ثامنًا: تفسير ابن البيطار وشرح ابن النفيس
(١) تفسير كتاب ديسقوريدس لابن البيطار (٦٤٦ﻫ)
لم يقتصر الشرح فقط على كتب الفلسفة لأرسطو وأفلاطون والطب، جالينوس وأبقراط بل
تعدى أيضًا إلى كتاب ديسقوريدس. ولم يتوقف الشرح حتى ابن رشد بل استمر بعده في
القرن السابع عند ابن البيطار في «تفسير كتاب ديسقوريدرس في الأدوية المفردة».١ فالطب ثقافة عامة للمتشوقين وعلم خاص للأطباء والشجارين والمتطببين.
الكتاب في الصيدلة وليس في الطب مما يدل على تداخل الصيدلة والطب. وسبب الشرح صعوبة
الكتاب، وفك المصطلحات، وإيجاد مرادفها بالعربية والبربرية واللاتينية، واستعجام
ألفاظ ديسقوريدس حتى عند المتعلمين المتخصصين، وتقريب النص إلى العوام في ترجمته عن
طريق إعادة كتابته بأسلوب عربي تسهيلًا للأدوية على الطبيب.٢ هذا بالإضافة إلى بيان استعمالاتها في شتى العصور القديمة والحديثة وفي
شتى الأمكنة، الأندلس وأفريقيا ومصر والشام وفارس، في المشرق والمغرب. وقد تم
الشرح اعتمادًا على كتب القدماء ومشافهة المحدثين، والاعتراف بالأسماء غير المعروفة
بتواضع للعلماء. وألقابه المؤلف الحكيم الفاضل العالم الملقي (نسبة إلى مدينة
ملقا). وهو لا يدخل في المصطلح الفلسفي لأنه مجرد أسماء أدوية وليس مصطلحًا. العلم
لغة اصطلاحية. وتشير الأسماء إلى الأشياء أكثر مما تحيل إلى المعاني، من اللغة إلى
الشيء مثل تحقيق المناط عند الأصوليين. القصد هو الإشارة إلى الشيء ابتداءً من
اللغة. كما تحكم الأسماء المشتركة كما هو الحال في مباحث الألفاظ عند الأصوليين.
المحلي هو المعلوم وغير المحلي هو المجهول. والتحقق من الصدق عن طريق التجربة،
الرؤية بالعين. والتنبيه على الغلط وتصحيحه يبين أن الشرح ليس مجرد نقل أو ترجمة. كل
الأسماء معربة. تتوجه إلى الشيء ذاته كنوع من التأويل العيني. وترقم المصطلحات
طبقًا لأسماء عناوين الأدوية وليس طبقًا للحروف الأبجدية وإلا كان قاموسًا اصطلاحيًّا.٣
ومن الوافد يتصدر جالينوس، ثم ديسقوريدس، مما يدل على حضور جالينوس وسيطرته على
النص المشروح، ثم اصطفن ثم جنتورش الحكيم أي الاعتماد على المصدر الداخلي. وتظهر
كصفات اللاتينية العامية ثم اليونانية ثم الرومية ثم السريانية ثم لغة أهل ما يرقا.
وواضح انحدار اللاتينية من الفصحى إلى العامية، واستمرار السريانية حتى هذا العصر
المتأخر، وبداية الإحساس باللغة الإفرنجية التي تطورت عن العامية اللاتينية. كما
يتبادل اللفظان الروم واليونان على شيء واحد.٤
ومن الموروث يتصدر ابن جلجل (ابن حسان)، ثم ابن الوافد، ثم أبو حنيفة مما يدل على
إدخال الصيدلة داخل الثقافة العامة، ثم حنين بن إسحق وسليمان بن حسان وابن جزلة
وابن سينا وابن الجزار وأبو عبيد الله الصقلي والبكري والشاعر ذو الرمة. ومن البلاد
تتصدر الأندلس ثم أهل المغرب ثم عربي والعربية ثم أهل مصر وأطباؤها وديارها ثم
البربرية ثم فارسية ثم لغة أهل الشام وبلاد الروم ثم بلاد المشرق.٥وتتخصص المناطق أكثر في الإسكندرية ودمشق ثم في طرابلس المغرب والعراق
ولبنان والأرمني والحبشي … إلخ. هناك إحساس بالتطور في أجيال الأطباء.
وتتعلق العبارات الإيمانية بعلم الصيدلة. فالله هو الذي تدارك الخلق بنعمته، المانع عوادي الأسقام برحمته، والنازل لأدواء النوع الإنساني من الطاقة شفاء، وجعل لقوام الأبدان من الجنس النباتي غذاء وطيبًا ودواء. وهناك شجرة إبراهيم وشجرة مريم. والله هو المعين والموفق للصواب، كل شيء عبيد له. وهو أعلم بالصواب.
(٢) شرح فصول أبقراط لابن النفيس (٦٨٧ﻫ)
وقد استمرت الشروح كنوع أدبي حتى القرن السابع مثل «شرح فصول أبقراط» لابن النفيس.٦ وله ألقاب عدة؛ فهو الشيخ الإمام الفاضل، الكامل، العلامة، الرئيس، جامع
أشتات العلوم ومعدن فرائد المنثور والمنظوم.٧ ويأخذ أحيانًا أبقراط لقب الإمام. ويستعمل ابن النفيس طريقة الشرح مثل
ابن رشد في التفسير، فصل النص المشروح عن النص الشارح. قطع النص المشروح إلى مئات
الفقرات تطول أو تقصر، وهي في الغالب أقصر من النص الشارح.٨ ويبدأ النص المشروح كالعادة بعبارة «قال أبقراط.» ثم يتم استرجاع بعض
عبارة النص المشروح داخل النص الشارح للاستشهاد به والتعليق عليه داخل الشرح أو
مستقلًّا عنه ومسبوقًا بصيغ أفعال القول وهي في الغالب «قوله» أو «قال». ويظهر
التقابل بين «قال» و«نقول»، «قلنا»، بين الغائب والمتكلم ليس فقط تقابل المشروح
والشارح بل تقابل الآخر والأنا، الحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية. بل ويشرح
ابن النفيس قوله الخاص «قولنا» كما يشرح قول أرسطو.٩
والكتاب مقسم إلى سبعة مقالات من وضع الشراح اليونان وليس من وضع أبقراط، وحافظ
ابن النفيس على القسمة بالرغم من إعلانه أنه لن يلتزم بذلك.١٠ يعتمد على أكثر من نسخة ويعني ترجمة مما يدل على رغبته في معرفة موضوع
النص وليس النص.١١
والغاية من الشرح هو أن ابن النفيس قد شرح من قبل هذا الكتاب عدة مرات. كل شرح له
غرضه الخاص. وهذه المرة يتبع ما رآه «لائقًا بالشروح ورائقًا في التصنيف.» كل
الشروح تقوم على نصرة الحق وإعلان مناره، وخذلان الباطل وطمس آثاره؛ فهو شرح مراجعة
لا يقوم به إلا طبيب لطبيب، يعرف العلم وموضوع النص حتى يكون شرحه إعادة دراسة
للموضوع وتحقق من صدق النص المشروح.١٢ ويكاد يخلو من النقد. وإذا كان المسلمون قد فضلوا طب جالينوس على طب
أبقراط إلا أن ابن النفيس لا يفضل أحدهما على الآخر بالرغم من شرحه أبقراط اعتمادًا
على جالينوس. ويحرص على ذكر تعدد الآراء كلها دون تحزب أو تعصب أو قطع. ويورد كل الاحتمالات.١٣
ويذكر ابن النفيس ما ذكر أبقراط وما لم يذكر أي أنه يكمل نقصه حتى يظهر
العلم الكامل.١٤ ويعتمد ابن النفيس على الاستقراء إذا ما نقص البرهان.١٥ والبرهان قياس؛١٦ لذلك تكثر ألفاظ البيان مع أفعال الإرادة.١٧ فالفعل المعرفي فعل قصدي إرادي. وقد يكون البيان بإضافة لفظ
معناه.
ويصف ابن النفيس مسار فكر أبقراط، مقدماته ونتائجه ومنطق استدلاله وغايته.١٨ يربط أجزاء الفصول بعضها ببعض، ويحدد علاقاتها الداخلية. ويتلمس
الأسباب؛ لذلك تكثر تعبيرات «لذلك».١٩ فيكمل التعليل الناقص. ويقدم قبل الشرح مقدمات أو مبادئ يقيم عليها
نسقًا طبيًّا عقليًّا يستند إليه الشرح. ويقوم بالعد والإحصاء حتى يحكم القسمة،
ويبين أجزاء الموضوع وجوانبه المختلفة؛ فالشرح تحويل للنص إلى بنية عقلية هي نفسها
بنية الموضوع.٢٠ والفكر اقتضاء له أسسه المعيارية؛ لذلك تبدأ العبارة الشارحة كثيرًا
بتعبير «ينبغي أن».٢١ وينبه على التكرار مما يدل على رغبة في التركيز وجعل الكلام على مقتضى المقال.٢٢ ويحيل إلى باقي كتبه، فالشرح جزء من كل. فتتم الإحالة إلى كتاب
«المباحث القانونية» وإلى كتاب «الأهوية والمياه».
ومن الوافد بطبيعة الحال يتصدر أبقراط في أول كل فقرة مشروحة. كما يتكرر الاسم
داخل النص الشارح.٢٣ أما جالينوس فيتم الاستشهاد به في الشرح على صدق قول أبقراط ولو كان من
ظاهر قوله. كما يستشهد به عن يقين. وإذا اختلف الأولون في موضوع مثل حرارتي الصبى
والشباب أيهما أشد فالحق ما قاله جالينوس، وهو أن الحرارة فيهما واحدة. وجالينوس له
رأيه مع غيره. وقد يخالف رأي أبقراط. وقد يبدأ ابن النفيس الشرح بقال جالينوس،
جاعلًا إياه متحدثًا بلسانه. ويجوز فهم جالينوس لشيء ما مع جواز فهم آخر. فاعتماده
على جالينوس دون تعصب أو تحيز.٢٤
ويقل الموروث للغاية بالرغم من هذا الوقت المتأخر، القرن السابع، وهناك التراث
الطبي الموروث، ولكن يمكن تلمس الموروث على نحو غير مباشر في التعريف اللغوي
لمصطلحات الطب مثل التدبير في اللغة الذي يعني التعرف ويقصد بها اللغة العربية.٢٥ ويبدو التوجه الديني في العبارات الشائعة الموروثة من الأشعرية الشعبية
مثل «والله أعلم» وتظهر البسملة في البداية والدعوة بالتوفيق في أول فقرة.٢٦
١
ابن البيطار: تفسير كتاب ديسقوريدس في الأدوية المفردة، تحقيق إبراهيم بن
مراد، بيت الحكمة، المؤسسة الوطنية، قرطاج، ١٩٩٠م. أوله طبعة سابقة في دار
الغرب الإسلامي، بيروت، ١٩٨٩م.
٢
السابق، ص١٠٩، ١٨٧.
٣
السابق، ص١٣٦، ١٥٢، ١٨٢، ١٢٩، ٢٣٣، ١٨٦، ٢٥٢، ٢٥٥، ٢٥٩، ٢٦١، ٢٥٤، ٢٥٩،
٢٧٣، ٢١٦، ٢٣٦، ٢٧٤.
٤
جالينوس «٣٣٢، ٣٥٨»، ديسقوريدس «٢٦، ٤٧»، اصطفن «٢»، جنتورش «١»،
اللاتيني العامي «٥٨»، اليونانية «٣٢»، الرومية «١٠»، السريانية «٩»، هرمس
«٤»، لغة أهل ما يرقا، الصقالبة، أهل أنطاليا، الإغريقيون «١».
٥
ابن جلجل «١٨، ٢٢»، ابن الوافد «٦»، أبو حنيفة «٤»، سليمان بن حسان، حنين
بن إسحق «٣»، ابن جزلة، ابن سينا، ابن الجزار، أبو عبيد الله الصقلي،
البكري، ذو الرمة، إبراهيم، داود «١»، الأماكن: الأندلس «٦٨»، أهل المغرب
«٣٢»، عربي وعربية «٢٧»، أهل مصر وأطباؤها وديارها «٢٤»، البربرية «٢٠»،
فارس وفارسية «١٣»، إفريقية «٩»، لغة أهل الشام، بلاد الروم «٤»، بلاد
الشرق «٣»، الإسكندرية، دمشق «٢»، طرابلس المغرب، العراق، لبنان، أرض
الحبش، سوريا «١»، سبتة، الزقاق، بحر الروم، ساحل غزة، المغرب الأقصى، بلاد
قنسرين … إلخ «١».
٦
ابن النفيس: شرح فصول أبقراط، دراسة وتحقيق د. يوسف زيدان، د. ماهر عبد
القادر، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ١٩٩٠م.
٧
السابق، ص٩٣، ٢١٧.
٨
تم تقطيع النص إلى ٣٨٠ فقرة.
٩
شرح ابن النفيس ص١١٧، ١٣٠، ١٦٥، ١٩٤، ٢٢١، ٢٤٢، ٢٧٠–٢٧٣، ٣١٠،
٣٨٣.
١٠
شرح ابن النفيس، ص١٦٠.
١١
السابق، ص٢٣٢.
١٢
السابق، ص١٩٤.
١٣
السابق، ص١٥٠.
١٤
السابق، ص٢٢٠.
١٥
السابق، ص٩٥، ٩٧، ١٨٠، ٢٤٨.
١٦
السابق، ص١٢٣.
١٧
السابق، ص١٢١، ١٩٢، ٢٧٥، ٢٨٨، ٣٠٩، ٣٢٠، ٣٢٢، ٣٨٦، ٤٢١، ٤٢٦، ٤٥١، ٤٣٢،
٤٦٤، ٤٧٩-٤٨٠، ٤٨٣، ٤٨٦، ٤٩١، ٥٠٠.
١٨
السابق، ص١٠١، ١٠٧، ١٣٤، ١٢٧، ١٤٦، ١٥٤-١٥٥، ١٨٨، ٢٨٢، ٣٣٣، ٣٧٦.
١٩
السابق ص١٢٣، ١٤٣، ١٦٨، ١٩٥، ١٩٧-١٩٨، ٢٠٤، ٢٣٥، ٢٩١، ٣٥٣، ٣٥٩، ٣٨٢،
٣٩٢، ٣٩٥، ٤١٧، ٤٣١، ٤٤٦–٤٤٨، ٤٥١، ٤٦١، ٤٦٨، ٤٧٦-٤٧٧، ٥٠٨.
٢٠
السابق، ص١١٣، ١٢٢، ١٣٨، ١٤٠، ١٤٩، ٣٦٢–٣٦٤.
٢١
السابق، ص١١٧.
٢٢
السابق، ص١٤٢.
٢٣
ذكر اسم أبقراط ٣۸۰ مرة في أول كل فقرة بالإضافة إلى ٣۲ مرة داخل النص
الشارح. وذكر جالينوس «٧»، اليونانيون «١».
٢٤
السابق، ص٩٦-٩٧، ١٢٧، ١٩٣، ٢١٤، ٢٩٥.
٢٥
السابق، ص١٠٧.
٢٦
السابق، ص١١٩، ١٤٤، ٩٣-٩٤.