وهو أكبر الجوامع لدرجة الخلط بينه وبين التلخيص.
١ أعلن ابن رشد أنه سيجعلها خمس مقالات ولا توجد إلا أربعة.
٢ يبدأ أولًا بتحديد غرض العلم ومنفعته وأقسامه ومرتبته ونسبته ابتداءً من
الأنفع، وهو التصور العام للعلم قبل الدخول في تفصيلاته. وإذا كانت المقالة الأولى
جديدة للغاية عن مصطلحات علم ما بعد الطبيعة فإن المقالة الثانية في مطالب ما بعد
الطبيعة تعادل الزيتا
Z والهاء
H من كتاب أرسطو، والمقالة الثانية في اللواحق
العامة تعادل الثيتا
Θ الآي
I، والمقالة الرابعة في
مبادئ الجوهر تعادل المقالة الحادية عشرة، اللام في كتاب أرسطو. فمن أربعة عشر مقالًا
يذكرها أرسطو يلخصها ابن رشد في أربعة. أصغر المقالات الأربع الأولى، وتتساوى المقالات
الثلاث الأخرى.
وفيها يتبع ترتيب أرسطو في كل مقالة. ويحيل اللاحق إلى السابق والسابق إلى اللاحق
مما
يدل على وحدة الموضوع، وضم الأجزاء إلى الكل، والعودة من الاستطراد والخروج عن القصد.
٣ وتظهر ثقافته الطبيعية في ضرب الأمثلة الطبية والصيدلية مثل السكنجبين،
ورأي الأطباء في الطبيعة وقواها المدبرة للأجسام. ويتكون من عدة فقرات لا يبدأ أي منها
بالصيغة الشائعة «قال أرسطو» التي أصبحت عنوانًا على التبعية بل «قلنا»، «نحن نقول»،
«يقول»، «يقال»، «القول»، «قيل».
٤
وتبدأ الجوامع بتحديد القصد والغرض وهو التقاط الأقاويل العلمية من مقالات أرسطو
الموضوعة في علم ما بعد الطبيعة على عاداته في الجوامع السابقة. وهي رؤية «بالجملة» أي
الرؤية عن بعد، والجوامع بيان وإيضاح ليس للأقوال بل للموضوعات؛ لذلك تكثر صيغ البيان،
أفعال وأسماء «يتبين». وأنحاء التعليم المستعملة في علم ما بعد الطبيعة هي الوضوح
والاستدلال والأمور البينة أو القريبة من البينة أو أمور بينت في العلم الطبيعي. وإن
غاب البيان وقع الفكر في المحال والشناعة والخلف والتناقض. كما تظهر أفعال الشعور
المعرفي مثل «رأى»، «لاح»، «شك»، «نظر»، «ظن»، «شك». والفكر اقتضاء ومعيار له
مقاييس صحته الداخلية؛ لذلك تتكرر أفعال «ينبغي»، «يقتضي».
٥ الفكر ليس فقط فكرًا استدلاليًّا بل هو فكر تجريبي يبحث عن العلل والأسباب
وليس فقط عن الاتساق، اتساق النتائج مع المقدمات؛ لذلك تكثر الصيغ الشرطية مثل «إذا كان
هذا هكذا».
٦ ويرد ابن رشد سلفًا على السائل «وقد يسأل سائل» أو على العارض «فإن اعترض
أحد» حتى يكتمل بناء الموضوع، ويصبح واضحًا بذاته.
(١) الوافد
ويتصدر الوافد الموروث كالعادة في الجوامع. يتقدم أرسطو ثم أفلاطون ثم الإسكندر
ثم بطليموس وديموقرسطس، ثم فيثاغورس وسقراط وثامسطيوس وفرفوريوس وجالينوس وأفروطاغورش
ومانن.
٧ يحدد أرسطو أقسام العلم: الأول الأمور المحسوسة بما هي موجودة والتي
أجناسها هي المقولات العشر كما فعل الأوائل، والثاني مبادئ الجوهر وهي الأمور
المفارقة ونسبتها إلى المبدأ الأول، والثالث موضوعات العلوم الجزئية وأغاليطها التي
وقع فيها القدماء في المنطق والطبيعيات وعلم التعاليم. ويسمي العقول المفارقة
جواهر. والجوهر موضوع العلم الطبيعي في المقالة الثالثة من «السماع الطبيعي».
ويعذل أرسطو أفلاطون بأن جعل ما هو مبدأ فاعل للشيء الكائن بالعرض أي بعيدًا مبدأ
وفاعلًا للشيء الكائن بالذات أي قريبًا. وهذا هو الفرق بين المذهبين. أرسطو ينكر أن
تكون الصور المفارقة مبادئ فاعلة إلا على أنها كليات في الذهن، ولا يحتاج الأمر أن
تكون صورًا مفارقة كما هو الحال عند أفلاطون في شيء من المتكونات ما عدا العقل
الإنساني. هذا هو الصحيح من مذهب أرسطو، المولد بالذات للشخص هو شخص مثله؛ لذلك
يقول إن الإنسان إنما يولده إنسان، والمعنى المتكون فيه بالعرض وهي الإنسانية تولده
الإنسانية المجردة من المادة وهذا هو الفرق بين مذهب أفلاطون ومذهب أرسطو.
٨ يدرس ابن رشد الموضوع ثم يستشهد بما قاله أرسطو. فابن رشد هو صاحب النص
وأرسطو هو المؤيد ربطًا للتجربة بالقول، وللمشاهدة بالتراث، وللحاضر بالماضي، فقد
وضع أرسطو موضوع القوة والفعل في المقالة الأولى في علم ما بعد الطبيعة تبين أهمية
الموضوع.
وأرسطو يفصل الفلسفة اليونانية إلى قسمين، ما قبله وما بعده. الحقيقة تتطور
وتتشكل وتتخارج وتتضارب وتتباعد إلى آراء ومذاهب ثم يأتي أرسطو ليوحدها ويبينها
ويعرضها ويعلن عن اكتمالها كما يفعل آخر الأنبياء مع الأنبياء السابقين عليه وكما
يفعل القرآن مع الكتب السماوية الأخرى بحيث يكون مصدقًا لها ومهيمنًا عليها.
وتسير الكواكب والأفلاك مثل الشمس والقمر سيرات معتدلة في أبعاد محدودة من الشمس
لذلك يقول أرسطو إن سيرتها سيرة الشمس.
ويتبع ابن رشد طريقة أرسطو لإثبات أن المحرك ليس في هيولى وهو طريق الأولى،
فالأشرف أولى من الأخس وقياس الأولى هو قياس الفقهاء؛ فابن رشد الفقيه هو الذي
يتعامل مع أرسطو الفيلسوف. وهو ما تتضمنه مقالة اللام، وهي التي تتمم العلم، وتكمل
الجزء الأول منه. والفلك أشرف أجزاء الكوكب. وكلما كثرت الكواكب كان أشرف. وقد صرح
أرسطو بذلك. الفلك المحرك بالحركة العظمى هو أشرف الأفلاك. وقد ظن البعض أن مذهب
أرسطو هو وجود محركين بعدد الحركات. وصحح الإسكندر ذلك في مقالته المشهورة «مبادئ
الكل»، وجعل المحرك لجميع الأفلاك محركًا واحدًا. ويحاول ابن رشد الجمع بين الاثنين
بحثًا عن الأولى والأليق. فلكل حركةٍ متحرك طبقًا لأهل التعاليم وإلا لفعلت الطبيعة
باطلًا وعبثًا. وفي نفس الوقت الحركة واحدة بالحقيقة تكون عن محرك واحد.
ويستعمل ابن رشد ظاهر قول أرسطو كي يثبت أن الله عالم بكل شيء وأنه لا يضيره أن
يعلم الأفضل الأخس والأكثر كمالًا الأقل كمالًا والأتم الأنقص لإثبات العلم الإلهي
ضد منكريه.
ويضع ابن رشد قضية الصور في سياقها التاريخي ثم ينتهي كما انتهى إليه أرسطو أنه
«لا حاجة لنا في ذلك إلى القول بالصور.» كان الفلاسفة قبل أفلاطون يَرَوْن أن العلم هو
المحسوسات. ولما رأوها متغيرة نفوا العلم حتى إن البعض منهم إذا سئل عن العلم أشار
بإصبعه أي إنه متغير ومن ثم لا حقيقة أصلًا. وهو الموقف السوفسطائي. ثم أتى سقراط
وأثبت وجود معقولات أزلية خارج النفس مطابقة لما هي عليه في النفس، وهي مبادئ
الجوهر المحسوس فلو كانت موجودة فليس لها غناء في وجود الكائنات. فالجزئي جزء لآخر
مثله شبيه بالنوع ولا يوجد لها صورة خارج النفس.
وثامسطيوس يحتجُّ لأفلاطون على وجود الصور الفاعلة بوجود الحيوانات التي تتولد عن
العفونة. ويظن أن هذا مقربه عند أرسطو دون ما حاجة إلى إدخاله سببًا للكون على ما
يظن في كتاب «الحيوان»، ولكن المبدأ القريب عند أرسطو هو القوة النفسية والبعيد هو
صور الأجرام السماوية، ومن غير المحتمل أن يرى أرسطو أن للصور المفارقة تأثيرًا
عامًّا في جميع ما يتكوَّن بغير واسطة. وقد أخطأ من يظن ذلك وأجرى الأقاويل العلمية
مجرى الأقاويل الشعرية التي تستعمل في تعليم الجمهور. ولولا النفس لم يوجد إلا
التحرك فقط، وهذا بين مما يقوله الإسكندر لأنه ليس غير المتنفس أفضل من المتنفس
لأنه مدبر له ومتقدم عليه. والأزلي أفضل من غير الأزلي.
ويخطِّئ الإسكندر من يقول إن العناية تقع بالجزئيات كلها. وكان أصحاب الرواق يقولون
ذلك لأن العناية تكون للكل لأنها عالمة به؛ لذلك أخطأ بروتاجوراس عندما جعل نسبة
الخير والشر إليه نسبة واحدة. وهو قول غريب على طباع الإنسان ومنافٍ لطبيعة الوجود
التي هي في غاية الخير. فلا يوجد خير أو شر أو يتغلَّب أحدهما للآخر فتعدم الحقيقة؛
وبالتالي يكون تعظيم الله وعبادته خيرًا، وقد يكون الخير في غيره، وكلها آراء شنيعة.
٩
ويتسلم عدد الحركات والأجسام المتحركة من صناعة النجوم التعاليمية الأشهر في
«وقتنا» والذي ليس عليه خلاف بين أهل هذه الصناعة من لدى بطليموس إلى «زماننا» وترك
ما بينهم من خلاف. ووجود فلك تاسع في شك؛ فقد ظن بطليموس أنه توجد حركة بطيئة لفلك
البروج غير الحركة اليومية التي يتم دورها في آلاف السنين، ويضرب المثل بقول
جالينوس على القول بمثال متوسط بين الصحة والمرض تجوزًا على المتوسطات. وقد رأى
فيثاغورس أن هناك كمًّا مفارقًا، وجوده غير وجود هذا الكم المحسوس هو موضوع صناعة
التعاليم. وحصر ديموقراطس فصول الأشياء في ثلاثة فقط: الشكل، والوضع، والترتيب.
وهذا هو سبب عذله. الفصول أكثر من ذلك مثل الجواهر التي فصلوها في الحرارة
والبرودة، وقال فرفريوس وربما أفلاطون وغيره من الفلاسفة المتقدمين إن الجوهر هو
الجسم ذو الأبعاد الثلاثة. ثم اختلفوا بعد ذلك بأن جعل البعض المادة الأولى غير
مصورة بالذات وبعضهم جعلها مصورة بالأبعاد مثل أصحاب المظلة. وتؤدي أفكار القوة
والفعل في العلم إلى شك مانن كما هو مذكور في أنالوطيقا الأخيرة.
ويحال إلى باقي مؤلفات أرسطو المنطقية والطبيعية. فالإلهيات هي طبيعيات مقلوبة،
وكلاهما إنسانيات، إسقاط من الزمن على الواقع عن طريق الوهم. فيذكر البرهان ثم
المقولات، والسماء والعالم، ثم النفس، ثم السماع الطبيعي والحيوان، ثم أنالوطيقا،
وسوفسطيقا، والكون والفساد، وما بعد الطبيعة، وفي مبادئ الكل للإسكندر.
١٠ يحيل ابن رشد إلى كتاب البرهان في تصنيف الصناعة إلى كلية وجزئية،
الكلية التي تنظر في الموجود بإطلاق ودوافعه الذاتية مثل الجدل والسفسطة وما بعد
الطبيعة، والجزئية التي تنظر في أحوال الوجود مثل الطبيعة والتعاليم. وفي البرهان
تظهر أغاليط القدماء في العلوم الجزئية القسم الثالث من علم ما بعد الطبيعة بعد
القسمين الأولين، الموجودات المحسوسة والمبادئ المفارقة. ويعرف التمييز بين الذات
والعرض أيضًا في كتاب البرهان، وتنشأ المجالات من وضع هذه الكليات بذاتها خارج
النفس، وهي مخترعة وكاذبة وليست صادقة. فالصادق هو الذي يوجد في الذهن مطابق لخارج
الذهن كما وضح ذلك في كتاب البرهان. وتعرف الأعراض من كتاب المقولات وكذلك
المتقابلات والمتقدم والمتأخر وأنواع المحمولات. وتبين في سوفسطيقى أن ما لا نهاية
له بالفعل تناقض.
١١
وتم عرض منفعة علم ما بعد الطبيعة «في كتاب النفس» في استكمالها لقواها الناطقة
لحصولها على كمالها الأخير. وقد تبين فيه أيضًا موضوع الكلي في الذهن، المعنى الذي
كان به الكلي كليًّا، جوهر مفارق واحد بعينه أي معقول المعقولات. كما تبين فيه أن
العقل خاص بالقوة الناطقة. وقد تبين في كتاب النفس أن المعقول كمال العاقل وصورته،
وقد لخص «السماء والعالم» أن الفعل مقترن بالقوة أبدًا. والأمور الأزلية لا تشوبها
القوة، ولا يحدث فيها تغير من القوة إلى الفعل. كما بان فيه تتبع الأجزاء بعضها
بعضًا عن محرك واحد وهي منفصلة عنه، وأن الأسطقسات ضرورة معلومة عن الحركة العظمى،
واستكمال الجسم المستدير. ولم يكن في المحرك الذي تبين وجوده في السادسة عشرة من
الحيوان كفاية في محرك دون محرك الكل. ويحال إلى «الكون والفساد» لمعرفة الهيولى
ومراتبها. وقد تعرضت السابعة والثامنة من «السماع الطبيعي» إلى تقدم القوة على الفعل.
١٢
ومن أسماء الفرق يتصدر القدماء ثم اليونانيون، ثم الفلاسفة والمعشرون والأقدمون
من الطبيعيين، والحدث، وأصحاب الرواق، وأصحاب المظلة.
١٣ لقد أخطأ القدماء أخطاء منطقية في أمور واضحة بذاتها ومن ثم تكون مهمة
علم ما بعد الطبيعة حل تلك المغالطات لأن حل الشكوك الواقعة في الموضوعات جزء من
تمام المعرفة بعد حصولها بالجوهر. وقد ظن بعض من سلف من القدماء أن الموجود واحد،
تاركين أنفسهم للمحسوس وانقيادهم إلى أقاويل سوفسطائية. ناقضهم أرسطو فيها في
المقالة الأولى من السماع الطبيعي. اعتبروا الواحد مرادفًا للموجود. وقد اختلف
القدماء فيما يتقوم به هذا الجوهر المحسوس. وهي كلها آراء فاسدة، تبين بطلانها في
العلم الطبيعي مثل القول بالجزء الذي لا يتجزأ. وهو نفس موقف ابن رشد في نقد دليل
المتكلمين في «مناهج الأدلة». ولقد أقر جميع القدماء بوجود المادة. وحكى أرسطو عن
بعضهم وهو ديموقراطس أنه كان يحصر فصول الأشياء في ثلاثة فقط: الشكل، والوضع،
والترتيب. هذه الأبعاد الثلاثة الموجودة في الهيولى الأولى هي التي أجمع القدماء
عليها. وقد أقر جُل القدماء السابقين على أرسطو أن القوة متقدمة على الفعل.
١٤ وجرت عادة اليونانيين على استعمال الاسم المشتق وليس الاسم الصحيح.
فلكل لغةٍ أساليبها في الصفة والنسبة. وقد اشتهر عند الفلاسفة أن القوة هي الاستعداد
للوجود بالفعل. ووصف الشعراء اليونانيون الاضطرار بأنه مؤذٍ ومحزن، وعند أصحاب
المظلة المادة الأولى مصورة بالأبعاد. ورأى الأقدمون من الطبيعيين تقدم المحسوسات
الجزئية إلى الكليات العقلية. وشعر الحدث منهم بالسبب الصوري وتصوره على غير ما هو
عليه، واعتقدوا أن المعقول خارج الذهن وهو أحرى بالوجود من محسوسه. واعتبروا الواحد
سبب كثرة الموجودات. وجعل كثير من القدماء الكثرة عدم الوحدة لأن العدم أخس من
الملكة، والملكة أشرف من العدم. والحقيقة أن الوحدة عدم الكثرة لأن العدم أشرف من
الموجودات الدينية، والترتيب على طريقة الأخرى والأولى والأخلق وهي عادة
المفسرين.
(٢) الموروث
ويظهر الموروث بصورة واضحة أكثر من الجوامع المنطقية والطبيعية نظرًا لإمكانية
التعشيق بسهولة بين الوافد والموروث في الإلهيات. فيتصدر ابن سينا على الإطلاق وكأن
جوامع ما بعد الطبيعة قد كتبت ضده. ثم محمد بن عبد الله، والفارابي، والغزالي، والزرقالي.
١٥ ويظهر ابن سينا منذ الصفحات الأولى؛ إذ ينقد ابن رشد البيانات التي
يستعملها ابن سينا في بيان المبدأ الأول في هذا العلم. ويعتبرها أقاويل جدلية غير
صادقة بالكل ولا تعطي شيئًا على التخصيص؛ لذلك عانده الغزالي في «التهافت». يتسلم
علم ما بعد الطبيعة مبادئه من العلم الطبيعي مثل الحركة. ويتسلم أعداد المحركين من
صناعة النجوم التعاليمية وليست من المبادئ المفارقة التي قد تلوح من العلم الطبيعي
كما يقول ابن سينا. علم ما بعد الطبيعة يبدأ من العلم الطبيعي وليس من المبادئ
المفارقة التي هي أحد أجزائه. ابن رشد يبدأ من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة وابن
سينا يبدأ من ما بعد الطبيعة إلى الطبيعة. يؤسس ابن رشد ما بعد الطبيعة على
الطبيعة، ويؤسس ابن سينا الطبيعة على ما بعد الطبيعة. لقد غلط ابن سينا كل الغلط
عندما رأى أن صاحب العلم الطبيعي لا يمكنه أن يبين أن الأجسام مؤلفة من مادة وصورة
وأن صاحب هذا العلم، وهو ما بعد الطبيعة، هو الذي يتكفَّل ببيانه. «وسقوط هذا كله
بين» بنفسه عند من زاول العلمين.
١٦ ولا يكفي أن يقول إن حركة الميل إنما تكون من حال غير طبيعية إلى حال
طبيعية فإن ذلك لا ينطبق إلا على الأجسام التي حركتها مستقيمة وسكونها طبع ردًّا
على من قال إن حركة الجرم السماوي بشوق الميل فقط. والأجرام أزلية وليس لها قوى
متخيلة كما يزعم ابن سينا لأنها لا توجد بغير حواس كما يبين ذلك علم النفس. ويزعم
أن الأجرام السماوية تتخيل الأوضاع التي تتبدل عليها مما يجعل حركتها ليست واحدة أو
متصلة لتعاقب اختلاف الصور المتخيلة. واختلاف أحوالها.
والعرض كمصطلح فلسفي يدل على العرض في الشيء كما يكرر ذلك ابن سينا. وهو خلط بين
المعقولات الأوائل والمعقولات الثواني «ولكن هذا شأن هذا الرجل في كثيرٍ مما يأتي به
من عند نفسه.»
١٧ وقد ظن أن الواحد بالعدد إنما يدل على عرض في الجوهر وليس على الجوهر
ذاته. ويعيد ما يراه من أن أرسطو يرى أن الصور المفارقة لها تأثير عام في جميع ما
يتكون بغير واسطة ويرى أن الأبعاد الثلاثة تابعة لصورة بسيطة موجودة في الهيولى
الأولى وهي التي بها يفعل الجسم الاتصال والانفصال. وهي واحدة مشتركة بين جميع
الأشياء كالمادة الأولى، والأدق هو لفظ المتجسم لأنه اسم مشتق، والمشتق أدل على
الأعراض. وإذا كان ظاهر كلامه أن هناك صورة بسيطة بالفعل غير صور الأجسام البسائط
التي هي الثقل والخفة فإن مجموع هذه الصورة مع المادة الأولى هي الجوهر الذي عرض له
التجسم أي الأبعاد الثلاثة، وغير ذلك باطل. ولا يلزم الدور الذي يقول به ابن سينا
أنه يلحق في تحديد القوة والفعل فإن المضافين يؤخذ كل منهما في تصور الآخر على
مستوى التصور وليس على مستوى التقدم والتأخر.
وموضوع الواحد المطلق إما أن يكون شيئًا مشتركًا للمقولات العشر كلها كما يقول
ابن سينا، وإما أن يكون شيئًا مفارقًا كما يرى كثير من القدماء في طبيعة الواحد وهو
خطأ. أما رأي ابن سينا من أن الموضوع الواحد أمر زائد على جميع المقولات ويدل أبدًا
وفي كل حال على عرض مشترك للمقولات كلها فيستحيل لأنه يدل على أمر خارج الأشياء
التي يقال عليها. فهو ليس واحدًا بالجوهر لا بالشخص ولا بالمعنى الكلي. وهو قول بين
السقوط بنفسه. وقد ظن ابن سينا أنه من الواجب أن يكون للموضوع عرض موجود في جميع
المقولات، وليس الأمر كما ظن، فإن الواحد بالعدد طبيعته غير طبيعة سائر الموجودات،
الواحد العددي معنى الشخص مجردًا عن الكمية والكيفية، وقد رام ابن سينا أن يجعل
الأمر في العدد مثل الأمر في الخط والسطح في حين أن المنفصل غير المتصل. وقد اعترض
على حد العدد أنه جماعة الآحاد والكثرة المؤلفة منها بأن الكثرة لا تكون جنسًا
للعدد وهي نفس العدد.
١٨
ويذكر من مؤلفات الموروث «الموجودات المتغيرة» للفارابي أو «التهافت» للغزالي.
فقد أطال الفارابي في أنحاء التغليط في المواضع المغلطة تحت موضع النقلة والأبدال
في «الموجودات المتغيرة».
١٩
ويذكر المتكلمون ثم المتفلسفون ثم المترجمون كفرق داخلية، المتكلمون «من أهل
زماننا» في الجزء الذي لا يتجزأ أو الجوهر الفرد. وقد تمسك بهذه الشبهة كثير من
متكلمي زماننا. ونقلوا هذه الأقاويل بأعيانها من أجل إبطال وجود الكليات. ولا
يلزمهم عن ذلك فيما يزعمون ارتفاع المعرفة لأنهم لا يقولون بالمقاييس التي تتألَّف من
مقدمتين ولا بالمحمولات الذاتية. ويصحح كلامهم في مبادئ المنطق والصنائع الجزئية.
٢٠ قبل المتفلسفون لفظ الجوهر وهو اسم منقول من الجمهور، وفضل المترجمون
صياغة لفظ الهوية للترادف مع الموجود. وهو لفظ منقول. عند الجمهور حرف وعند
الفلاسفة اسم. فالهوية من الهو. فعل ذلك بعض المترجمين لأنها أقل تغليظًا من اسم
الموجود إذ كان شكله شكل اسم مشتق.
٢١ ويرى المتكلمون أن الأسباب تتقدم بالزمان المسببات في حين أن الارتباط
بينهما بالذات وليس بالعرض، في التصور وليس في الوجود.
وتبدو روح الحضارة الإسلامية
في المقالة الأولى «في المصطلحات المستعملة في علم ما بعد الطبيعة».
٢٢ فالعلم يبدأ بالمصطلحات أي باللغة كما حول الفارابي من قبل علم المنطق
إلى علم اللغة في كتاب «الحروف» وكما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين النحو
والمنطق بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى بن يونس.
٢٣ والحضارة اليونانية تبدأ بالإشكالات
Aporia والحضارة الإسلامية تبدأ بالمصطلحات أي
باللغة. تبدأ المصطلحات عند الجمهور، في لغة الحياة اليومية ثم تصبح مصطلحات عند
الخاصة، أسماء منقولة أو مشتقة مثل الجوهر.
وتظهر خصائص اللسان العربي وعاداته وأمثلته مثل «عنز أيل» و«عنقاء مغرب» كتصورات
في الذهن وليست كموجودات في الخارج.
كما يظهر الأسلوب العربي في ضرب الأمثلة بزيد وعمرو للإشارة إلى أي إنسان في
موضوع الماهية والوجود، وأن محمدًا هو ابن عبد الله على تكوُّن اسم من اسمين. وتظهر بعض
اللازمات الأدبية مثل «لعمري»، «باطل وأي باطل.» ويشار إلى اللسان العربي في مقابل
اللسان اليوناني. فبينما جرت عادة اليونانيين بتسمية الشيء المتكون باسم مشتق مثل
«خشبي» وليس أرضي ولا سمائي. وهذا النحو من التعليم ساقط في زماننا لأن هذه الدلالة
لا توجد في لغتنا إنما يظهر ذلك في اللسان العربي في الأعراض والفصول. فلا تقول
العرب إن بعض الحيوان نطق بل إنه ناطق. فالصورة غير الموضوع. ولا نقول عن الجسم
بياض بل أبيض، وقد تحمل الأجناس على الأنواع فنقول الصندوق خشب، والإنسان حيوان. بل
إن تعليم اللغة ساقط «في زماننا» لأن النحويين يتبعون أساليب خارج اللسان العربي في
النسبة والأسماء المشتقة.
٢٤
وتذكر البيئة الجغرافية الإسلامية مثل جزيرة الأندلس.
٢٥ وزمان العصر «زماننا» و«وقتنا». وينتقل ابن رشد من المكان والزمان
اليوناني إلى المكان والزمان الإسلامي. فقد ظن بطليموس أنه توجد حركة بطيئة لفلك
البروج عن الحركة اليومية يتم دورها في آلاف السنين. ورأى آخرون مثل الزرقالي «من
أهل بلادنا هذه، وهي جزيرة الأندلس» ومن تبعه منهم أنها حركة إقبال وإدبار. ووضعوا
لذلك هيئة تلزم عنها الحركة. كما ينقل ابن رشد الزمان من الزمان اليوناني إلى زمانه.
فقد كثرت تعبيرات مثل «في زماننا هذا.» في وجود الإمكان متقدمًا على الشيء الممكن
بالزمان وكما هو الحال منذ قديم الدهر، لكن «أهل زماننا» يضعون الإمكان قبل الفاعل،
وينتج عن ذلك عدة محالات في الصنائع الجزئية النظرية. والغلط في هذا المبدأ سبب
لأغلاط كثيرة، وهؤلاء القوم من «أهل زماننا» ينفون أن تكون بالإنسان استطاعة وقدرة
فتبطل الحكمة العملية، وتبطل الإرادات والاختيارات وجميع الصنائع الفاعلة. ولا يرجع
هذا الموقف إلى تحليل نظري بل لتبرير مواقف مسبقة اعتقدوا بصحتها، واتفقوا فيما بينهم
عليها، ويريدون تزييف ما يعاندها وإثبات ما يعاضدها. ويقصد ابن رشد الأشعرية التي
تريد الدفاع عن العقائد الشعبية باسم الفكر، وعن عقائد السلطان باسم النظر.
٢٦
ويظهر الموروث بطريقة غير مباشرة مثل الإلهيات والتي يسهل فيها تعشيق الوافد في
الموروث. فالأسباب للموجودات إما من جهة الطبيعة في العلم الطبيعي أو من جهة الإله في
العلم الإلهي والأشياء الإلهية. والقسم الثاني من علم ما بعد الطبيعة في مبادئ
الجوهر، وهي الأمور المفارقة. ونسبتها إلى المبدأ الأول وهو الله تبارك وتعالى،
صفاته وأفعاله ونسبة سائر الموجودات إليه، وهو الكمال الأقصى، والصورة الأولى،
والفاعل الأول. هناك فرق بين الوافد والموروث في الموضوع والتوجه والقصد. الفرق في
اللغة والمصطلحات وحدها. وأحرى ما قيل في اسم التام هو المبدأ الأول تعالى إذ إنه
هو علة الجميع وليس معلولًا لشيء، كماله من ذاته، وجميع الموجودات مستفيدة كلها
منه. فهو إذن أتم كمالًا. وقد تلطفت العناية الإلهية لاتصال الوجودين أحدهما
بالآخر، القوة والفعل. وهو انتقال من الأقل كمالًا إلى الأكثر كمالًا. وتستفيد
الموجودات كلها من المبدأ الأول الذي هو الله تبارك وتعالى. فالعناية الأولى بنا هي
عناية الله عز وجل، وهو السبب في سكن الناس على الأرض، وكل خير منه، والشر لضرورة
الهيولى. جعلت العناية للحيوان حسًّا، وللإنسان عقلًا، وتتضمن العناية ألا يكون
الشر من عند الله بالرغم من أن كل الأمور ممكنة له. وهو أقرب إلى الموقف الاعتزالي
الذي يُنكر وجود الشر في العالم.
وظن قوم أن العلم الإلهي إنما ينظر في الأشياء المفارقة فقط في حين أنه ينظر
أيضًا في الأمور المحايثة ويضرب المثل على سلب الطرفين، وعدم دخولهما تحت جنس واحد
لا توسط بينهما بالقول في الإله تعالى أنه لا خارج العالم ولا داخله. وقد عظمت
القدماء المتنفس واعتبرته من الآلهة. ويبحث أرسطو وابن رشد عن مبادئ لهذه الأجرام
السماوية الإلهية ابتداء من علم النفس لأن أكثر المبادئ مأخوذة منه؛ لذلك قيل في
الشرائع الإلهية «اعرف ذاتك تعرف خالقك» فالإلهيات نفسانيات أي إنسانيات، ومبادئ
العلم الإلهي في مبادئ علم النفس.
٢٧
وتذكر آيتان قرآنيتان: الأولى
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ
إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا لإثبات وحدانية الغاية ووحدانية المحرك.
فالعلم واحد بمبدأ واحد وإلا كانت الوحدة موجودة له بالعرض. والثانية
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ، وهو أن الكمال يصدر عن الكمال وأن المبدأ لا يصدر عنه إلا
مبدأ. فمحال أن يصدر الجهل عن العلم، والفاضل لا يوجد فيه نقص؛ لذلك تمسك البعض بأن
الله يعلم الأشياء في مقابل آخرين يقولون إن الله لا يعلم ما دونه. وهذا هو المبدأ
الذي تليق به الصفات المتقدمة وتنطبق عليه. هو الله تبارك وتعالى لأن إدخال مبدأ
آخر متقدم على هذا ضرورة أفضل، والطبيعة لا فضل فيها. ويظهر تعبير «إن شاء الله
تعالى» بعد الإعلان عن نهاية قسم من العلم وبداية آخر. وكما تبدأ الجوامع بالبسملة
تنتهي بالحمدلة والسلام على عباده الذين آمنوا.
٢٨