(١) آليات التلخيص
بالرغم من أن معظم شروح وتلاخيص وجوامع ابن رشد كانت لأرسطو وعروضه كانت لجالينوس
إلا أن تلخيصًا واحدًا له كان لجمهورية أفلاطون وهو «الضروري في السياسة» أو «مختصر
كتاب السياسة لأفلاطون».
١ ألفه قبل وفاته بعد سنوات. وقد ورد في بعض الفهارس على أنه جوامع سياسة
أفلاطون، ولكن أقرب إلى التلخيص «سالكين في ذلك سبيل الاختصار كما هي عادتنا في
ذلك.» كما ورد في بعض الفهارس الأخرى وكما هو موجود في العنوان الثاني، وكانت عادة
ابن رشد تسمية التلخيص مختصرًا مثل «المختصر في علم النفس»، «واختصار العلل
لجالينوس»، «مختصر المجسطي»، بل إن لفظ المختصر قد يتجاوز التلخيص كنوع أدبي محدود
إلى المعنى العام بمعنى التركيز الذي قد يشمل الجوامع كما هو الحال في «جوامع ما
بعد الطبيعة». وهو كله نوع من الشرح كما يطلق عليها ابن رشد في نهاية التلخيص
«وبانتهائها انقضى الشرح». وهو كتاب «السياسة» المنسوب إلى أفلاطون إحساسًا
بالعلاقة غير الضرورية بين المؤلف والكتاب وافتراض النسبة الخاطئة على عكس الحكم
الشائع بعدم وعي المسلمين بصحة نسبة الأعمال إلى أصحابها، ويستبعد ابن رشد المقالة
العاشرة؛ لأنها أدخل في صناعة الشعر؛ فالتلخيص يعني حذف ما لا يدخل في الموضوع.
٢
ولا تظهر أفعال القول كثيرًا قبل خطاب مباشر ولا خطاب غير مباشر، فقد ذكرت أفعال
القول دون أفلاطون ثم بعد الفاعل، وليس بالضرورة في أول الفقرة. وذكرت أفعال الشعور
المعرفي مثل الظن والذكر والانتقاد والرؤية إيجابًا وسلبًا. كما تذكر أفعال البداية
والنهاية مثل شرع، انتهى.
٣ وفي مقابل ذلك هناك أيضًا صيغ «قلت»، «قلنا». أفلاطون يقول وابن رشد
يبادله القول في مواقف رشدية خالصة.
وبين الحين والآخر يتوقف ابن رشد عن شرح أفلاطون ﺑ «قال» ويخرج عن نصه ليكتب نصه
الخاص به «نقول» وقد تظل صيغة «قلنا» تعني الاستمرار في شرح يقول وتذكارًا بالماضي،
والموضوعات التي ينفرد بها ابن رشد بصيغة «قلت» هي أشعار العرب التي يحاكي فيها
الشعراء أي شيء حتى ولو كانت الأشياء الدنيا دون اقتصارها على محاكاة الفضيلة،
وموضوع مساواة النساء بالرجال وتمايز كل منهما بأفعال، دون استثناء الشريعة الإمامة
الكبرى، وموضوع العلوم النظرية كالطبيعة وما بعد الطبيعة والعلوم العملية كالأخلاق
والسياسة واعتبار البعض الأمور النظرية أزلية حتى وإن طمستها الأخلاط من زمن الطفولة.
٤
ويحول ابن رشد محاورة «الجمهورية» لأفلاطون إلى خطاب برهاني في السياسة مستخلصًا
«الأقاويل العلمية»، وأضاف عليها أمورًا نظرية منهجية. غرضه «تجريد الأقاويل
العلمية»، وحذف الآراء والأقاويل الجدلية، فالتلخيص تحويل القول الخطابي إلى قول برهاني.
٥
وهنا يضيف ابن رشد مصطلحًا جديدًا هو «الضروري» كما هو الحال في «الضروري في
المنطق»، «الضروري في علم أصول الفقه». ويظهر لفظ الضروري داخل المتن في «المختصر
في علم النفس»، وهو غير التلخيص. كما يظهر لفظ «الضروري» في «جوامع ما بعد
الطبيعة». فلفظ الضروري يعني الأساسي الجوهري، القلب، اللب؛ لذلك يضع ابن رشد
أقاويل أفلاطون ويصنفها طبقًا لأنواع الأقاويل الخطابية والجدلية
والبرهانية.
والفكر منطقي استدلالي، له مقدماته ونتائجه؛ لذلك تبدأ كثير من الفقرات بحروف
وأفعال الشرط وتنتهي بجوابه. يعني التلخيص توضيح الفكر وجعله بيِّنًا بنفسه. فالتلخيص
بيان. ويتخيل ابن رشد المعترض سلفًا ويرد على اعتراضه كما هو الحال في الأسلوب
الكلامي والفقهي، ويستعمل لغة الترجيح عندما لا يكون مستوثقًا من الحكم كما هو
الحال عند القاضي وكما هو مدوَّن في علم أصول الفقه في باب التعارض والتراجيح.
فالراجح عنه أن المدينة لا تستعمل كثيرًا من الأدوية إلا ما ظهر من الأمراض وليس
لذوي العاهات.
٦
ويظهر مسار الفكر عند ابن رشد، وضع الأشياء في ترتيب معين، والتذكير بالسابق
والإعداد للاحق، والتنبيه على ما فات والوعد بما هو آت.
٧ ويبحث عن الرؤية الكلية للموضوع بادئًا عبارته بالجملة.
٨ وهذا مجمل ما قاله أفلاطون.
ويعلن ابن رشد عن نهاية كل موضوع وبداية آخر مما يدل على تعامله مع الموضوعات
وليس مع الأقوال. والفكر قصد وغاية سواء المشروح أو الشارح. وأول عبارة في التلخيص
«قصدنا في هذا القول». كما يبحث ابن رشد عن الأسباب كفقيه، يبحث عن العلل وراء
الأحكام، وهو ليس سببًا واحدًا بل قد يكون عدة أسباب؛ لذلك تبدأ كثير من الفقرات
بلام التعليل و«لذلك».
٩ والفكر اقتضاء، بحث عما ينبغي أن يكون، فكر معياري وليس مجرد فكر وصفي،
وهو إيجاب وسلب، وينبغي ولا ينبغي.
١٠
ويستعمل ابن رشد ثقافته الطبية في التلخيص. فنسبة القسم الأول من العلم المدني
وهو الأخلاق إلى القسم الثاني وهو السياسة كنسبة تناسب الصحة والمرض إلى كتاب حفظ
الصحة وإزالة المرض. فالأخلاق تشخص والسياسة تعالج. والفضائل النظرية لا يكفي
تحويلها من القوة إلى الفعل إلا بقوة العقل مثل صناعة الطب التي تجمع بين النظر
والاكتساب مع طول العمر، وكذب الرؤساء على العامة يصلح لهم كما يصلح الدواء للمريض.
ويتحقق من صدق أقوال أفلاطون الطبية. إذ يرى أفلاطون أن الأمراض التي تحدث في المدن
لم تكن على مذهب اسقليبوس، وأن الأسماء التي وضعت لها مستحدثة، وهي الأمراض التي
سببها سوء أخلاط المواد كالخراجات والحمى. وصناعة القاضي مثل صناعة الطب في
المدينة. كلاهما يزيل الأضرار ويداوي الشرور، القاضي من النفس والطبيب من
البدن.
وتتحول المدينة الجماعية إلى وحدانية التسلط لإفراط في الحرية حتى تصبح حرية
مطلقة فيطرأ على المدينة زنابير على رئاسة القلة. كما تكثر في الأجسام السقيمة نشوء
الأخلاط أي الصفراء والسوداء، فحذر المدنية من ذلك مثل حذر الطبيب، يجب استئصالهم
مثل ما يستأصل الطبيب المرارة والبلغم.
١١
ويضع ابن رشد مصطلحات جديدة مثل «وحدانية التسلط» إشارة إلى الحكم الاستبدادي أو
ما يسميه اليونان «الطغيان». ويستعمل مصطلحات قديمة بمعاني جديدة مثل الجهاد بالبدن
وهو أحد الشروط الخمسة للرياسة مع الحكمة والتعقل التام وجودة الإقناع وجودة
التخييل، فللرئيس قدرة مبدئية على مزاولة الأشياء الجهادية.
١٢
(٢) الوافد
ومن الوافد يتصدر أفلاطون بطبيعة الحال ثم أرسطو ثم جالينوس ثم سقراط وإقليدس، واسقليبوس.
١٣
يشرح ابن رشد الفكرة بتتبعها عبر كتب الجمهورية وفصولها وليس عبارة عبارة على
التوالي مثل التفسير الموضوعي للقرآن وليس التفسير الطولي مثل آرائه في العدل،
وانتفاء الطبائع المعدة للتحلي بالفضائل وطرق تثبيتها. وأفلاطون ابن بيئته وزمانه.
الألحان التي يصفها كانت في زمانه. وابن رشد يفحص الألحان في «زماننا». في زمانه
المدينة ألف مقاتل. تحدث أفلاطون عن الآراء المشهورة في زمانه مثل طبيعة العدل في
المدينة. يبدأ أفلاطون بالتعليم أي بالرياضيات لأن المنطق في أيامه لم يكن قد وجد
بعد. فقد تطور الروح اليوناني من الرياضي إلى المنطقي. والأصوب عند ابن رشد البداية
بالمنطق ثم العدد ثم الهندسة والهيئة والموسيقى ثم المناظر وعلم الأوزان ثم الطبيعة
ثم ما بعد الطبيعة.
١٤
ويعترض ابن رشد على أفلاطون. فليس الشرح موافقة بالضرورة. إذ يمكن الاعتراض على
أفلاطون بأن الناس يمكن أن يكونوا متحابين بالفضائل إذا نشئوا عليها منذ الصغر،
وتغيب إذا فسدت أحوالهم عبر السنين.
١٥ ويستعمل علومه الطبية كمادة للمقارنة مع العلم المدني في الموضوعات
التي تسمح بذلك مثل الرياضة والطعام والشراب لا من حيث هي فضائل بإطلاق كما هو
الحال عند جالينوس بل من حيث فضائل خاصة تستكمل بها النفوس التي تستأهل فعل الحفظ
مثل الشجاعة. ويبين خلط جالينوس في فهم عبارة أفلاطون حول ما إذا كان الأفضل
الإكثار من الاحتفالات جهلًا منه بقصده. فالاحتفالات شرط الشيوع. وينقد حكايات
أفلاطون من أن النفس لا تفنى وما تَئُول إليه نفوس السعداء من ذوي العدل من النعيم
واللذة وما تَئُول إليه نفوس الأشقياء الحيارى. ولا تمثل هذه الحكايات أي شيء لأن
الفضائل الصادرة عنها ليست حقيقية. وإذا قيل إنها فضائل فباشتراك الاسم لأنها من
المحاكاة البعيدة؛ لذلك يحكم عليها بأنها ضلال وليست ضرورية لأن يصير الإنسان بها
فاضلًا بل ربما تسهل عليه الطريق. ولكل شعبٍ حكاياته. ولا فضل لأساطير اليونان في
التمثيل على أساطير غيرهم. وقد اختلف فيها القدماء واضطرب أمر أفلاطون فيها.
١٦
ويلخص ابن رشد السياسة عند أفلاطون واضعًا إياها في منظور أعم مع أرسطو. فالقسم
الأول من العلم المدني هو الأخلاق الذي عرض أرسطو في «نيقوماخيا». والقسم الثاني في
كتاب «السياسة» الذي لم يطلع عليه ابن رشد.
١٧ القصد الأول من هذا العلم العمل وليس العلم كما يقول أرسطو. ويقارن ابن
رشد بين أرسطو وأفلاطون في الحروب في المدينة الفاضلة. الشجاعة فضيلة في الحرب عند
أرسطو وعن اضطرار عند أفلاطون، أما على القصد الأول، فأخذ ما في سائر المدن
بالإكراه، وأما على القصد الثاني، فوقاية المدنية من التهديد من الخارج. كما تتم
مقارنة أفلاطون سقراط. فما لم يكن مؤهلًا لقبول الفضائل الأخلاقية فلا داعي
لمداولته. ولا فرق بين الوجود والعدم لديه؛ لذلك فضل سقراط الموت على الحياة لما
رأى أنه لا يمكنه أن يحيا حياة إنسانية.
ويظهر لفظ «اليونانيين» مما يشير إلى البيئة الأولى التي نشأ فيها النص.
١٨ والفلسفة ليست لليونان وحدهم بل تتوزع الفضائل على الأمم كلها. فلا
يوجد جنس واحد معد للكمالات الإنسانية وبخاصة النظرية منها. وقد اعتقد أفلاطون ذلك
في اليونانيين. ونحن لو سلمنا بذلك فإن الحكمة موجودة في بلدنا هذا الأندلس والشام
والعراق ومصر. وإن وجدت عند اليونان أكثر، ولا يقال إن الحكمة النظرية عند اليونان
أغلب، والعملية أي الغضبية مثل الشجاعة عند الإكراه والجلالقة أقوى. وعند أفلاطون
لا ينبغي لليونانيين استبعاد اليونانيين أو حرق بيوتهم أو اقتلاع أغراسهم لأنه خراب
واستئصال وتمزيق. فهي حروب بين أهل البيت الواحد والإخوة الأعداء. ومن يفعل ذلك
فإنهم عصاة لا كَفَرة، وهو مناقض لمعظم الشرائع. كما يحال إلى السوفسطائيين كفرقة
وإلى الأخلاق إلى نيقوماخيا وطوبيقا والجدل لأرسطو. والسوفسطائيون يعرضون عن كل ما
هو جميل كالفلسفة، ويستحسنون كل ما هو قبيح. كما يشير إلى «القدماء» إحساسًا
بالتغاير في المرحلة التاريخية. فقد اختلف القدماء عما يجب أن يبدأ به التعليم أو المنطق.
١٩
(٣) الموروث
ويتصدر الموروث الوافد مثل «تلخيص الخطابة» و«تلخيص الشعر» ليس كأسماء أعلام بل
كموضوعات ومصطلحات.
٢٠ ويذكر الفارابي راويًا عن أرسطو أقواله في حروب المدينة الفاضلة.
٢١ كما يحيل إليه في الأمور النظرية التي يليق بها أن توضع في أعلى مراتب
التمثيل في كتاب «مبادئ الموجودات».
والحقيقة أن حضور الفارابي أكثر مما هو مذكور منه. فالمدن وأنواعها، المدينة
الفاضلة ومدينة الكرامة والتغلب كلها من ألفاظ الفارابي، ولكن ابن رشد يركب أفلاطون
على التاريخ السياسي للأندلس أكثر مما يركب الفارابي المدينة الفاضلة على تاريخ
المشرق مما قد يدفع إلى الحكم بأن المدينة الفاضلة عند الفارابي أقرب إلى
«اليوتوبيا» بالرغم من أحكامه على العرب والترك والزنج، وأن المدينة الفاضلة عند
ابن رشد أقرب إلى التحليل السياسي لانهيار الحكم في الأندلس، ملوك الطوائف.
الفارابي يطبق نظرية الفيض في السياسة وابن رشد يتحقق من صدق أقوال أفلاطون في قيام
دول الأندلس وسقوطها، من المرابطين إلى الموحدين وربما إلى انهيار النظام الذي يقوم
على وحدانية التسلط.
ويضرب ابن رشد المثل بالمنصور بن أبي عامر على رجال الكرامة الذين لهم السيادة الكلية
وليست السيادة الجزئية، فيكون رجل الكرامة سيدًا ومسودًا في آن واحد. فقد حكى عن
المنصور بن أبي عامر أنه كان يخرج في موكبه في الأعياد وحفلات الأعراس قائلًا: من
يرى أنه أمير المؤمنين فليأمرني فأحضر نفسي أمامه «لأنه لا يكرم النفس إلا من
يهينها.» ويضرب المثل بابن غانية على وحداني التسلط الذي يحمل الناس على التمسك
بالناموس تسترًا على تسلطه. فإذا ما صالح الأعداء وقهر الآخرين عاد إلى المدينة
يثير فيها الرعب والحروب والفتن فيستولي على أموال الناس ظانًّا أنه يسلبهم إرادتهم،
ويعجزهم عن خلقه لانشغالهم بالخير اليومي. ويفتك بأصحاب رءوس الأموال ويسلمهم لأعدائهم.
٢٢
ولا ينبغي إسماع الأطفال الأقاويل التي تحث على الكسب وجمع المال لأنها أكثر
الأشياء إعاقة على الصنائع. وأشعار العرب مليئة بهذه الأمور الساقطة. كما يضرب
المثل بأشعار العرب على المحاكاة بالعبارة؛ فالمحاكاة نوعان، محاكاة بالصوت والهيئة
والعبارة، ومحاكاة بالقصص والرواية. ويضرب المثل بأبي تمام على قدرته على المدح دون
الهجاء. ولا ينبغي أن تكون المحاكاة للسِّفْلة والأراذل بل للموصوفين بالشجاعة وصواب
الرأي والتقوى، كما لا ينبغي للعقلاء محاكاة النساء أو الخدم أو العبيد أو السكارى
أو المخبولين أو الحرف الدنيا كالدباغة والخرازة أو صهيل الخيل ونهيق الحمير أو
خرير الأنهار أو هدير البحار أو قصف الرعد لأنها مثل محاكاة المجانين. وهو كثير في
أشعار العرب.
٢٣
وفي مقابل اليونانيين يظهر العرب، ملك العرب ثم أشعار العرب ثم الشعراء العرب،
وسياسة العرب، واللسان العربي، والعرب.
٢٤ يعطي ابن رشد نموذج غلبة أهل الوبر على إمبراطورية الفرس والمدن
الفاضلة بأعمالها فقط دون آرائها. وهي التي يطلق عليها اسم المدن الإمامية وكانت هي
مدن الفرس القدامى.
٢٥
وأضاف ابن رشد مادة من الحياة العربية السياسية عامة والأندلسية خاصة إما من أجل
إعطاء مزيد من التحليلات على صدق أقوال أفلاطون وإما من أجل إعادة أحكامها وتصحيحها
انتقالًا من الخاص إلى العام ثم نزولًا من العام إلى الخاص ثم عودًا إلى
المطلق.
وقد اقتضى ذلك حذف كثير من المادة اليونانية وإضافة مادة عربية بديلة تقرب من
ثلث الكتاب.
٢٦
هل كان ابن رشد يقصده باختياره هذا نقد الحكم التسلطي في الأندلس مستعملًا عظات
أفلاطون كما استعمل من قبل عظات أرسطو لنقد الأشعرية أم أنه اهتم بالسياسة حتى يغطي
أقسام الفلسفة، المنطق والطبيعيات والإلهيات ثم العلم المدني بتعبير الفارابي الذي
يشمل الأخلاق والسياسة؟ فالمختصر يغطي القسم الثاني من العلم المدني لما كان القسم
الأول هو الأخلاق وكما يصرح أيضًا بذلك في العنوان.
٢٧ ويصرح أيضًا أنه يريد بيان ترتيب العلم المدني وترتيب هذا الكتاب ضمن
مؤلفات أفلاطون الأخرى، مبينًا فوائد وأغراض وأقسام هذا العلم على عادة المسلمين في
الحديث عن العلوم.
وتظهر عدة تعبيرات تدل على أن التلخيص هو إعادة عرض المادة اليونانية في سياق آخر
هو السياق الإسلامي مثل «في زماننا هذا.» «والشرائع.» «في مدننا هذه.» «من أهل بلدنا.»
٢٨ ففي زمان أفلاطون المدينة ألف مقاتل. وهو صحيح في زمانه وبالقياس إلى
الأمم المجاورة. وهو بالنسبة إلى زماننا تقدير غير صحيح، وقد اعترض عليه جالينوس
أيضًا بأنه في زمانه تقدير غير صحيح «ألا ترى أن هذه المدنية (في الأندلس) ينبغي أن
تدفع جميع أمم الأرض.» فالمدنية محددة عند أفلاطون طبقًا لحدودها ومساحتها وطبيعة
الإقليم وطبائع الناس، أما مذهب أرسطو فهو أكثر عمومًا. وهو رأي الإسلام لقول
الرسول «بعثت للأحمر والأسود». وفي زمان ابن رشد كثر السوفسطائيون حتى إذا نجا أحدٌ
من الخلق منهم فقد اصطفاه الله بعنايته السرمدية. ويعدد ابن رشد الغايات في زمنه
والشرائع مثل شريعتنا هذه.
كما يظهر التاريخ الإسلامي ممثلًا في ملوكه مثل ملوك الإسلام، الممالك الإسلامية
وتضم إمبراطورية الفرس، والفرس. في التاريخ الإسلامي يتحدث ابن رشد عن دولة
المرابطين على تماثل مدنية الكرامية مع مدنية الشهوة، فكلاهما نوع واحد. كان
المرابطون في بداية عهدهم يتبعون السياسة الشرعية مع أول القائمين فيهم وهو يوسف بن
تاشفين ثم تحولوا مع ابنه إلى السياسة الكرامية لما أصابه حب المال. ثم تحول صغيره
إلى السياسة الشهوانية ففسدت المدنية في أيامه؛ لذلك ناهض السياسة الشرعية الممثلة
في دولة الموحدين، وهنا يبرر ابن رشد سقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين
كانتقال طبيعي من سياسة المال والشهوة إلى السياسة الشرعية باعتباره فيلسوف
الموحدين. والاجتماعات في الممالك الإسلامية اجتماع بيوت وأسر. ولم يبقَ لهم من
النواميس إلا ما يحفظ حقوقهم الأولى، وأحيانًا يدفعون لمن يقاتل عنهم، وهم قسمان:
عامة وسادة كما كان الحال في فارس «وكما عليه الحال في كثير من مدننا.» وفي هذه
الحال يسلب السادة العامة، ويستولون على أموالهم بما يؤدي إلى التسلط أحيانًا «كما
يعرض هذا في زماننا هذا وفي مدننا هذه.» وسياسة التسلط في غاية التناقض مع السياسة
الفاضلة كما هو الحال في الأجزاء الأمامية الموجودة في المدن الحاضرة «في أيامنا
هذه.» التشابه بين مدن الغلبة والمدن الإمامية كثير لأنه في مدينة الغلبة لا يحقق
السادة للعامة غرضًا بل أغراض أنفسهم. وكثيرًا ما تتحول طبقة الإمامية إلى طبقة
الغلبة وتتستر بالإمامية.
٢٩
كما تظهر البيئة الجغرافية العربية مثل: الأندلس، الشام، مصر، العراق، الأكراد،
الجلاقة.
وقد وصف أفلاطون هذا التحوُّل من السياسة الفاضلة إلى السياسة الكرامية وهو ما حدث
تمامًا في سياسة الحرب القديمة لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة ثم تحولوا عنها أيام
معاوية إلى الكرامية. ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه
الجزر، وتتحول المدينة الجماعية «في زماننا» إلى تسلط مثل الرئاسة التي قامت في
قرطبة بعد الخمسمائة. فابن رشد يحقق المناط كالفقيه، ويعطي أمثلة من التاريخ
الإسلامي على صدق تحليل أفلاطون «وهو شيء بيِّن في أهل زماننا هذا ليس فقط بالقول
فحسب ولكن أيضًا بالحس والمشاهدة.» «لا بالقول وحسب ولكن بالمشاهدة.» وينقد ابن رشد
ما طرأ «عندنا» من الملكات والأخلاق بعد العام الأربعين أي عام ٥٤٠ أي خلال حكم
الموحدين؛ إذ انقطعت أسباب السياسة الكرامية، وصار أمر الناس إلى الدنيويات. ويثبت
منهم على الخلق الفاضل من كانت به فضيلة الشريعة القرآنية. وهم قلة فيهم. فالشريعة
القرآنية هي الحافظة للمدن من التحول إلى مدن الكرامة والتغلب.
ويأخذ ابن رشد أمثلة من الشريعة على نحو غير مباشر لشرح أفلاطون لأسباب الحروب
مثل السلب والنهب؛ فقد ترسل مدينة إلى مدينة أخرى تطلب منها العون. «إننا لا نستعمل
الذهب والفضية فهو حرام في شريعتنا» وهو مسموح به عند آخرين. فيكون الذهب والفضة
أحد دوافع الحرب.
٣٠
والناموس الذي يشرع لبناء المعابد وكذا الصلوات والذبائح والقرابين التي تغرس في
النفوسِ الخضوعَ وتعظيم الإله والملائكة فهو من أمر الله بواسطة النبي. وهي أمور
مشتركة بجميع الشرائع لا فرق بين دين طبيعة ودين وحي، بين ما يقره أفلاطون ويقره
الشرع.
وفي موضوع أن النساء كالرجال فيلسوفات وحاكمات يتحدث ابن رشد بصيغة «قلت» في أن
الرجال والنساء نوع واحد في الغاية الإنسانية؛ ومن ثم فإنهم يشتركون معهم في
الأفعال الإنسانية وإن كان الرجال أكثر كدًّا والنساء أكثر حذقًا مثل الموسيقى
العملية. الرجال يلحنون والنساء ينشدون ويغنون، ومثل صناعة النسيج والخياطة. يعمل
النساء في المدينة ما هو أقل مشقة. أما والحرب من ساكني البراري وأهل الثغور
فللنساء فيه من الذكاء وحسن الاستعداد حكيمات وصاحبات رياسة. وقد ظنت بعض الشرائع
أن هذا الصنف نادرٌ في النساء فمنعت عنهن الإمامة الكبرى. وهذا مشاهد في الحيوان
عندما يقوم الذكور بالدفاع عن الإناث. وفي هذه المدن (الأندلس) اقتصرت النساء على
النسل؛ الإنجاب والرضاعة والتربية والقيام برعاية الأزواج وغير مهيَّأة للفضائل
الإنسانية مثل الأعشاب. فأصبحن حملًا على المدينة وأحد أسباب فقرها. وهن ضعف عدد
الرجال ولا يقمن بالأعمال الضرورية بل يرتقين بأقل الأعمال مثل الغزل والنسيج في
حالة العوز والحاجة. وفي الحرب يشاركن الرجال في الموسيقى والرياضة.
وتقام الأضرحة وبيوت العبادة وأماكن للصلوات لحراس المدينة. ويشاع أنهم يصيرون
ملائكة يخطون على الأرض، وهي الصورة الإسلامية للشهداء الأحياء.
٣١
ويعترض ابن رشد على تحريم أفلاطون استعباد اليونانيين لليونانيين وحدهم وجواز ذلك
لغيرهم وجعل من يقوم بذلك فقط عصاة لا كفرة وهو الذي يعتقده أفلاطون مناقض لما
يعتقده معظم واضعي الشرائع.
ويعتبر ابن رشد من الأسماء المتواطئة «الفيلسوف» و«الملك» و«واضع الشرائع»،
«الإمام». فالإمام في اللسان العربي هو من يؤتم به في أفعاله، وهو الفيلسوف على
الإطلاق. أما كونه نبيًّا فيدخل في موضوع الجزء الأول من العلم أي الأخلاق «إن شاء
الله»، ويكون على جهة الأفضل لا الضروري. فليس هناك مانع من أن يكون الفيلسوف
نبيًّا على جهة الأفضل؛ ومن ثم لا مانع أن يكون فلاسفة الشرق واليونان أنبياء.
وتظهر بعض المصطلحات الفقهية مثل الجهاد بالمعنى الاشتقاقي أو بالمعنى الاصطلاحي.
وقد يكون رئيس المدينة عارفًا بالشرائع التي سنها المشرع الأول ويكون له قدرة على
استنباط مالم يصرح به المشرع الأول فتوى وحكمًا. وهو المسمى عندنا صناعة الفقه. كما
تكون له القدرة على الجهاد، لذلك يسمى ملك السنة. وقد لا تجتمع الصفتان في رجل
واحد، فيكون أحدهما فقيهًا والآخر مجاهدًا. ويشتركان في الرئاسة كما كان الحال عند
كثير من ملوك الإسلام.
كما تظهر الفرق الكلامية إشارة إلى المتكلمين.
٣٢ وتأتي كثير من المواد المضافة من ابن رشد فقيهًا. فالحاجات الإنسانية
أنواع: الضروري والحاجي والتحسيني على ما هو معروف في علم أصول الفقه. وهذا هو الذي
جعل أفلاطون أن يتعلم كل واحد في المدينة أكثر من صناعة. فمادة علم أصول الفقه هي
التي تفسر مقالة أفلاطون.
وهناك منهجان لتحصيل الفضائل: الإقناع والإكراه كما هو الحال في شريعتنا الإلهية،
فالدعوة إلى الله تعالى تكون بإحدى سبيلين؛ سبيل الموعظة وسبيل الجهاد.
ويشرح ابن رشد قول أفلاطون فيما يتعلق بشروط الرئاسة. وهي من خلق الله. فأهل
المدينة إخوة من أم واحدة غير أن الله خلق في واحد الاستعداد للرياسة فخلط جوهره
بالذهب الإبريز وهم المكرمون بين الناس. كما أعد الله خدامًا لهم، وخلط هيئتهم
بالفضة. وخلق العامة في الدرجات الدنيا، وسائر الحرفيين والصناع في بعضهم حديد وفي
البعض الآخر نحاس، وعهد الله إلى الرؤساء ألَّا يراعوا إلا أبناءهم وتقويم طباعهم
نزولًا على أمر العناية في تخلُّط المعادن بعضها ببعض، وما قدره الله لا يغيره
الإنسان. ولا يعلق ابن رشد على ذلك بنظريته العقلانية والطبيعية.
٣٣
ويحيل ابن رشد إلى المتكلمين في مسألة الخير والشر؛ فقد ذكر أفلاطون وحذر من
تلاوة قصص كاذبة للأطفال لأنهم مدعاة للتصديق. كان ذلك مشهورًا في أيامه. وأصبح
مشهورًا عندنا من التمثيل القبيح القول بأن الله علة الخير والشر وهو الخير المطلق
الذي لا يفعل الشر ولا هو علة له، وما يقوله المتكلمون من أهل ملتنا في هذا الشأن
من أن الخير والشر لا يتصوران في حق الله تعالى أن جميع أفعاله خير قول سوفسطائي
بيِّن السقوط؛ لأنه انكار الطبيعة الخاصة للخير والشر، ويكونان بالاتفاق. ينقد ابن
رشد الأشاعرة دون تسميتهم وجعلهم الله العلة الأولى لكل شيء بما في ذلك أفعال
الإنسان في الخير والشر. كما لا ينسب الشر إلى إبليس أو الشيطان فهو تمثيل ضار على
الأطفال وحكاياتهم عن الشياطين وقدراتها على الأفعال العجيبة مما يعزز في نفوسهم
الخوف والجبن. ومن أقبح الأمور أيضًا القول بتشكل الملائكة بأشكال مختلفة وأن هذا
من قبيل المعجزات. والأولى تمثيل الشر بالمادة أو بالظلمة أو العدم. ومع شيوع
النسوة والولدان إذا ارتأى الرؤساء أن الحاجة تدعو إلى الإنجاب أقيمت الأفراح في
المدينة، ويقربون القرابين، ويولمون الولائم، ويصلون ويتوسلون إلى الله تعالى ليلطف
بهم وينشدون الأشعار.
٣٤
ويظهر العلم الإلهي بمناسبة العلم المدني في تقسيم العلوم. فموضوع العلم المدني
الأفعال الإرادية، ومبادئُها الإرادة والاختيار كما أن موضوع العلم الطبيعي الأشياء
الطبيعية ومبادئُها الطبع والطبيعة. وموضوع العلم الإلهي الأمور الإلهية ومبدؤه الله
سبحانه وتعالى. فالفرق بين الإنسان والطبيعة هي الحرية والإرادة والاختيار. ويفرد
ابن رشد فقرات طويلة عن مسألة الخير والشر من الله أم من الإنسان. إذ تقول الشرائع
الموجودة «في زماننا هذا» إنه ما أراده الله تعالى غير الأمر الذي أراده الله منهم
تتم معرفته عن طريق النبوة. فالشرائع معرفة كما تأمر به «شريعتنا» ومعرفة عملية كما
تحض عليه الأخلاق. والقصد واحد؛ لهذا اعتقد البعض أن هذه الشرائع تابعةٌ لحكمة قديمة
أي لا فرق في ذلك بين أنبياء الوحي وأنبياء الطبيعة.
والخير والشر هما النافع والضار والحسن والقبيح. ويوجدان بالطبع لا بالوضع. فكل
ما يؤدي إلى الغاية فهو خير وحسن، وكل ما يضيف إليه فهو شر وقبيح، وهو ما يظهر في
هذه الشرائع وخاصة شريعتنا هذه. وكثير من أهل بلدنا يرون هذا الرأي في شريعتنا
هذه.
أما هؤلاء القوم ممن يعرف بالمتكلمين من أهل ملتنا ويعني الأشاعرة فقد قادهم
النظر في الشرع إلى القول بأن إرادة الله لا تتعلق بما له طبيعة خاصة، وأن كل شيء
جائز وإرادته مخصصة لمراداتها؛ وبالتالي فلا حسن ولا قبح إلا بالوضع، وضع الشرع،
ولا غاية للإنسان إلا بالوضع. وقد انتهوا إلى ذلك لتأويلهم للصفات بأن الله قادرٌ
ومريد، وأن إرادته جائز أن تتعلق بجميع الجزئيات. فهذا تأويل على الشرع، يصفون الله
بصفات ثم يطلبون بعد ذلك موافقة الجزئيات لهذه الصفات دون تناقض معها. وهو قول غير
مقنع لا يتعدى القول الجدلي الذي في الشرع بل هو قول سوفسطائي بعيد عن طبيعة
الإنسان، ويمنع أن يأتي به الشرع، وهو جزء من آراء الجمهور وليس من الصعب الوقوف
على فسادها.
٣٥
ويستعمل ابن رشد لفظ «إلهي» في مقابل «بهيمي» للدلالة على نوعين من الرجال
والاحتياجات وعلاقة السيطرة، في القوم ينطلق البهيمي وفي اليقظة بتحكم الإلهي،
فالأخلاق والسياسة يقومان على بنية واحدة. وحال وحداني التسلط هو حال من لم ينظر
إلى أشرف الأجزاء فيه وهو العقل مثل المجنون والسكران. لا يريد الرئاسة فقط على
الناس ولكن على الملائكة لو استطاع لذلك سبيلًا. وإذا كان لا أسعد من الملك الفاضل
ولا أشر من وحداني التسلط يضع ابن رشد احتمالين أمام الطاغية، إما أن يحصل على
القوة العظيمة وإما استخف به. فإن قدر الله له جيرانًا يستخفون به تخور قوى الطاغية
ويكون أسيرًا لهم.
٣٦
ويستعمل ابن رشد آية قرآنية واحدة وحديثًا واحدًا ومثلًا عربيًّا واحدًا؛ الآية
في شرح خصائص المدينة الفاضلة، الحجم والسكان. فعظم المدينة لا يكون بالضرورة بحجم
سكانها بل ببأسهم
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ. ويظهر حديث واحد «بُعِثْتُ لِلأَحْمَرِ
وَالْأَسْوَدِ.» لبيان انتشار الدعوة للبشر جميعًا، وهو مشابه لمذهب أرسطو على عكس
أفلاطون والذي يريد تحديد حجم المدينة ومساحتها طبقًا لطبيعتها ولطبائع الناس،
وتظهر بعض التعبيرات القرآنية الحرة مثل «وليس عليهم جناح» أو «خفض الجناح» مثل أن
يقوم الولدان مع الوالدين بما يوجب الشرع من خفض الجناح والاحترام. وربما أسقط
المترجم العبري بعض الآيات القرآنية واستبدل بها بعض آيات التوراة. أما المثل
العربي فهو «مصائب قوم عند قوم فوائد.» حول الشياع في المنافع والمضار عند أفلاطون.
٣٧ ويظهر تعبير «اللهم» كأسلوب عربي وليس له دلالة دينية معينة، ويبدأ
التلخيص بالبسملة وينتهي ابن رشد التلخيص بنداء «أدام الله عمركم وأطال بقاءكم.» وهي
«التي ألهمنا الله تعالى إليها بفضلكم أدام الله عزكم.» ويدعو «أعانكم الله على ما
أنتم بصدده وأبعد عنكم كل مثبط بمشيئته وفضله.» وينتهي بالحمدلة.
٣٨