تكلم أرسطو
في الرؤيا. وينبغي عنده أن يكون المعبر متعاهدًا لنفسه بالفكرة والنظر والنظافة.
وقد حكى رؤية غريبة عرضت لهرقل.
١٠١
ويخطِّئ ابن رشد جالينوس عندما ظن أن الهواء حساس، والماء عنده الرطوبة الزجاجية
ويسميه أرسطو الرطوبة البردية. والمزاج المعتدل عند جالينوس أحد العوامل المحددة
لطول العمر وقصره. أما فيثاغورس فكان يعتقد أن الضوء يكون في جسد شفاف. وأفلاطون
كان له رأيٌ في إدراك النفس محسوساتها، وهو وجود صور المحسوسات في النفس بالفعل، ولا
تستفيدها من الخارج، والخارج إنما هو منبه ومذكر على الداخل. وقد قال سقراط محتجًّا
في أثينا: «يا قوم إني لست أقول إن حكمتكم هذه الإلهية أمر باطل ولكني أقول إني حكيم
بحكمة إنسانية.» الحكمة الإنسانية العقلية البديهية أقدر على نقد الحكمة الإلهية
المزيفة. فالعقل البشري تطهير للدين المؤسس. ويقول ابن رشد «وسنظهر هذا فيما بعد
بحسب قوتنا واستطاعتنا.»
١٠٢
ويحال إلى كتب أرسطو. ويتصدر كتاب النفس لارتباط الحاس والمحسوس به ثم الكون
والفساد ثم الحيوان ثم النبات والآثار العلوية والبرهان، لما كانت مباحث النفس
جزءًا من الطبيعيات.
١٠٣ فبعد الحديث عن النفس الكلية يبدأ الحديث عن قوى النفس الجزئية مثل
النوم واليقظة، والشباب والهرم، والحياة والموت دخول النفس وخروجه، الصحة والمرض،
طول العمر وقصره، وبعد الحديث عن القوى الجزئية يتم الحديث عن آلاتها. كما أن
التعليل في كتاب النفس وكذلك الضوء والمستضيء والأشفاف، والأصوات، والحاسة المشتركة
بين الحواس الخمس.
١٠٤
ويحال إلى «الكون والفساد» في موضوع الأسطقسات والتجاور والحدوث والكميات مثل
الثقل والخفة، والسواد والبياض، والخشونة والملامسة. ويحال إلى الحيوان والنبات في
أن أشخاص الحيوان والنبات محصلة الوجود محدودة الأسباب، ويحال إلى الرابعة من
الآثار العلوية في أن الكون إنما يتم إذا غلبت القوى الفاعلة في المتكون القوى
المنفعلة أي إذا غلبت الحرارة والبرودة الرطوبة واليبوسة. ويحال إلى القدماء وما
يحكي أرسطو عنهم.
١٠٥
ومن الموروث يظهر ابن سينا بمفرده في تسميته التذكر في الحيوان بالقوة الوهمية.
١٠٦ كما يظهر الأسلوب العربي في ضرب الأمثلة بزيد وعمرو وخالد واستعمال
«ليت شعري». كما يتحدث عن كتب أرسطو التي توجد في «بلادنا».
ولكن يظهر التصور الديني للعالم. فكل شيء في الطبيعة يوحي بالخالق. فمعنى الصورة
تحضره الذاكرة، ورسمها تحضره المخيلة، وتركيب المعاني إلى الرسم تعطيه المميزة
«فسبحان الله الحكيم العليم». وبعد وصف طول العمر وقصره والمزاج المعتدل وجهل النسب
مما يجعل كثيرًا من الزمناء يطيلون العمر وذوي البيئات الجيدة يعطبون يقول: «فسبحان
الله تعالى واهب الأعمار ومقدرها والعليم بها.»
وتكمن بؤرة الحاس والمحسوس في معرفة طبيعة الرؤيا بعد معرفة النوم وما كان من
جنسها من الإدراكات الإلهية وهي ليست من اكتساب الإنسان. وهي ثلاثة أقسام، رؤيا،
وكهانة، ووحي. أنكرها البعض وجعلها اتفاقًا وأثبتها البعض الآخر، وأنكر البعض جزءًا
منها وأثبت جزءًا مثل الرؤية الصادقة والإنذار بما يحدث في المستقبل. والتمايز
بينها من أجل أسبابها، الرؤيا من الملائكة، والكهانة من الجن، والوحي من الله
بواسطة أم بغير واسطة. بالإضافة إلى أن الوحي يأتي للتعريف بأمور علمية مثل ماهية
السعادة وما يحصل بها بأمور كائنة. هذا النوع من الإعطاء شريف جدًّا ومنسوب إلى
مبدأ أرفع وأرفع، إلى أمر إلهي وعناية تامة بالإنسان. وماهية النبوة داخلة في هذا
النوع من الإعطاء نسبة إلى الإله وإلى الأشياء الإلهية وهي الملائكة.
١٠٧
وقد تبين في العلوم الإلهية أن هذه العقول المفارقة تعقل الطبائع الكلية. ومع ذلك
هناك إيمان عقلي يتفق مع إيمان الوحي مثل أن الطبيعة لا تفعل شيئًا باطلًا، تعبيرًا
عن
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ.
كما أن تحليل ابن رشد للمعرفة عن طريق الحواس هو ما يتفق مع حكماء المسلمين، فالسمع
طريق التعلم، والتعلم بالكلام، والكلام بالسمع، وفهم دلالة الألفاظ ليس للسمع بل
للعقل. واستثمارًا لأرسطو، كما أن معنى الشيء في القوة الذاكرة أكثر روحانية منه
في القوة المتخيلة، يألم الروحاني بألم الجسماني، ولا يألم الجسماني بألم الروحاني،
والأكثر روحانية يألم لألم الأقل روحانية، ولا يألم الأقل روحانية لألم الأكثر
روحانية. الفعل الذي بالحس جسماني، والذي بالقوة روحاني، والجسماني أشرف عند الحاس
الجسماني، والروحاني أشرف عند المدرك الروحاني. وليس الروحاني أشرف عند الجسماني،
ولا الجسماني أشرف من الروحاني عند الروحاني، وأما الروحاني على الإطلاق فهو أشرف
من الجسماني، والحس الروحاني إنما يوجد في النوم فقط. والمعنى يدرك بالفكر الروحاني.
القوى الداخلية الروحانية تدرك الأمور الجزئية، وتطَّلع على الأمور الروحانية الموجودة
في العالم كالملائكة والسموات. وهؤلاء هم الذين يقال إنه عرج بأرواحهم. هذا الإدراك
الروحاني في النوم يعطي القوة المتخيلة الكمال الأخير.
١٠٨ فلكل شيء صورتان؛ روحانية وهي الصورة المحاكية، وجسمانية وهي الشيء
المحسوس. والمحاكية أكثر روحانية لأنها أقرب إلى طبيعة الكل تدركه القوة المتخيلة.
ويبدأ التلخيص كالعادة بالبسملة والدعاء في كل مقالة وتنتهي بالحمدلة.
١٠٩