(١) السماع الطبيعي
وهو الكتاب الأول من المؤلفات الطبيعية مع السماء والعالم، والكون والفساد،
والآثار العلوية، والنفس.
١ وتختلف فيما بينها كمًّا. أكبرها السماع الطبيعي وهو الذي يشمل المبادئ
العامة للفلسفة الطبيعية، وأصغرها الكون والفساد.
٢
ويقصد ابن رشد من هذه الجوامع أن يجرد الأقاويل العلمية من كتب أرسطو التي
يقتضيها مذهبه بل وأوثقها فحسب، وحذف ما علق به من أقوال غيره من القدماء لأنها
قليلة الإقناع وغير نافعة في معرفة مذهبه. الغاية إذن تخليص أرسطو من براثن الشراح
والعودة إلى أرسطو وبناء مذهبه. وقد يعتمد بعض آراء القدماء إذا كانت أشد إقناعًا
وأقوى حجة. كان الدافع على هذه الجوامع أن كثيرًا من الناس يعرفون مذهب أرسطو دون
الوقوف على حقيقته.
فيختفي الحق أو ينقلب باطلًا. ويلخص ابن رشد الكتاب مقالة مقالة مجردًا الأقاويل
العلمية بعد حذف الأقاويل الجدلية التي كان أرسطو مضطرًّا إليها في الفحص عن المطالب
الفلسفية والسجال مع آراء السابقين وعلى وجهة الارتياض أي التمرينات العقلية لإخراج
الحقيقة من تطورها، والبنية من تاريخها. تعني الجوامع هنا أيضًا التلخيص أو تلخيص
التلخيص. ويصحح ابن رشد أقوال الشراح عودًا إلى أرسطو، مفسرًا أرسطو بأرسطو. وكل
الذين عاندوا أرسطو من الشرح فأقاويلهم كلها خطابية أو سوفسطائية.
ولا تظهر صيغ أفعال القول على الإطلاق ممثلة في صيغة «قال» إلا مرة واحدة أو
«يقول» إشارة إلى أرسطو، هناك باستمرار صيغ «قال» في ضمير المتكلم الجمع «نقول»،
«نحن نقول» زيادة في التأكيد أو المفرد مع التوكيد مثل «أنا أقول». وتوجد صيغ
المبني للمجهول مثل «قيل» أو «يقال» في حين يكثر تعبير «وبالجملة» أي الرؤية العامة
الكلية للموضوع. وتبدو ثقافة ابن رشد الطبية. فصاحب العلم الطبيعي ينظر في المادة
والصورة كما ينظر الطبيب في الصحة. وموضوع الصحة وإن يكون الطبيب المعالج عربيًّا
أو أعجميًّا هي صفة بالعرض فيه والعلاج صفة ذاتية.
٣
والجوامع أيضًا نظرية في البيان والظهور.
٤ ففي الجوامع وضوح الفارابي وبساطته وشفافيته. كما أن الفكر مسار له
مقدماته ونتائجه، قصده وغرضه، براهينه واستدلالاته التي يعبر عنها بأفعال الشعور
المعرفي مثل ظن، ينبغي أو بأسماء «غرضه»، البرهان، «السبب» أو بأدوات الشرط «إذا كان
…» ومن مقاييس صحة الفكر الاتساق وإلا كان خلفًا. وهو ليس فقط فكرًا استدلاليًّا
برهانيًّا بل هو أيضًا فكر استقرائي يبحث عن العلل والأسباب. ويعرف ابن رشد حدود
السماع الطبيعي ويعود إليه بعد الاستطرادات التي يضطر إليها بإدخال الجزء في الكل
أو تنبيهًا على خلط وتصحيحًا لسوء تأويل.
٥ وبعد كل جانب من جوانب الموضوع يتم الإعلان عنه ثم بداية جانب آخر من
أجل ربط الأجزاء والتذكير بها في كل واحد.
٦
ويتصدَّر الوافد الموروث. ومن الوافد بطبيعة الحال يتصدر أرسطو ثم ثامسطيوس ثم
أفلاطون ثم أنكساجوراس والإسكندر وثاوفرسطس ويحيى النحوي.
٧ ويتبع ابن رشد عادة أرسطو بالبداية بالمادة الأولى لأنها أشهر الأسباب
عند القدماء. ويؤيد فحص أرسطو الشكوك حول السبب الذي هو الغاية. فالطبيعة لا تفعل
باطلًا، ويكشف عن السبب الذي من أجله بدأ أرسطو بالمادة الأولى، وحد الحركة، واتبع
ترتيب أرسطو لشهرته. ويدافع عن نقد أرسطو أن الحركة والزمان متناهيان من أحد
طرفيهما وغير متناهيين عن الطرف الآخر. فذلك ممتنع بالرغم من ظن البعض أن وجود ما
لا نهاية له في الحركة والزمان ممكن بالقوة في المستقبل وممتنع في الماضي اعتمادًا
على حجج واهية. وما يقوله أرسطو ظاهر بيِّن بنفسه. كما يأبى أرسطو أن يكون المقدار
إلى ما لا نهاية. ويستشهد ابن رشد بأمثلته اليونانية مثل «دخول السماء في قبة
جاورس.» دون تغيرها إلى أمثلة عربية مستقاة من البيئة كما فعل ذلك من قبل في تلخيص
الخطابة وتلخيص الشعر، كما فصل أرسطو رأيه في الزمان أنه عدد الحركة أي أنه خارج
النفس. ويتابع ابن رشد أرسطو في بيان أي جنس من المقولات توحيد الحركة بالرغم من أن
أقوال أرسطو بينة بنفسها إنما المهم جهة اليقين والطرق المستعملة في ذلك الاستنباط
عن طريق القسمة والاستقراء وشرح ما يدل عليه الاسم. والطبيعة لا تفعل باطلًا. ويصحح
أرسطو أخطاء القدماء بالاستقراء.
٨
وقد ظن ثامسطيوس أن المتغير عند أرسطو بالتقديم بعد أن أطلقه الشراح وتخصيص
ثامسطيوس لذلك للبرهان وليس لإعطاء سبب الوجود.
٩ ويرى ابن رشد أن هذا كله عدول عن فهم برهان أرسطو. وكان يلزمه شك
القدماء إذا كانت المتغيرات في غير زمان هي بالموضوع غير المتغيرات في زمان. وتجري
الابتداءات عند ثامسطيوس مجرى النهايات في كل شيء، وأن الموضع الذي غلط فيه
ثامسطيوس ومعه ثاوفرسطس ومن تبعهم من المفسرين هو من أحد مواضع الأبدال الذي يؤخذ
فيه الشيء خياله ومثاله، ثم تؤخذ الأشياء الصادقة على خيال الشيء ومثاله صادقة على
الشيء. ولما شعر ثامسطيوس بالتعارض بين حسن الظن بأرسطو مع ما في نفسه من مقدمة
شعرية صرف التأويل إلى قصد أرسطو ضد ظاهر كلامه، وقد أخطأ ثامسطيوس بظنه أن
الاستقراء كافٍ لإثبات أن كل متحرك له محرك. ومذهب أفلاطون أن الزمان والحركة
حادثتان ويوجد أي جزء منهما إلى غير نهاية؛ إذ يقول بتكوين العالم وبأزليته في آنٍ
واحد. وعند أرسطو أن الجزء لا بداية له ولا نهاية له، فالمادة قديمة وأزلية؛
وبالتالي يكون أفلاطون أقرب إلى الخلق في البداية والخلود في النهاية إلى التصور
الإسلامي، ويذكر أفلاطون في لغزه أن قومًا أسرى محبوسين تحت الأرض منذ لا يشعرون
بالزمان أصلًا لأنهم لم يحسوا حركة الجرم العالي وهو محال لأن الحركة سريعة وبطيئة،
وعند الإسكندر الزمان نفسي، ولولا وجود النفس لما وجد الزمان ولا الحركة أصلًا.
ويقول أنكساجوراس بوجود أجسام لا نهاية لها بالعدد غير متماسة كما هو الحال في الخليط.
١٠
ومن أسماء الفرق يتصدر القدماء وقدماء الطبيعيين ثم المشاءون.
١١ يرى كثير من قدماء الطبيعيين أنه لو كانت الصورة من ضرورة المادة لما
كان هناك فاعل ولكان مبدأ الأمور الطبيعية الاتفاق. وكان قدماء الطبيعيين يتصورون
جسمًا طبيعيًّا غير متناهٍ. وقد وقعت للقدماء شكوك على أرسطو لأنهم أخذوا المتغير
على العموم. وإذا أخذوا المتغير فيأخذونه بالتقديم كما يظنه ثامسطيوس، وقد ظن كثير
من المفسرين أن المقدار بمعنى واحد في مقالات السماع. ومع ذلك أغفل القدماء النظر
في أمر الحركة لخفاء حدها عليهم بالرغم من حد أرسطو لها.
١٢
ويحال إلى باقي مؤلفات أرسطو الطبيعية والمنطقية والميتافيزقية. ويتصدر السماء
والعالم ثم الكون والفساد ثم المقولات ثم البرهان (أنالوطيقا الثانية) وما بعد
الطبيعة ثم القياس.
١٣ فالجزء لا يفسر إلا بالكل إعلانًا عن وحدة النسق الأرسطي ليس فقط داخل
كل علم، المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة، بل في علاقة هذه العلوم كلها. فالمنطق
مقدمة للطبيعة، والطبيعة مقدمة لما بعد الطبيعة. وتقوم ما بعد الطبيعة على الطبيعة
فهي تجريد لها. كما تقوم الطبيعة على المنطق فهي محكومة به، والموضوع الطبيعي
الواحد يعرضه أرسطو فيه عدة مؤلفات، النقلة في السماء والعالم والنمو والنقص في
الكون والفساد، والحركة حول الوسط بجسم بسيط في السماء والعالم وكذلك المتناهي
بالنوع، وتحديد الهواء والنار واستقامة الأجرام المتحركة، ويحال إلى الكون والفساد
في موضوع الجزء الذي لا يتجزأ. ويحال إلى «ما بعد الطبيعة» لبيان أن القوة الأزلية
واحدة وأنها ليست هيولانية، وقد اعتبر أرسطو في المقولات «الزمان أو أصناف الكم».
١٤
ومن الموروث يتصدر ابن باجه ثم ابن سينا ثم الفارابي ثم الغزالي.
١٥ وما يقوله ابن باجه في المكان مستقًى بصراحة من الفارابي شرحًا لمعنى
أرسطو أن الجسم السماوي إن وجد في مكان فبالعرض، ولكن يظهر من كلام ابن باجه أن
الكرة في مكان بالذات. وقد قال ابن سينا في الحركة الدورية إنها ليست مكانًا أصلًا
وإنما هي في الوضع وهو ما لا يفهمه ابن رشد، ربما يقصد ابن سينا أنها تنتقل من وضع
إلى وضع دون تعديل في المكان وهو صحيح وإن قصد الحركة في الوضع فخاطئ لأن الوضع ليس
فيه حركة أصلًا. وقد حل ابن باجه الشكل في مكان دون آخر وأجاب على شك القدماء الذين
أطلقوا اسم المتغير بأن الانقسام الذي قصد أرسطو هو الانقسام بالأعراض المتقابلة
والسبب خاص وذاتي ولو كان أرسطو قصد إنتاج الانقسام بالنهايات للمتحرك لما تكلف أن
يبين أن ما ليس بمنقسم ليس بمتحرك.
ويرى أرسطو ومن تبعه من المفسرين أن وجود المبادئ الأربعة التي يرتكز عليها
السماع الطبيعي واضحة بذاتها إلا ابن سينا،
١٦ وابن سينا متعسف مع المشائين في قوله إن هذا الحد للطبيعة غير بيِّن
بنفسه. وإن صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يتكفل بيان ذلك وربما يريد بذلك أن صاحب
الفلسفة الأولى يتكفل بإبطال الأشياء التي يرام بها نفس وجود الطبيعة. فابن سينا
يريد تدمير الطبيعة باسم ما بعد الطبيعة. وابن رشد يريد الدفاع عن الطبيعة باسم ما
بعد الطبيعة. لقد أخطأ ابن سينا بقوله هذا إن الطبيعة مجهولة وإن صاحب العلم الإلهي
يبرهن وجودها؛ ذلك لأن العلم الطبيعي يقوم على مبادئه الخاصة به وليس على العلم
الإلهي لأن المجهول لا يعرف إلا بالمعلوم. والعلم الطبيعي معلوم أكثر من العلم
الإلهي. والعجيب أن ابن سينا يقول إنه يجب على صاحب هذا العلم أن يتسلم وجود المادة
الأولى عن الفلسفة الأولى دون ضرورة لذلك على عكس المحرك الأول الذي يمكن اتباعه في
الفلسفة الأولى، وإذا كان المقصود النظر في العلم الإلهي الذي ينظر في العلم
الطبيعي والموجودات كما ينظر في المحرك الأول لكان صوابًا. وتلك مادة ابن سينا في
شكوكه على المشائين.
١٧
لقد حاول الغزالي عرض مذهب أرسطو في «المقاصد» لكنه لم يحقق الغرض. فكرر ابن رشد
المحاولة لما يرجوه «لأهل زماننا» من منفعة. والطريق إلى ذلك البداية بصناعة المنطق
التي في كتب الفارابي أو «المختصر الصغير الذي لنا»، وهو الضروري في المنطق؛ لذلك
يبدأ ابن رشد الجوامع بالمنطق. وقد تابع «المتكلمون المتعلمون من أهل ملتنا وملة
النصارى» أفلاطون وكل من قال بحدوث العالم في توهمهم أن ما بالعرض هو بالذات فمنعوا
وجود حركة قبل الحركة إلى ما لا نهاية، وقالوا بوجود حركة أولى في الزمان، وألزموا
هذا الشك لأرسطو إلا أنه حد الحركة بالمكان كما توهم الفارابي عليه في كتاب
«الموجودات المتغيرة» وغيره مما أتى بعده كابن سينا وابن باجه وكما توهم قبلهم
جميعًا يحيى النحوي الذي أخذ يرد على أرسطو مثبتًا أن قبل كل حركة حركة. فعرض
«للمتفلسفين من أهل ملتنا» في ذلك شك عبر عنه الفارابي وهو توهم خاطئ على أرسطو
المقصود به إثبات حدوث العالم ويوقع أرسطو في التناقض.
١٨
ويشير ابن رشد في موضوع الزمان إلى أنه لا حاجة إلى افتراض زمان لا يمكن توهمه أو
تصوره. فإذا لم نشعر بالحركة لا نشعر بالزمان وكما عرض «للمتألهين الذين ناموا»
وربما يعني بهم أهل الكهف دون الإشارة إليهم صراحة، وكما هو الحال في انكباب
الإنسان على الأعمال الملذة أو في الاستغراق في النوم وهو ما يعادل الزمان النفسي
الذي لا يمكن قياسه موضوعيًّا. وهو ما افترضه أفلاطون أيضًا في لغز أهل الكهف الذين
لا يشعرون بالزمان لعدم اتصالهم بالحركة.
١٩
ويتضح الأسلوب العربي المميز لابن رشد مثل «ليت شعري» «اللهم» «لعمري». كما
يستعمل عادة العرب في الإشارة إلى زيد للدلالة على إنسان.
٢٠ وهو «الفقيه القاضي» أبو الوليد محمد ابن رشد «رضي الله عنه». هكذا
لقبه الديني الوظيفي الإسلامي. وتبدأ الجوامع بالحمد لله بجميع محامده والصلاة على
المنبعث بالصدق والهدى، وتنتهي بالحمد لله والصلاة على محمد وآله أجمعين، آمين.
وأحيانًا تنتهي بعض المقالات بالحمدلة مثل المقالة الخامسة.
٢١
(٢) السماء والعالم
وهو الكتاب الثاني من الكتب الطبيعية.
٢٢ يعرض غرضه الكلي؛ لذلك تكثر الفقرات التي تبدأ بالجملة.
٢٣ ويذكر بمكانة الكتاب في سائر الكتب الطبيعية لأن «السماء والعالم» يعرض
للأجسام الأولى «البسيطة قبل الأجسام المركبة في الكون والفساد» بعد الحديث عن
الأمور العامة في «السماع الطبيعي». فمسار أرسطو من العام إلى الخاص، ومن البسيط
إلى المركب «على ما يقتضيه التعليم المنتظم».
٢٤ واسم الكتاب هو «السماء» فقط وأضاف إليه اللاتين اللفظ الثاني «العالم»
فعرف باسم السماء والعالم وهي إضافة دقيقة تعبر عن مضمون الكتاب؛ فالإضافة من أجل
الإيضاح ليست فقط سنة المسلمين، مترجمين وشرَّاحًا، بل سبق إليها اليونان واللاتين
أنفسهم. فلا يوجد نقل حرفي مطابق بل نقل حضاري قارئ.
ويقصد ابن رشد من الجوامع الإيجاز والاقتصار على الضروري.
٢٥ ويحذف الأقاويل العنادية والأقاويل التعليمية خاصة وأنها في الكون
والفساد. ولا يوجد موضوع خاص للسماء والعالم بل يضم عدة موضوعات متنوعة بين الرياضة
والطبيعة والمنطق مما يجعل دلالته أيضًا متنوعة. ويطلق ابن رشد على الجرم هذا الجرم
الكبير تشخيصًا للطبيعة مما يبين أن الطبيعة مقدمة للإلهيات وأن كليهما إنسانيات،
إسقاطًا إلى أسفل على الطبيعة أو إسقاطًا إلى أعلى على الميتافيزيقا.
٢٦
وابن رشد هو الذي يقول وليس أرسطو؛ إذ تتردد أفعال القول في صيغة المتكلم المفرد
«نقول» أكثر من أي صيغة أخرى.
٢٧ كما تظهر أفعال البيان والإيضاح في صيغة يتبين أو اسم بيان وباقي أفعال
الشعور المعرفي مثل يسأل، يظهر، يحتج.
٢٨ وتتكرر صيغ البيان أحيانًا داخل الفقرة في الاستدلالات مثل «هذا بيِّن
بنفسه» وبالتالي مقياس الصدق هو الإنسان ومقياس الكذب هو الخلف والتناقض
والاستحالة. كما يظهر القصد والغرض. فأرسطو قصد كلي وليس قولًا أو عبارة.
٢٩ كما يبحث ابن رشد بالإضافة إلى الدليل والبرهان عن العلة والسبب، ويحيل
إلى السابق تذكيرًا أو إلى اللاحق تنبيهًا لبيان وحدة الموضوع خاصة بعد الاستطراد
والجنوح بعيدًا عنه.
٣٠ والجوامع أيضًا مراجعة له وإعادة دراسته وإصدار أحكام بالصواب والخطأ
مثل إبطال الخلاء.
٣١
ويتصدر الوافد الموروث بطبيعة الحال. فالجوامع نوع من العرض والتأليف يظهر قبل
تمثل الوافد وتنظير الموروث.
٣٢ ويتصدَّر الوافد أرسطو (الحكيم)، ثم ثامسطيوس شارحًا، ثم أفلاطون، ثم
الإسكندر شارحًا ثانيًا وبطليموس، ثم أنبادقليس، ثم ايرقليطس.
٣٣ ويحيل إلى أرسطو دفاعًا عن ترتيبه واستعماله بعض المقدمات بالقوة
اتكالًا منه على ما تقدم وجريًا على عادته في الإيجاز والتصريح فقط ببعضها مما أشكل
على ثامسطيوس واعتباره أن برهان أرسطو غير محدود ولا محصل.
٣٤ ويرى أرسطو أن لكل واحدٍ من البسائط ثقلًا. وهذا أمر بيِّن.
٣٥ ويدافع ابن رشد عن رأي أرسطو ضد نقد ثامسطيوس له وأن الثقل هنا يعني
السرعة طبقًا للمشاهدة. ويستعمل ابن رشد حجج أرسطو لإثبات الحركة الطبيعية الدائرية
للأجسام السماوية. وهي حجج بينة بنفسها تصيب الحق من كل جهة وفي كل موضوع كما يقول
أرسطو. والجسم المستدير لا نهاية له. وخطوطه الخارجية غير متناهية. ولا يعسر تأمل
كل ما قاله أرسطو لاكتشاف أنه بيِّن بنفسه وأنه واحد وقد أكثر منها إلا لشهرة الرأي
في زمانه وما لغموضه فيشرحه، فابن رشد يضع أرسطو في سياق عصره. وهو معه في تحديد
معاني الكائن. ويحدد طرقه في الاستدلال والبرهان عن طريق الخلف. والاستقراء كافٍ
لإثبات صحة ما يقوله، ومعرفة كل شيء بحسب الطاقة كما يقول أرسطو، وما يقوله أرسطو
مجتمع عليه، إن لكل جسم طبيعة وعظم جرم الشمس. ينظر أرسطو إلى الموجودات ويعطي
أسباب ظواهرها ونظامها. وابن رشد يدرس نفس الموضوعات ثم تتضح أقوال أرسطو. فالموضوع
هو الذي يشرح القول وليس القول نظرًا لأن الجوامع رؤية للموضوعات قبل صياغاتها في
الأقوال. لقد كلف أرسطو نفسه ببيان من لم يكن بينًا بنفسه؛ ومن ثم لا يحتاج ابن رشد
لتكرار ذلك.
ويعلل ابن رشد تقسيم أرسطو الجهات الست للجسم معمقًا رأيه، ويدافع عنه ضد تشكك
البعض نظرًا لتبادل الجهات بين اليمين واليسار طبقًا لفهم ابن رشد، «فهذا هو الذي
تأدَّى إلى فهمنا من تفسير كلام الحكيم.» ولا يجوز عند أرسطو إذا كانت الحركة أزلية
أن تشتد زمانًا لا نهاية له وتفتر زمانًا لا نهاية له. وقد اعترض ثامسطيوس على قول
أرسطو اعتراضًا بين السقوط بنفسه فلا يوجد سبب غير الذي أعطاه أرسطو، ولا يوجد سبب
خاص كالذي يقول به ثامسطيوس لأن الأمور البسيطة أسبابها بسيطة. كما يرى أن أرسطو
أعطى الأسباب البعيدة دون القريبة لحركة الأجسام. وينكر ثامسطيوس ثقل الهواء والماء
والأرض في مواضعها. وكما يعترض على أرسطو في سبب جذب الإناء المحمي الماء وأنه
الهواء، وهي نفس شكوك الإسكندر، ويدافع ابن رشد عن رأي أرسطو دفاعًا علميًّا بتحليل
عوامل التسخين.
٣٦
ويرى الإسكندر أن النار مقولة باشتراك الاسم، ويصحح مذهب أرسطو، ويزعم أنها ليست
محرقة بل حارة يابسة فقط. ويعتمد في ذلك على ما صرح به أرسطو في «الكون والفساد» من
أن النار الحقيقية ضد الجليد. كما يظن الإسكندر أن هذا الجرم السماوي ليس فقط
متحركًا بل أيضًا متنفسًا. وأنه يسخن بالتوسط كالسمكة البحرية التي تخدر يد الصائد
بتوسط الشبكة.
٣٧ ويرى أفلاطون أن العالم أزلي يفسد ومكون غير فاسد.
٣٨ وهو سؤال أرسطو على أفلاطون كيف يكون أزليًّا يفسد؟ وقد اعتذر ثامسطيوس
عن أفلاطون مبينًا أن العالم مكون ويبقى أزليًّا بمعنى الكون الذي ليس في زمان.
ويرى ابن رشد أن أفلاطون على هذا النحو قد أساء العبارة حين استعمل في التعليم
البرهان اسمًا مستعارًا، واستعمال أمثال هذه الأسماء في التعليم أقرب إلى التغليط
منه إلى التعليم، يقول أفلاطون إن الأرض تثبت في الوسط لتشابه المحيط. ويحال إلى
ايروقليطس الذي يجعل الأسطقسات كلها نار.
ومن مؤلفات أرسطو يحال إلى الكون والفساد ثم السماع الطبيعي، والسماء والعالم،
والقياس، والبرهان، ثم العبارة، وسوفسطيقا وحركات الحيوان، والاقتصاص والأسطقسات
لبطليموس، وطيماوس لأفلاطون، فلا يمكن تفسير الطبيعة إلا بالرجوع إلى المنطق، وبعض
القضايا الطبيعية داخلة في المواضع المغلطة التي عددت في كتاب سوفسطيقى في موضوع النقلة.
٣٩ ويحال إلى «الكون والفساد» في موضوع حركة الجرم السماوي وفي امتزاج
العناصر، ومقارنة الجرم السماوي بسائر الكواكب. بل إن المقالة الثالثة في السماء
والعالم مقدمة للكون والفساد، وأرجأ أرسطو الحديث عن الكمون إلى الكون والفساد.
وكذلك ويحال إلى «السماء والعالم» لبيان وحدة الكتاب وضم موضوعاته في رؤية واحدة.
وقد تبين في «السماع الطبيعي» أن كل حركة على خط مستقيم تبتدئ من حيث انتهت إلى أن
تعود من حيث ابتدأت. ويحال إلى كتاب «حركات الحيوان» لمزيد من التفصيل في الموضوع
ويحال إلى «طيماوس» لإبطال أن الأجسام مركبة من السطوح.
٤٠ ويحال إلى «السماع الطبيعي» تعبيرًا عن وحدة الرؤية وحتى تنتظم في نسق
دون تكرار أجزائه، ويحال إليه في أنواع الحركة والمادة. ويحال إلى «البرهان» لبيان
نموذج اليقين في الاستدلال على صحة المبادئ الطبيعية مثل الحركة الدائرية للأجسام
السماوية وأنواع القضايا المستعملة في السماء والعالم مثل القضية العدمية التي
قوتها قوة الموجبة. ويحال إلى كتاب القياس لأحكام قضايا الطبيعة. ويحال إلى كتاب
الاقتصاص لبطليموس ليبين عدم تطبيق الأكر المحروقة الأقطاب على المتحركات دورًا
حركة طبيعية.
٤١
ويحيل ابن رشد إلى القدماء ثم إلى قدماء الطبيعيين تخصيصًا واليونانيين والبابليين.
٤٢ ويمكن الرجوع للمتقدمين من اليونانيين إلا في الكواكب المتحيرة، وكذلك
لم يكن يظهر للبابليين كثير من الحركات التي أثبتها بطليموس.
٤٣ وآراء القدماء في سكون الأرض في الوسط كلها بينة السقوط. وأقواها قول
أفلاطون بثبوت الأرض في الوسط لتشابه المحيط، وأنبادقليس أن وقوف الأرض قسري. وهي
مسألة حيرت القدماء وطلبوا استيفاءه في سكونها بسبب قسري. ولما أراد القدماء إعطاء
سبب الخفة والثقل مرة يقولون إن سبب الخفة الخلاء وسبب الثقل الملاء، فالخلاء سبب
الحركة وقد بان امتناع وجوده. ومرة يقولون إن الثقيل من أجزاء أكثر، وهذا كله بين
السقوط. كما يحيل إلى المهندسين لبيان مساواة السطح لنفسه. وقد شرح أرسطو في
المقالة الثالثة أمر الأسطقسات الأربعة وهل هي متناهية أم غير متناهية كما كان يرى
قدماء الطبيعيين وبين أنها غير متناهية. ثم بين هل هي واحد كما كان يرى كثير من
الطبيعيين أم كثير، وأبطل أنها واحدة.
٤٤
ومن الموروث لا يظهر إلا ابن سينا ثم ابن باجه.
٤٥ أنكر ابن سينا مقدمة بينة بنفسها لأرسطو وهي أن الحركة الدورية
الموجودة بالحس والقياس طبيعة للجسم المادي. فابن سينا لا يفهم الواضح، وينكر البين
بنفسه. وكيف يقول ابن سينا أيضًا إنه ليس في العلم الطبيعي مقدمات يوقف منها على أن
الكواكب الثابتة في فلك واحد؟ وقد ساعده ابن باجه على ذلك في بعض التعاليق المنسوبة
إليه. ويحيل ابن رشد إلى «المتأخرين من أهل زماننا» الذين زعموا أن الحركة القريبة
التي أثبتها بطليموس لهذا الفلك ليست بحركة تامة.
٤٦
ويظهر أسلوب ابن رشد العربي المميز مثل «لعمري»، «ليت شعري» كما يظهر العلم
الإلهي نظرًا لارتباطه بالعلم الطبيعي. ففي العمل الإلهي يتبين أن المحرك لهذا
الجرم الأقصى واحد بالعدد والصورة إذ كانت الهيولى لا تشوبه، والواحد لا يصدر منه
إلا الواحد وإلا لزم أن يوجد محركان اثنان بالشخص وواحد بالنوع وهو مستحيل. وهو
يشبه دليل الأشاعرة، دليل التمانع الشهير على استحالة وجود إلهين. كما يظهر الباري
في تحديد معنى الكائن كما يقال في الباري تعالى إنه غير كائن. كما يمكن تصور الجرم
السماوي بالعقل كما يتبين في العلم الإلهي. ويبدو التوجه الإسلامي غير المباشر الذي
يدل على اتفاق العقل والوحي في النظر إلى الطبيعة مثل أن الطبيعة لا تفعل باطلًا
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ. وكما بدأت الجوامع بالبسملة تنتهي بالحمدلة.
٤٧
(٣) الكون والفساد
هو أصغر الجوامع وأيسرها
٤٨ ويعرض ابن رشد الموضوع بالجملة أي الموضوع ذاته في مجمله دون تفصيلاته.
وتعني الجوامع هنا كالجوامع السابقة النقاط الأقاويل العلمية كالعادة تجريدًا لها
عن الأقاويل الخطبية والجدلية. أي أن الجوامع لا تتعامل إلا مع الأقاويل البرهانية.
ويتكون من عدة فقرات تبدأ أكثرها بصيغة «نقول». فابن رشد هو الذي يقول ويرى ويحلل
الموضوعات ذاتها وليس أرسطو هو الذي يقول.
٤٩
ويبدأ الموضوع بتحديد الغرض وهو الكلام في التغايير الثلاثة؛ الكون والفساد
والنمو والاضمحلال، والاستحالة والنقلة، طبقًا للترتيب المنظم في التعليم، ومن
البسيط إلى المركب، وكثير من الأقوال بينة بنفسها.
٥٠ وكثير من التحليلات بديهية وكأن الفلسفة هي مجرد ملاحظة الطبيعة
وتحويلها إلى فكر؛ لذلك تنتهي كثير من الفقرات بتعبير «وهذا محال» بعد الاستدلال.
والفكر اقتضاء له معاييره الداخلية وبنيته العقلية؛ لذلك تظهر أفعال مثل «ينبغي»
و«يجب». ويحيل السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق، بيانًا لوحدة الموضوع.
٥١
ويتصدر الوافد الموروث على الإطلاق. ومن الوافد يتصدر أرسطو ثم الإسكندر.
٥٢ يرى أرسطو أن الاستحالة ضربان: استحالة في الجوهر وهو الكون والفساد،
واستحالة في الكيف وهو الكيفية. ويوافق ابن رشد على معظم تحليلات أرسطو مثل أن
اللطافة أسرع شيء إلى الانحصار، وأن النار يابسة لأنها مضادة للجليد، وأن الإنسان
يولده إنسان آخر. ويبرر مصطلحاته مثل أن المحرك أعم من الفاعل. لذلك لا يطلق أرسطو
اسم الفاعل على المحرك الأول. الفاعل عند أرسطو لاتصال الكون والفساد هي الحركة
الأولى المتصلة. ويذهب ابن رشد إلى ما وراء ظاهر قول أرسطو ويؤوله حتى يبين خطأ
الشراح؛ لذلك يقبل بعض شروح الإسكندر على مجمل التسامح «وهذا القول فيه تسامح» ودون
خلاف معه.
٥٣
وكان القدماء على مذهبين؛ الأول عدم التميز بين الكون في الجوهر والاستحالة في
الكيف، فالأسطقس واحد، ومنه ينشأ الكون بالتخلخل والتكاثف؛ والثاني التمييز بين
الاستحالة والكون، الكون في الاجتماع والافتراق، وهو مذهب الجزء الذي لا يتجزأ،
والاستحالة إدراك حسي وليست شيئًا حقيقيًّا لأن الأسطقسات لا تقبل الانفعال لأنها
بسيطة غير مركبة. كما يرى القدماء أن الثقب هو سبب الانفعال هي بالعرض وليست
بالذات. كما يعتمد ابن رشد على أصحاب النجوم في آرائهم في الفلك فهم أصحاب العلم.
٥٤
ويحال إلى باقي كتب أرسطو الطبيعية، السماع الطبيعي ثم السماء والعالم ثم الكون
والفساد والآثار العلوية، والحيوان، والنفس.
٥٥ فالكون والفساد استمرار من الرابعة للآثار العلوية في موضوع ما يتقوم
به جميع الكائنات من المتشابهة الأجزاء واستمرار لكتاب النفس وكتاب الحيوان في
موضوع حركة النمو وأسبابها القصوى. ومن الطبيعي أن يأتي بعد السماء والعالم لأن ما
تحت فلك القمر يأتي بعد ما فوق فلك القمر؛ لذلك أخذ اسم «الكون والفساد». ويحال إلى
السادسة من السماع لإبطال القول بوجود أجرام غير منقسمة وكذلك في موضوع الأجزاء
الكائنة الفاسدة فلا تتكرر في التعليم، والسبب الأقصى للكون والفساد. كما يحال إلى
السماء والعالم في أسباب الكون والفساد.
٥٦ ويحال إلى القدماء. فالثقب عندهم كان سبب الانفصال. وقد ذهب عليهم
السبب الأقصى للكون والفساد كما عاب عليهم أرسطو.
٥٧
ومن الموروث لا يظهر إلا الفارابي المنطقي الذي صنف أنواع البراهين. ثم يضع ابن
رشد أحد الأقوال في الضرب الثاني من الصنف الرابع.
٥٨ وكما تبدأ الجوامع بالبسملة تنتهي بالحمدلة والعون. كما تنتهي كل مقالة
من المقالات الثلاث أيضًا بالحمدلة والعون.
٥٩
(٤) الآثار العلوية
والغرض مرتبط بأغراض الكتب السابقة نظرًا لوحدة الفلسفة الطبيعية
٦٠ ويتكوَّن من أربع مقالات. وبعد أن يستعرض ابن رشد كتب الفلسفة الطبيعية
وعلاقة الآثار العلوية بما قبله وما بعده حتى النفس وأعراضها في الطبيعيات الصغرى
يعد باستئناف الشرح «إن شاء الله إن ساعد العمر ووضع لنا مع ذلك فراغ» مما يدل على
أن الجوامع كانت في مرحلة الشباب. ويتبع ابن رشد ترتيب أرسطو «ونحن نجري في ذلك على
ترتيبه.» وفي أول كل مقالة يعطي ابن رشد تلخيصًا لمطالبها. والغاية كالعادة تجريد
الأقاويل البرهانية من كتب أرسطو. وتظهر ثقافة ابن رشد الطبية في الحديث عن الأشياء
المتنفسة وغير المتنفسة، وقول أبقراط إن سبب العفونة الحرارة والرطوبة.
وتتكون من عديد من الفقرات تتصدرها صيغة «نقول» أي إن ابن رشد هو الذي يقول وليس
أرسطو، وهو الذي يرى الموضوعات مباشرة دون توسط قول أرسطو.
٦١ وهو في نفس الوقت توضيح بالجملة؛ لذلك تكثر الفقرات التي تبدأ «بالجملة».
٦٢ ويحيل الكتاب إلى السابق واللاحق للتذكير بوحدة العمل وضم الأجزاء.
٦٣ ويشعر بالاستطراد ويعود للتذكير بالموضوع، ويعلن بداية موضوع ثم يعلن
نهايته، ويعد بجوامع الحيوان إن قدر الله.
٦٤
ومن أفعال الشعور المعرفي تظهر أفعال «الظن» بالرغم من أن الفكر اقتضاء يقوم على
معايير عقلية ثابتة بصرف النظر عن الآراء.
٦٥ وتكثر أفعال البيان في صيغة «تبين». فالجوامع أيضًا إيضاح عن طريق رؤية
الموضوعات بوضوح وليس شرح الأقوال، وضوح الرؤية في مقابل وضوح القول.
٦٦ والفكر اتساق واستقلال؛ لذلك يكثر لفظ الدليل.
٦٧ ويبحث ابن رشد عن السبب جامعًا بين الاستدلال العقلي والفحص الاستقرائي.
٦٨
ويتصدر الوافد الموروث. ويتقدم أرسطو الوافد ثم الإسكندر شارحًا ثم أوميروس
وبطليموس وإقليدس وأبقراط.
٦٩ ويبدأ أرسطو بوضع أمور تجري مجرى الأصول الموضوعة والمبادئ، وابن رشد
يبدأ بالأصول قبل الفروع وبالعدم قبل الخصوص كما يفعل الأصولي. وقد حكى أرسطو أنه
طلع كوكب عظيم في بلاد الروم من ذوات الأذناب في زمان الشتوة فكانت رجفة شديدة.
فابن رشد يحيل الجغرافيا إلى مكانها وزمانها في بلاد الروم طبقًا لمشاهدة أرسطو
ويعيد الكرة في مشاهداته في قرطبة وبلاد الأندلس. يرى أرسطو أن ما تحت معدل النهار
غير مسكون لإفراط الحر هنالك. وهو حق يقين على ما سيظهر من قولنا.
٧٠ يعتمد ابن رشد على المشاهدة الخاصة يستمد منها آراءه وليس من أقوال
أرسطو «وأما أنا فقد شاهدت.» والبخار الذي يحدث عن الكواكب كما يقول أرسطو ليس
بمحدود بل مختلف كثير الأشكال. وأما إعطاء أسباب الاختلاف ففي علم المناظر والذي
يتكلم فيه أرسطو، وابن رشد هو الذي يدرس وأرسطو هو الذي يؤيد نتائج ابن رشد «وهذا
شيء صرح به أرسطو.» والإنسان، كما يقول أرسطو، يولده إنسان.
ويثبت ابن رشد أقوال أرسطو بالدليل «فقد تبين من هذا صحة ما ذهب إليه أرسطو.» كما
يستدل على صحة براهينه «وهذا البرهان حق.» وحكى أرسطو أن رجلًا أصابه ضعف بصر فكان
يرى بين يديه شيئًا في الهواء لأنه كأنه بمنزلة المرآة إلى الأبصار السليمة. ويتدخل
ابن رشد القاضي لفض الخلاف بين أقوال القدماء ومشاهدة أرسطو. ويخبر أرسطو أن
المشاهدة خلاف ذلك. فما قاله أرسطو موافق للمشاهدة والاستدلال.
٧١
ويظهر من قول الإسكندر أن جنسها وجنس ذوات الأذناب واحد. ويأخذ ابن رشد ظاهر قول
أرسطو فإذا اتفق شرح الإسكندر معه فهو صحيح. وقد ينشأ عدم التطابق من الترجمة «فإن
كثيرًا ما تنقلب مفهومات المعاني عند المترجمين.» الخطأ من الترجمة والإسكندر أعظم
من أن يقع فيه. وأرسطو هو الفيلسوف الكامل. ليس الإسكندر مخطئًا على طول الخط؛ إذ
يوجد قول له في بعض النسخ المنسوبة إليه وهو قول صحيح.
٧٢
ويقوم ابن رشد بدور القاضي بين فريقين متخاصمين: الأول أرسطو وجملة المشائين
الذين يزعمون أن المواضع الممكنة لعمارة الأرض من جهة الشمس هي على جانبي مداراتها
شمالًا وجنوبًا والباقي لا يسكن لفرط الحر أو البرد. والثاني بطليموس وأصحاب
التعاليم أي الفلك يرون أن عمارة الأرض ممكنة تحت معدل النهار طالما أنه لا يمر
بحضيض الشمس أي خط الاستواء المحرقة، وتابعهم ابن سينا. وهو أعدل الأقاليم وزعم أن
قول المشائين مخالف للحس والقياس، «ونحن ننظر في ذلك بحسب ما يمكننا من جهة الأمر
المنظور فيه وذلك بحسب ما في أيدينا في ذلك من المقدمات.»
٧٣
ومن مؤلفات أرسطو يحال إلى الكون والفساد ثم السماء والعالم ثم النفس والسماع
الطبيعي ثم الحيوان ثم الآثار العلوية. والحاس والمحسوس وكتاب إقليدس.
٧٤ وترتيب الكتب الطبيعية يدل على نسق الطبيعيات من حيث غرض كل كتاب. يفحص
الطبيعي «المبادئ العامة للوجودات»، ويبين «السماء والعالم» أجزاء العالم البسيطة
ولواحقها العامة. ثم يفصل «الكون والفساد» الأمور الجزئية.
ثم يبين «الآثار العلوية» أعراض الأسطقسات ولواحقها وهي أقرب إلى الأشياء البسيطة
الجزئية. فابن رشد يراجع ترتيب أرسطو ويقترح ترتيبًا جديدًا متسقًا، من البسيط إلى
المركب. ويلخص مقالات الآراء العلوية ويعدد مقالاتها ضامًّا الثلاثة الأولى في موضوع
الأمور الجزئية، ومؤصلًا الرابعة حول الأجسام المتشابهة الأجزاء ومبينًا ارتباطها
بالكون والفساد. ثم يستأنف عرض الكتب الطبيعية بعد الآثار العلوية مثل المعادن ثم
النبات ثم الحيوان ثم النفس ثم الحاس والمحسوس تخصيصًا للأمور العامة في النفس ثم
القوى الجزئية فيها كالرؤيا والذكر في مقالة مفردة ثم حركة الحيوان المائية. ثم
يفحص أعراض الحيوان كالنوم واليقظة والشباب والهرم، والتنفس والموت والحياة، والصحة
والمرض، وكلها أعراض للنفس، وبعض هذه الكتب حصل عليها ابن رشد وبعضها لم يحصل عليه.
لقد تبين في كتاب السماء والعالم أن الأجسام البسيطة خمسة، الجسم السماوي
والأسطقسات الأربعة وأن النار بسيطة في موضعها لا ثقل لها، وسبب تسخين الشمس وظهر
في كتاب «الكون والفساد» أنها توجد على جهة الاختلاط وتتفق بعض الأدلة مع الثالثة
من كتاب إقليدس.
ومن الفرق يحال إلى المشائين ثم أصحاب التعاليم ثم المفسرين ثم الأقدمين من
الطبيعيين والقدماء.
٧٥ كان الأقدمون من الطبيعيين يرون أن الإبصار إنما يكون بأشعة تخرج من
العينين. وجرت عادة أصحاب المناظر أن السبب في اختلاف الرؤية الشعاع الخارج من
العين. ويقول أصحاب التعاليم إذا وقعت على السطح على زوايا قائمة نفذ. ويتحدث عن جل
أصحاب التعاليم الذين يجعلون مركز فلك الشمس هو مركز فلك البروج.
٧٦
ومن الموروث لا يظهر إلا ابن سينا ثم ابن حيان.
٧٧ فابن سينا تابع بطليموس وأهل التعاليم في أن ما تحت معدل النهار أعدل
الأقاليم وأن رأي المشائين أن المناطق المعمورة من الأرض من جهة الشمس على جانبي
مداراتها من الجهتَيْن الشمالية والجنوبية وما دون ذلك خالٍ لفرط الحر أو البرد.
ويأخذ ابن رشد موقفًا وسطًا بين الرأيين وهو أن ما تحت معدل النهار يسكن لكن لا على
الاعتدال الذي يقوله ابن سينا، بل على جهة الأقاليم التي تمر الشمس بسمت رءوس
أهلها. وقد حكى ابن سينا عن الدخان الأرضي الناتج عن الزلزلة أنه يبلغ في بلاد
خراسان وبلاد الترك القدرة على إذابة نصل ويستحيل دخانًا ويفنى. وربما هي مبالغة من
ابن سينا لأن ابن رشد لم يشاهده «في هذه البلاد»، ولا ذكره أحدٌ من المشائين، وقد
حكى ابن حيان أن حجرًا عظيمًا وقع في الكنبانية بقرطبة ملتهبًا نارًا في وقت صحو
وكان كبريتي الرائحة في طبيعة النشادر وهو غير بعيد في رأي ابن رشد. ويزعم ابن سينا
أن مرآة الرؤية ليست هي جزء من السحاب بل هي هواء مائي يتشكل بحيث يسمح بالرؤية.
وحكى ابن سينا أنه رأى هذا الأثر في حمام كان يقع الشعاع فيه بهيئة ممكن ذلك فيها
لرطوبة هواء الحمام وقربه من الماء «وقد رأيت أنا وجملة من أصحابي هذا القوس في وهج عظيم.»
٧٨
وقد عذل ابن سينا المفسرين على أقوالهم؛ فقد كان أيضًا مراجعًا لكتب المفسرين
يكتشف أخطاءهم مثل ابن رشد. وقال إن إخوانه المشائين لم يأتوا في أمر ترتيب الألوان
بشيء، وزعم أن الأخضر غير الأشقر والأرجواني بالزيادة والنقصان. «ولم يقل هذا الرجل
في ذلك شيئًا بل تشكل عليهم فقط.» وأرسطو أحق من أن ينصرف إليه هذا العذل لأنه على
رأس المشائين. ويقوم ابن رشد بدور القاضي «ونحن ننظر في ذلك على عادتنا.» إذ يصرح
أرسطو بأن الأخضر متوسط بين الأشقر والأرجواني، ويعني المتوسط بين الضدين وهو ما
يتفق مع ظاهر نصه. وربما قصد المفسرون ذلك وأرادوا هذا المعنى فقصرت عبارتهم بسبب
الترجمة أو بسبب آخر، وما سوى ذلك خطأ. وما كان ينبغي لابن سينا استثناء أرسطو من
جملة المشائين ولا يطلق القول.
ومن البيئة الإسلامية تتصدر قرطبة ثم الأندلس، ثم بلاد الترك، وخراسان وفلسطين
وبلاد الحبشان، وبلاد الروم، وكنيسة الغراب.
٧٩ ويضرب ابن رشد المثل «في بلادنا هذه أعني جزيرة الأندلس» على الاعتدال.
ويقابل مشاهدة أرسطو للبركان مع ما شاهده ابن رشد من الزلزلة الحادثة بقرطبة
وجهاتها عام ٥٦٦ﻫ وما صاحبها من دوي وأصوات ولم يكن حاضرًا بقرطبة. وهي أصوات تتقدم
حدوث الزلزلة. وشعر الناس أن الصوت يأتي من جهة الغرب، وشاهد الزلزلة تتولد عن نشأة
الريح الغربي. وتمادى الزلزال بقرطبة نحو عام ولم ينقطع إلا بعد ثلاثة أعوام. وقُتل
في الزلزلة الأولى أناس كثير وهُدمت منازل. وزعموا أن الأرض انشقت بقرب قرطبة بموضع
يسمى أندوجز فخرج منها شبه رماد أو رمل، ومن شاهدها وقع له اليقين. وكانت عامة في
الجهة الغربية من هذه الجزيرة إلا أنها كانت أشد في قرطبة ونواحيها بل كانت بشرق
قرطبة أقوى من قرطبة. وكان غربها أخف. وقد حكى أرسطو أن الأراضي تختلف في كثرة
الزلازل وقلتها بحسب استعدادها لأن يتولد فيها البخار وبحسب انسداد مسامها، وهو ما
يحدث بموضع في الأندلس المعروف بكنيسة الغراب فإنه يسمع فيها دائمًا شبه الدوي
السابق على الزلزلة.
٨٠
ويتحدث عن الجغرافيا من موقعه وليس من موقع أرسطو. فيتحدث عن «شتاؤنا»
و«أقاليمنا» و«بلدنا».
٨١ ويضرب المثل بالبحيرة المنتنة في فلسطين التي لا يعيش فيها حيوان لشدة
الحرارة، ويتحدث عما يوجد في أرض مصر مثل الصدف الموجود في البحار «وهو يوجد كثير
في بلدنا هذا.» كما يضرب المثل بالخطوط التي لا يمكن قراءتها كالخط الذي يوجد اليوم
في هرمي مصر، ويعني الهيروغليفية. ويقول أرسطو إن أرض مصر الآن صائرة إلى الفساد
فإنها كانت بحرًا فيما حكى أوميروس وغيره ثم جفت وهي الآن صائرة إلى الجفاف حتى
تخرب. فهي لا تمطر وإنما يعيش أهلها من النيل الذي يفيض هنالك. ويسمي العرب جميعًا
الرياح النكباء لتنكبها المهاب المشهورة، وعددها في النسخة المنسوبة إلى أرسطو اثنا
عشر ريحًا، وعند الإسكندر أحد عشر ريحًا. كما يكثر المطر في بلاد الحبشان لكثرة
الأبخرة في الجنوب. وتظهر العبارات الإيمانية مثل «إن قدر الله» وعدًا بإتمام جوامع
الحيوان. وكما تبدأ الجوامع بالبسملة في كل مقالة تنتهي بالحمدلة.
٨٢
(٥) النفس
وغرض جوامع النفس أيضًا إثبات من أقاويل المفسرين في علم النفس ما هو أشد مطابقة
للعلم الطبيعي وأليق بغرض أرسطو وهو إنقاذ نصه من الشراح والمفسرين وإرجاعه إلى
موضوعه الطبيعي وهو النفس.
٨٣ ويعد ابن رشد إن فسح الله في العمر وجلى هذا الكرب أن يعيد الكرة بقولٍ
أبين وأوضح وأشد استقصاء، واكتفى بالجوامع بالضروري في الكمال الإنساني وبه يحصل
أول مراتب الإنسان، وهو بحسب «زماننا كثير». الجوامع بحث بالجملة أي مع قدر كبير من
التركيز بدليل بداية كثير من الفقرات بتعبير «وبالجملة»،
٨٤ وابن رشد لا يعرض فقط أو يحلل بل يصحح ويراجع أقوال السابقين ويصدر
أحكامًا بالخطأ وبالصواب. فقد غلط من قال بمفارقة المعقولات. وينتهي ابن رشد من
الجوامع وهي «الأقاويل الكلية من علم النفس حسب ما جرت به عادة المشائين» أي
استمرارًا للتراث الأرسطي. ويَعِد بعدها بالقوى الجزئية في الحاس والمحسوس.
ويتكون من عددٍ من الفقرات بصيغ أفعال القول المعروفة ليس منها صيغة «قال أرسطو»
بل صيغ «نقول»، «قلنا»، «فلنقل»، «أقول»، «قيل»، «القول». فابن رشد هو الذي يتكلَّم
وليس أرسطو.
٨٥ ويحيل ابن رشد السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق من أجل إظهار
وحدة الموضوع، ويعود إلى الموضوع بعد كل استطراد معتذرًا عنه.
٨٦
وتدل أفعال الشعور المعرفي على أن الجواهر بيان لكثرة استعمال لفظ «يتبين»،
بالإضافة إلى باقي أفعال الشعور الأخرى، والفكر اقتضاء وله معاييره الداخلية كما
تظهر في أفعال «يجب» و«ينبغي». والفكر دليل وبرهان واستدلال، ومقدمات ونتائج كما
يظهر من استعمال لفظ «الدليل»؛ لذلك تنتهي حجج الخصوم إلى أنها «خلاف المعقول»،
والجوامع بحث عن الأسباب والعلل يجمع فيها ابن رشد بين الاستنباط والاستقراء،
الاستدلال والمشاهدة، النظر والتجربة. وأهم الأسباب هو السبب الغائي. فالغاية هي
التي تحدد باقي الأسباب.
٨٧
ويتصدر الوافد الموروث على الإطلاق. ويتقدم الوافد أرسطو ثم ثامسطيوس والإسكندر
وجالينوس شارحين ثم أفلاطون ثم أبقراط.
٨٨ ويدرس ابن رشد الموضوع ثم يستشهد بأرسطو في تعبير «كما قال أرسطو.»
فأرسطو هو الشارح وابن رشد هو المشروح، ابن رشد هو الأصل وأرسطو هو الفرع. ويستعمل
ابن رشد تشبيهاته، قوة النفس بقوة العالم، وجرت عادة المتكلمين في النفس من أرسطو
ومن دونه من المفسرين على تفهم هذه القوة. وكثيرًا ما لا يصرح أرسطو بأمور ولكنها
بالضرورة مصادر عليها بالقوة على عادته في الإيجاز. فابن رشد يحول المسكوت عنه إلى
منطوق به. النفس مفارقة كما يقول أرسطو. والعقل المنسوب إلى أرسطو في السادسة من
نيقوماخيا ماضيًا منسوب أيضًا إلى هذه القوة، العقل العملي. ويبدأ ابن رشد بأشد قوى
النفس تقدمًا في الزمان كما فعل أرسطو وهو التقدم الهيولاني. وقد وقع الشراح في
الخطأ عندما حاولوا الجمع بين أفلاطون وأرسطو؛ فقد وضع أرسطو ثلاثة عقول: الأول
هيولاني، والثاني بالملكة وهو كمال الهيولاني، والثالث المخرج له من القوة إلى
الفعل وهو العقل الثالث. واعتبرها أزلية فيقع في التناقض وهو ما حذر الإسكندر منه.
ويتحقق ابن رشد من ذلك من أجل الحكم فيه بين المتخاصمين. فعند الإسكندر العقل
الهيولاني استعداد فقط في حين جعله المفسرون أزليًّا. ويستدعي الفعل بينهما مزيدًا
من التفصيل والبحث والاستقصاء لا تتحملها الجوامع.
٨٩
ويقول ثامسطيوس نقلًا عن الإسكندر إن الأشياء لها طبيعة نارية. ويجعل وغيره من
قدماء المفسرين هذه القوة التي تسمى العدم الهيولاني أزلية لأن كل ما هو بالقوة لا
يكون بالفعل. عنده لا يوجد فرع إلا ويحدث عنه انعكاس ما، وإن الإحساس يأتي بتوسط
الرطوبة بين الحس والمحسوس. وقد يكون اللحم هو المتوسط عنده وعند أرسطو كما يظهر في
كتاب «النفس» بخلاف قوله في «الحيوان». ويعتمد على ظاهر كلام الحكيم، وثامسطيوس
وغيره من قدماء المفسرين يسمون هذه القوة، العقل الهيولاني، ويعتبرونها أزلية
والمعقولات فيها فاسدة لارتباطها بالخيال. وهو تناقض.
ولا يرى الإسكندر أن هذه القوة تحتاج إلى توسط بين الحاس والمحسوس ويرى أن الذي
يعنيه أرسطو بالعقل المستفاد هو العقل الفاعل. وليست الحرارة هي النفس كما ظن
جالينوس، وأن الأعصاب آلة الحس، يستعمل جالينوس هذه الطريقة، طريقة الارتفاع مجردة
في استنباط أفعال هذه الأعضاء في علم المنطق مع كثير من «المشرحين». ويصرح بأن هذه
القوة تدرك محسوساتها الخاصة بتوسط إدراكها. والأمر على غير ذلك وهو ما اعترف به
نفسه في شرحه أبقراط. وأما القول في العقل النظري فقد اختلف فيه المشاءون من
أفلاطون حتى الآن وتعني المشاءون هنا اليونان. ويمكن تعقل الأشياء الكثيرة من غير
إدراكها فالعلم تذكر كما قال أفلاطون.
٩٠
ومن كتب أرسطو الأخرى تتم الإحالة إلى الحس والمحسوس، ثم الحيوان، ثم الكون
والفساد، ثم الآثار العلوية، ثم السماع الطبيعي، والسماء والعالم، والنفس،
والبرهان، ونيقوماخيا حتى الكتب المنطقية والأخلاقية. فالنفس أيضًا موضع للفكر
المنطقي وللسلوك الخلقي.
٩١ وكلها منظومة واحدة. فقد تبين في الأولى من «السماع الطبيعي» أن جميع
الأجسام الكائنة الفاسدة مركبة من هيولى وصورة. وتبين في «السماء والعالم» أن
الأجسام التي توجد صورها في المادة الأولى وجودًا أولًا هي الأسطقسات الأربعة،
وتبين في «الكون والفساد» أنها تكون على جهة الاختلاط والمزاج. وتبين في الرابعة من
الآثار العلوية نسبة هذه الأخلاط. وتبين في الحيوان أنواع التركيبات.
٩٢ والمزاج يكون بالحرارة كما قيل في «الآثار العلوية». وقد لخص أرسطو في
«الكون والفساد» وكيف أن النفس الغائية فيها آلة هذه القوة وهي الحرارة الغريزية،
وقوة الأسطقسات والملموسات.
والمضيء يوجد في المخترع من حيث هو لون، وهو لون باشتراك الاسم كما بان في «الحس
والمحسوس»، ويحيل إليه ابن رشد لإكمال الموضوع وإثبات أن اللون هو اختلاط الجسم
المشف بالفعل وهو النار مع الجسم وتحليل الطعم كاختلاط مع الحرارة، وكذلك موضوع
الطعوم، وما يفارق به الإنسان الحيوان في هذه القوى. ويحال إلى «الحيوان» لمزيد من
التفصيلات عن الحواس كآلة للنفس وهي مشتركة وبسيطة لجميع الحيوان. وقد عدد أرسطو في
«ما بعد الطبيعة» المحالات اللازمة عن اعتبار التصورات خارج الذهن، وعدد في كتاب
«البرهان» جميع الصنائع النظرية، التمامات الأربعة.
٩٣
ومن أسماء الفرق يظهر المفسرون والقدماء، وأصحاب التناسخ، ثم المشاءون ثم
المشرحون، وقدماء المشائين.
٩٤ اختلف القدماء في معنى القوة الناطقة. ورأوا أنه يمكن الإبصار بلا توسط
وأن تتم الإدراكات بالخلاء، ولا يصح نسبة الترتيب إلى الحرارة إلا بالعرض كما كان
يفعل القدماء. ويقول أصحاب التناسخ إن النفس تتغير عند الحدوث من لا هيولى إلى
هيولى ومن هيولى إلى لا هيولى. ويلزم من ذلك أن تكون منقسمة، وهي ليست كذلك. وقد
ذهب عليهم أن تعدد النفس بتعدُّد موضوعاتها وليس بتعدُّد ذواتها.
٩٥
ومن الموروث لا يظهر إلا ابن سينا ثم ابن باجه وكتابه النفس.
٩٦ فتفرق الاتصال لا يبرر وجود جنس آخر من الحس على ما يراه ابن سينا فلا
توجد محسوسات غير المشهورة. وإذا كان ثامسطيوس وغيره من قدماء المفسرين يجعلون
القوة التي يسمونها العقل الهيولاني أزلية في حين أن المعقولات الموجودة فاسدة
لارتباطها بالصور الخيالية فإن ابن سينا وأتباعه يناقضون أنفسهم ولا يشعرون لأنهم
يجعلون المعقولات أزلية حادثة ولها هيولات أزلية وهو تناقض. فإن ما كان بالقوة ثم
أصبح بالفعل حادث. وقد صرح ابن باجه في كتاب النفس أن الحاسة تدرك محسوساتها بتوسط
الرطوبة وهو أيضًا رأي ثامسطيوس.
٩٧
وتظهر بعض التعبيرات الدينية العقلية مثل أن الأجسام المضيئة نوعان الجسم الإلهي
والنار، بالذات في الجسم الإلهي وبالعرض في النار، وربما تظهر بعض التوجهات الدينية
غير المباشرة عن طريق استعمال تصورات خلقية مثل تصور العقول «أشرف» و«أخس» والأعلى
والأدنى تصورات دينية غير مباشرة، كما تظهر بعض التوجهات الإسلامية التي أتت من
العقل اليوناني والتنزيه الطبيعي مثل أن الطبيعة لا تفعل باطلًا
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ. وتظهر
بعض التعبيرات العربية النمطية المعروفة عند ابن رشد مثل ليت شعري، وكما تبدأ
الجوامع بالبسملة تنتهي بالحمدلة.
٩٨