(٢) شرح أرجوزة ابن سينا في الطب
ليس الشرح فقط للوافد، أرسطو، جالينوس، ولكنه أيضًا للموروث من أجل إحداث التراكم
الفلسفي الداخلي الضروري. فالوافد ما هو إلا رافد للموروث، والموروث هو المكون
الرئيسي للوعي الفلسفي التاريخي.
٢٦ والعجيب اختيار عمل لابن سينا، وهو نموذج الفيلسوف المعادي للعقل
والطبيعة باسم الإشراق والفيض. ولا يوجد فيلسوف يوجه إليه ابن رشد سهامه قدر
الغزالي وابن سينا، ولكن لا يوجد انتقاد كبير لابن رشد لابن سينا الطبيب، وإن كثر
هذا الانتقاد لابن سينا الفيلسوف والشارح لأرسطو والصوفي، ويحدد ابن رشد الشرح كما
طلب منه، إنه شرح للألفاظ من أجل بيان أغراضها دون تطويل أو إكثار، فهو شرح ملخص،
يجمع بين الشرح والتلخيص للتعبير عن المعاني العلمية بالأقاويل الموزونة أي قد
العبارة على المعنى مما يتطلب حذفًا لبعض الألفاظ وجذبًا لبعض المعاني وتوضيحها
للأفهام. ويبدو أن ابن رشد كان لديه عدةُ نسخ من الأرجوزة يراجعها كلها، ويعرف
الخلاف بينها.
٢٧
وقد عبر ابن سينا عن الطب شعرًا اعتمادًا على عبقرية العرب الشعرية؛ فالشعر أداة
للعلم وليس مجرد نوع أدبي. فقد طغى الذوق العربي على العلم العربي في المراحل
المتأخرة لسرعة حفظه واستنكاره. وحوله ابن رشد إلى نثر علمي. ويوسع ابن رشد من شرحه
حتى يخرج من إطار الطب بالمعنى الدقيق ليشمل الطب الجغرافي وعلم الفلك. فالطب ليس
مجرد علم عملي للمداواة بل هو علم نظري للتشخيص، هو فلسفة طبيعية، جزء من الطبيعيات
التي تشمل باقي العلوم الطبيعية.
وبتحليل أفعال القول تتصدر صيغة «يقول» إشارة لابن سينا. فهي ليست عادة خاصة
بأرسطو بل بكل النصوص المشروحة. ليس فيها تبعية لأحد. بل هو أسلوب قرآني. ولا يظهر
«قال» إلا مرة واحدة مما يدل على أن ابن رشد يصف حقيقة أكثر مما يتحدث عن ماضٍ.
ويتحدث في صيغة الفعل «يقول» وليس في صيغة «القول» الجاهز الذي لا شأن له بأفعال
الشعور. ثم يأتي فعل «يريد» أي التوجه نحو المعنى والقصد الإرادي، وتتوالى أفعال
الإدراك، أفعال الشعور المعرفي مثل: ظن، تكلم، ذكر، دعا، يحتمل، يوحي، اشترط، وافق،
في المضارع أكثر من الماضي لأنه يصف أفعال شعور علمي حاضر وليس علمًا انقضى، ويغلب
الإثبات على النفي في صيغ الأفعال. وكلها تقريبًا في ضمير الغائب، وأقلها في ضمير
المتكلم، إشارة إلى ابن سينا وليس إحالة إلى ابن رشد. وغالبًا ما تكون أفعال
القول في أول الفقرات ونادرًا ما تكون في آخرها.
٢٨ أما الأسماء فإنها أقل من الأفعال ولكنها أيضًا تدل على تعامل ابن رشد
مع الموضوعات الطبية مستقلة عن أفعال القول. ومعظمها أسماء إشارة أي إشارة إلى
أشياء موجودة بالفعل.
وكما يستعمل ابن رشد «قال»، «يقول» فإنه يستعمل أيضًا «قلنا»، تمايزًا بين الأنا
والآخر.
٢٩ فإذا قال جالينوس بأن الحياة تبقى بالقوة الطبيعية فإن ابن رشد يسميها
القوة الغاذية. فالتمايز بين النصين ليس فقط بين الداخل والخارج بين الموروث
والوافد، دلالة على التمايز الحضاري، بل بين الماضي والحاضر في الداخل، دلالة على
التقدم العلمي.
مهمة الشرح الإيضاح؛ لذلك يتكرر فعل «يعني» أو الحرف «أي». والإيضاح هو إيجاد فكر
متسق بين المقدمات والنتائج في منطق محكم للاستدلال.
٣٠ لذلك يصف ابن رشد مسار فكر ابن سينا، ويدخل في منطق استدلاله كما يدل
على ذلك أفعال الشرط وجوابه، وحروف التوكيد، وأسماء الصلة.
٣١ ويحيل السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق في صيغ «فلنرجع إلى ما نحن
بسبيله.» بعد الاستطراد.
٣٢ ويبحث ابن رشد عن العلل والأسباب التي جعلت ابن سينا ينتهي إلى مثل ما
انتهى إليه. فابن رشد يراجع أحكام ابن سينا على الموضوعات نفسها كما هو الحال في
تحقيق المناط عند الأصوليين.
٣٣ فلا يشرح الطبيب إلا الطبيب لأنه لا يشرح القول بل يرى الموضوع المشترك
بين المشروح والشارح، وبعد أن يتحقق ابن رشد من عدة آراء ينتهي إلى «والحق في ذلك
هو ما قلناه.»
٣٤ ويتخيل ابن رشد الاعتراض المسبق «فإن قال قائل.» ويرد عليه من أجل
الحفاظ على الاتساق العقلي.
٣٥
وقد استطاع ابن رشد إخضاع الأرجوزة السيالة إلى أقسام فقسمها قسمين؛ الأول: الطب
النظري، ويشمل الفزيولوجيا والمرض والدلائل. والثاني: الطب العملي، ويشمل العلاج
بالأدوية والجراحة. ويتفرع كل موضوع إلى مسائل متعددة.
٣٦ ويضع لكل مجموعة من الفقرات تدخل في موضوع فرعي عنوانًا لا تسمح به
صياغة الأرجوزة، تحويلًا لها من الشعر إلى النثر، ومن الصياغة الأدبية إلى الصياغة العلمية.
٣٧ ويذكر ابن رشد بين الحين والآخر أقسام الموضوع من أجل احتوائه عقلًا.
٣٨ ويقطع فقرات الأرجوزة، وتختلف المقاطع فيما بينها طولًا وقصرًا.
٣٩ تبدأ في الطب، وتنتهي بالصيدلة. فالطب علم نظري وعمل للتشخيص
والعلاج.
ويركز ابن رشد على منهج الطب، البحث عن الأصول والكليات كما هو معروف من كتاب
«الكليات» والتي لا تعرف إلا بالعقل والقياس، وفي نفس الوقت يبحث عن الجزئيات التي
لا تعرف إلا بالتجربة، وهو المنهج الفقهي الذي يجمع بين الأصل والفرع على ما هو
معروف في القياس الشرعي، بالإضافة إلى «شهادة الجميع» أي إجماع الأخبار وهو ما
يعادل الإجماع، المصدر الثالث في علم الأصول. فإذا ما تعارضت الأدلة فإنه يكفي حل
التعارض بشهادة الأطباء كما هو الحال في التعارض والتراجيح في علم أصول الفقه، فإذا
لم ينحل التعارض فليس على الطبيب إلا الاعتماد على رأيه الخاص، وهو ما يعادل
الاجتهاد، الدليل الرابع من أدلة التشريع.
٤٠
وأحيانًا لا يصدق ابن رشد رواية عن جالينوس ولا أبقراط، وله وجه من القياس إن
شهدت التجربة به، فالرواية لا تقبل إلا بعد أن يشبه العقل والحس بها كما هو الحال
في شروط الخبر المتواتر في علم مصطلح الحديث.
٤١ ولا يكتفي بالاستشهاد بجالينوس بفصد الدواب آخر الربيع وأول الصيف إلا
لأن ذلك نافع بالتجربة.
٤٢ والتغيرات على المريض تدرك بالحس وليس قياسًا، ويتحقق ابن رشد من كل
رواية طبية. ويبدو أنه اقتصر على الرواية مثل تأويل جالينوس داء الثعلب على أنه
الجذام دون أن يتحقق ابن رشد نفسه من ذلك بالتجربة.
٤٣
ومن الوافد يتصدر جالينوس على أبقراط مع أن جالينوس لم يذكر عند ابن سينا إلا مرة
واحدة.
٤٤ وربما يكون الغرض من الإسهاب في ذكر مصادر الوافد كشف مصادر ابن سينا
التي أخفاها. وفي نفس الوقت يعتمد ابن رشد في نقده المحدود لابن سينا على جالينوس.
٤٥ ويستشهد بجالينوس على صدق تحليلاته الخاصة اعتمادًا على التراث العلمي
مثل الحذر الذي اعترى العليل عند شرب الماء البارد. فابن رشد حلقة من تراث علمي طبي
طويل، من القدماء إلى المحدثين.
٤٦ بل ويدافع عن جالينوس ضد أي معترض يقول إن الأمراض البسيطة التي ذكرها
جالينوس هي التي مع غير مادة وأنها تحدث عن الأسباب الخارجية.
٤٧ ويعترض على نسبة أقوال خاطئة لجالينوس مثل: إن سبب شعلة العين كثرة
الروح. ويعترض على بعض آرائه مثل: إن النفس تستوحش بالخلط السوداوي كما يستوحش
الإنسان من الظلام. ويصفه بأنه قول شعري وليس قولًا علميًّا، وذلك أنه يلزمه أن
يكون الدم الأبيض مضيئًا. كما زعم أنه لم ير بعض الأمراض في البلاد الحارة. كما
يعترض على الإسكندر في قوله إن النار التي في الأسطقسات هي هذه النار المحسوسة.
٤٨
ويقارن ابن رشد بين آراء جالينوس وأبقراط. ويعتمد عليهما في أن الأجسام تتكون من
الأسطقسات الأربعة وكما بين جالينوس في كتاب «الأسطقسات»؛ إذ يجتمع كلاهما على مذهب
واحد. ويعتمد عليهما معًا في الغذاء وبعض الموضوعات الطبية التي يشارك فيها أيضًا أرسجتجانس.
٤٩ ويرجع بعض آراء ابن سينا إلى مصادرها اليونانية عند جالينوس وأبقراط.
فقول ابن سينا إن الأبدان الحارة لا ينبغي أن تُراض قول أبقراط.
٥٠ ويعتمد على أبقراط وحده في قوله الضد شفاء الضد، وإن أبدان الأطفال
تحتاج إلى وقود كثير، وإن البراز الأسود في أول المرض علامة رديئة. وقد وضع كتابًا
في «تقدمة المعرفة» من أجل مساعدة الطبيب على التنبؤ بالأمراض من علاماتها الأولى.
٥١ ويشارك أبقراط وجالينوس وأفلاطون في مذهب واحد، وهو جعل القوى الحساسة
والمحركة في الدماغ على عكس المشائين الذين يجعلونها في القلب.
٥٢ ويستشهد بأفلاطون في قسمة القوى إلى حساسة ونباتية وحيوانية وبأرسطو في
أن الحيوان كثير الجماع قليل العمر.
٥٣
ويتكلم عن القدماء واضعًا الأرجوزة في تاريخ الطب مقارنًا بين الأطباء المتقدمين
والمتأخرين والأطباء المشائين وبين مذاهب الأطباء ومذهب الفيلسوف، ومراجعًا كتب
الطب، واضعًا ذلك كله عند اليونانيين.
٥٤ فما يدل عليه الاسم في لسان اليونانيين قد يدل في لسان آخر على جهة
التشبيه مثل البحران. ويتحدث عن عادة اليونانيين في جزعهم من شربهم الماء البارد
لمكان عادتهم وبلدهم. وقد لاحظ جالينوس توفي أحد المرضى من جراء ذلك.
٥٥
والعجيب أن ابن رشد لا يحيل إلى «كتاب القانون» في الطب لابن سينا، ولا يستعين به
في الشرح بالرغم من أنه يحيل إلى مؤلفات جالينوس وأبقراط.
٥٦ ومع ذلك يتصدر الموروث حنين بن إسحق وابن رضوان، ثم أبو العلاء بن زهر
والزهراوي والرازي وابن سينا.
٥٧
وينقد ابن رشد ابن سينا دون أن يذكر اسمه إلا في المقدمة كصاحب الأرجوزة، ولكن في
ثنايا الشرح يعيب على ابن سينا أنه نقض ذكر أمزجة الأعضاء والعلامات الدالة عليها.
ولم يذكر بعض الأخلاط المشهورة، وذكر أصنافًا غير مشهورة. وأنكر عليه نسبة النحوس
والسعود إلى الكواكب ودلالتها على سلامة النفوس أو هلاكها في الأمراض. وهو ما يعارض
العلم الطبيعي من أن أفعال الكواكب خير كلها، رأيًا برأي، وكلاهما يقوم على الخلط
بين العلم والأخلاق، ويتشكك في بعض توصيات ابن سينا مثل أخذ راكب البحر الأغذية
الرطبة للوقاية من الدوار لأنها وصية غير طبية. كما يعترض على ابن سينا في فصد ابن
الستين والسبعين، ويتشكك في علاج البخر بالفصد. ويعترض عليه لجعله البلغم سببًا في
عسر الولادة، وربما يكون سببًا للإسقاط، ويعترض على دهن الجسم بالزيت والشمع خوفًا
من أثر الشمس. كما يعيب عليه عدم ذكره الحميات والأورام. لا يعني الشرح إذن مجرد
بيان لفظي بل يتضمن النقد والتصحيح للأحكام.
٥٨
ويعتمد ابن رشد على الموروث الطبي لتأييد قسمة الطب إلى نظري وعملي، ويستشهد
بحنين وأبي العلاء ابن زهر الذي رأى هذه القسمة عند جالينوس، في حين رفضها علي بن
رضوان، ويعتمد ابن سينا على مذهب حنين. وهو مخالف لمذهب جالينوس كما يذهب
ابن رضوان. وأثنى الزهاوي على خبز الطابق وجعله مثل خبز التنور. ويقارن من بين مذهب
أطباء العراق الذي يؤثر مياه الأنهار على مياه العيون ومذهب أبقراط وجالينوس الذي
يفضل مياه العيون. وإذا قال جالينوس إنه يدرك السكونين، الداخل والخارج فإن الرازي
ينكر أن يدرك السكون الداخل، كما شك الرازي على قول جالينوس بإمكانية معالجة صاحب
المزاج الخارج عن الاعتدال عن طريق الشبيه.
٥٩
وتظهر البيئة العربية الإسلامية في الجغرافيا الطبية في الحديث عن الأقاليم
المعتدلة اعتمادًا على جالينوس الذي يقول على أهل الإسكندرية إنه لا يوجد فيهم مزاج
معتدل، ويوافقه ابن رشد على ذلك لأن بلاد العراق تقرب من الصحراء ومتاخمة لها،
وتجاور بلاد العرب، وبلاد العرب حارة. ويتحدث ابن رشد عن «بلادنا» و«وعندهم
بالعراق» و«هذه البلاد». فهو يشرح في سياق جغرافي، ووضع اجتماعي، «على ما جرت به
عادة أهل زماننا.» «وطريقة ممارسة المعالجين، والمجبرون من أهل زماننا.» ولا يستعمل
الدهاليس «أهل بلادنا وهي جزيرة الأندلس.» إذا كانت بلاد منها في الإقليم الخامس
وبلاد المسلمين.
٦٠
ومن التراث الديني المباشر تظهر آية قرآنية واحدة إشارة إلى الأسطقسات الأربعة
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ
كَالْفَخَّارِ. كما ينقد ابن رشد كثيرًا من الجهال المتكلمين عن عجز
الطبيعيين عن معرفة سبب الخواص، ويعني بهم الأشاعرة. وفي نفس الوقت ينقد ابن رشد
رأي جالينوس المادي في فهم الطبيعة أو بتأثير الكواكب. ويضيف أنها بتسخير من باريها
سبحانه. فهو مع الأشاعرة معتزلي ومع جالينوس أشعري.
ويبين ابن رشد شارحًا ابن سينا مخاطر شرب النبيذ بعيدًا عن الحكم الفقهي،
اعتمادًا على حكم الأطباء ووصاياهم في عدم شرب الكثير، يومًا بعد يوم، وبخاصة
للمحرورين كما يقول ديسقوريدس، يومًا شرابًا محزومًا، ويومًا ماء قراحًا. والشرب
ضار على العموم، يقرع العصب، ويكره على الطعام. والنبيذ مضر بخلطه بالسكر. أباحه
الرازي مرة في الشهر وهو خطأ. فالشراب كما يقول جالينوس من ألوم الأشياء للحرارة
الغريزية، كالزيت من المصباح، الكثير منه يُطفئه، مفيد للحرارة الغريزية ومضر
بالحرارة النفسية الحسية أي بالدماغ والعصب. وكان القدماء يحذرون الشباب منه
ويسمحون به للشيوخ.
٦١ ويبدأ الكتاب بالبسملة والصلاة على محمد النبي وآله وسلم.
٦٢ وتتجاوز الحمدلة إلى الأشعرية الدفينة المخففة بالاعتزال. فالله هو
الشافي من الأدواء المعضلة والأسقام بما ركب في البشر من القوى الحافظة للصحة
والمبرئة من الآلام. فالله يفعل من خلال الطبيعة وطبقًا لقوانينها وليس ضدها. وهو
الذي فهم صناعة الطب وحيلة البرء ذوي الألباب والأفهام.
٦٣
والعجيب أن يدعوَ ابن رشد وهو السني الظاهري السلفي للإمام المعصوم والمهدي
المعلوم الذي أمره بشرح الأرجوزة. فلا فرق بين الدعاء لله والدعاء للسلطان وفي
الخاتمة يعلن عن نهاية شرحه تنفيذًا للأمر المطاع ويدعو للسلطان بدوام العمر
والتأييد. وينتهي الدعاء بالصلاة والسلام على الرسول.
٦٤