(١) السماع الطبيعي
واضح أن ابن باجه هو الذي تعامل مع الوافد بعد الفارابي وقبل ابن رشد. فهو حلقة
الوصل بينهما من ناحية، وبين المشرق والمغرب من ناحية أخرى، ابن باجه هو روح
الفارابي كمقدمة لمشروع ابن رشد.
ويكون ابن رشد مطورًا لمشروع ابن باجه من شرح الجزء إلى شرح الجزء بالكل وبالقصد
بحيث يمكن مقارنة المشروعين معًا؛ ومن ثم تكون دعوة استقلال الفكر الفلسفي في
المغرب عنه في المشرق غير صحيحة تقوم على حجج مبتسرة مثل أسطورة السياسة في المشرق
والحريات الفكرية الأعظم في المغرب، وسيادة الأشعرية والتصوف والغزالي أقل في
المغرب. فالسطوة في المشرق والمغرب على حد سواء من السلاطين والفقهاء، من قريش
والجيش. والحريات الفكرية في المغرب قدرها في المشرق. ولا تقل الحياة الفكرية في
بغداد والبصرة عنها في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة. وحضور الغزالي وسيادة
التصوف لا تقل في المغرب عنها في المشرق إنما هي الرغبة في الاستقلال والظهور وأخذ
الريادة والإحساس بالنقص مرتين، مرة أمام المشرق، ومرة أمام الغرب، وتقربًا إلى
الغرب العلمي العقلاني وشق صف الوطني، وكيف يكون كل دين منحولًا أو شرقيًّا، نظرة
المغرب إلى المشرق، وكأن المغرب في الأندلس لم يعرف الدين الشرقي المنحول، وكأن
المشرق لم يعرف عقلانية البصرة وبغداد.
١ ولماذا استبعاد بعض مخطوطات ابن باجه لأنها تنحو منحى أفلاطونيًّا وكأن
ابن باجه ليس شارحًا للفارابي، وكأن كليهما يخلوان من العناصر الإشراقية مما يجعل
الباحث يقع في القطيعة الدجماطيقية باسم العقلانية المغربية، صحيح أنه في الوقت
الذي قضى فيه الغزالي على العلوم العقلية في المشرق في أواخر القرن الخامس أحياها
ابن باجه في المغرب في أوائل القرن السادس. وقد حضر إلى مصر مثل ابن خلدون. فابن
باجه هو حلقة الوصل بين المشرق والمغرب وليس أحد أسباب القطيعة حتى ولو كانت خصوصية
مغربية. فالفضل في ذلك يرجع إلى أبي نصر أستاذ أبي بكر أستاذ أبي الوليد، وكأن
العالم العربي أصبح محاصرًا بين خصوصية إيرانية في المشرق، وخصوصية مغربية في
المغرب، وخصوصية أفريقية في الجنوب، وخصوصية آسيوية في الشمال، وما العيب أن يكون
هاجس الأصالة هو الموجه الرئيسي لبحوث المشارقة؟ ففي المشرق تم التحول من النقل إلى
الإبداع في الماضي، العراق وإيران، وفي الحاضر، مصر والشام، وقد لا يكون هاجس
الأصالة دافعًا للإبداع في المغرب نظرًا لاعتزازهم بالنقل عن الغرب. فالمعرفة لدى
المغاربة علوم وسائل وليست علوم غايات.
٢
ولابن باجه شرح تعليق وتأليف. فمن شروحه شرحه على السماع الطبيعي، بالمفرد
وبالجمع. ويلاحظ أن الشروح كلها تصب في الطبيعيات وليس في المنطق أو ما بعد
الطبيعة، الأول والثالث والرابع وليس الثاني، السماء والعالم، وأنها ليست كثيرة
بالنسبة لباقي الأعمال، وأنها تنتمي جميعًا إلى المرحلة الثانية، وأنها لا تتعلَّق
فقط بأرسطو بل بأبقراط أيضًا، وأن أرسطو لا يذكر اسمه كما يذكر اسم أبقراط بعد أن
تحول أرسطو من التاريخ إلى اللاتاريخ، من الشخص إلى الموضوع، ومن المؤلف إلى النص.
وربما شرح أيضًا المقالة الأولى من كتاب إقليدس. وليست كلمة شرح في العناوين كلها
في المخطوطات. فهي ليست موجودة في الكون والفساد بل مجرد قول. وأحيانًا تتكرر كلمة
شرح في بعض المقالات في شرح كتاب السماع.
٣ وأحيانًا تتكرر الكلمة مع معاني في المقالة الواحدة مع قول أرسطو.
٤ مما يدل على أن الشرح ينتقل أحيانًا من اللفظ إلى المعنى.
٥
وتظهر أفعال القول ومشتقاته مع ضمير المتكلم المفرد والجمع والغائب والمبني
للمجهول مما يبين الأولوية المطلقة في تحليل أسلوب الشارح للأنا على الآخر واستعمال
أفعال القول أسلوب قرآني يكثر استعماله في الآيات لدرجة شك البعض في كونها من الآية
وليست مجرد إعلانٍ للخطاب وأمر به. وهو أسلوب الفقهاء الشرطي في تمثيل الاعتراض
مسبقًا «فإن قيل» … قيل للإحاطة بجميع جوانب الموضوع.
٦ ولأول مرة يظهر تعبير «قال أرسطو» في بداية الثامنة مثل «تفسير ما بعد
الطبيعة» لابن رشد في حين يدل تعبير «قول أرسطو» على الانتقال من القائل إلى القول،
وتظهر صيغة «ثم قال» لبيان خطوات الفكر وصيغه «لقال» لبيان التأكيد، «ولم يقل»
للنفي. لذلك «قال» للتعليل، «فقال» للعطف وبيان مسار الفكر «كأنه قال» للإكمال،
والشرط والاستدلال «إذا قال» وأخيرًا والشيء ذاته يشار إليه بالقول.
٧ ويقتبس ابن باجه فقرة قصيرة في قوله على الثانية من السماع الطبيعي
كمدخل للموضوع. كل عبارةٍ تشير إلى موضوع رأس الموضوع. وليس عبارة شارحة
مسهبة.
ومهمة الشرح الإيضاح وبيان ما وضحه أرسطو وما لم يوضحه بعد. ويوضحه ابن باجه على
خطوات، في الماضي والحاضر والمستقبل؛ لذلك يستعمل فعل البيان في الأزمنة الثلاثة،
وهو الفعل الغالب ومشتقاته مع أفعال القول والتنبيه والوقوف والإقرار والفحص
والشروع والتلخيص والتأمل. وقد يجتمع أكثر من زمانين للدلالة على ما تم وما يتم وما
سيتم فإذا كانت الجملة الشارحة اسمية فإنها تكون في المضارع وتدل على التحول من
القول والمعنى إلى الشيء والموضوع.
٨ والشرح لا يكون للجلي ففيه الكفاية. ويمكن شرحه بالقول الشارح، ولكن
الشرح يكون للخفي، ويكون الشرح في هذه الحالة نظرية في الإيضاح. وبالرغم من أن
الشرح عادة ما يكون أكبر من النص المشروح في حين أن التلخيص يكون أصغر منه إلا أن
ابن باجه في شرحه على وعي بأهمية اختصار الشرح.
ويصف ابن باجه مسار فكر أرسطو، فيحد الطبيعة أولًا ثم يترقَّى إلى تعديد الأجناس
من
الأسباب، كما تقصَّى في الخامسة من «السماع» الشكوك على كل أنواع الحركة. يصف ابن باجه
أفعال الشعور عند أرسطو أو عند منتقديه كما تبدو في أفعال: يستعمل، يبين، يتشكك،
يعتمد، يضع، ينبِّه. ويكشف عن منهجه الاستقرائي، وانتهائه إلى مثل ما انتهى إليه ابن
باجه نفسه عقلًا، فلا فرق بين التجربة والعقل. كلاهما ركيزة الوحي.
٩ وتظهر أنماط الاعتقاد في أفعال الشك والظن واليقين والنظر والتأمل
والفهم والاستقراء كما يتضح من تحليل الأسلوب المسار الفكري لابن باجه والانتقال من
فكر أرسطو، من المقدمات إلى النتائج، وتظهر المقدمات في صيغة «لما كان» أو «إذا
كان»، فعل الشرط مقدمة وجواب الشرط نتيجة.
ويبين ابن باجه مقدمات أرسطو ونتائجه واستدلالاته وبراهينه معللًا خطوات فكره
ومدركًا الأسباب التي جعلته ينتهي إلى ما انتهى إليه؛ لذلك يتصدر اسم أرسطو
باستمرار لام التعليل معطوفًا على اسم الإشارة في صيغة «لذلك». ففِكْر أرسطو فكر علمي
برهاني كما هو الحال في الفكر الأصولي. كما يبحث ابن باجه عن أسباب ما تركه أرسطو
لإكماله. فالكامل يدرك الناقص.
١٠ وتظهر استدلالات ابن باجه إما على نحو طبيعي أو بتوجُّهات من الموروث مثل
برهان الأخلاق وهو برهان الأولى عند الفقهاء وبرهان اللزوم، لزوم النتائج من المقدمات.
١١
ويبين الشرح هدف قول أرسطو وغرضه، وتوجه فكره نحو قصده. فالموضوع قصد قبل أن يكون
قولًا. ويبدو الغرض على مراحل في سلسلة من الأغراض المتتالية. فالغرض من الطبيعة
أولًا حد الطبيعة ومعرفة مبادئها العامة مثل الحركة والسكون، ومعرفة السبب وأنواعه
من جهة المادة أو الصورة أو الفاعل أو الغاية، وأنواع الحركة المتصل والمنفصل
والمكان والخلاء والزمان. يشرح ابن باجه أرسطو خطوةً خطوة لإيجاد نسقه الداخلي
ومعرفة ما القصد إيجابًا وما هو غير القصد سلبًا.
١٢ وأحيانًا تغيب أفعال القول كلية. ويبدأ ابن باجه بالتعامل مع الموضوع
مباشرة مع بيان القصد والغرض في صيغة تساؤلية لبيان الأشكال.
ولا يعني الشرح عند ابن باجه، كما يبدو الحال في الظاهر، شرح الأقوال وتفسير
العبارات بل يعني إعادة دراسة الموضوع على نحوٍ تأملي وإعادة كتابة النص المشروح.
فهناك موضوع مشترك بين الشارح والمشروح. هناك نقطة إحالة خارجية عن القوليين في
الموضوع ذاته.
١٣ فالموضوع في الذهن ويعود إليه ابن باجه بين الحين والآخر استدعاء من
الذاكرة. والأقوال خارجية. القول المشروح يعبر عما في الذهن على نحو ما، والنص
الشارح يعبر عنه على نحوٍ أوضح وأكمل. الشرح عملية فلسفية خارج العبارات بين الذهن
وموضوعه. ويستمد ابن باجه أمثلة من الطب لم تكن في النص المشروح. وقد قامت الشروح
على براهين منطقية وحجج عقلية تدل على أن ابن باجه يدرس الموضوع ولا يشرح القول؛
لذلك يكشف الشرح ارتباط النص بزمانه وعصره وتعليم الناس في وقته. فالنص تاريخ.
وأرسطو لا يكرر نفسه في المقالات الثانية للسماع لأن المطالب متغيرة، والموضوعات
وإن كانت واحدة إلا أن تناولها مختلفٌ طبقًا للعلوم، المنطق أو الطبيعة.
ويدرس ابن باجه الموضوع ثم يرجع قول أرسطو إلى نتيجة دراسته من أجل فهم قول أرسطو
بإرجاعه إلى
الشيء نفسه أو لإكماله لتصحيحه. فابن باجه هو الدارس، وأرسطو هو المدروس، ابن باجه
هو المشروح وأرسطو هو الشارح، وبعد أن يفهم ابن باجه أرسطو يأتي بأمثلة جديدة من
عنده ويسقط أمثلة أرسطو، يعرف ابن باجه الموضوع ويستعمل لغة أرسطو. أرسطو مجرد
استعارة قول دون شيء أو منهج، مجرد لغة أي تشكل كاذب. فإذا اتضح ذلك بان بُعد غور
أرسطو وعمقه في مقابل سطحية الشراح اليونان وخطئهم مثل ثاوفرسطس وثامسطيوس، وكأن
مهمة ابن باجه تلخيص أرسطو من براثن الشراح. ويبين ابن باجه عمق مذهب أرسطو «حكم
واقع»، وأنه اللائق به «حكم قيمة». ويعيب على الإسكندر عدم دفاعه عن أرسطو حتى شك
ثاوفرسطس على أرسطو في حين يدافع ابن باجه عن أرسطو ضد حيرة الشكاك في موضوع التغير
وإمكانية الحكم عليه بإطلاق، وكذلك تشككه في الزمان ووجوده في الذهن.
١٤
يدرس ابن باجه موضوعات أرسطو من جديد وينتهي إما إلى الاتفاق أو الاختلاف معه.
يتفق معه في تحديد الممكن الذي إن وجد لا يلزم منه محال. وحد الحركة بأنها كمال
بالقوة من جهة ما هو بالقوة. لم يعدل أرسطو عن طريق التعليم ولم يكرر نفسه بل أبدع
إبداعًا مستمرًّا، ولم يتناقض بل أقواله كلها متسقة. ولم يخرج عن الموضوع الذي ناقضه
فيه الآخرون مما يدل على جديته واحترامه الرأي الآخر، ويكمل ابن باجه ما لم يلتفت
إليه أرسطو مثل أن الكون والفساد ليسا بحركتين، وكذلك الاستكمال.
١٥ أرسطو ما هو إلا مناسبة لاستكمال الموضوع الذي بدأه أرسطو. فأرسطو هو
نقطة البداية وليس نقطة النهاية.
١٦ وقد يكون الخلاف بين ابن باجه وأرسطو في التسمية والاتفاق في المسمى في
إطار التشكل الكاذب.
ويتضح كون ابن باجه هو الدارس وأرسطو هو المعبر والقائل والمبين من نصوص ابن باجه
نفسه وأن له قولًا مستقلًّا، يعبِّر عن دراسةٍ مستقلة قد تتفق مع أرسطو وقد تختلف.
ويعبر ابن باجه صراحة عن ذلك في أوائل المقالات وفي أواخرها، دفاعًا عن أرسطو
خصوصًا عن ضرورة التعليم. ما قاله ابن باجه هو ما قاله أرسطو باستثناء هذه الضرورة.
وإذا ما تضامن أرسطو مع ابن باجه أو ابن باجه مع أرسطو فإنهما يقفان معًا ضد سوء
فهم الشراح اليونان له. فلم يترك أرسطو التغير الذي تشكك عليه الأقدمون ولا جهله،
فلا يمتن عليه أحد بنصرته حيًّا مثل ثامسطيوس، ولا هو موضع حيرة كما يصفه الإسكندر.
فالنسق قائم داخليًّا ببنيته الذاتية. ولا يخطئ أرسطو بإطلاق الحكم الكلي على الجزء
وهو واضع المنطق بل يحاول إيجاد قانون عام. فأرسطو على حق في قصده. وهو من أحسن
القوم نظرًا، ويشرك ابن باجه القارئ في الحكم، ويجعله شاهدًا إذا ما تأمل بنفسه
الأمر. يدرس ابن باجه الموضوع ويتحقق من قول أرسطو فيه ثم يدون قوله.
١٧ فقول أرسطو متوسط بين قول ابن باجه والموضوع ذاته مثل موضوع الحركة وأن
الكل متحركٌ على النحو الآتي:
ويعني الشرح إحالة الجزء إلى الكل، ووضع النص المشروح في سياق العمل الكلي، مثل
تفسير الكتاب بالكتاب عند المفسرين وتفسير الآية بالسياق. يحيل ابن باجه «السماع»
إلى باقي أعمال أرسطو المنطقية والطبيعية وإرجاع الآن أي الزمان من الطبيعة إلى
المنطق تأكيدًا على وحدة النسق الأرسطي. ويتداخل اسم الكتاب مع اسم المنطق قضاء على
التشخيص، ويحيل ابن باجه إلى سائر كتب أرسطو في موضوع الحركة لإيجاد نسقٍ كلي
للتحليلات الجزئية.
١٨ يدرك ابن باجه وحدة الفكر الأرسطي ووحدة المذهب فيضع الأجزاء في إطار
الكل؛ لذلك ينفي ابن باجه التناقض والاستحالة والشناعة في كلام أرسطو.
١٩
كما يحيل إلى المقالات الجزئية للكتاب مفسرًا الكتاب بعضه ببعض سواء كانت الإشارة
إلى أرسطو أو شراحه مثل ثامسطيوس. وأحيانًا يقتبس داخل شرحه نصًّا صغيرًا كما هو
الحال هذه الأيام عندما تطول الاقتباسات ولا يشار إليها عجزًا عن إبداع نص جديد
واعتمادًا على النصوص المشروحة أكثر من النصوص الشارحة، فالموضوع الكلي حاضر في
الذهن كوحدة واحدة كموضوع كلي يسهل بعدها الإحالة إلى الأجزاء والمقالات حتى تظهر
وحدة الموضوع وقصده.
٢٠ بل إنه يعتمد على عدة نسخ من السماع كما في تفسيره لما بعد
الطبيعة.
ويحدد ابن باجه أنواع الأقاويل في مؤلفات أرسطو. فقد كان هدف أرسطو هو التمييز
بين الأقاويل المشككة والسوفسطائية عند السابقين عليه مثل برمنيدس وماليسس والجدلية
والطبيعية عند سائر الطبيعيين قبل تمييز ابن رشد الشهير بين الأقاويل الثلاثة.
فأرسطو هو مؤرخ للقدماء وناقد لهم، قولًا قولًا. وابن باجه صاحب الوعي التاريخي
الإسلامي بين المشرق والمغرب أدرك الوعي التاريخي عند أرسطو. كان أرسطو ابن عصره
وقته، ينقل حضارته من الظن إلى اليقين، وكأنه أعلم أهل زمانه. فهو يمثل مرحلة في
تاريخ الفلسفة اليونانية ينقلها من السابقين إلى اللاحقين. ويقارن ابن باجه بين
زمان أرسطو وزمانه ناقلًا الزمان اليوناني إلى الزمان الإسلامي. ويقوم أرسطو بتلخيص
أفكاره وشرح أقوال السابقين وهو ما يفعله الحكماء المسلمون ويعيد عرضها بطريقة
الرسم في نوع أدبي جديد أقرب إلى المنهج أو الطريقة منه إلى الشكل الأدبي، تحويل
الطبيعة إلى منطق. كما يتحول اسم الحركة إلى اسم كتاب ثم الكتاب إلى قول، تحويلًا
التاريخ إلى مواضيع بنيوية مستقلة عن التاريخ. أرسطو مؤرخ ينقل الفلسفة اليونانية
من الظن إلى اليقين، ومن الخطابة والجدل والسفسطة والشعر إلى البرهان. فهو حلقة وصل
في تاريخ الفلسفة اليونانية بين ماضيها وحاضرها. يقسمها إلى مرحلتين، ما قبل أرسطو،
وما بعد أرسطو، وهو نفس موقف ابن رشد من دور أرسطو في الفلسفة اليونانية مما يدل
على أن الوعي التاريخي الإسلامي استطاع إدراك الوعي التاريخي اليوناني بعد أن ساهم
في بلورته قصص الأنبياء ونهاية الوعي، وقسمة آخر مرحلة فيه إلى ما قبلها وما بعدها
كما يفصل أرسطو مع اليونان ما قبله وما بعده. وإذا اكتملت البنية ظهر التاريخ.
٢١
لقد كتب جالينوس مقالةً مشهورة في عصره في قلب أقاويل أرسطو. وهو منطقي وليس فقط
طبيعيًّا، وتجرأ على المعلم الأول. ويقف ابن باجه موقف القاضي النزيه حكمًا بين
جالينوس وأرسطو كما يفعل ابن رشد بين المتكلمين والحكماء، بين الأشاعرة والمعتزلة
أو بين الحكماء والصوفية. وينتهي إلى حكم وهو أن موقف الشراح ينتهي إما إلى سهو
أرسطو وصواب منتقديه وإما إلى تقصير الجميع وعمق أرسطو. والسهو خطأ من غير عمد مثل
البراءة. أما تقصير الشراح فجريمة في حق أرسطو. ويدرك ابن باجه أن أرسطو يتمِّم ما
تركه أفلاطون ناقصًا. كما أن الحضارة الإسلامية تكمل الحضارة اليونانية كما يكمل
الإسلام مراحل الوحي السابقة. يعرف ابن باجه نسق كل فيلسوف وحدوده. فأفلاطون هو
الذي وضع برهان الحركة. كل متحرك له محرك ثم أكمل أرسطو البرهان لإثبات المحرك
الأول بعد أن توقف أفلاطون على المتحرك بالذات مثل النفس. فكر أفلاطون دائري علمي
في حين أن فكر أرسطو طولي ديني، ويبدو هنا أرسطو أكثر تدينًا من أفلاطون.
٢٢ وفي نفس الموقف يترك ابن باجه التاريخ ويبحث عن البنية. وبلغة المحدثين
يترك التتابع الزماني إلى المعية الزمانية؛ لذلك يتشابه موقف ابن باجه مع موقف ابن رشد
في الحضارة الإسلامية وموقف أرسطو في
الحضارة اليونانية في الانتقال من التاريخ إلى البنية. ويشرح أرسطو كمبادئ عامة
للنسق وليس طبقًا للموضوعات التاريخية الجزئية.
وابن باجه على وعي باختلاف العصر، عصر أرسطو عن عصر الشراح. فالشك في بعض
الموضوعات لم يكن في عهد أرسطو بل أتى متأخرًا في عهد الشراح، وكأن مسار التاريخ من
اليقين إلى الظن، ومن الصواب إلى الخطأ في فترة الانهيار كما كان من الظن إلى
اليقين ومن الخطأ إلى الصواب في فترة الصعود حتى أرسطو. فأرسطو يمثل قمة التاريخ،
ما قبله تطور وازدهار، وما بعده نكوص وسقوط، مثل محمد في تاريخ الأنبياء.
ويضع ابن باجه ثاوفرسطس وثامسطيوس معًا كشارحين أساءا تأويل أرسطو مع أن أرسطو
أعمق منهما. فعلاقة الأصل بالشرح باستمرار علاقة الصواب بالخطأ، والطبيعي بالمصطنع.
ولم يعرض الإسكندر لتشكك ثاوفرسطس بالرغم من مشاركته له فيه. ويذكر ابن باجه ثامسطيوس
مع ثاوفرسطس باستمرار وقد أساء كلاهما فهم أرسطو، وأرسطو أعمق منهما. وهذا
العمق للمشروح على الشارح قانون عام للتاريخ من العمق إلى السطحية بمرور الزمان من
الخلافة الراشدة إلى الملك العضود. ولا يحتاج أرسطو نصرة خارجية ما دام المذهب
متسقًا داخليًّا. ويقوم الشارح اليوناني بالحذف والتلخيص منعًا للتكرار كما يفعل
الشارح الإسلامي وهما من مقتضيات الشرح، ولكن في رأي الاستشراق الشارح اليوناني
مبدع والشارح الإسلامي مزور.
٢٣
ويفارق أرسطو الطبيعيين بنظرين؛ الأول جعل الحركة مطلبًا بنفسه، والثاني الفحص
فيها قبل الفحص في العالم. ولما كان الرأي فيها هو نفس الرأي في وجود العالم فإن
هناك رأيين؛ الأول تكون العالم عند أنكساجوراس، والثاني وجوده مرة وارتفاعه مرة أخرى
عند أبندقليس على خلاف من يرى أن العالم واحد أبدي، وكذلك رأي أفلاطون الذي لا يقول
بالرأيين لأن الزمان عنده متكون. ولم يصرح لأي من الرأيين ينتسب. يبدأ ابن باجه
بتصور عام لوضع أرسطو في حضارته بالنسبة للفلاسفة السابقين عليه وكيف أكملهم كما
أكمل الإسلام المراحل السابقة وكما تكمل الحضارة الإسلامية الحضارة اليونانية.
٢٤
أما ما قاله جالينوس فإنه سوء فهم لأقوال أرسطو لا يستحق عناء الرد عليه. فقد طعن
جالينوس على أرسطو في أن الحركة داخلة في ماهية الزمان معتمدًا على أنه دون توهم
حركة فلا زمان. وخطأ جالينوس في فهم الوهم عند أرسطو وكأن الوجود تابع للوهم في
حين أن الوهم عند أرسطو من عمل الذهن. الوهم ليس في الوجود كما تصور جالينوس بل في
المعرفة كما بين أرسطو. ويجادل ابن باجه جالينوس دفاعًا عن أرسطو مستشهدًا بمثله
إذا كان قد برأ من المرض فقد كان فيه شيئان، القابل للصحة وهو المتحرك والطب وهو المحرك.
٢٥
ويعارض ابن باجه معارضة يحيى النحوي لأرسطو في أن القوة تقوم على الفعل وكأن
القوة الطبيعية لا تتقدم حركتها. وأحيانًا ينقض ابن باجه يحيى النحوي اعتمادًا على
الفارابي ومناقضته له في الموجودات المتغيرة. ويخلط ابن باجه أحيانًا بين يحيى بن
عدي ويحيى النحوي ويسميه يحيى بن عدي النحوي، وربما كان الخطأ من المؤلف أو من
الناسخ، وربما له نفس النظرية إن لم يكن هو نفس الشخص في الوعي الجمعي ويصفها بأنها
مغالطة أو غلط. كما يعارضه اعتمادًا على معارضة الفارابي له. ويستعمل طريقة
الرسم. وكان سبب خطأ يحيى النحوي استعمال الفلسفة من أجل الدين. يدافع ابن باجه عن
أرسطو ضد نقد يحيى النحوي له واعتمادًا على نقد الفارابي ليحيى النحوي، كانت غاية
يحيى إثبات تقدم القوة على الفعل بالزمان لإثبات حدوث العالم لا قدمه وتشويهًا
للفلسفة باسم الدين، واستعماله الفلسفة لتبرير الدين الشعبي.
٢٦
ويضرب ابن باجه المثل بأقوال أفلاطون التي توحي بقدم العالم مع أن أفلاطون لم
يصرح بقدم العالم ولا بحدوثه لأنه يقول بتكون الزمان دون تحديد دقيق لذلك تقريبًا
لأفلاطون إلى الإسلام. كذلك يعلل ابن باجه لماذا قال أفلاطون بالتناسخ لأنه رأى
النفس مفارقة مفارقة معنى؛ وبالتالي ضرورة وجود أنفس بلا نهاية بالفعل.
٢٧
وينقد ابن باجه حجج «زينون» في نفي الحركة؛ إذ يخلط زينون بين القسمة بالقوة
والقسمة بالفعل. فإن أجزاء الطول تنقسم بالقوة لا بالفعل، وينتهي زينون إلى إنكار
الحركة، الحركة السرمدية المتصلة، ويقرنه ببارميندس. والحس يشهد بكذبه. وينقد أرسطو
زينون في الإنصاف بحسب الأمر أي بدراسة الموضوع نفسه وليس مجرد بيان تهافت القول.
فأصل القول في الشيء كما أن أصل الوحي في أسباب النزول.
٢٨ ويعرض ابن باجه لنظرية أنبادقليس وحركة العالم بمبدأين فاعلين المحبة
والعداوة، وراء وجود العالم وارتفاعه أو بلغة الدين، الخلق والبعث. ويكون من أوجه
قصور العلم الطبيعي عدم تحوله إلى منطق أو إلى ما بعد الطبيعة. ويبين ابن باجه كيف
أن الحركة الدائرية وحدها هي المتصلة والسرمدية كما تصور بطليموس وأبرخس وكأن الفلك
على مركز القمر أو على مركز الشمس.
٢٩
ويبدو الوعي التاريخي في استعمال ابن باجه ألفاظ الأقدمين والمتقدمين والأقدمين
من الطبيعيين، والقدماء أو من تقدم أو ذكر أسماء المتفلسفين والمشائين
والسوفسطائيين. ويتحد الوعي التاريخي لابن باجه بالوعي التاريخي لأرسطو. فمهمة كل
واحد منهم في حضارته وفي الحضارة الإنسانية العامة الانتقال من الظن إلى اليقين،
والتحول من الخطابة والجدل والسفسطة والشعر إلى البرهان. كما حاول الفارابي من قبل
تصور هذه الأقاويل كتقدم في التاريخ وليست فقط كأنواع للأقاويل خارج التاريخ في
المنطق الخالص، وابن باجه في النهاية تلميذ للفارابي، فتاريخ الفلسفة اليونانية هو
هذا المسار الذي أدركه أرسطو والذي قمته المنطق. عرف القدماء الطبيعة دون منطق أي
بلا برهان بل بأقاويل خطابية أو جدلية أو سفسطائية. فقد اختلف الأقدمون ممن تفلسف
في الطبيعة وقالوا بآراء مخالفة للمشاهدة لقلة خبرتهم بالمنطق، ولكنهم ردوا
الطبيعيات إلى المادة. فلا يحدث موجود من غير موجود بالرغم من أن الموجود ليس صنفًا
واحدًا.
وقد تشكَّك المتقدمون في قول أرسطو حتى إن الإسكندر أفصح عن حيرته فيه، ومع ذلك
حاولوا تبرير أرسطو مستكرهين القول. فلم يجدوا بدًّا من الإفصاح عن شكهم كيف الحكم
بإطلاق على المتغير وهو ما سلم به أرسطو نفسه، إلا أن أرسطو يُعنى بالمتغير ما ينقسم
وما لا ينقسم لا يتغير، وهو المعنى الزائد على المعنى الأول. وقد سلم أرسطو في موضع
آخر بالخاص؛ ومن ثم لا تناقض في النسق الأرسطي، ويعين ابن باجه نص أرسطو الذي قال
فيه بالخاص. فيدفع الشك عن أرسطو ليس فقط دفعًا لتهدئة سوء التأويل أو التعسف بل
بالنص من أرسطو نفسه مثل القرآن وخلوه من التناقض. وتصبح المسألة أقرب إلى التعارض
والتراجيح كما هو الحال في علم الأصول. وإذا كانوا يعبِّرون عن هذا الشك في كتبهم إلا
أنهم لم يعرفوا حقهم في التشكك بحسب قول أرسطو، يدفع ابن باجه شك الخصوم إلى أقصى
حدٍّ حتى يمكن دفعه بعد ذلك وتبرئة أرسطو كما يفعل القاضي الحصيف.
٣٠
كما يذكر الأقدمين من الطبيعيين ويعني بهم أيضًا المتقدمين. كانوا يوجهون نظرهم
نحو العالم دون تخصيص الحركة بل من جهة ما تدعوهم الضرورة إليها، ومع ذلك اختلف
العلماء القدماء في المكان. أرسطو هو الذي فصل العلم الطبيعي، كما يذكر الطبيعيين
وهم الأقدمون من الطبيعيين وكأن مسار التاريخ منهم إلى أرسطو التحول من الخطأ إلى
الصواب، ومن الجدل والسفسطة والخطابة والشعر إلى البرهان. يذكر أرسطو آراءهم
باعتباره مؤرخًا. وقد جعل أرسطو التكون إحدى الحركات وهو ما لم يلتفت إليه
الطبيعيون. ثم نقد أرسطو آراءهم بعد ذلك في المادة، وعبر عنها بطريقة البرهان.
٣١
ومن الطبيعي أن يكون أرسطو أكثر حكماء اليونان ذكرًا ثم شراحه مثل ثامسطيوس ويحيى
النحوي.
٣٢ ومن الطبيعي أيضًا أن يأتي من حكماء الإسلام الفارابي في المقدمة
باعتباره المعلم الثاني، وارث أرسطو. فقد أصبحت أعمال الفارابي على أرسطو وافدًا
تحول إلى موروث أو موروثًا أصله واحد.
٣٣ فهو صاحب براهين مثل أرسطو. وهو ملخص لأعمال أرسطو عارضًا لها كما فعل
في كتاب البرهان. وهو راوٍ لما ينقضه يحيى النحوي على أرسطو ناقد له على طريقة
الرسم، وهو مؤلف مستقل وصاحب «الموجودات المتغيرة» وهو ناقد يحيى النحوي في القوة
التي لا تتقدم الحركة بالزمان.
٣٤ كما يستعمل ابن باجه التراث العلمي الموروث من ابن سيد إحساسًا
بالإبداع العلمي، وينقد المتكلمين سابقًا ابن رشد من خلال التأليف في الوافد وشرحه.
وقد تقادمت آراء المتكلمين في عصر ابن باجه مما يدل على وراثة الحكمة للكلام لأن
المتكلمين لم يقصدوا النظر في الطباع بل إن منهم من يبطل وجودها. وقد تكلموا في
اليسير منها في معرض نقد الخصوم مثل الجزء الذي لا يتجزأ دون أن يقصدوا تحليل
الطبيعة؛ لذلك يترك ابن باجه هذا الجزء الجدلي ويتوجه إلى البرهان مباشرة. ويوحد
ابن باجه هنا بين المتكلمين والأشاعرة الذين سادوا بعد محنة المعتزلة والذين ينكرون الطباع.
٣٥ وتبدأ صيغ التأويلات لإثارة الإشكالات حتى يتم تعشيق الوافد في الموروث
مثل: هل هناك محرك أول لإثبات وجود الله؟ هل هو وجود واحد لإثبات الوحدانية؟ هل هو
جسم لإثبات التنزيه؟ مما يدل على أن علوم الحكمة هي مزيد من التنظير والتعقيل لعلم
أصول الدين، والدافع على الشرح أهم من الشرح لأن الشرح مقاصد. ومن هنا أتت أهمية
السابعة والثامنة في الطبيعيات لأنها تتضمن الحركة. الكل متحرك محرك لإثبات وجود
الله على طريقة المتكلمين. يدرس ابن باجه الموضوع نفسه، وهو الدافع عليه والغرض منه
وليس شرح الوافد.
٣٦ والفرق بين الوافد والموروث أن كليهما يعتمد على العقل والواقع ثم يضيف
الموروث مقياسًا ثالثًا هو الوحي الذي يضمن صحة العلاقة بين العقل والواقع.
وتظهر مباحث اللغة عند ابن باجه وفي مقدمتها اشتراك الاسم أو الاسم المشترك وهو
الذي يفيد معنيين على نحوين مختلفين. وهو ما تعادل مباحث الألفاظ عند الأصوليين.
وتظهر في السماع عامة أو في إحدى مقالاته على وجه الخصوص كالسادسة. ويسمى الاشتراك
أيضًا استعارة وتشابهًا، وهنا ينقل ابن باجه النص الوراد على منطق اللغة الموروث
منعًا للتشبيه والتجسيم ليس في الله بل في الطبيعة. والتفلسف هي هذه القدرة على
التمييز بين معنيين لشيء واحد. الشرح إذن قراءة الآخر من خلال الأنا. ويتجلَّى
الاشتراك وما ينتهي إليه من اشتباهٍ في الاستعارة. والصورة الفنية أكثر قدرة من
العقل على التعبير، فهي تكمل الاستدلال المنطقي. وأحيانًا يكون الاشتراك بين ثلاثة
معاني وليس بين اثنين فقط.
٣٧
ويظهر البعد اللغوي الموروث عند ابن باجه في التكرار المستمر لتعبير «لسان العرب»
تأكيدًا على التغاير بين الأنا والآخر، بين العرب واليونان. فالمحرك يدل على وجود
الحركة كالهيئة فيه طبقًا لشكل اللفظ في لسان العرب. والحركة إذا قيلت على الحركة
في المكان في لسان العرب قد ترادف النقلة، والنقلة قد تعني في لسان العرب العام
والخاص طبقًا لمنطق الأصول. وأشهر معانيها ما يبدل جملة مكانه لأنه من الأقاويل
المستعملة عند العرب، واللفظ اليوناني للنقلة أخص من استعمال العرب إذ يفيد المتنقل
قسرًا وطبعًا. والعرب لا تسمي الحيوان متنقلًا. والنهاية في لسان العرب تدل على ما
فيه التناهي، على الآخر وليس على المبدأ، آخر توجد عليه الحركة مثل استعمال الطرف
في لسان العرب. والمضاف عند أرسطو في لسان العرب هو الوقت بعد الوقت أو المقارنة أو
المناسبة. ويعتمد ابن باجه على تحليل المعاني الأرسطية في اللسان العربي، ونقل
الوافد على الموروث قبل ابن رشد، وتحويل معنى الحركة عند أرسطو من الطبيعة إلى
اللغة كما فعل الفارابي في تحويل المنطق إلى لغة.
٣٨
ويستعمل ابن باجه أمثلة من التاريخ الإسلامي مستقلًّا عن أمثلة أرسطو طبقًا لقياس
العلة عند الأصوليين. فالمثل من أرسطو يعبر عن فكرة ثم يكمل ابن باجه الفكرة ويتمها
ثم يعطي لها مثلًا جديدًا. مثال أرسطو يعادل الأصل. وفكرته الحكم، ومثال ابن باجه
الفرع، وفكرته تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة كما هو الحال
في القياس الأصولي أو طبقًا لنظرية المثل والممثول في التأويل الشيعي على النحو
الآتي:
وهي نفس الطريقة التي تمت بها زيادة في معجزات المسيح في الأناجيل ومعجزات الرسول
في كتب السير أو مؤلفات الكلام، من المثل الأول إلى الممثول إلى المثل الثاني،
المهدي يحرك الرشيد بالذات، والمنصور يحرك المهدي بالذات إذن الرشيد يحرك المنصور
بالعرض. فالمثل الثاني للحركة بالذات والحركة بالعرض يدل على مدى الحضور للتاريخ
الأموي من الشرق في وعي ابن باجه، وكان يمكن إعطاء مثل علمي من الاعتماد والأكوان
عند المتكلمين ولكن زمان الكلام قد ولى في عصر الحكمة.
٣٩
وتظهر الأمثلة العربية للموجودات الخرافية مثل عنز أيل أو الغول. كما يبدو
الأسلوب العربي في ضرب المثل بزيد وعمرو ككائن طبيعي. جوهر حامل للأعراض. بل يظهر
الأسلوب العربي، أسلوب الفقهاء في تخيل المعترض أو الشاك والرد عليه سلفًا من أجل
إكمال جوانب الموضوع، وبيان أنماط الاعتقاد، وافتراض قول آخر من أجل إفساح المجال
للرأي الآخر. كما يظهر الأسلوب العربي في التعبيرات النمطية مثل «ليت شعري»، كما
تظهر عند ابن رشد، وربما هي من عادات الأندلسيين. وتكشف عن أنماط الاعتقاد مثل
الحيرة والتردد والتساؤل والظن واليقين عندما يتجلى الموضوع في الشعور ويتم
الاقتراب منه.
٤٠
وينتهي المؤلف أو الناسخ أو القارئ، فالشرح وثيقة جماعية مثل الترجمة بطلب الرضا
من الله والحمد لله والصلاة والسلام على النبي وآله، وتوثيق الحكم الشرعي لملكية
المخطوط واسم المالك وتوقيعه وشهرته ومكان التوقيع وزمانه واسم البائع وبعض أبيات
الشعر في ثقافةٍ لم تجهل التوثيق ونقد الروايات شفاهةً وتدوينًا.
٤١
(٣) كتاب النفس
وهو شرح يدل على ذلك اسمه مع قائمة شروحه.
٥٠ وبطبيعة الحال يبدو أرسطو في مقدمة الوافد ثم أفلاطون ثم جالينوس ثم
الإسكندر وديموقريطس ثم سقراط.
٥١ ويضع ابن باجه أرسطو في سياق تاريخ الفلسفة اليونانية ما قبله أو ما
بعده. مبينًا كيف أن أرسطو نقل التفكير في النفس نقلة نوعية. وتطرق إلى موضوعات لم
يتطرق إليها أحد من قبله، هو ترتيب قوَّى النفس ابتداءً من الحس وتوسط المخيلة، نهاية
بالنفس الناطقة. ويقارن ابن باجه بين أرسطو وأفلاطون، ويبين أن كليهما مع كثير من
المشائين قد تعرَّضا لنفس الموضوع. ويعرض لرأي أفلاطون في جعل المحسوس خيالًا، ومن
هنا أتت نظرية أن التعليم تذكر للصورة وكما بينها سقراط في فيدون فيكون للعقل حس أو
مجانس له قبل أن يعقل فيكون التعلم تذكرًا. وخطأ ديموقريطس أنه رأى أن الإبصار
بالخلاء دون ما حاجة إلى الهواء، ويعرض ابن باجه إلى رأي جالينوس الطبيب في النفس،
إنها واحدة ذات أجزاء بالموضوعات. وهو رأي أفلاطون أيضًا في طيماوس ضد الآراء التي
قيلت في النفس. وهو أشبه برأي الماديين الذين يرون كمية النفس ومنهم من رآها ذات
أجزاء كثيرة على الانفصال الكمي وهي المادية الساذجة، ويعتمد عليه جالينوس لتفسير
الإبصار بوضع النفس في البصر وضع المحرك في المتحرك في حين أن المحرك عند أرسطو هو
المحسوس والمتحرك هو البصر، وهنا يكون جالينوس أقرب إلى أفلاطون في الشعاع الخارج
من البصر نحو الشيء في مقابل أرسطو الشعاع الخارج من الشيء نحو البصر.
٥٢ ويحيل ابن باجه إلى كتاب الإسكندر في النفس مما يدل على وعي ابن باجه
بالموضوع كله ومن خلال مؤلفات الإسكندر كلها. ويبين لماذا انتهى أفلاطون إلى رأيه
في النفس أنها جوهر، والجوهر يقال على الهيولى والجسم وعلى الصورة، ولما كان
اعتبارها جنسًا فإنه حاول تحديدها بما يخصها.
ويستعرض ابن باجه آراء المتقدمين أو الأقدمين المشائين أو المتفلسفين والأقدمين
من المتفلسفين، وهي آراء متناقضة وغير متلازمة ومتعددة. ومع ذلك يتفق الأقدمون على
أن النفس جوهر. كان قصد المتقدمين نفس الإنسان حسب نظرهم في العلم المدني الذي كان
الفحص فيه في ذلك الزمان مقصورًا عليه. أما العلم بباقي الأنفس فجزء من العلم
الطبيعي. فالنفس موضوع العلوم الاجتماعية قدر ما هي موضوع العلم الطبيعي، ويحصر ابن
باجه آراء المتفلسفين أي الفلاسفة والقدماء لأنها مشهورة دون تحديد بتاريخ الفكر
اليوناني. ويستوفي الصحيح منه، ويفحص كل منها كنوع من الرياضة الجدلية. فما يهم ابن
باجه هو البنية لا التاريخ إجابة على سؤال هل للنفس ماهية أم ليس لها ماهية.
٥٣
ومن المؤلفات يشير ابن باجه إلى السماع ثم الحيوان ثم الحس ثم أنالوطيقا الثانية
ثم النفس والنبات والسماء والعالم وطيماوس وفادن لأفلاطون والنفس للإسكندر وبارمنياس.
٥٤ فالسماع يأتي في المقدمة باعتباره أول كتاب في الطبيعيات ثم الحيوان
والحس نظرًا لقربهما من موضوع النفس. كما يرتبط المنطق أيضًا بالنفس في الإحالة إلى
البرهان (أنالوطيقا الثانية) وإلى ما بعد الطبيعة. يحيل ابن باجه إلى السماع وبوجه
أخص إلى الثانية ثم الأول ثم السابعة ثم الثانية في مواضيع الحركة ونسبة العدم إلى
لا مكان. ولا يدخل ابن باجه في تاريخ أرسطو لأنه أقرب إلى التراث المحلي اليوناني
تراث الآخر، والحقيقة قبل اكتمالها بالرغم من حضور أرسطو الغالب لديه. كما يحيل إلى
«الحيوان» عامة، والمقال السادس عشر فيه خاصة وأيضًا إلى الثاني عشر والسابع عشر في
موضوع البسائط الأربعة، وتكون ذوات الأنفس وتكون الحيوان، وأن صور النار مرئية.
ويحال إلى الحس بوجه عام وخاصة الثانية في موضوعات الحس ومعاني المحسوسات والقوة
الخيالية والتخيل مما يدل على ارتباط الطبيعة والميتافيزيقا بالنفس.
٥٥ كما يحال إلى باقي كتب الطبيعة، الكون والفساد عامة والمقالة الأولى
خاصة في موضوعات الحركة والاستحالة والمزاج، وإلى السماء والعالم على وجه العموم
دون تحديد الموضوع بعينه، وإلى الآثار العلوية عامة والرابعة خاصة في موضوع الجسم
الآلي وأصناف التغير لأنواع الامتزاج.
٥٦ ويحال إلى مقالات كتاب النفس ذاته خاصة المقالة الأولى التي ينقض فيها
أرسطو آراء السابقين. ويحال أيضًا إلى أنالوطيقا الثانية التي بها الأدلة التي تقيد
إجراء الحد بالعرض لا بالذات، وبها الحد وطرق استخراجه، التقسيم والتركيب والبرهان
وإلى بارمنياس وبها تركيب الأمر الجازم من محمول وموضوع.
٥٧ كما يحال إلى ما بعد الطبيعة والذي يسمى كتاب الحروف.
٥٨ وتدل هذه الإحالات كلها على وعي بالمذهب الأرسطي كله وإحالة الأجزاء
إليه لا فرق بين المنطق والطبيعيات وما بعد الطبيعة بالرغم من أن الإحالة إلى
الطبيعيات هي الأغلب على المنطق وما بعد الطبيعة. ولا يحال إلى مؤلفات أرسطو وحده
بل أيضًا إلى بعض مؤلفات أفلاطون مثل محاورة طيماوس وفيدون وبعض كتب الإسكندر مثل
كتاب النفس في مواضيع تعريف النفس والعلم.
٥٩ بل إن ابن باجه نفسه يحيل إلى باقي مؤلفاته تأكيدًا على وحدة المذهب
واتساق الموقف وتكامل التأليف وتقسيم الموضوع.
٦٠
وتستمر أفعال الإيضاح في كتاب النفس المشتقة من البيان والمعرفة من أجل
رفع الشك والانتهاء إلى معاني واضحة وبينة في النفس وواضحة بذاتها. والإيضاح متصل
الحلقات بين الفقرات، بين السابق واللاحق. ووظيفة الإيضاح إزالة الشك والانتقال إلى
اليقين واستقرار النظر بدلًا من الاضطراب وتضارب الآراء. كما يقوم ابن باجه بتعليل
فكر أرسطو وإيجاد البراهين على صدقه.
٦١ وتظهر أفعال القول في ضمير المتكلم. ولا توجد صيغةٌ أخرى مما يدل على أن
الأنا هو الذي يقول في غياب الآخر كلية.
٦٢ ويقتبس ابن باجه من أرسطو قولًا مشهورًا له يستشهد به مثل «إن كل علم
حسن وجميل.» ربطًا للقدماء بالمحدثين. كما أن ابن باجه على وعي بمستويات كتابات
أرسطو بين الخاصة والعامة.
٦٣
ويظهر الموروث في كتاب النفس عند الفارابي ولسان العرب.
٦٤ ويحيل ابن باجه إلى كتاب الفارابي في الخطابة البرهانية في أن المتصل
به أقسام لا نهائية وكذلك في الزمان. كما تشكك الفارابي في مقالته العقل والمعقول
على ما يقال عليه الجسم؛ إذ يقال على الصورة والمادة بتقديم وتأخير. فالمعقول
والهيولى موجودان متقابلان، يوجد كلٌّ منهما لأجل الآخر. كما تظهر الأسماء المشككة،
وهي الأسماء المشتركة أي المتشابهة كما هو الحال في منطق الألفاظ عند الأصوليين.
كذلك إذا وضع حد من جنس الشيء أمكن الدلالة على أجزائه بالأسماء المشتقة. والنفس
اسم مشترك متشكك فيه، ويمكن أن تكون ألفاظ أخرى باشتراك الاسم. كما تظهر نظرية
المعاني الثلاثة للفظ؛ الاشتقاقي والاصطلاحي والعرفي في علم الأصول. فاللفظ له
دلالات عند الجمهور. كما يظهر الموروث اللغوي في إحالة ابن باجه إلى لسان العرب.
فالنطق في لسان العرب يدل أولًا على التصويت بألفاظ دالة على معاني أو بألفاظ غير
دالة كما قال الشاعر.
٦٥ كما قد يدل على غير هذين المعنيين مما يعرفه أهل كل لغة في لسانهم.
ويعتمد ابن باجه على اللغة العربية لتفسير معنى النطق في عرض القوة الناطقة، آخر
فصل في كتاب النفس، ويستشهد بالشعر العربي وليس بأرسطو.
٦٦ كما يستعمل ابن باجه العرب في الإشارة إلى الفاعل المجهول بزيد وعمرو.
٦٧ وكما يبدأ الشرح بالبسملة والحمدلة ينتهي بالدعوة إلى الله بالتوفيق
والعون وطلب الرضا على المؤلف من الناسخ والترحُّم عليه.
٦٨