رواية الحكيم الطيار
المنظر الأول
(فالير مع سبينه)
فالير
:
آه يا سبينه، ما هي الآن أخبار لوسيله؟ وهل عندك للوصول
إليها حيلة؟
سبينه
:
يوجد عندي كثير من الأخبار؛ وهو أن عمي يريد باليقين أن
يزوج بنتَه بقِلْبِركِينْ، فلو لم تكن معشوقَها الوحيد،
وحبيبَها الفريد، لنفذ السهمُ، وقضى الله أمرًا كان
مفعولًا، ولكن حيث إنها أمَّنَتْنِي على سرِّ حبِّها إياك،
وأوضحت لي ما تريد فعلَه لرضاك، ولكوننا على نهاية العناء
الشديد، من سوء أخلاقِ أبيها العنيد، خطر ببالنا مشروع
لطيف، واختراع ظريف، لمنع هذا الزواج، بدون أدنى انزعاج؛
وهو أن بنت عمي لوسيله، جعلت نفسها عليلة، وأن أباها
الفاسد الظنون، صار طائشًا كالمجنون، وأرسلني لإحضار حكيم
خبير بفنِّ الطبِّ عليم، فبادِرْ بإرسال حكيم صديقٍ لك،
عالمٍ بأمرك، وكاتمٍ لسِرِّكَ، يأمرها بأن ترتاض في
البساتين والرياض، فلا شك بأن أباها لا يتأخر عن راحتها
وهواها، وإن امتنعَتْ لا يلتفت إلى إباها، ويرسلها في
بيتهِ الجديد، الموجود في بستانه البعيد، وبهذه الطريقة
يمكنك أن تتحصلَ عليها، وتتمكَّنَ من الوصول إليها، ولا
يهمُّكَ سخطُ أبيها؛ لأن فِلْبرْكِين لا يساويها.
فالير
:
ولكن كيف يمكنني الآن وجود حكيم في قبضتي، ومن يريد أن
يخاطرَ هكذا لخدمتي، فأنا أخبركِ بكل حريَّة، أني لا أعرف
أحدًا بالكلية، وأرجوكِ أن تُعملي فكرتَكِ الجميلة، في
تدبير حيلة نتوصل بها إلى حبيبتي لوسيله.
سبينه
:
إني أفتكر في شيء لطيف، نافع لهذه المسألة خفيف، وهو
أنَّك تُلبِسُ خادمَك لُبْسَ الحكماء، وتُقلِّدُهُ بأشهر
الأطباء، فبهذه الطريقة يسهُلُ لنا خَدْعُه، ويتيسَّرُ لنا
رَدْعُه.
فالير
:
إن خادمي مغفلٌ كالحمار، وربما يبدِّلُ النفعَ بالأضرار،
ومع ذلك يلزم البحثُ عنهُ، وطلبُ المساعدة منهُ، فلربما
إذا اتضح الأمرُ لديه، سَهُل العملُ عليهِ، ولكن أين يوجد
هذا الشرير في هذا الوقت القصير (ثم يراه مقبلًا عليه).
المنظر الثاني
(فالير مع سجنرل)
فالير
:
آه يا سجنرل يا مسكين، لقد سُرِرْتُ برؤياك في هذا
الحين؛ لأني محتاج لك في مسألة مهمة، يلزمُك فيها بذلُ
المجهود وغاية الهمة، فقط إنِّي لستُ على يقين بأنَّك إذا
كنتَ كفؤًا لفعل …
سجنرل
:
إذا كنتُ كفؤًا لفعل … خدِّمْني فقط في أشغالك
الاعتيادية أو في أشغالٍ أُخَرَ ضروريةٍ؛ مثل أن ترسلني
لأنظر كم الساعة، أو لمعرفة أثمان بعض بضاعة، أو لسقي
حصان، أو لنداء فلان؛ ها هو ما تعلمهُ بأنِّي كفؤٌ له،
وأهلٌ لأن أعمله.
فالير
:
لا أريد شيئًا من صنعك القديم، بل يلزمُك أن تتقلدَ
بحكيم.
سجنرل
:
أنا … حكيم … يا سيدي، إني مستعدٌ لعمل أيِّ شيء ترغبهُ،
وفعلِ كلِّ أمرٍ تطلبهُ، ولكن لأجل أن أتقلد بحكيم، فهذا
أمرٌ عليَّ عظيم، أفهل يلد العقيم، فيا لله العجب العجيب؟!
ما الغرض من أن تجعلني مثل طبيب؟ لا شك يا سيدي أنك تتهكم
عليَّ، وتنظر بعين الاحتقار إليَّ.
فالير
:
لو تجيب طلبي بتأكيد وإثبات، لأعطيتُك في يدك عشرة
جنيهات.
سجنرل
:
آه يا مولاي، إن الجنيهات لا تجعل الجاهل عليمًا، ولا
الخادم حكيمًا، وإنك تعرف جيدًا يا سيدي بأنهُ ليس عندي
قريحة زكية، ولا قوة عقلية؛ لأن أكون حكيمًا بوجه الحق،
لربما فعلت فعلًا أستحق عنهُ الشنق، ولكن إلى أين أذهب ومن
أزور إذا صرت حكيمًا بالزور؟
فالير
:
تذهب عند الرجل المهووس، السيد جورجيبوس، لتزور بنتَهُ
العيانة، وتفعلَ كلَّ شيء بالأمانة، ولكن ربما بغباوتك
تبدِّلُ حسنَ العمل بسووو …
سجنرل
:
آه يا إلهي، سيدي، لا تُتعِبْ نفسَك، ولا تُشغِلْ بهذا
الأمر فِكرَك؛ لأني أجاوبك بكل صراحة وشدة: إني أُميتُ
المريضَ أحسنَ من أي حكيم بهذه البلدة، وفي المثل السائر
بين الخاص والعام: «لا ينفع الحكيم بعد الموت ولا في
المنام.» ولكن سوف ترى إذا انتظمتُ بسِلْكِ الحكماء،
وتقلَّدتُ كما تقولُ بأشهر الأطباء، وصرتُ من ضمنهم بلا
فَوْت، لانقلب المثلُ، وصار «بعد الحكيم الموت.» ومع ذلك
عندما أفتكر في ذلك الأمر العظيم أجد أنهُ صعب جدًّا بأن
أتقلد بوظيفة حكيم؛ لأني إذا فعلت فعلًا يُعابُ ما العمل
وما الحساب؟
فالير
:
ما أسهل هذه المقابلة، وما أخف هذه المسألة؛ لأني أخبرتك
بأن أباها جورجيبوس، رجل بسيط ومهووس، يندهش من كلامك،
ويمتثل لمَرامك، بشرط أنك تتكلم على أبقراط وجالينوس،
وتخلع عنك العِذار وتأخذ منهُ فلوس.
سجنرل
:
إذا كان قصدك أن أتكلم معهُ في الرياضة والفلسفة، ولا
أُلام إذا وقع مني أدنى سفه، وكان حقيقة أن ذلك الرجل
عبيط، وكما قلت لي إنه بسيط، فإني أعدُكَ بنيل مرغوبك،
وتنفيذ مطلوبك، فقط أعطِني كسوة أي حكيم ترضاه، وأخبرني
بما يلزم إجراه، وأعطني أيضًا شهادتي الانتهائية، وهي
العشرة جنيهات الاتفاقية.
(فالير وسجنرل يذهبان.)
المنظر الثالث
(جورجيبوس مع خادمهِ جروريني)
جورجيبوس
:
اذهب بسرعة وابحث عن طبيب، لعل سعينا في زواج بنتي
بقلبركين لا يخيب؛ لأنها الآن مريضة، وإحضار الحكيم عليَّ
أهم فريضة.
جروريني
:
أعوذ بالله، أين فكرك المحروس؟ ولماذا تسعى في زواج بنتك
بعجوز منحوس؟ أما تظن أن غاية مأربها أن تأخذ رجلًا شابًّا
يلاعبها؟ أما تنظر إلى المقارنة وتريد لها المعاونة؟
(ويتكلم بكلام مدغوم أي غير
مفهوم.)
جورجيبوس
:
هيا اذهب عاجلًا بدون إلحاح؛ لأني أرى أن هذا المرض يسبب
تأخير الأفراح.
جروريني
:
إني لقد تكدرت جدًّا من هذا الأمر، الذي أحرمني من أكل
البقلاوات والحلويات وشرب الخمر، فها أنا أيضًا أُصبت
بالألم، على ما ترتب من قطع ذلك العشم، فإني ذاهب لأبحث عن
حكيم لخادم بيتك، كما يلزمني أن أبحث عن حكيم لبنتك
(ثم يخرج).
المنظر الرابع
(سيبنه – جورجيبوس – سجنرل)
سيبنه
:
لقد اجتمع شملنا، ونجح أملنا، فأُبشرك بخبر مفرح، ومسألة
تشرح، وهو أني قد أتيت لك بأشهر الأطباء، وأمهر الحكماء،
بقراط عصره، وفريد دهره، قدم علينا من البلاد الأجنبية،
واسمه تترنم به الحيوانات البحرية والبرية، فإن شاء الله
هذا الغريب، يشفي بنت عمي عن قريب، فلطالع سعدنا قد
استخبرت عنهُ، ولتتميم وعدنا طلبتُ الحضورَ منهُ، فأجاب
طلبي بلا تأخير، ومستعد في أي خدمة لك أيها الأمير، فإن
كذب قولي فجازني، ولَيْتَني كنتُ مريضةً ليشفيني.
جورجيبوس
:
وأين هذا الرجل العظيم؛ حتى أقابله بكل إكرام
وتعظيم؟
سيبنه
:
ها هو الحاضر خلفي، ولا شك بمعرفتهِ قد ازداد
شرفي.
جورجيبوس
:
إني لخادم متواضع لسيد العلماء، فلقد شرفتنا يا أشهر
الحكماء، وكوني أرسلت للبحث عليك، هو أن بنتي مريضة
ومحتاجة إليك، فلنتعشم بأن تتحسن صحتها، وإن شاء الله
مهمتك تُطوِّل حياتها.
سجنرل
:
أبقراط قال قولًا، وجالينوس وافقهُ أيضًا: أن الإنسان
يمرض إذا كان مريضًا. فلك الحق بأن تضع جميع عشمك فيَّ،
وتستند أيضًا عليَّ؛ لأني أكبر الكبراء، وأعلم الحكماء،
لما درستهُ في أزماني الخالية، وتعلمتهُ من الأجسام
المعدنية والنباتية النامية.
جورجيبوس
:
لله درُّكَ من حكيم فصيح، لقد فتنتني بقولك
الصحيح.
سجنرل
:
لا تتصور بأن أكون طبيبًا اعتياديًّا، أو حكيمًا
عموميًّا، فإن بالنسبة إلى جميع الحكماء، ما هم إلا أصاغر
الأطباء، ولي مناقب خصوصية، وكذلك أسرار شخصية: «بنجور
بنجور هل عد قلب يا رودربك سنيورسي سنيورنو يبرَأ ومنيا
سُوكُولَ سُوكُولُورُمْ»١ ولأجل أن أظهر لك معرفتي الجليلة، أريد أن أجس
نبض يدك الجميلة.
سبينه
(تقول إلى سجنرل)
:
إن سبينه ليست عليلة، بل المريضة بنتهُ لوسيله.
سجنرل
:
لا يهمُّ هذا الأمر أبدًا، حيث كان دم الأب والابنة
واحدًا، فإذا تغير دم الأول فدم الابنة عن ذلك لا يتحوَّل،
ومع ذلك قد احتجت إلى الخلة الذميمة، وهي أن أنظر بول بنتك
السقيمة.
جورجيبوس
(يقول إلى سبينه)
:
فلتذهبي يا سبينه في الحال، وتأتي ببول بنتي بلا إمهال.
(سبينه تخرج، فيقول إلى
سجنرل) فإني والله يا سيدي الدكتور خائف لئلا
الدوائر عليها تدور.
سجنرل
:
آه لنحفظ من العدم بلا شك، ولا تموت ولا بهِ ندرك، بدون
معالجة الحكماء، والأمر بالدواء. (سبينه تدخل ويأخذ منها البول ويقول) إن
بولها يدل على أنها مصدعة، وبها حرارة مرتفعة. (ثم يشربهُ ويقول) ومع ذلك
فإنهُ لذيذ، وطعمهُ أحسن من النبيذ.
جورجيبوس
:
ويلاه، كيف تشربهُ يا سيدي؟ هل هو ماء مستعذب؟ أو لبن
مستحلب؟
سجنرل
:
لا ينزلُ بك، ولا تندهش من ذلك، فإن أشهر حكماء اليونان،
ينظرونهُ ولا يمسونهُ بأطراف البنان، ولكن حيث إني حكيمٌ
فوق العادة، فأشربهُ وإن لم يكفِني أطلب أيضًا زيادة؛
لأميز جيدًا بسبب شربه، داعي المرض وما يختم به، ومع ذلك
إذا أردت الحقيقة، فإن ما شربتهُ كمية دقيقة، لا يظهر بهِ
حال المرض، ولا يوصل إلى إدراك الغرض، ولأجل أن يظهر المرض
علانية، فلتَبُلْ أيضًا مرة ثانية.
سبينه
(تذهب وتعود)
:
لقد بذلتُ وُسعي وطاقتي، وصرفت في هذا الأمر عنايتي،
وذلك كلهُ لأن تبول، فما أمكنني الحصول.
سجنرل
:
ويحاه، ما معنى ذلك؟ لربما توجد أسباب هنالك، فلتجتهدي
في كونها تبول، وترجيها لعل ذلك يحل محل القبول. آه لو
كانت المرضى تبول كما هي غاياتي، لكنت أريد أن أكون حكيمًا
طول حياتي.
سبينه
(تذهب وتعود)
:
هاكَ ما تحصلتُ عليهِ بغاية الإمكان، وهي لا يمكنها أن
تبول زيادة عن ذلك في هذا الآن.
سجنرل
:
كفى يا سيدي جورجيبوس، هل بنتك حالها معكوس؟ ولا يمكن
لهذه الفواخة٢ أن تبول كما نرغب، فأُفٍّ لها من شخاخة، ولكن
أقول لك وأنصح في القول: لا بد أن آمرها بشربة تُدِرُّ
البولَ، وهل في الإمكان مشاهدة الشخص العيان؟
سبينه
تقول لهُ
:
إننا الآن أقمناها، وإن أردتَ أحضرناها.
المنظر الخامس
(سبينه – جورجيبوس – سجنرل – لوسيله)
سجنرل
:
لا بأس عليكِ يا سيدتي، هل أنتِ مريضة يا حبيبتي؟
لوسيله
:
أي نعم يا سيدي.
سجنرل
:
وا أسفاه، فإن هذا دلالة على أنك في حالة اليأس، وهل
تشعرين بألم شديد في الكليتين والرأس؟
لوسيله
:
أي نعم يا سيدي.
سجنرل
:
لقد اتضح الأمر بعد الخفاء، وإن شاء الله يكون على يدي
الشفاء، نعم إن الحكيم أبقراط الشهير قال … قال أشياء شتى،
تحُتُّ الداء حتَّا، ومن حيث إن المواد التي عندها مقارنة،
يكون أيضًا عندها موازنة، مثلًا الهموم ضد الأفراح،
والخسارة ضد الأرباح، وإن الصفراء التي تنتشر في الجسم،
تؤثر فيهِ وتظهر عليهِ ذلك الوسم، وإنهُ لا يوجد شيء ضد
الصحة إلا السقم، فيمكنني أن أوافق هذا الحكيم ذا الهمم،
وأقول لك: إن بنتك حالتها خطرة، فيلزم أن أكتب لها
تذكرة.
جورجيبوس
(يقول إلى سبينه)
:
فلتذهبي يا سبينه بلا وسواس، وأحضري دواة وقلمًا
وقرطاس.
سجنرل
:
وهل في هذه العصابة أحد يعرف الكتابة؟
جورجيبوس
:
وهل لا تعرفها يا دكتور؟ أما تعلمت أن تكتب
السطور؟
سجنرل
:
آه يا سيدي، فإني ما كنت أتذكرها، ولا أشغل نفسي بها؛
لأن فكري حائز عدة مسائل صعبة، حتى وإني نسيت نصف … ومع
ذلك أظن بأنهُ من الأمور الضرورية أن بنتك تتنزه بضعة أيام
في البرية.
جورجيبوس
:
عندنا يا سيدي بستان ظريف، وموجود بهِ بيت لطيف، فإن كان
هذا المحلُّ يليق، أُرسلُها فيهِ، وأسألُ الله
التوفيق.
سجنرل
:
لقد أصبْتَ يا مولاي ولكن لعدم ضياع الأوقات، لنذهب
عاجلًا ونعاين هذه المحلات (ويذهب الجميع).
المنظر السادس
(الأفوكاتو وحيدًا)
(يقول في نفسه) إني لمتكدر
مما سمعتهُ بمرض لوسيله، ومتأسف جدًّا من كونها عليلة، فيجب عليَّ
أن أزورها، لأقف على أخبارها، فلربما يكون الأمر محتاجًا إليَّ،
لأداء أي خدمة واجبة عليَّ؛ لأن أباها صديقي، وفي كل شيء رفيقي.
(ثم يتوجه إلى بيت جورجيبوس ويسأل
عليهِ قائلًا) هل يوجد هنا السيد جورجيبوس، فقد بلغني
أن بنته في شدة وبؤس.
المنظر السابع
(جورجيبوس – الأفوكاتو)
الأفوكاتو
:
إنهُ من مدة وجيزة، بلغني مرض بنتك العزيزة، فجئتك بكل
نشاط وهمة؛ لأجل أن أزورها وأقضي لها أي خدمة.
جورجيبوس
:
إني الآن كنتُ مصحوبًا بأعلم الناس، وحكيم جميع
الأجناس.
الأفوكاتو
:
وأين هو الآن لأتشرف بهِ برهة من الزمان؟
المنظر الثامن
(جوجيبوس – الأفوكاتو – سجنرل)
جورجيبوس
(يقول إلى سجنرل)
:
يا سيدي الدكتور الشهير، والعالم النحرير، إن أمهر
أصحابي متشوق إلى مخاطبتك، ويريد أن يتشرف بمعرفتك.
سجنرل
:
ليس عندي فرصة الآن أيها المعتبر؛ لأني مجبور على زيارة
مريض في حالة الخطر. (ويلتفت إلى
الأفوكاتو ويقول له) فلذلك لا أتمكن من
مرافقتك، والإجابة إلى بُغيتك.
الأفوكاتو
:
يا سيدي، طبقًا لما أبداهُ لي السيد جورجيبوس، مما أنت
عليهِ من العلوم الجمة، والمعارف المهمة، اشتقت كثيرًا أن
أتشرف بمعرفتك، وأتمتع بمشاهدتك، وأظن أن هذا الأمر لا
يعاب، ولا لوم فيهِ ولا عتاب، وفي الحقيقة أن جميع العلماء
الأمجاد، هم أهلٌ للمدح عند جميع العباد، وبالأخص علماء
الطب؛ لما يحتويه هذا العلم من العلوم الأخر، وصعوبتهُ
ومنافعه التي هي أشهر من أن تُذكَر، وصدق أبقراط في قوله:
«فيته برفس أَرْس فير لونجه أوْيتم إكسبر يمنتوم جيود سيوم
بريكولسوم ديفسلي».٣
(فلما سمع سجنرل هذه الجملة من
الأفوكاتو، أخذتهُ الحيرة والغيرة، وأراد أن يحاكيَه،
فأخطأَت استُه الحفرةَ، وقال): فيسلي تثينا
بوتا بريل كمبوس تيبوس٤ (فظهر جهلهُ حينئذٍ للأفوكاتو).
الأفوكاتو
:
لا شك أنَّك من الحكماء الدجالين، والظاهر أنك تستعمل
الدجل دائمًا باليقين، إكسبرينسا مجستر ريدوم.٥ فإن علم الطب من العلوم المهمة، ومعظَّم لدى
كل أمة، وإن الذين تمنطقوا بفنِّ الطب، عَزُّوا ووُقِّروا
عند كل شعب، حتى إن أغلب عصرهم اعتبروهم كآلهتهم؛ وذلك
لكثرة المعالجات، التي كانوا يصنعونها في جميع الأوقات،
فحينئذٍ لا يجب على الإنسان أن يحتقر حكيمًا لم يمكنهُ أن
يبرئ المريض من علته؛ لأن صحته لا تختص قط بمعرفته ولا
بأدويته إينتردوم دوكتابلوس فليتْ أرت ملوم،٦ يا سيدي خوفًا من أن تعتبرني رذيلًا، أستأذن
منك بالذهاب، ولا تَعُدَّني ثقيلًا متعشمًا بأن أتقابل معك
الثاني، وأكلمك بكلِّ راحة وتأنٍّ، فإن ساعاتك غالية
وأفكارك عالية (الأفوكاتو
يخرج).
جورجيبوس
(يقول إلى سجنرل)
:
كيف تراءى لك هذا الشاب، وما رأيته فيهِ من البلاغة مع
كونهِ شباب؟
سجنرل
:
تراءى لي أنهُ يعرف بعض شيء قليل، وليس لهُ من البلاغة
شيء جليل، فلو مكث زيادة ولو ثانية، لفتحت لهُ مسألة
عالية، ومع ذلك أرجوك السماح، بأن تأذن لي بالرواح (جورجيبوس يمد لهُ يدهُ ليعطيه شيئًا
من الدراهم فيرد عليهِ سجنرل قائلًا) ويلاه
يا سيدي ماذا تريد؟ فإن والله فعلك هذا غير حميد.
جورجيبوس
:
لا تسل، فإني أعرف حقوقك، فخذهم ولا تكسف صديقك.
سجنرل
:
وهل تريد بذلك أن تمازحني؟ أو فقط تريد تفرحني؟ فلا
آخذهم على الإطلاق؛ لأني لست بذي إملاق. (ومع ذلك يأخذ منهُ الدراهم
ويقول) شكر الله هذا الصنيع، فإنهُ عندي لا
يضيع.
سجنرال يتوجه لحال سبيله، وجورجيبوس يدخل في
بيته.
المنظر التاسع
(فالير وحيدًا)
إني لا أعلم ماذا فعل سجنرل بحِيَله؛ لأني ما سمعت خبرًا من
قِبَله، وإني الآن في ارتباك عظيم لعدم وجوده، وعدم الوقوف على
صنعه. (ففي هذه البرهة يدخل عليهِ سجنرل
لابسًا كسوة خدام فيستديم في قوله) لك الحمد يا خالق
العباد، ولك الشكر على نوال المراد، إذ قد حضر فتانا، وعندما
افتكرناه أتانا، فقُصَّ لي ماذا صنعت حتى انتهيت وحضرت؟
المنظر العاشر
(فالير مع سجنرل)
سجنرل
:
صنعت عجبًا على عجب، وكل شيء فعلتهُ بلا تعب؛ لأن أباها
اعتبرني كأمهر الأطباء، وقابلني مقابلة الأمراء، وقد أحسنت
فيما عملتهُ من الحيلة، واجتهدتُ في وصولك إلى حبيبتك
الجميلة؛ لأني أخبرته بأن عدو الأمراض، هي الخلوات
والرياض، فأرسل بنته إلى بيت في غاية الإتقان والنظافة،
يحيط بهِ بستان حاز أنواع اللطافة، وهو بعيد عن سكنه
بمقدار نصف نهار، فسر إليها فهي في غاية الانتظار.
فالير
:
بشرك الله بالخير، لما فرحتني يا أعز سفير، ولكن لأجل
تتميم الصنعة، يلزمني أن أذهب إليها بكل سرعة (ثم يذهب مسرعًا).
سجنرل
(يقول في نفسه)
:
لا شك بأن أبا لوسيله رجل مغفل، وما فهم الحيلة. (ثم يلتفت فيرى جورجيبوس مقبلًا
عليهِ، فحينئذٍ يقول في نفسهِ أيضًا) كيف
العمل؟ وما يلزمني؟ وإلا فيكشف سرِّي ويعرفني، ولكن الأصوب
عندي أن أغشهُ أيضًا، ولا أُبالي أيغضب أم يرضى. (فيصيح بصوت عالٍ) آه وا
أسفاه، كيف العمل مع سيد الحكماء؟ حيث إنهُ طردني بسبب كب
الدواء.
المنظر الحادي عشر
(سجنرل مع جورجيبوس)
جورجيبوس
:
نهارك سعيد يا سيدي.
سجنرل
:
يا سيدي، يسألُ منك خادمُك، الواقف بين يديك، المصابُ
بالبليَّات، في كل وقت من الأوقات، بأن تخبرَهُ هل تعرفُ
حكيمًا أتى هذه القرية، من مدة واهية، علاجُه يبرئ العليل،
ودواؤه يشفي الغليل.
جورجيبوس
:
نعم أعرفهُ حق المعرفة، والآن كان عندي في
المضيفة.
سجنرل
:
إننا توءمان، وفي الخلقة متشابهان، ويُظن لكل إنسان، أن
أحدنا الآخر في أغلب الأحيان.
جورجيبوس
:
لعن الله إبليس في مَينه، فإنهُ مثل لي ذلك الأمر بعينه،
ولكن ما اسمك حتى أعرف رسمك.
سجنرل
:
اسمي نرسيس، خادمك الحديث، أعترف إليك بأني حينما كنتُ
في الأودة، إذ عثرت بكرسي عليهِ زجاجات فجعلتها مردودة،
ولا يخفى أن الحذر لا يمنع القدر، وعند القضاء يعمى البصر،
فوقعت زجاجتان كانتا على ذلك الكرسي، وانسكب ما كان فيهما
وذلك لشدة بأسي، فعند ذلك غضب شقيقي عليَّ، وقام يسحبني من
يدي، وأخرجني من البيت، وتوعدني بالإهانة إن أتيت، وإني
فقير ذليل، ولا لي معرفة هنا ولا دليل.
جورجيبوس
:
لا يهمك هذا الأمر، واستعن بالتجلد والصبر، وكن على
يقين، بأني سأُصالحك معهُ في أقرب حين؛ لأنه أعز أصحابي،
وأحسن أحبابي، فإذا قابلتهُ لاطفتُه، وعن هذه الأفكار
صرفتُه.
سجنرل
:
يا سيدي، إني أشكر فضلك الجزيل، وخُلقَكَ الجليل (ثم يخرج من المرسح، ويرجع في الحال
لابسًا كسوة الحكيم).
المنظر الثاني عشر
(سجنرل – جوجيبوس)
سجنرل
:
لا شك أن المرضى الذين لا يتَّبعون أمرَ الحكماء،
ويهتمون بالفسق و…
جورجيبوس
(يقطع كلامهُ)
:
يا سيدي الدكتور، أرجوك أن تُصغيَ لكلامي، وتفعل ما في
مرامي.
سجنرل
:
ما الخبر يا سيدي جورجيبوس؟ هل عندك خدمة أأديها، أم
مشورة لك أبديها؟
جورجيبوس
:
يا سيدي، إني تقابلت الآن مع أخيك العزيز، وأخبرني بكلام
وجيز، أنهُ متكدر جدًّا من …
سجنرل
(يقطع كلامهُ أيضًا)
:
إنهُ لئيم جدًّا ولا لهُ ناموس، ولا يعرف الإنسانية يا
سيدي جورجيبوس.
جورجيبوس
:
أخبرك أنهُ ندم كثيرًا على فعلهِ، ولام نفسه على ما
أغضبك من أجلهِ.
سجنرل
:
يا سيدي، إنهُ سِكِّير، وعلى الكَسر والخسارة
قدير.
جورجيبوس
:
نهاية الأمر يا سيدي الحكيم الفطين، هل تريد قطع عشم هذا
الشاب المسكين؟
سجنرل
:
أرجوك ألا تكلمني زيادة عن ذلك في هذا المجال؛ لأنهُ لا
يمكنني أن أكون صفوحًا عن الجُهَّال، وقد توصل بوقاحتهِ أن
يكون مفسدًا بيننا، حتى وإنهُ حضر عندك وترجاك بأن تعقد
صلحنا، فأرجوك أيضًا أن تترك خبرَه، وتُبعدَ عني
سِيَرَه.
جورجيبوس
:
بالله العظيم، وربنا الكريم، يا سيدي الحكيم، الشهير
الفخيم، افعل هذا لما بيننا من المحبة، ولا تتأخر عن ذلك
بحق الصحبة؛ لأنك لو احتجت إليَّ في مثل ما أرومه منك، فلا
شك أن أبادر إليهِ ولا أتأخر عنك، ولو طلبت مني أهم ما
يكون، لأنفذ أغراضك وكما يكون يكون؛ لأني فقط تعهدت لهُ في
ذلك الأمر، و…
سجنرل
:
لا حول ولا قوة إلا بالله، ولماذا تحلفني بالله؟ فحينئذٍ
مهما كنت عزمت على ترك مصالحته، وصممت على عدم مصافحته،
صرتُ الآن مجبورًا على إجابتك، ومضطرًّا إلى عدم مخالفتك،
لمراعاة خاطرك على اليقين، ولما أتيت بهِ من الوعد
واليمين، وأستودعك الآن يا سيدي جورجيبوس، لا زلتَ على
الدوام محروس.
(جورجيبوس يدخل في بيته، وسجنرل يعود إلى
سيده.)
المنظر الثالث عشر
(فالير – سجنرل)
فالير
(يقول في نفسهِ)
:
لا شك بأني ما كنت أظن أن سجنرل يفي بواجباتهِ، ويهتم في
مأمورياته. (سجنرل يدخل عليهِ
لابسًا كسوة خدام) آه لا شُلَّت يداك، فقد
أتيت بالمرام، جعلت فداك، حيث أنلتني مطلوبي، وفرحتني
بمرغوبي. وأن …
سجنرل
:
فبحق ذمتي لتتكلم كيفما شئت، ولنتحدث كيفما رغبت؛ لأن
جورجيبوس قابلني في هذا الحال، ولولا الحيلة التي اخترعتها
لهُ بدون مثال، لوقف على دخائلنا، ومخبآت أفعالنا. (ثم يلمح جورجيبوس مقبلًا عليهم
فيقول لسيده) فرَّ واهرب عاجلًا؛ لأنهُ قد
أتى مهرولًا (فالير
يخرج).
المنظر الرابع عشر
(جورجيبوس – سجنرل)
جورجيبوس
:
إني الآن كنت أبحث عنك، لأخذ البشارة منك؛ لأني قابلت
أخاك الدكتور، وترجيتهُ بأن يترك هذه الأمور، فبعدَ
الجُهدِ الجهيد، سامحك وأنا على ذلك شهيد، ولكن لأجل إثبات
هذه المذاكرة، هيا معي إلى المندرة، وأنا أبحث عنه
وأجمعكما، وبمنزلي أصالحكُما (ثم
يتوجهان سويًّا إلى منزل جورجيبوس).
سجنرل
:
آه يا سيدي، إني على يقين بأنك الآن لن تجده، وإن وجدتهُ
فعن بغيهِ لا يمكنك أن ترده؛ لأنه الآن في حالة الاضطرام،
فلا يمكنني أن أنتظره عندك والسلام.
جورجيبوس
:
ويلاه، يلزمك أن تبقى هنا، وأن يكون أمري مقبولًا لديك؛
لأني سأغلق المنزل عليك، وإني ذاهب لإحضار أخيك، ولا تخف
من أي شيء يؤذيك (جورجيبوس يخرج
ويغلق الباب على سجنرل).
سجنرل
(يقف عند الشباك ويقول في
نفسهِ)
:
وذمتي لقد ضُبطتُ في هذه البقعة، ومُسكتُ بهذه الواقعة،
فكيف لي بالخلاص؟ ولات حين مناص، فها هي الداهية الدهماء،
والبلية العظمى، أما تقلدت بحكيم إلا لضبطي في هذا المكان،
وأن تكون عاقبتي إلى اللومان، وبعد ذلك ما فعلتهُ يعود
عليَّ بالوبال والخسران، ولا أستحق المعاملة بالرفق
والإحسان … ولكن لماذا أقطع العشم وأبعد عن عالي الهمم،
وحيث إني وصلت إلى هذه الدرجة، باستعمال الحيل البَهِجة،
فيلزم إتمام المكر والخداع، وإنقاذي من هذه البقاع، نعم
نعم، يجب أيضًا التخلص من هذا الارتباك، وأن أفعل ما يثبت
أني أكبر فتاك.
(ثم ينط من الشباك ويذهب.)
المنظر الخامس عشر
(جروريني – جورجيبوس – سجنرل)
جروريني
:
يا إلهي! وذمتي إن هذا لشيء عجيب! ولمَ هذا الشخص ينط
هنا من الشباك، فيلزمني أن أختفي هنا بلا كلام، لأكتشف
منهُ المقصد والمرام.
جورجيبوس
(يقول في نفسه وهو ماشٍ ليبحث عن
سجنرل)
:
وهل لا يمكنني وجود هذا الحكيم الآن، فإن مقابلته عَسِرة
في بعض الأحيان. (ثم يرى سجنرل
مقبلًا عليهِ بلبس حكيم فيقول) ولكن ها هو …
إن عفوك عن أخيك لا يفي بمرامي، بل أرجوك أن تحضر معي في
المنزل وتعانقه أمامي؛ لأني حجزته في مكان معلوم، وها هو
في انتظار القدوم، فأرجوك أن ترجع معي في المضيفة،
وتحتضنَهُ بأحسن صفة.
سجنرل
:
أظن أنك تسخر بي يا سيدي جورجيبوس، أما يكفيك إلا إذا
عانقتهُ بالحضن والبوس، آه يا سيدي، إن هذا لصعب عليَّ،
وتزداد الصعوبة إذا رأيتهُ أمام عيني!
جورجيبوس
:
وحرمة ما بيننا من الوداد، أن تسعفني بقضاء هذا
المراد.
(ثم يعودان معًا إلى المنزل.)
سجنرل
:
كيف العمل الآن يا إلهي؟! … ولكن حيث إنك حلفتني بالحب
الذي بيننا، قل لهُ لينزل عندي هنا.
(عندما يدخل جورجيبوس في بيتهِ
من الباب، سجنرل يدخل فيهِ من
الشباك.)
(جورجيبوس يدخل ويقرب من سجنرل
بجانب الشباك ويقول): ها هو أخوك ينتظرك
هناك، ووعدني بأن يفعل ما أريده لرضاك.
سجنرل
:
يا سيدي، أرجوك أن تحضرهُ إلى هنا، حتى لا يطلع أحدٌ على
أمرنا؛ لأني على يقين بأنهُ يريد توبيخي، وتهديدي
وتدويخي.
(جورجيبوس يخرج من الباب وسجنرل يخرج من
الشباك.)
جورجيبوس
:
أي نعم سأقول لهُ … يا سيدي، يقول لك إنهُ خجلان، وفي
أموره حيران، ويرجوك أن تدخل عندهُ في الحال، وتصطلحا
سرًّا وتتركا النزاع والجدال، فخذ هذا المفتاح ليتيسر لك
الدخول، وأرجوك أن تقابله بكل بشاشة وقبول، فغاية ما
أبتغيه منك عدم رد طلبي، فإن ذلك غاية مأربي.
سجنرل
:
لا أتحول عن فعل كل شيء ترضاه، ويعجبك ولا تأباه، ولكن
سترى بأي كيفية سأقابله، وبأي طريقة سأعامله. (ثم يدخل ويغلق عليهِ الباب ويدنو من
الشباك ويقول) آه كيف حالك الآن يا نحس؟ وهل
نسيت ما فعلتهُ أمس؟ (فيرد على
نفسهِ بصفته أخيه الخدام) أخي، أطلب منك
العفو والسماح، فإني ما فعلت شيئًا من فعال القباح.
(ثم يرد على نفسهِ ثانيًا
بصفة كونهِ الحكيم) صه يا سكير، وملازم
الخمامير، يا خائن الوداد، ويا كثير الفساد، سأُريك كيف
تتجاسر على التوجه إلى السيد جورجيبوس، وتشوش فكرهُ يا
أقبح منحوس. (بصفة كونه
الخدام) يا أخي … (بصفة كونه الحكيم) اسكت يا أحمق، فلا تعد
تنطق. (… الخدام) ما
عدت أخالف لك أمرًا. (…
الحكيم) إن لم يكن وصاني السيد جورجيبوس بأن
أكون عليك حليمًا، لكنت أهنتك ولم أكن بك رحيمًا.
جروريني
(يقول إلى سيده جورجيبوس)
:
من الموجود عندك في هذا المكان؟ ومن الذي تظنهُ بأنهُ
هناك الآن؟
جورجيبوس
:
هما الحكيم وأخوه نرسيس المسكين، اللذان كانا متخاصمين،
فهما يتصالحان في هذا الحين.
جروريني
:
أقطع عنقي إن لم يكونا واحدًا.
سجنرل
(يقول وهو بجانب الشباك)
:
سأعلمك كيف تعيش يا سكران، ويا أجهل من الثيران! ما
أخجلك! وما أتعسك! (ويلتفت إلى
خارج الشباك قاصدًا جورجيبوس ويقول) إنهُ
يعرف جيدًا بأنهُ كان أهلًا للشنق، ومستحقًّا للخنق.
(ثم يلتفت إلى داخل المكان
ليظهر أنهُ يكلم أخاه) آه من المواجهة
الغريبة، وعجبًا لتصنُّعك الآن بالاستقامة والطيبة.
جروريني
(يقول إلى سيده جورجيبوس)
:
يا سيدي، قل لهُ ولو على سبيل المباسطة أن يُظهر أخاه من
هذا الشباك لتظهر لك هذه المغالطة.
جورجيبوس
:
أي نعم … أرجوك يا صاحب الإدراك، أن تريني أخاك من
الشباك.
سجنرل
(يرد عليهِ وهو بجانب الشباك)
:
يا سيدي، لا يستحق أن يظهر أمام أهل الشرف بعواره،
وزيادة عن ذلك لا يمكنني أن أقف بجواره.
جورجيبوس
:
لا تقصر يا سيدي في هذا المعروف، وإنك للآن ما استعملت
لي الكسوف.
سجنرل
:
سمعًا وطاعة. (ويلتفت إلى داخل
المكان ويقول) قم يا خسيس وأظهر لهُ نفسك من
الشباك. (ومن بعد ما يختفي لحظة
يظهر بصفة خدام ويقول) إني في كل الأحوال،
متشكر لهذا الإفضال. (ويختفي
ثانيًا ويظهر في الحال بصفة حكيم) هل رأيت
سحنة هذا الفاجر الذي هو لكل جميل ناكر؟
جروريني
(يقول إلى سيده جورجيبوس)
:
وحق ذمتي ما هما إلا واحد، وستعلم ذلك وتشاهد، ولأجل
البيان والتحقيق، قل لهُ: أريد أن أراك مع أخيك أيها
الصديق.
جورجيبوس
:
يا سيدي الدكتور الشهير، افعل معي هذا المعروف الأخير،
بأن تظهر أخاك معك في الشباك وتصافحه، وتعفو عنهُ
وتسامحه.
سجنرل
:
إن هذا الأمر لا أمكن منه أحدًا سواك، ولكن لأجل أن أحقق
لك أني مستعد لما يوجب رضاك، بالنسبة لما بيننا من المحبة
والمودة، نويت ولو بكل صعوبة وشدة، أن يستسمحك أولًا عن
هذه الأتعاب، والمشقات الصعاب. (ويختفي ويظهر فورًا بصفة خدام) يا سيدي
جورجيبوس، أقصدك الرضا، والعفو عما مضى، لما أتعبناك في
الاتفاق، واستخدمتك بالوثاق. (ويلتفت إلى داخل المكان ويقول) وأما أنت يا
أخي سجنرل فإني أرجوك أمام السيد الماجد، بأن نصيرا على
طريق واحد، ولا عدت أسلك سبيلي القديم، ولا أتبع خطوات
الشيطان الرجيم، وأرجوك أن تنسى ما قد فات، وتتبع قول
المثل: «اللي فات مات.»
(ثم يحضن برنيطته وياقة قميصه العيرة،
اللتان وضعهما على انتهاء ذراعه، لأجل أن يوهم أنهُ يحضن
أخاه.)
جورجيبوس
(يقول إلى جروريني)
:
الحمد لله أما تنظر الاثنين، واتضح لك الحق بمرأى
العين؟
جروريني
:
أعوذ بالله، إن والله هذا لشيطان لعين، وساحر
مبين.
سجنرل
(يخرج من الباب بصفة حكيم)
:
استلم يا سيدي مفتاح منزلك، وإن أخي تركته عندك لئلا
يهتكني أمام هذا الخلق، بعد ما اشتهر اسمي بينهم كالبرق،
فأنت تخرجه وقتما تريد، وأودِّعُك بكل أسف لأني مسافر إلى
بعيد، وإن معروفك عندي لا يضيع طول الزمن المديد.
(ثم يظهر بأنه توجَّه إلى حال سبيله، ولكن
بعدما يخلع عنه كسوة الحكيم (التي هي عباءة بسيطة) يدخل في
البيت من الشباك.)
جورجيبوسِ
(يقول في نفسه)
:
يلزمني أن أطلق سبيل هذا الشاب الفقير؛ لأنهُ لا بد أن
يكون سامحه أخوه الكبير بالنسبة لما استعمله معه من
القساوة الشديدة، وسوء المعاملة الأكيدة.
(فيدخل في بيته، ويخرج مع سجنرل لابسًا
كسوة خدام.)
سجنرل
:
إني لأشكر مولاي على ما بذله لنا من الجهد الجهيد،
والعمل السديد لصالحنا ورعاية مصالحنا، فإني بلا شك عبدُ
إحسانِه ما مرَّت الأيام، وأسيرُ امتنانِه ما كرَّت
الأعوام.
جروريني
:
هل يمكنك أن تنبئني يا سيدي جورجيبوس عن محل الحكيم
المنحوس؟
جورجيبوس
:
إنه ارتحل، وعن هذه البلدة انتقل.
جروريني
(ومعهُ كسوة الحكيم
التي أخذها من ورائه بعدما قلعها)
:
إن حكيمَك في يدي، وواقعٌ تحت قبضتي، ولا شك أنهُ أخبث
من إبليس، لما فعلهُ معك هذا الخسيس، حيث ظهر لك بمَكْرِه
العظيم، أنهُ أشهر حكيم، وأنهُ يشاغلك في بيتك، وأما فالير
فإنهُ الآن مع بنتك، وهما الآن في غاية السرور، لا يفتكران
فيك ولا في غيرك من الأمور.
جورجيبوس
:
لا حول ولا قوة إلا بالله، ما أتعس حظي، فإن هذا الخبر
أحرق قلبي، وأضعف لحظي، ولكن لا بد عن شنقك يا مغتال، ويا
لص يا محتال.
سجنرل
:
وإذا شنقتني يا سيدي ماذا يعود عليك؟ فأصغ لما ألقيه
إليك: حقيقة إن مولاي فالير تحصَّل على بنتك لوسيله بواسطة
ما اخترعتهُ لك من الحِيَل الجميلة، ولكن في حال استعمالي
لها ما عارضتك ولا كدرتك، بل صرت لك أعزَّ صديق، وكلفت
نفسي في رضاك فوق ما أطيق، ومع ذلك فإن لها فيه رغبة
لائقة، وهو يصلح أن يكون صهرًا لسعادتكم الفائقة، على ما
هو عليهِ من المال، وما يحتويهِ من اللطف والكمال، فإذا
سمعت قول خادمك المهووس، فلا لزوم لضجة تعود عليك بالعبوس،
واترك من فكرك اسم فلبركين، وها هم أصحابنا قادمين.
المنظر السادس عشر
(فالير – لوسيله – جورجيبوس – سجنرل)
فالير
(يقول إلى جورجيبوس)
:
لنسجد إليك، ونلثم قدميك.
جورجيبوس
:
لقد سامحتكم يا أولادي؛ لأن ما فعلهُ سجنرل أتى على
مرادي، حيث إني وجدت لي صهرًا عفيفًا، محمود الخصال
ظريفًا، فهيا بنا نقيم الأفراح، وندير كأس الراح، فكوكب
الأنس بأفقنا أشرق، وغصن المسرات بروضنا أورق، وقد بلغنا
الأوطار، فلنستعدَّ لسماع الأوتار، وندعو أحبَّتَنا
للحضور، ليشاركونا في هذا السرور.