ثانيًا: تفسير وشرح يحيى بن عدي والفارابي
(١) تفسير وشرح ابن عدي
(٢) تفسير وشروح الفارابي
-
(أ)
وللفارابي كلام في تفسير كتاب المدخل.٥ وهو أقرب إلى الجوامع؛ إذ يغيب عنه الوافد والموروث. ويتوجَّه مباشرة نحو الموضوع. فالتفسير هنا ليس للنص بل رؤية لموضوعه. يبدأ بتعريف صناعة المنطق بأنه العقل الذي يتوجه نحو الصواب احترازًا من الخطأ ومنزلته من العقل منزلة النحو من اللسان.
والصنائع قياسية وغير قياسية. وتستكمل القياسية بأجزائها الخمسة؛ الفلسفة، والجدل، والسفسطائية، والخطابة، والشعر. الفلسفة هنا مقدمة للمنطق. وقد تعني منطق اليقين، المقولات، والعبارة، والقياس والبرهان. وغير القياسية هي المهن العملية مثل الطب والفلاحة والنجارة والبناء التي ربما تعتمد على التجربة ولو أن بعض أجزائها في حاجة إلى قياس.
ويستعمل القياس في مخاطبة الآخرين أو مخاطبة الإنسان لنفسه، وكذلك تستعمل الفلسفة في الأمرين معًا. وغاية السفسطائية غلبة المخاطب فيما يظن أنه مشهور دون أن يكون كذلك ومن أجل التمويه. فالسفسطة حكمة مموهة. وغاية المخاطبة إقناع السامع وسكون النفس إلى المخاطب. والشعر يلتمس محاكاة الشيء وتخيله كالفنان الذي يصنع التماثيل.
تعطي صناعة المنطق كل جزء من القياس قوانينه تختبر في الاستعمال؛ ومن ثم تصبح أجزاء المنطق ثمانية. الأول: المقولات وتشتمل على كل المعقولات والألفاظ الدالة عليها. والثاني: العبارة وتشمل أيضًا المعقولات والألفاظ الدالة عليها أيضًا في التركيب الأول كمقدمات. الثالث: القياس وهو القول المركب من عدة مقدمات، والرابع: البرهان الذي يضم القوانين التي تلتئم منها الحدود. هذا بالإضافة إلى الكتب الأربعة الأخرى في منطق الظن؛ الجدل، والسفسطة، والخطابة، والشعر.
وتؤدي صناعة المنطق إلى اليقين. واسمه مشتق من النطق. والمناطقة يسمون الصفات محمولات، والموصوفات موضوعات. والصفات إما بسيطة أو مركبة. البسيط ما دل عليه اللفظ المفرد، والمركب ما دل عليه اللفظ المركب. فاللغة بعد في المنطق. وعلاقة الموضوع بالمحمول أي الصفة بالموصوف علاقة تشابه أو اختلاف، والتشابه أو الاختلاف إما أن يكون في الجوهر أو في الحالات. والتشابه بين محمولين في الجوهر هو المحمول الكلي، وهو الجنس وأخصه النوع. وإذا كان التشابه في الحال يكون غرضًا أو فصلًا أو خاصة، وهي الأسماء الخمسة التي عدها فرفوريوس.
ولما كانت الفلسفة جزءًا من المنطق كما أن المنطق هو الآلة للفلسفة انقسمت الفلسفة إلى أربعة أقسام؛ التعاليم، والعلم الطبيعي، والعلم الإلهي، والعلم المدني؛ فالرياضة تأتي أولًا، وتقوم مقام المنطق. والطبيعيات تسبق الإلهيات. ويظهر العلم المدني، الاجتماع والسياسة والتاريخ كقسم رابع للفلسفة وقسمتها التقليدية الثلاثية إلى منطق وطبيعيات وإلهيات؛ فالمجتمع هو المصب النهائي للحكمة الثلاثية. ثم تنقسم التعاليم أربعة أجزاء؛ العدد، والهندسة، والنجوم، والموسيقى، وهو الرباعي الشهير في الفلسفة المدرسية. والعلم الطبيعي ينظر في الأجسام وطباعها. والعلم الإلهي ينظر فيما ليس بجسم سلبًا للعلم الطبيعي. والعلم المدني يبحث عن السعادة الحقيقة ووسيلة الحصول عليها من المدن إيجابًا أم سلبًا. فالأخلاق أساس العلم المدني، وينتهي التفسير بدعوة الناسخ الفقير إلى ربه بالجامع الأعظم.٦ولا يعني التفسير هنا النوع الأدبي المستقر في «تفسير ما بعد الطبيعة» لابن رشد ولكنه يتداخل مع معاني «المدخل» و«التوطئة» و«الشرح» و«الإملاء»، أقرب إلى الجوامع منه إلى الشرح أو التفسير لأنه يتجه نحو الموضوع مباشرةً. وهي صناعة المنطق. وتقسيمها إلى قياسية وهي خمسة؛ الفلسفة، والجدل، والسفسطائية، والخطابة، والشعر، وغير القياسية للأعمال مثل الطب والفلاحة والنجارة والبناء وسائر الصنائع العملية. وأجزاء المنطق كلها ثمانية: المعقولات (المقولات)، العبارة، القياس، البرهان. ثم يتناول الفارابي بالتفصيل الألفاظ البسيطة والمركبة والمحمول.
أما الفلسفة فأربعة أجزاء؛ التعاليم، والطبيعي، والإلهي، والمدني، والتعاليم أربعة؛ العدد، والهندسة، والنجوم، والموسيقى. ويبدو أن الشرح هنا يعني العرض أو التقسيم أو الإحصاء دون أن يكون نوعًا أدبيًّا محددًا.
وتغيب أسماء الأعلام من الوافد أو الموروث. ومع ذلك يبدو الموروث على نحو مباشر في جعل منزلة المنطق من العقل مثل منزلة النحو من اللسان وكما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين المنطق والنحو بين متى بن يونس تلميذ الفارابي وأبي سعيد السيرافي.٧ -
(ب)
ويعتبر «شرح العبارة» للفارابي نموذجًا سابقًا على أرسطو.٨ الشرح، تفصيل النص فقرة فقرة وبيان القصد والغرض والمراد من الكتاب وكثرة ذكر أسماء الأعلام والمفسرين والفلاسفة والمصطلحات ثم صب هذا كله في الموروث العام من اليونان إلى التراث العربي والفارسي والهندي بالرغم من أن كل أعماله في التلخيص والتأليف.٩ وهو شرح مسهب وطويل، أكبر من نص أرسطو نفسه مما يدل على أنه أقرب إلى التأليف وعلى غير عادة الفارابي صاحب التآليف الصغيرة. وهناك بعض التكرار على عادة الشرح، وليس الضم والتركيز على عادة التلخيص. إذا كان الشرح أكبر من النص فهو شرح، وإن كان أصغر أو مساويًا فهو تلخيص. وهو مملوء بأسماء الأعلام أي أنه ما زال مرتبطًا بالبيئة الثقافية الأولى التي خرج منها النص. وبتحليل أسماء الأعلام يبرز أرسطو بطبيعة الحال أكثر الفلاسفة ذكرًا. ونشره علماء نصارى معاصرون كما ترجمه علماء النصارى الأقدمون. فهو جزء من التراث العربي المسيحي قديمًا وحديثًا. يشعر المعاصرون أنه يعبر عن هويتهم الثقافية، وهي طبعة علمية جيدة يسهل منها الحكم على المسار التاريخي للنص من الترجمة إلى الشرح.وبتحليل ألفاظ القول؛ شرح، قال، ذكر، صرح، أخبر … إلخ، كما هو الحال في تحليل ألفاظ الحديث قبل الرواية، يكفي القول إن الفارابي قليلًا ما يذكر «قال أرسطو»؛ أي أنه لا يتعامل مع القول والعبارة مع أن الكتاب هو شرح العبارة ولكنه يتجاوز العبارة إلى المعنى والشيء، القصد والمراد. استعمل الفارابي «قال أرسطو» ربما مرة واحدة في أول الشرح ومرة أخرى في زمن المضارع «يقول» أي أنه الآن يدرس الموضوع باعتباره فيلسوفًا، ولا يدرس النص باعتباره مؤرخًا، ولحسم الخلاف في قضية وليس تبعية له أو مجرد شرح لفظ بلفظ وعبارة بعبارة في المضارع.١٠ الفارابي يحلل ويدرس الموضوع إيجابًا أم سلبًا، ويصف فكر أرسطو داخلًا في أعماقه، منتقلًا من القول إلى الفكر، ومن اللفظ إلى المعنى، ومن الخارج إلى الداخل. أما «ذكر» فإن الفارابي يستشهد بأرسطو ولا يشرحه. الفارابي هو الدارس والفيلسوف وأرسطو هو الشارح والمؤيد. أرسطو يخبر عن شيءٍ يعرفه الفارابي، ولا يعطي الفارابي علمًا جديدًا أو يعرف بأشياء يعرفها الفارابي من قبل ويتفق معها فيؤيد أرسطو، ويختلف معها فينقد أرسطو، في هذه الحالة لا يشرح الإبداع النقل بل يشرح النقل الإبداع. الفلسفة اليونانية هي الشارحة للفلسفة الإسلامية وليست الفلسفة الإسلامية هي الشارحة للفلسفة اليونانية.١١ وتدل ألفاظ القول على أولوية القول على القائل، فالفارابي يتعامل مع الموضوعات وليس مع الأشخاص. كما تدل استعمالات لفظ معنى على توجه الشرح نحو المعنى وليس نحو اللفظ. كما يتجه الشرح نحو الأشياء ذاتها بوصفها موضوع الشرح لدراستها من جديد.
ويذكر لفظ القول للفارابي أيضًا «قال الفارابي رحمه الله» أو «قال أبو نصر» فهي عادة النساخ والمؤلفين ولا تدل على أي تبعية لأرسطو. هي عادة مستعارة من علوم القرآن والحديث والتفسير، حللها علماء الأصول في أول جزء للرواية قبل السند والمتن، وأفعال القول ليست فقط في الماضي أي تدل على حقيقة تاريخية وتراث مضى بل أيضًا في المضارع تشير إلى حقائق فلسفية عامة. ولا تأتي في أول الكلام فقط بل أيضًا في وسطه استدراكًا واستشهادًا بعد عرض الموضوع. وتظهر أفعال القول وتشبيهاتها على نحو سلبي مثل «لم يقل»، «لم يذكر». فالشارح يظهر المسكوت عنه، ويبين ما قال النص وما لم يقله. الشرح إيجاب وسلب، والمشروح إظهار وإضمار.
بل إن الفارابي لا يعبر فقط عما صرح به وذكر بل عما لم يصرح به ولم يذكر. لم يشرح الفارابي المنطق بل شرح أيضًا غير المنطق والمسكوت عنه. يقول الفارابي مثلًا: «لم يصرح أرسطو.» ويصرح به الفارابي نيابة عنه. أرسطو يصرح بنصف المقدمة وليس كلها ثم يأتي الفارابي ويصرح بالنصف الآخر؛ فالفارابي يعلم الحقيقة كلها من مصدر آخر غير العبارة اليونانية، بعلمه الخاص ومنهجه الخاص ومن مصادره الخاصة. عند أرسطو الجزء وعند الفارابي الكل. بل إن الفارابي يستنبط فقرات من أرسطو ليست فيه لإكمال النسق؛ فهو مؤلف مع أرسطو وليس مجرد قارئ له، كما يفعل كتاب الأناجيل مع المسيح، التوحد بالموضوع والتعبير عنه.١٢وهو شرح على جهة التعليق من أجل احتواء النص بالعقل أولًا قبل ضمه إلى الموروث ثانيًا. ولا يشرح الفارابي أرسطو لفظًا بلفظ أو عبارة بعبارة بل إنه يتجه نحو القصد والغاية والغرض في نية أرسطو وعقله وشعوره. فالنص قصد، والعبارة غاية، والفكر اتجاه، تبدأ العبارة بصيغة «غرض أرسطو» وليس «قال أرسطو» أو «قصد أرسطو» أو «مراد أرسطو». يحيل الفارابي عبارة أرسطو إلى داخل أرسطو ثم يدخل معها ويخرج قصدًا من وعي مشترك بينه وبينه، قصد متبادل بين الفارابي وأرسطو. فهو شرح بالقصد والغاية وليس باللفظ أو المعنى. والقصد هو الشيء نفسه في حالة تخلُّق، واكتمال في حالة نشأة وتكوين؛ لذلك جعل الفلاسفة العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقيقية.١٣ويقوم الفارابي بتقطيع النص المقروء وتفصيصه حتى يتحول النص المترجم إلى نص مشروح بناءً على الإحساس بالموضوع والقدرة على مضغه وابتلاعه عبارة عبارة. وقد يقسم المشروح على مرتين للاستشهاد به في الشرح فيتداخل المقروء مع القراءة، والمشروح مع الشرح. وتوضع الأجزاء ويعاد ترتيبها من أجل إثبات معنى أو نفيه مع تحديد البداية لمعرفة المسار، وتحديد النهاية لمعرفة الاستنتاج. المسار داخلي بمنطق الاتساق، وخارجي بمنطق تقسيم الأبواب والفصول. وأحيانًا يتحول الشرح إلى اقتضاء مطلب وما ينبغي أن يكون عليه المعنى. فالضرورة العقلية تجبُّ الاحتمال النصي.١٤ استطاع الفارابي أن يحيل المنطق الصوري الآلي الذي تبدو قضاياه أحيانًا كبيت جحا أو ألاعيب صندوق الدنيا أو الكلمات المتقاطعة إلى منطق بديهي، وهو ينتمي إلى حضارة عملية متجهة نحو الواقع استطاع العرض النظري الخالص والذي يرتفع إلى مستوى العقل الوافد حتى يمكنه استخدامه في الواقع الموروث.١٥ شرح السابق باللاحق واللاحق بالسابق، وأدخل أشكال القياس في العبارة، واستبعد ما لم يقصده أرسطو حرصًا على نصه. شرح أرسطو بنفسه كما هو الحال في شرح الكتاب بالكتاب. يفصل بين النصوص ثم يعيد الربط بينها بحيث يبدو فيه مسار الفكر من البداية إلى النهاية. مهمة التفصيص ضياع رهبة الأنا أمام الآخر، والسيطرة عليه شيئًا فشيئًا حتى يتم ابتلاعه كليةً؛ ومن ثم يتحوَّل أرسطو تدريجيًّا إلى الفارابي طبقًا لنظرية الأواني المستطرقة حتى لم يعد يبقى من أرسطو شيء. ويتم نقل التراث اليوناني كله مرورًا بالعقل إلى البيئة الجديدة ولاستخدامه في فهم الموروث.ويقوم الشرح على نظريةٍ في الإيضاح، تفصُّص النص وتبينه وتوضحه، وتحيل الكل إلى أجزائه وتحلله حتى تراه في مرحلة المتناهي في الصغر قبل إعادة تركيبه وقراءته ثم نقله إلى البيئة الثقافية الجديدة.١٦ فالشرح أحيانًا يكون مجرد إعلان عن أن النص بيِّن بنفسه وإن لم يكن كذلك يقوم الفارابي ببيانه.١٧ الشرح إذن نظرية في البيان، والبيان لفظ أصولي من الشافعي، ولفظ أدبي من الجاحظ. ثم تتحوَّل نظرية الإيضاح إلى نظرية في الفهم، وكلاهما مقتضى ما يجب أن يكون طريقًا للغة والقصد والبنية الكلية. الإيضاح في مقابل الغموض، والفهم في مقابل سوء التأويل.١٨ وهي مقولات أصولية مثل أحكام المتشابه وتبيين المجمل، بل إن الفارابي يسقط نظرية الإيضاح على أرسطو نفسه فأرسطو يوضِّح ويبيِّن.١٩ يبدأ بالتعريف ثم يفصل العام ويبين المجمل على طريقة الأصوليين، ويميز بين الأشياء، ويعد ويحصى ويرقم حتى يتم تتبع مسار الفكر وخطواته بسهولة، ويعين مراحل الانتقال من مقالة إلى مقالة. ومن فصل إلى فصله.٢٠ ثم يبين الفارابي الوحدة الموضوعية الداخلية للعمل الفلسفي بناءً على ضرورية الداخلية واتِّساقه البرهاني بل أن ينقله قبل أن ينقله من بيئته الأصلية اليونانية إلى البيئة الجديدة الإسلامية. يبيِّن السبب، ويبحث عن العلة على طريقة الأصوليين.٢١ويبحث الفارابي عن المعاني والأشياء والتجارب الشعورية التي وراء العبارات على ما هو معروف بالتأويل في الموروث أي العودة إلى المصدر الأول والأصل. وهو في نفس الوقت على علم بمشكلة الصحة التاريخية للنصوص، ويثبت صحة النص بضرورته لبنية الموضوع واكتمال الكتاب.٢٢ الشرح نظرية في الإكمال للناقص. كما أنه نظرية في التحقُّق والبرهنة على صحة قول أرسطو كمعنى وكوثيقة تاريخية وخلق نوع أدبي جديد يذهب إلى الأشياء مباشرة، وتكون قمة الشرح في تحويل النص المقروء إلى عقل خالص ثم نقله إلى البيئة الجديدة، وإيجاد عناصر النقل والجسور المشتركة التي يتم عليها هذا النقل مثل العقل واللغة حتى تنقل حضارة العقل إلى حضارة العقل والوحي في نظرة متكاملة لتواصل الحضارات واشتراكها في حضارةٍ إنسانية واحدة. يصبح النص الأرسطي معقولًا أي أنه ينقل داخل حضارته بفعل الشرح من المنقول من أرسطو إلى الفارابي إلى المعقول من أرسطو والفارابي. وبتحليل الألفاظ في الشرح يتم الانتقال من لغة اليونان إلى لغة العرب بمنطق الألفاظ وهو منطق أصولي. تُقاس اللغة على الشرح، ويُقاس الشرح على المجتمع.٢٣مهمة الشرح ابتلاع الموروث كليةً داخل الوافد حتى يتجدَّد دم الموروث، ويتحوَّل إلى حضارةٍ جديدةٍ وارثة للحضارات السابقة حتى يقضي على إرهاب الوافد وإحساس الموروث بالنقص أمامه ويقضي على ازدواجية الثقافة بين الوافد والموروث.٢٤بل إن الفارابي يدخل في فكر أرسطو ويعلله، ويربط أجزاءه بعضها بالبعض الآخر، ويوضح ما غمض على أرسطو نفسه فيعلل سبق المقولات للعبارة منطقيًّا لأن الأولى خالية من السلب والإيجاب في حين أن الثانية بها سلب وإيجاب. الأولى لفظ والثانية قضية. ويعلِّل بداية فكر أرسطو ونهايته ويحدد مساره الفكري. فليس القصد هو اللفظ أو العبارة أو حتى المعنى أو القصد بل الاتجاه والنسق والرؤية. ويعلل الفارابي أسماء تسميات كتب أرسطو بالرجوع إلى الأشياء ذاتها؛ فالعلة هي التي تعطي الشرعية لوجود الشيء وتجعله واضحًا مفهومًا. لماذا المقولات هي الطبيعية، الجوهر والأعراض؟ ألا توجد مقولات أخرى، وبهذا التساؤل عن العلة يحدد الفارابي طبيعة فكر أرسطو الطبيعي المتجه نحو الواقع. يربط الأجزاء بعضها ببعض والكتب بعضها ببعض حتى يبدو النسق متكاملًا واضحًا حتى يمكن التعامل معه بعد ذلك للتأقلم والتكيف مع بيئات ثقافية أخرى.٢٥بل إن الفارابي يساعد أرسطو على اكتشاف النص المتكامل، ويجد له الأدلة والبراهين على صحة مواقفه، ويعطيه مزيدًا من القرائن من أجل إثبات صحة أفكاره. يدخل في منطق الاستدلال والبرهان وهو المنطق الذي جعل البرهان قمة المنطق وغايته القصوى. المقولات والعبارة والقياس مقدمات له، والجدل والسفسطة والخطابة تخل عنه. ويستطيع الاستدلال أيضًا اكتشاف مسار فكر أرسطو وربط أجزاء مذهبه بعضها بالبعض الآخر، ويكون الاستدلال إما بشرح أرسطو ببعضه البعض والعودة إليه، فالكتاب يشرح الكتاب أو باللجوء إلى الموضوع نفسه والتحقُّق من صدق القول فيه وإلقاء مزيد من الضوء، وبهذه الطريقة تتضح الوحدة الداخلية العضوية لكتاب العبارة.٢٦ويصف الفارابي المسار الفكري لأرسطو كيف يبدأ وما هو مساره وإلى أي شيء ينتهي، يربط بين الفصول، المتقدم بالمتأخر واللاحق بالسابق. يحيل إلى نفس الموضوع في الفصول السابقة أو اللاحقة. يسير معه خطوة بخطوة. يتابع نشأة فكر وتكوينه، ويعلن بداية القضية ونهايتها. يحول النص الميت إلى فكر حي ويبعث أرسطو من بين الرفات.
ويعمق الفارابي قول أرسطو ويزيده إحكامًا ويدفعه إلى أقصى حد له، ويستنتج أكبر قدر ممكن من النتائج فيه.٢٧ يفهمه ويعذره، ويبين مقدماته ونتائجه وأهدافه ومقاصده. يدخل في عقله أكثر مما يدخل أرسطو نفسه، ويفهم أرسطو أكثر من فهم أرسطو لنفسه كما يعرف الغزالي في «تهافت الفلاسفة» الفلسفة أكثر من الفلاسفة. ويحذر من سوء التأويل الخاطئ لأرسطو مراجعًا هذه التأويلات ومصححًا إياها. وهي غالبًا من عمل الشراح الإشراقيين الذين أخرجوا أرسطو من مسار فلسفته الطبيعية وأرجعوه إلى أفلاطون وهو البيئة الثقافية الغنوصية المانوية التي خرجت منها المسيحية بعد ذلك. وهي الثقافة الشعبية التي يسودها الإشراق ويغيب عنها العقل. يضع الفارابي أرسطو مع أصحاب العلم الطبيعي لأنه فيلسوف طبيعي، وهنا يبدو الفارابي المؤرخ الحصيف للفلسفة القادر على الحكم على المذاهب بالإضافة إلى الفيلسوف العقلاني. تأويل المفسرين لأرسطو تحريف له وإخراجه عن مساره الفكري وميل بمذهبه نحو أحد البعدين الأفلاطوني الإشراقي على حساب الآخر، الأرسطي الطبيعي. يخلص الفارابي قول أرسطو من سوء تأويلات المفسرين قائمًا بدور القاضي العدل في الحكم بينه وبينهم كما فعل ابن رشد بعد ذلك أيضًا في الحكم بين أرسطو والشراح الإشراقيين المسلمين، الفارابي وخاصة ابن سينا. وينتهي الفارابي بالحكم لصالح أرسطو ضد المفسرين. أرسطو بريء من الإشراق، والمفسرون متهمون به. ويصدر الحكم من قاضى هواه مع الإشراق ولكن هواه لا يتدخل في حكمه. تصحيح الوافد وفهمه فهمًا صحيحًا إذن عملية ضرورية قبل تركيبه في الموروث وإعادة إنتاجه من خلاله، ويكون شرح الفارابي هو الأكثر اتفاقًا مع أرسطو من تأويلات المفسرين. ويرجع تأويلاتهم إلى أرسطو في النهاية إلى مصدرهم الأول، وسبب أخطائهم هو أنهم يتقوَّلون على أرسطو ما لم يقله، ويقول أرسطو شيئًا لم يلتفتوا إليه. كما أنهم يشرحون ظاهر الألفاظ دون معانيها، ويقتصرون على العبارة دون الأشياء التي تشير إليها. وأبرقليس هو نموذج الشراح الإشراقيين الأفلاطونيين الذي يتم تحرير أرسطو منه وكما فعل ابن رشد في تخليص أرسطو من أيدي الإشراقيين المسلمين خاصة ابن سينا، عودًا إلى أرسطو وتفسير أرسطو بأرسطو. وأحيانًا يكون تحرير أرسطو من جالينوس الطبيب الذي يتهم أرسطو بأنه كثَّر من القياس حتى يصبح أرسطو ميزان عدل بين الإشراقيين الأفلاطونيين والطبائعيين الأطباء.٢٨وللفارابي نظرة كلية للأمور وهو يشرح كتاب العبارة، مدخلًا الجزء في الكل. يجمع مؤلفات أرسطو كلها، ويحدد مكان كتاب العبارة فيها. ثم يشرح الكتب بعضها بالبعض حتى يجد في النهاية نسق أرسطو. فنظرًا لعدم إحالة أرسطو في كتاب العبارة إلى كتاب المقولات ظن البعض أن كتاب العبارة كتب قبل كتاب المقولات. الفارابي إذن على وعيٍ بترتيب كتب أرسطو وبعلاقة بعضها بالبعض الآخر حتى تنتظم الأجزاء كلها في نسقٍ واحد هو مذهب أرسطو. يشرح أرسطو بأرسطو، ويفسر كتابه بكتبه. ويضع جزأه في كله حتى ينتهي التعجب من هذا الموضوع أو التساؤل والاستفسار عن هذه القضية. فلا معنى للجزء إلا في الكل الذي ينتسب إليه. وفي نفس الوقت يضع الحدود بين كتب أرسطو المنطقية، ويقسم العمل بينها، ويخصص لكل منها موضوعها، ويحيل بعضها إلى بعض ليكمل النسق، ويفسر الجزء بالكل، ويشرح النص بالمذهب كله، ويحدد الصلة بين عناصر المذهب، بين المنطق والطبيعة، وبين المنطق وما بعد الطبيعة بعد أن يحدد العلاقة بين كتب المنطق بعضها بالبعض. بل إنه يربط بين المنطق والهندسة، بين اللفظ والنقطة، الخط والعبارة، القياس والتوازي.٢٩ثم يضع الفارابي أرسطو في إطار تاريخ الفلسفة اليونانية خاصة مع نظيره ومقابله أفلاطون. يميز بينهما، وهو الذي جمع بينهما في «الجمع بين رأيي الحكمين». لم يناقض أفلاطون أرسطو أو أرسطو أفلاطون وهو الذي قال: «أحب أفلاطون ولكن حبي للحق أعظم.» ويتتبع القياس وتطوره قبل أرسطو وبعده، واعتبار أرسطو مجرد مرحلة في تاريخ العلم من أجل منظورٍ أعم للعلم اليوناني قبل أن ينتقل إلى العالم الإسلامي. ليس المهم شخص أرسطو بل مساهمته كجزء في تاريخ المنطق اليوناني.٣٠ بل إن أرسطو أو أرسطوطاليس يكاد ينتهي بشخصه وباسمه فهو صاحب المنطق مما يدل على أن الفارابي لا يشرح أرسطو بشخصه ولكن بمساهمته في تاريخ المنطق.٣١ويحيل الفارابي إلى عديد من كتب أرسطو ويصعب إحصاؤها لأنها تتراوح بين اسم الكتاب صراحةً مثل كتاب القياس وكتاب المقولات وكتاب العبارة وبين اسم الموضوع مثل القياس، المقولات، العبارة دون تحديد القصد من الإحالة هل هو الموضوع أو الكتاب. وكذلك الإحالة إلى ما بعد الطبيعة هل هي إحالة إلى العلم أو الكتاب، ومع ذلك، أحال الفارابي بحسب ترداد ذكرها إلى المقولات، والقياس أو أنالوطيقا الأولى، والعبارة، وما بعد الطبيعة، والبرهان، وطوبيقا، والسماع الطبيعي، والخطابة، والشعر، وسوفسطيقا، والحيوان، والسياسة.٣٢ ومن الطبيعي ذكر المقولات والقياس أكثر من العبارة لأنها تالية للمقولات وممهدة للقياس.ويعرض كتاب المقولات اسمه ونسبه إلى باقي الكتب، وغرضه، ومرتبته وأقسامه كما يحدث في كل علم يوناني أو إسلامي، وتعليل التقديم والتأخير بين الأجزاء، وإيجاد البراهين والدلائل عليها، وخضوع الترتيب النصي إلى الترتيب العقلي، وإدخال الجزء في الكل بإحالة الكتاب إلى كل أجزاء المنطق. ويتساءل الفارابي حول ما جاء في كتاب العبارة على لسان أرسطو: هل صحيح أن العبارة أسهل من المقولات ويمكن تعلمه دون معرفة شيء من المقولات؟ هل يمكن معرفة الخط دون النقطة.٣٣ثم يحيل إلى القياس أو أنالوطيقا الأولى مع بيان التمايُز بين كتب المنطق من حيث تخصص الموضوعات وتقسيمها. ويحيل إلى العبارة وإلى ما بعد الطبيعة وإلى طوبيقا وإلى البرهان لجالينوس والسماع الطبيعي والحيوان وإلى كتب الخطابة والشعر وسوفسطيقا، والسياسة لأفلاطون.
ويضع الفارابي أرسطو داخل الفلسفة اليونانية وأعلامها. سقراط يضرب به المثل باستمرار كموضوع في قضية مثل زيد وعمرو في العربية. ويتناوب أوميروس مع سقراط في هذه الوظيفة، ويستشهد ببعض أقواله لتحليل الأقاويل التي تصير قولًا واحدًا برباط يربطها مثل التقارب في الزمان وحروف العطف والغرض الواحد.
أما أفلاطون فإنه يرد مع أرسطو في تسميتهما لشيء واحد باسمين مختلفين، والفارابي يعرف المسمى، ويعدد الأسماء عليه. كما يستشهد أرسطو بقوله في الأزلي القديم كمثال للأقاويل الصادقة التي لا يوجد فيها أحد الممكنين على عكس أبيدوس الذي يقول إن الله تعالى ممكن له أن يظلم. كما يضرب به المثل على طريقة القسمة استغناء عن القياس. ثم تذكر رواية عن تناقضه مع أرسطو عن تضاد المواد المتقابلة. وحل الفارابي في حالة صدق الرواية لهذا التناقض باحتمالات ثلاثة؛ الأولى وجود فرق بين القولين، والثاني لو كان هناك تعارضٌ لأظهره الفارابي، والثالث لو كان هناك تعارض لأظهره أرسطو، وهو لا يتحرج من الحق بقوله «أحب أفلاطون ولكن حبي للحق أعظم».
أما أبرقلس الأفلاطوني فهو نموذج الأفلاطوني الإشراقي الإسكندراني عكس أرسطو العقلاني، في التأويل الخاطئ لأرسطو مما يجعل الفارابي قريبًا من أرسطو في تعدد النزعة الإشراقية في شرح أرسطو. ولو أن الخلاف بين أبرقلس وأرسطو في منطق القضايا وإعطاء أبرقلس قانونًا في التلازمات المعدولات والبسائط ولزوم الأعم وإعطاء منها الأخص.
أما ثاوفرسطس والإسكندر فإنهما من الشراح اليونان الذين يؤيدون موقف الفارابي وتعليل شروحهم وأسماء كتبهم وفهمهم لأرسطو. ولقد أكمل ثاوفرسطس القياسات الشرطية بعد أرسطو مثل الرواقيين وأوديموس، وأكمل المنطق. كما أنه يروي عن أرسطو في المقاييس الشرطية وكذلك فعل أصحاب الرواق بإكمال القياسات الشرطية مع ثاوفرسطس وأوديموس. ويدافع الفارابي عن أرسطو ضد اتهام جالينوس بأن ما قاله أرسطو في الممكنات والوجودية في القياس لا ينتفع به، وكذلك فعل أفروسيبس الروائي في إضافة بعض القياسات الشرطية، فالفارابي يدرس الموضوع كله وليس أرسطو وحده. ويذكر فيثاغورس في معرض إعطاء نموذج القول في القضايا في جعل العدم أحس المتضادين أي أن الزوج أخس من الفرد. أما أطرنطياس فقد شك في شيءٍ ما، ويذهب شكه عن طريق تحليل أرسطو.٣٤المفسرون هم المشاءون أو قوم من محدثي التفسير، وهم أيضًا والإسكندرانيون حدث صغار، غلَّطوا أرسطو وهم المغالطون. يوضح الفارابي غلطهم ويخلص أرسطو من سوء تأويلهم.٣٥ وبالإضافة إلى الأسماء يذكر الفارابي مجموعات أصحاب الرواق والمشائين ومفسري الإسكندرانيين والقدماء.٣٦ وقد اعتمد المفسرون على قول أبرقلس الأفلاطوني وأخذوا المفسرون سلطة مضادة لسلطة أرسطو، جماعة ضاغطة على النص الأصلي.٣٧ ومن ثم يعرض الفارابي لهم بلفظ «ويزعم المفسرون.» وقد أجمع المفسرون على وضع كتاب العبارة بعد المقولات وقبل القياس. فليس المفسرون دائمًا على خطأ. الخلاف معهم في اعتبارهم العبارة من المقدمات. ويمكن تأييد التفسير الظاهري للمفسرين ما دام اللفظ يتحمله خلاف تفسيرات مجانية أخرى لا تتحملها ألفاظ أرسطو وليس لها ما يؤيدها في أقواله. قد يزيد المفسرون بعض التفسيرات وقد يضعون مصطلحات جديدة، طريقتهم في التفسير هو تقطيع نص أرسطو أو وصله بحيث يفيد ما يريدون من آراء.ويعرض الفارابي آراء المفسرين عرضًا موضوعيًّا أولًا بلا تأييد أو نقد. ثم يقوم بدور القاضي بينهم، وأخذ أقوالهم وتحليلها لإثبات خطئهم حتى مع تبني أمثلة الخصم وأقواله والانتهاء إلى خطأ المفسرين واتفاق الفارابي مع المتهم الأول وهو أرسطو ضد المفسرين وزعيمهم أبرقلس. ويختلف المفسرون فيما بينهم، ويختلف الفارابي معهم، يفترون على أرسطو أنه نسي بعض القضايا ولم يذكرها وقد ذكرها الفارابي نيابة عنه. فبين أرسطو والمفسرين والفارابي هناك موضوع مستقل عن الجميع يعرضه الفارابي. حاول أرسطو الاقتراب منه، وأساء فهمه المفسرون، ويخرجون عليه في قولهم إن المقولات في النفس دالة على الموجودات خارج النفس على ما يقول الأفلاطونيون. يطولون حيث يجب الإيجاز ومن ثم فإن مهمة الفارابي تصحيح أقوالهم وإنقاذ أرسطو من بين أيديهم.
ويضع معهم الفارابي المتفلسفين وليس الفلاسفة مما يدل على السخرية والاستهزاء، والقدماء مما يدل على بداية الوعي التاريخي بداية بقدماء اليونان. وأصحاب العلم الطبيعي هم الذين يفسرون أرسطو التفسير الصحيح لأنه فيلسوف طبيعي وليس إشراقيًّا. كما يتحدث الفارابي عن الجمهور في مقابل النحويين وأصحاب العلم الطبيعي أي اللغويين والعلماء، والجمهور أي الاستعمال الشائع العرفي وليس الاستعمال التخصصي.
ويقوم الفارابي بهذا الشرح الذي هو إعادة بناء للنص كله بتواضع العلماء دون الوقوع في الجزم والقطعية من طرفه ودون تحامل أو تجريح لأرسطو، الطرف الآخر. فالحق الذي عرفه الفارابي عرفه أرسطو. والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له. يكمل الفارابي الناقص، ويقدر أرسطو في النسيان والغفلة. بل إن الفارابي يراجع أرسطو وينقده ويكمله ويزيد عليه في أنواع القضايا خاصة الممكنات. أرسطو مجرد مثل يذكره الفارابي لأنه كان هو الفيلسوف في ذلك العصر، المعلم الأول. ولو كان غيره لقام الفارابي بمثل ما قام به معه. أرسطو عرض تاريخي والفارابي جوهر تاريخي. أرسطو هو الاحتمال والفارابي هو الضرورة. ويميز الفارابي بين الاسم والمسمى. يعرف المسمى ويراجع عليه أسماء أرسطو وآراءه. أرسطو يذكر أشياء والفارابي يذكرها وكل منهما يكون له آراء عنها، التعددية في الرأي والالتقاء في الشيء استطاع الفارابي الاعتماد على صحة التفسير من أجل صحة نسبة الكتاب لأرسطو وصحة أحد فصوله.٣٨كما يلجأ الفارابي إلى النحويين، اليونان والعرب، فالمنطق لغة واللغة منطق. كلاهما علم واحد. الفارابي على وعي بأنه يتعامل مع فكر باللغة اليونانية، وتدل عباراته على التمايز بين الأنا والآخر، بين العرب واليونان في صياغات مثل «أما أنا»، وإضافة ضمير المتكلم الجميع، أقاويلنا أحكامنا. الفارابي على وعي بأنه يدرس ثقافة مغايرة، ثقافة اليونان باللغة اليونانية، لغة وحروفًا وأوزانًا، بالرغم من أنه ليس عربيًّا. وتظهر الأمثلة اليونانية أحيانًا من أجل توضيح الفكرة من خلال الثقافة التي نشأت فيها وأحيانًا تختفي. قالوس أبس اسم مركب في اليونانية قد يستعمل لإنسان مثل المنجم أو لفرس فاره، والجزء لا يدل في حالة الإنسان وإنما يدل في حالة الفرس. وهو مقال من نص أرسطو. وفيلوسوفس اسم مركب وهو نفس المثال الذي يُبقيه ابن رشد في «تفسير ما بعد الطبيعة». وكذلك يقارن الفارابي بين حروف العطف والأسماء المماثلة والأسماء المعرفة بألف ولام التعريف في اليونانية والعربية. فحل المنطق في اللغة؛ لذلك يلجأ الفارابي إلى النحويين بإطلاق.٣٩ويحلل الفارابي في اللغة العربية الأسماء المشتقة والمعاني المختلفة للفظ النطق كقوةٍ نفسيةٍ ذهنية أو عضلية في اللسان. ويحلِّل الأفعال في أزمنتها، الماضي والحاضر والمستقبل، وإضافة كان للفعل المضارع للدلالة على الزمان الماضي، كما يبين غياب بعض الأسماء في العربية. والفرق بين الاسم والكلمة والأداة، وأداة التعريف في العربية واليونانية والفارسية، والمعاني الأربعة للام التعريف في العربية ومقارنتها بألسنة الأمم. والفارابي، وهو التركي، يعرف العربية كما يعرفها أهلها. ويسهل عليه وضع أرسطو في العربية خاصة وأن المنطق الصوري صعب الفهم؛ ومن ثم لزم تعريب القضايا وتوضيحها. ويورد الفارابي أمثلة عربية لتوضيح منطق أرسطو، وتقديم الآخر للذات حتى لا تبقى «تابو» فيشعر البعض بالنقص أمامها، ويتملقها البعض، ويرفضها البعض الثالث مثل حالنا مع الغرب الآن. ويستعمل زيد وعمرو ويحيى وعبد الملك لضرب الأمثلة في القضايا.٤٠والمثال الشهير على ذلك فعل الكينونة في اللغة العربية الذي يدل على الوجود، لا يظهر في حين أنه يظهر في اللغة اليونانية كرابطة، فلا يظهر لفظ الوجود كاسم يصف الموضوع. الوجود متضمن في الموضوع ويفهم ضمنيًّا. لا يحتاج الوجود إلى تأكيد، ولا يوجد شيء غير موجود. الوجود ليس في حاجة إلى إثبات صريح بفعل الكينونة. والسلب يوجد في المحمول وليس في الموضوع. الوجود موجود بالقوة في الموضوع ولا يظهر بالفعل. ويكرر الفارابي نفس الحدس باعتباره حدسًا رئيسيًّا في اللسانيات المقارنة. وقد جعله أحد رواد الفكر العربي المعاصر حدسه الأول، واستنبط منه النزعة المثالية في اللغة العربية وفي الفكر الإسلامي. ويلاحظ الفارابي ترتيب فعل الكينونة الثالث والرابع في لغات الأمم الأخرى وليس الثاني بعد الموضوع. الأفصح في العربية أن تكون الرابطة بين الموضوع والمحمول وذلك بتكرار الضمير أو يوجد في البداية وهو الأقل فصاحة وفي النهاية وهو أقلها على الإطلاق. ويمكن استعمال الكلمة الوجودية في الماضي والمستقبل، كان موجودًا، سيكون موجودًا. أما في المضارع يوجد فلم تجرِ عادة العرب على ذلك. الوجود عند العرب بالقوة وليس بالفعل متضمنًا وليس صريحًا، بديهيًّا لا يحتاج إلى إثبات. الوجود متضمن في الشيء وليس صفة خارجة عنه. وجودية العرب طبيعية من خلال تحليل اللغة وعلاقة اللغة بالفكر. وجود فعل الكينونة بالفعل عند سائر الأمم وفي سائر الألسنة على الترتيب الثاني والثالث. أما في العربية فإنه موجود بالقوة، استحالة الرابطة الوجودية في اللغة العربية ومع ذلك تسمى القضايا الوجودية.٤١وليست اللغة العربية وحدها وأحيانًا اللغة السعدية. هي المقابلة للغة اليونانية بل أيضًا الفارسية أي مجموع اللغات الإسلامية، والهندية والتركية مثل وجود الأسماء المركبة في اللغتين اليونانية والفارسية.٤٢ وفعل الكينونة في اللغتين يكون اسمًا وفي نفس الوقت يدل على زمان المضارع. ويقارن بين أدوات التعريف والأسماء المعرفة في اليونانية والعربية والفارسية، ولكن يظل العرب أكثر ذكرًا من اليونان مما يبين نقل الوافد على الموروث وابتلاع الموروث للوافد، ثم الفرس والهند مما يبين قرب الفرس، وانتشار الثقافة الفارسية لدى العرب أكثر من الثقافة الهندية. ينقل الفارابي حضارة العقل اليونانية وحضارة السياسة الفارسية وحضارة الدين الهندية إلى حضارة الوحي الإسلامية. وقد أدَّت مقارنة اللغات عند الفارابي؛ العربية واليونانية والفارسية والهندية إلى وضع قواعد علم اللغة العام في كتاب «الحروف». وتتجاوز المقارنة مع الهند اللغة والرابطة وفعل الكينونة وأداة التعريف إلى المقولات الواحدة في كل الثقافات والمحسوسات الواحدة؟٤٣ويهدف الفارابي من علم اللسانيات المقارن إلى وضع قواعد لعلم اللسانيات العام ودون أن يشار إلى لغةٍ بعينها اليونانية أو الفارسية أو الهندية، لغات الثقافات الوافدة مثل حروف العطف والروابط وما يقوم مقامها في سائر الألسنة. ويكرر الفارابي هذا القصد باستمرارٍ لدرجة شعوره هو نفسه بذلك. هناك بنية لزمان الأفعال في كل الألسنة. وكل كلمة لفظ دال في جميع الألسنة في لسان جميع الأمم. وفي كل لغة حروف العطف في سائر الألسنة. وأداة التعريف عام في كل لسان. واستعمالاتها أو ما قام مقامها في الألسنة في العربية وما قام مقامه في جميع الألسنة عند كل الأمم، والمعقولات واحدة عند جميع الأمم في حين أن الألفاظ الدالة عليها والخطوط المكتوبة بها مختلفة. ولو كانت الألفاظ طبيعة للإنسان لكانت واحدة بأعيانها عند جميع الأمم مثل المعقولات أما نسبة المعقولات للألفاظ فهي اصطلاحية شرعية؛ فالألفاظ والخطوط إذن بلغة الأصوليين اصطلاحية وليست توقيفية، من وضع البشر وليس بتعليم من الله. ويترادف الاصطلاح والوضع والشريعة عند الفارابي، وتعني الشريعة هنا وضع المجتمع وليست الشريعة الإلهية. فالمجتمع أو الرئيس الإمام يشرع للسلوك والأفعال كما يشرع اللغات.٤٤وقد يظهر من شرح العبارة للفارابي منهاج إسلامي وباطني مستقى من علوم التفسير، العودة إلى الأصول، وتخليص النص القرآني من تأويلات المفسرين. فالنص الأرسطي هو مصدر فلسفة أرسطو وليس تأويلات المفسرين. وتفسير أرسطو بأرسطو مثل تفسير الكتاب بالكتاب. فأرسطو يفسر بعضه بعضًا كما يفسر الكتاب بعضه ببعض. وقد يكون عرض اسم الكتاب ومرتبته وغايته وتحقيقه تقليدًا إسلاميًّا أكثر منه شرحًا لأرسطو وكما هو معروف في الصفحات الأولى في العلوم الإسلامية الشارح الإسلامي هنا يصحح أخطاء الشراح اليونان، ولا يعتمد عليهم، ولا يقتبس منهم، فهو غير المنتسب للحضارة اليونانية أكثر قدرة على الحكم العدل على النص اليوناني من الشارح اليوناني الذي ينتسب إلى الحضارة اليونانية. الشعور المحايد أقرب إلى الرؤية من الشعور المنتسب. والجمع بين أفلاطون وأرسطو رؤية إسلامية متكاملة تضع نصفي الحقيقة في الحقيقة الكلية، المثال والواقع، العقل والحس، الله والعالم، النفس والبدن، الآخرة والدنيا. كما يظهر الأسلوب الإسلامي الكلامي في تخيُّل المعترض والرد عليه، فإن «قال قائل» … «فإن سأل سائل» حتى تكتمل الفكرة من جميع وجوهها ورد أوجه الاعتراض فيها مسبقًا.٤٥وهناك بعض الموضوعات الإسلامية غير المباشرة التي تظهر عند الفارابي مثل الفطرة والشريعة والوضع. يحيل المنطق إلى الفطرة أو إلى وضع الشريعة والقول. فنص أرسطو لا فطرة فيه إنما هو اصطناع وتركيب وحرفة.٤٦ وقد عرف الفارابي ذلك من علم أصول الفقه الذي حدد معاني اللفظ في ثلاثة؛ الاشتقاقي والاصطلاحي والعرفي. يلجأ الفارابي كما سيلجأ ابن تيمية من بعد في نقد المنطق الأرسطي إلى الفطرة. فهي بديهية. بينة بذاتها، لا تحتاج إلى القياسات والتركيبات المنطقية. فهي تجب اللغة. هي عمل الشعور مباشرةً فيما وراء الألفاظ. هي البداهة العقلية، الشعور العام، المشهور عند الجميع. فلا تعارض بين الفطري والمشهور. الفطرة هي الطبيعة الفردية، والمشهور هي الطبيعة العامة، فالمنطق كله الذي يعلم بالاكتساب من أرسطو يمكن أن نعلمه نحن بالفطرة. والفطرة اختيار وإرادة وروية. والفطرة في مقابل الوضع والشريعة والقول. الأولى طبيعة، والثانية اكتساب. الفطرة عند الفارابي مقابل التوقيف عند الأصوليين. والشريعة والوضع والقول هو الاصطلاح. مهمة المنطق والفلسفة البحث عن أشياء معلومة بالفطرة وليس إعطاء علم جديد عن طريق المقدمات والنتائج ولزوم الشيء عن الشيء. القضية البينة عند أرسطو يمكن معرفتها أيضًا بالفطرة بصرف النظر عن كونها مشهورةً أم غير مشهورة. وهنا يتم التحام أرسطو بالفارابي، والمنطق اليوناني بالمنطق الإسلامي عن طريق لحام الفطرة؛ فالفطرة هي القاسم المشترك بين الثقافتين وبين الفيلسوف. لقد عرف أرسطو الفطرة كما أثبتها الإسلام بعده بألف عام ثم أكدها الفارابي بعده بثلاثمائة عام، ولكن آباء الكنيسة لم يلحموا المسيحية بأرسطو. فلم تصبح الفطرة قاسمًا مشتركًا بين الفلسفة اليونانية والفلسفة المسيحية.٤٧وينقل الشرح مادة المنطق اللغوية من الوافد إلى الموروث فتصبح مادة كلامية تشمل موضوعي التوحيد والعدل بلغة الاعتزال أو الإلهيات والنبوات بلغة الأشاعرة. ويبدو ذلك في قسمة العلم وإدخال المنطق مع الطبيعيات والإلهيات والإنسانيات في علم واحد. فالمقولات متقدمة على كل كتب المنطق بل وعلى الطبيعيات والإلهيات والإنسانيات التي يسميها الفارابي العلم المدني لأن الإلهيات ليست إلا النظر في المعقولات. وهنا ينقل الفارابي الشرح من مستوى المنطق إلى مستوى الإلهيات والمنطق بؤرة الحضارة اليونانية والمادة الدينية بؤرة الحضارة الإسلامية. تم نقل البؤرة الأولى إلى الثانية. ودخلت قضايا إلهية كمادة محددة لقوانين المنطق، وكما فعل السهروردي في «حكمة الإشراق» بنقل المنطق الصوري إلى المنطق الإشراقي، وابن تيمية بنقل المنطق الصوري أيضًا إلى المنطق الحسي.٤٨والمشكلة التي تبدو في الإلهيات هي العلم الإلهي والله هو عز وجل، وجل ثناؤه، الله تعالى، وليس الإله اليوناني Theos. فالعلم الإلهي ضروري لا تدخل فيه القضايا الممكنة لأنه علم محيط لا احتمال فيه. لا يصدق فيه المتقابلان أو يكذبان لأنه لا احتمالات فيه. يعلم الله الأمور المستقبلة؛ ومن ثم لا إمكان فيه يتحقق في المستقبل. كما أنه يخلو من الإيجاب والسلب، والمعلوم والمجهول. يعلم الله الأشياء قبل كونها في كل الملل. فإذا كان المنطق عند أرسطو يتناول المستقبلات والممكنات والمحتملات فإن العلم الإلهي لا يتناول إلا القضايا الضرورية.٤٩ ويظهر مقياس المنفعة والضرر في اعتقادات الناس، فلا تهتز عقائدهم بعلم الله المحيط بالمستقبل وبالممكنات فيه. والله يعلم بصدق إحدى القضيتين المتقابلتين بعلم مسبق وليس بعلم لاحق كعلمنا نظرًا لنقص طبيعتنا. ويلاحظ أن نقد المنطق اليوناني قائم على الإلهيات الإسلامية، وأن حكم الفارابي على الفلسفة اليونانية حكم واضح وظاهر دون تعمُّق أو تسرُّع. ولا يخص ذلك الإسلام وحده بل سائر الملل، الدين العام الشامل. كما لا يخص المنطق اليوناني وحده بل المنطق الإنساني العام، أو اللغة العربية وحدها بل اللغات عند الأمم أو كما يقول ابن سينا فيما بعد، ليس علم الشعر الخاص بل علم الشعر المطلق. والاختلافات في المنطق قد يكون حلها في الإلهيات. فالإلهيات أوسع نطاقًا من المنطق كما يبدو من تركيب الوافد المنطقي على الموروث الإلهي. بل إن المنطق الصوري ذاته ضد أخلاق أرسطو التي تقوم على الإرادة والروية. حل شكوك المنطق في يقين الإلهيات وكما فعل السهروردي في حكمة الإشراق بنقده القضايا الشرطية المنفصلة بالنسبة لليقين الأخروي.٥٠ فالإلهيات مادة لمنطق القضايا. وينقل الخارج على الداخل وإن كان لا يجوز نظرًا للتمييز بين المنطق والإلهيات، العلم الصوري والعلم المادي إلا أنه مقنع.ويرتبط التوحيد بالعدل عن طريق معرفة الله الضرورية بالمستقبليات بما في ذلك الأفعال الإنسانية؛ ومن ثم يكون السؤال: إلى أي حد يكون للإنسان اختيارٌ ورويةٌ والله يعلم مسبقًا اختياراته في المستقبل؟ وإذا نفى الاختيار لا يُصبح الإنسان عرضةً للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة. وهو مستحيل ليس فقط في الإسلام بل أيضًا في كل الملل. وهنا يبدو الحكماء أقرب إلى المعتزلة منهم إلى الأشاعرة. ويقدم الفارابي حلًّا غير معروف ولا شائع عند الملل وهو أن الله يعلم كل موجود بحسب وجوده الضروري ضروريًّا، والممكن ممكنًا، وهو قول غير كافٍ لأنه لا يثبت أن الله يعلم أحد المتقابلين على التحصيل. واضطرار العلم الإلهي واضطرار الفعل الإنساني ليس بينًا في نفسه، يوضِّحه الفارابي وكأنه عاد متكلمًا، ويجد الحل في الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة. كل ذلك ليس من أرسطو بل تركيب أرسطو، وإعادة إنتاجه بناءً على الداخل.٥١ويتراوح عرض الفارابي بين وجود الله وعلمه. ويتحدث عن علم الله باعتباره وجودًا واقعًا، فمن الطبيعي أن علم الله موجودٌ في الماضي والحاضر والمستقبل، وأنه لم يزل ولا يزال ولن يزال موجودًا يعلم يقينًا ما يقع من أفعال البشر في المستقبل، ولكن علم الله المسبق الضروري لا يعني فرض الضرورة على الله أو أن يمنع الضروري إلى الممكن. كما أن العلم الإلهي المسبق بكل ما يقع من حوادث لا يمنع الإنسان من أن يكون حرًّا مختارًا مسئولًا عن أفعاله وإلا انتفى الثواب والعقاب. ولا يكفي القول بأن العلم الاضطراري اضطراري بنفسه بالإضافة إلى موضوعه لأنه غير واضح بذاته. إنما الأمر هو هل يجوز للشيء أن يوجد على التحصيل، أن يوجد وألا يوجد؟ وقد اختلف القدماء في ذلك. فقد رأى البعض أن ما لم يزل ولا يزال موجودًا ليس ممكنًا ألا يوجد، وأن ما لم يزل ولا يزال غير موجود لا يمكن أن يوجد. وآخرون جوزوا ذلك؛ وبالتالي جوزوا أن يعلم الله على التحصيل أحد المتقابلين. وهو أنفع في الملل فلا تناقض بين علم الله المسبق والفعل الإنساني القائم على الاختيار والروية. يضع الفارابي الفكر اليوناني في إطار تاريخه، ويفصل اتجاهات القدماء في موضوعه.٥٢ويرفض الفارابي مقالة هزيود عن ظلم الله، والله لم يظلم ولا يظلم ولن يظلم، في الماضي والحاضر والمستقبل. ظلم الله لم يزل غير موجود ولا يزال غير موجود، وحتى تنفي الضرورة عن الله فإنه يظل ممكنًا. فهو ضروري من جهة، ممكنة من جهة أخرى.٥٣ والعدل والجور مصطلحات إسلامية في مباحث العدل عند المتكلمين ثم نقل مصطلحات المنطق إليها، والعدل والجور والفضيلة والرذيلة ملكات، لكل منها عدم. إذا فقدت خلقها ضدها؛ لذلك لا يوصف الله بالسلب بل بالأسماء غير المحصلة التي تدل على الطبيعة. فإن من الشنيع أن يوصف الله بالعدم السالب في حالة نفي الملكة فيقال الله ليس عدمًا، وهنا يرفض الفارابي نفي العدم عن الله إثباتًا للوجود. ويرفض كل ما يسمى باللاهوت السالب. فالصفات التي تطلق غير محصلة أي غير قابلة للتضاد والتقابل. لا يوصف الله بالسلب بل بالأسماء غير المحصلة. فالله ليس له عدم ولا يحتاج إلى إثبات وجود.ونقل المنطق إلى الإلهيات يظهر حدود قضايا المنطق، وأن الله في الذهن الإنساني فكرة محددة لكسر حدة الضرورة المنطقية. لا يمكن تصوُّر الله جوهرًا ينتقل من الفعل إلى القوة على نحوٍ طبيعي. فالله موجود بالفعل، جوهر أول، كان في عصر أرسطو يعتقد الناس أن الجواهر الأولى آلهة. ويرى «أهل زماننا» أنها ملائكة أو أنها مائِتةٌ في حين يرى زمان أرسطو أنها أزلية. وهي موضوعات تعليمية صرفة لا يمكن الاستشهاد بها للحكم على الموضوعات الأزلية. واضح أن الفارابي هنا يضع الفكر في التاريخ. فالعقائد تتغير بتغير العصور، تعدد الآلهة عند اليونان، والله الواحد عندنا. وأزلية الجواهر الأول عند اليونان، وخلق الملائكة عندنا.٥٤ويظهر الأسلوب الإسلامي في بعض التعبيرات اللاشعورية مثل «اللهم» كما تظهر البيئة الدينية الإسلامية في أول المخطوط ونهايته من أجل وضع الشرح في بيئته الحضارية الجديدة، والانتقال من البيئة اليونانية إلى البيئة الإسلامية. يبدأ المخطوط بالبسملة، ويلقب الفارابي بالشيخ، ويدعى له بأن يرضى الله عنه ويترحم عليه. وينتهي بالحمدلة والصلوات على الرسول وآله، ثم ببيان تاريخ النسخ ومكانه. ويُبتدأ النص بقال الفارابي؛ إعلانًا عن بداية المخطوط ويعلن عن نهايته بانتهى، ويعلن عن عدد الفصول. يتم إذن التوحيد مع الموضوع، ويخرج الموضوع من الداخل وليس من الخارج، ويصبح جزءًا من الثقافة الموروثة. وإن كان في البداية من الوافد. ولا فرق بين الناسخ والمترجم والشارح والفارابي فهم كلهم مؤلفون يتدخَّل الناسخ كأن الفارابي بالنسبة له آخر وأرسطو آخر الآخر. ولا أحد مقلد.٥٥ -
(جـ)
وبالرغم من أن ابن رشد هو «الشارح الأعظم» إلا أن الشرح كان نوعًا مبكرًا عند الفارابي في «شرح رسالة زينون الكبير اليوناني». وهو زينون الرواقي وليس زينون السوفسطائي، جعله الفارابي تلميذ أرسطوطاليس والشيخ اليوناني في آنٍ واحد مع أن الشيخ اليوناني وهو أفلوطين بعد أرسطو بسبعة قرون. فعلاقة الشيخ بالمريد خارج الزمان والتاريخ علاقة أبدية في الحكمة الخالدة. والسؤال هو: هل هذه الرسالة موجودة حقًّا أم إنها منتحلة؟ وبتحليل المضمون الإيماني لها فهي رسالة أشعرية في علم العقائد، أقرب إلى الانتحال. وإذا كانت موجودة فما هي صيغتها الأولى أي ذواتها التي قرأها الفارابي لتمثل الوافد في تصور الموروث؟ وإذا كانت موجودة بهذا المضمون الأشعري وهو ما يستحيل تاريخيًّا فقد اختارها الفارابي دون غيرها لأنها توافق تصوره الديني للعالم، وإذا كانت موجودة تاريخيًّا فلماذا لم يشرحها الآخرون؟ ويبين الفارابي سبب شرحها وهو أن النصارى قد شرحوها من قبل فحذفوا منها وأضافوا عليها. فأراد الفارابي أن يشرحها حقًّا كما هي عليه. فالفارابي على علم بأن الشرح ليس مطابقة الشارح بالمشروح بل قراءة وتأويل وحذف وإضافة ونقصان وزيادة، مما يسمح له بتجاوز المشروح كليةً باستثناء الاسم، «زينون» ولقب «الكبير» وثقافته «اليوناني». لا تظهر أفعال القول إلا مرة واحدة في البداية، مجرد إعلان دون اقتباس نص كما هو الحال في «الجوامع» لأن ما يأتي بعد القول ليست أقوالًا لزينون بل عرضًا للعقائد الإسلامية على النسق الأشعري؛ الذات، والصفات، والأفعال، والنبوة، والمعاد، والإيمان والعمل دون الإمامة.
ويضع الفارابي شرحه في إطار مقارن بالعودة إلى أرسطو ثم أفلاطون ثم زينون ثم سقراط.٥٦ فزينون الكبير تلميذ أرسطاطاليس والشيخ اليوناني. وعمل الفارابي هو شرح نص طبقًا لنوع أدبي خلقه الفارابي وسار عليه ابن عربي وهو «فصوص الحكم». فالحكمة فصوص متراصة ينتظمها كل واحد. ويذكر أرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط باعتبارهم رواةً في سلسلة متصلة كما هو الحال في السند في علم الحديث «عن معلمي أرسطاطاليس عن معلمه أفلاطون عن معلمه سقراط.» للدلالة على صحة المتن ودرءًا للإبداع وتسترًا عليه كما يفعل يوحنا في الإنجيل الرابع عندما يبدأ بالتاريخ المضبوط، الزمان والمكان والأسماء، لينتهي إلى ما بعد التاريخ أي إلى الإبداع الخالص أي الانتحال، كل تلميذ يروي عن أستاذه ويستفيد منه.وتتضمن الرسالة ستة أقسام؛ الأول في الدلالة على وجود المبدأ الأول، والثاني في الكلام في صفاته، والثالث في نسبة الأشياء إليه، والرابع الكلام في النبوة، والخامس في الشرع، والسادس في المعاد. فإذا كانت عقائد الأشاعرة ثمانية؛ أربعة في العقليات أو الإلهيات، الذات والصفات، والأفعال (الكسب، والعقل، والنقل)، وأربعة في السمعيات: النبوة، والمعاد، والإيمان والعمل، والإمامة يكون الفارابي وهو حديث عهد بالكلام قبل أن يتحول إلى فلسفة خالصة، وقد كان الكندي متكلمًا فيلسوفًا، معتزليًّا حكيمًا، قد حول النسق الأشعري، والفارابي معاصر له، إلى علوم الحكمة مع تغيير في الترتيب، جاعلًا المعاد في النهاية طبقًا لترتيب الحكمة والنهاية بخلود النفس، ومسقطًا الإمامة التي تحولت عنده إلى فلسفته السياسية في المدينة الفاضلة.
ويستدل الفارابي على وجود المبدأ الأول عن طريق الثنائيات العقلية اليونانية التي تسهل تنظيم الإيمان وتعقيله، الواجب والممكن، والكون والفساد، والعلة والمعلول، والماهية والوجود. ويستدل على صفاته مثل أنه واحد، ولا يجوز أن يكون جسمًا وسطحًا وخطًّا ونقطة، لا يقتضي التكثر، عقل وعاقل ومعقول، حي، عالم، حكيم، مريد، ليس فيه ضديةٌ للأشياء. وهنا يبدو اللاهوت السلبي مع الإيجابي، كما تتخلَّق صفات الذات عند الحكماء من صفاتها عند المتكلمين. ويظهر دليل التمانع المشهور عند الأشاعرة في إثبات أنه واحد.
والثالث «نسبة الأشياء إليه» يتعلق بالمخلوقات أو بالأحرى نظرية الفيض؛ إذ لا يصدر عنه إلا ما يلائمه. كمال لا نقص فيه. تصدر منه العقول ومنها تصدر النفوس مع الانتهاء إلى العقل الفعال. وتبدأ النبوة بالنفس القدسية التي تفيض عليها العلوم والمعارف مرة واحدة دون قياس شرعي. ثم يعرض النبي الشرائع وأركان الدين والعبادات لحفظ العالم. وأخيرًا تعود النفس لتلقى الجزاء؛ الثواب أو العقاب. ولا يظهر لفظ الله إلا في النهاية. فالعلم كنز مدفون لا يفوز به إلا من سهل الله طريقه إليه.
الإنسان ليس يوجد عادلًا | الإنسان يوجد عادلًا |
الإنسان ليس يوجد جائرًا | الإنسان يوجد جائرًا |
الإنسان ليس يوجد لا عادلًا | الإنسان يوجد لا عادلًا ص١١١ |
ممكن أن يوجد | ليس ممكنًا أن يوجد |
محتمل أن يوجد | ليس محتملًا أن يوجد |
ليس ممتنعًا أن يوجد | ممتنع أن يوجد |
ممكن ألا يوجد | ليس ممكنًا ألا يوجد |
محتمل أن لا يوجد | ليس محتملًا أن لا يوجد |
ليس ممتنعًا أن لا يوجد | ممتنع أن لا يوجد |
ليس واجبًا أن لا يوجد | واجب أن يوجد، ص١٧٤ |