تواريخ حياة الشهداء
لقد كانت حياة الشهداء كأعمار الزهر أو كالفجر البهيج، وكانوا كالأنجم التي لاحت في سمائها، وما هي إلا أن تلألأت فأضاءت ما حولها فهوت في ظلمات الأبدية. وقد جاء أولئك الشهداء إلى العالم ليعطِّروا نواحيه بتلك الأيام القلائل التي أقاموها بيننا ثم استردتهم السماء وتركت أجسادهم في ثرى مصر لتعطر بهم موقف الحشر في يوم البعث العظيم.
بيد أن تلك الأعمار القصيرة لا تخلو من حسنة تُذكر فتُؤثر من ناحية الاجتهاد في تحصيل الدرس ومن ناحية مكارم الأخلاق، ولهذا نسوق هنا لمعة من تاريخ كل من شهدائنا ليكون مثلًا صالحًا لمن يطَّلع عليه من الشباب المصري المبارك، وليكون أيضًا تذكارًا خالدًا لأبنائنا الذاهبين.
(١) ترجمة أحمد طلعت أسعد
(١-١) مولده
وُلِد الشاب الذكي المرحوم أحمد طلعت أسعد بمدينة الزقازيق في ١١ أغسطس سنة ١٩٠٢م، وهو نجل المرحوم محمد بك أسعد الذي كان مأمورًا بالدائرة السَّنِيَّة. وتُوُفِّي والده وهو في سن الحادية عشرة، فتكفَّل بتربيته حضرة عمه صاحب العزة القائمقام أحمد بك أسعد وتبناه هو وإخوته الثلاثة، وكان الفقيد أكبرهم سنًّا وأشغفهم بطلب العلم والتطلع إلى الآمال الكبيرة، وتوسم مربيه فيه النجابة فلم يقصر في الإنفاق عليه والعناية بتربيته وتهذيبه.
(١-٢) دراسته
عندما بلغ الفقيد السن التي تؤهله لتلقي مبادئ الدراسة أدخله والده في سلك تلاميذ المدرسة المحمدية الأميرية، فكان مثال الفطنة والنجابة والنشاط، وقد لبث بها حتى حاز شهادة الدراسة الابتدائية. ثم التحق بمدرسة الإلهامية الثانوية، فكان موضع إعجاب أساتذتها واحترامهم، وكانوا يظهرون له شيئًا من العطف ويتنبئون له بالمستقبل الزاهر. وكان على جانب عظيم من الأخلاق الطيبة والآداب العائلية العالية، وكان شفوقًا بأشقائه شديد الإقبال عليهم بما يملأ نفوسهم مسرةً. وكان كل همه أن يكون ذا مركز في الهيئة الاجتماعية يمكِّنه من خدمة وطنه ومن العناية بإخوته.
وبعد امتحانه في شهادة الكفاءة رغب في الالتحاق بمدرسة المحاسبة والتجارة المتوسطة، ولم يتح له نشاطه إتمام دراسته بها لأنه كان يتوق من العلم إلى ما يَنْقَع غُلَّته ويشفي نفسه الطموح بالمجد الشغوف بالعلاء التواقة إلى موارد العلم العذبة فانضم إلى الطلبة المسافرين إلى عاصمة الألمان للدراسة، ولم يسعفه الأجل فاستشهد قبل أن يصل إلى بغيته ولم يكن يبلغ من العمر أكثر من سبعة عشر ربيعًا، وقد ترك إخوته يندبون شبابه، ومربيه يندب نجابته وذكاءه، ووطنه يندب مستقبله ويبكي منه شابًّا لو عاش لكان رجلًا نافعًا ووطنيًّا مخلصًا، فرحمه الله رحمةً واسعةً وأنزله منازل الأبرار الأتقياء وعوَّض إخوته ومربيه فيه خيرًا!
(٢) ترجمة علي حسن البكري
(٢-١) مولده
وُلِد شهيد الهمة والإقدام فقيد الشبيبة المصرية علي حسن البكري في اليوم السابع والعشرين من شهر يوليو سنة ١٨٩٩ بمدينة دمياط، وهو نجل صاحب العزة الوجيه حسن بك البكري نجل المرحوم نعمان بك البكري سر تجار مدينة دمياط. ونشأ في مهد العز والرفاهية، متحليًا بالآداب العائلية العالية والأخلاق الفاضلة اللائقة بشرف بيته الكريم ونسبه الطاهر.
(٢-٢) دراسته
شب الفقيد على حب الدرس والمذاكرة، وما كاد يبلغ السابعة من سني حياته حتى أدخله والده مدرسة الكتبي الأولية ثم مدرسة دمياط الأميرية، فكان لا يألو جهدًا في مسابقة إخوانه والتفوق عليهم في الترتيب المدرسي حتى نال شهادة الدراسة الابتدائية سنة ١٩١٤م وكان في أوائل الناجحين. ثم سافر إلى الإسكندرية فالتحق بالمدرسة العباسية الثانوية، ثم انتقل طلاب تلك المدرسة أيام الحرب العامة بأمر وزارة المعارف إلى مدرسة طنطا الثانوية ومنها حصل على شهادة الكفاءة سنة ١٩١٦م، ولبث مستمرًّا على إتمام دراسته بها حتى حاز شهادة الدراسة الثانوية عام ١٩١٩م. وكان يميل إلى تلقي علم الطب ليخفف ويلات الإنسانية، ولكنه لم يوفق للالتحاق بمدرسة الطب المصرية للحالة الاستثنائية المتبعة في قبول الطلاب فيها، ولذلك عول على دخول مدرسة الهندسة مخالفًا بذلك ميله الطبيعي لدراسة العلوم الطبية.
ولما سهَّل الله طريق السفر إلى بلاد أوروبا عاود الفقيد غرامه بدراسة الطب، واهتاجه للهجرة إلى ربوع العلم في بلاد الألمان تهافت الطلبة على السفر وعُرِض عليه الاشتغال بالتجارة ولكنه أصر على طلب العلم فلم يسعْ والده إلا تحقيق رغباته وإعداد ما يلزم لرحلته من مال ومتاع.
وقد أُصِيب — رحمه الله — بمرض عضال قبل سفره بأيام قلائل، فخشي أن يتشبث والده بمنعه عن السفر ويتخذ من مرضه ذريعة لذلك، فتصنع العافية وجالد مرضه بصبر يدل على صدق عزيمته وقوة إرادته، ولم يعلم بمرضه غير طبيبه الذي كان يعوده ويقوم بمداواته.
وسافر الفقيد مودَّعًا من أهله وأصدقائه، واستقل الباخرة حلوان ميما تريستا، وما كاد يصل نبأ وصوله وتنتهي الألسن من حمد الله على سلامته حتى جاء خبر النعي الذي أصمَّ الآذان وروَّع القلوب وأذهل النفوس.
وما كاد يُذَاع الخبر في القاهرة حتى أُقِيم المأتم في منزل والده الأسيف بالمنيرة، وتوافد عظماء البلد إلى تعزيته. وجاء صاحب العزة محمود بك رسمي محافظ دمياط، وعدد كبير من أعيانها ووجهائها خصيصًا لتقديم مراسم التعزية، وأنابت لجنة الوفد المركزية الأستاذ محمد بك يوسف المحامي لتخفيف وقع المصيبة على نفس ذلك الوالد المحزون.
(٢-٣) حفلة تأبين الفقيد بمدينة دمياط
رأى أهالي مدينة دمياط تخفيفًا لمصاب عائلة الفقيد وقيامًا بحق مواطنهم عليهم أن يقيموا حفلة رثاء عامة له برئاسة سعادة المحافظ، وحددوا لذلك يوم الجمعة ١٠ أبريل سنة ١٩٢٠م بمسجد الأستاذ البدري، وما كاد يوافي الموعد المضروب حتى غُصَّ المسجد بأعيان البلد وكبار موظفيها وتجارها، وكان في مقدمتهم سعادة المحافظ وسعادة عبد السلام بك العلايلي عضو الجمعية التشريعية، وفضيلة القاضي الشرعي وغيرهم، وكانت صورة الفقيد مكبرةً وموضوعةً في صدر المكان.
وافْتُتِحت الحفلة بتلاوة آي الذكر الحكيم، وكان الجميع كأن على رءوسهم الطير من الخشوع لجلال الحزن ورهبة الموت. ثم نهض الطالب الذكي محمد أفندي إسماعيل خفاجي، فألقى كلمةً أفاض فيها القول على همة أولئك الشبان وإقدامهم ومحبتهم للعلم، وترحَّم عليهم. ثم تلاه الأستاذ محمد بك يوسف المحامي والعضو بلجنة الوفد المركزية، فارتجل خطابًا مؤثرًا أبَّن فيه الفقيد وأظهر فداحة مصاب مصر في أبنائها الشهداء. وقام بعده الأديب عزيز أفندي يوسف فنسج على منواله، ثم تلاه الكاتب الشاعر الأديب عباس أفندي شوشة فألقى هذه الخطبة الشائقة:
مراثي الشعراء والكتَّاب في حفلة تأبين المرحوم علي حسن بكري
«ليت شعري، ألم يأتهما ذلك النبأ العظيم الذي أدمى المُقَل وأذاب المُهَج، ذلك النبأ الذي صدَّع الأفئدة، وفتَّت الأكباد ومزق المرائر، ذلك النبأ الذي اهتزت له أركان العالم، وضجت له الأفلاك في الأفلاك، نبأ كواكب مصر المنثرة، ونجومها المنكدرة، وبدورها الآفلة في ليالي التمام، نبأ ذلك الجيش العرمرم الذي تجمع من زهر شباب الكنانة الناضر ليفتح لها مغاليق العلوم. تجمع أولئك الأبطال ولا أغالي إذا عددتهم جيشًا جرارًا، فإني أعد كل فرد منهم أمةً بأسرها في شخص. اجتمعوا وقائدهم الحزم، وعدتهم العزم، وذخيرتهم حب بلادهم، ثم ساروا ووجهتهم أمور ثلاثة: تحصيل العلم، وخدمة بلادهم بما يحصِّلون منه، ثم تخليد ذكر يحيون به إلى الأبد، والذكر عمر لو علمت طويل! ولكن جيش المنية ربض لهم في سبيلهم، ثم أخذهم على غرة، وهنا انعكست أمامهم الآية، فبلغوا الغاية الأخيرة التي ينشدونها قبل الغاية الأولى التي خرجوا من أجلها، بلغوا ما كانوا يرجون لأنفسهم من الذكر الخالد وآيات الإعظام التي أصبحت منقوشةً في صفحات كل فؤاد، ينقلها الخلف عن السلف ما دامت السموات والأرض. ولم يبلغوا ما أرادوا من نقل دار العلوم إلى بلادهم وتحليتها بها، فقضوا وفي أنفسهم من ذلك لوعةً، وخلفوا مصرهم وفي قلبها عليهم ألف حسرة، قضوا وهم في ميدان الجهاد بعيدين عن أهليهم، بعيدين عن أبيهم النيل وأمهم مصر التي حبتهم وأحبوها حتى كانوا يطلبون لها الحياة وهم يجودون بالنفس الأخير! بالله ماذا كان على المنية لو أمهلتكم أيها الشهداء، حتى تبلغوا أربكم وتبلغ مصر بكم أربها؟! ولكن هكذا قُضِي لكم وقضاء الله إذا جاء لا يُرَد، ولا يؤخِّر الله نفسًا إذا جاء أجلها، ففي ذمة الله شبابكم الغض ونفوسكم الكريمة.
وإني إذا عزيت عنكم الأمة جمعاء أرى من واجبي في موقفي هذا أن أخص أبا علي، مع بقية الدمياطيين، بتعزية مفردة عن ذلك الشاب الكريم النَّبْعَة، الوسيم الطلعة، العريق النسب، الوافر الأدب، الطيب الأعراق، الرضي الأخلاق، المرحوم «علي حسن البكري»، وإن كانت الرزيئة ليست خاصةً بهم، والفاجعة غير قاصرة عليهم، بل هي مصيبة الأمة قد أصابت كل قلب فيها وليس لنا إلا الصبر وملاقاة الخطوب بقلوب من الصخر، ولا تزدنا الكارثات إلا مضيًّا في سبيلنا لتحقيق مآربنا، ولا نضع أعمارنا إلا فيما خُلِقنا له من العمل الصالح.
ثم أعقبها بهذه القصيدة العصماء:
ثم قام فضيلة قاضي دمياط الشرعي فألقى كلمة كانت بلسمًا للقلوب الكليمة الموجعة، ونهض الأديب حامد أفندي الشيال فارتجل خطابًا ناجى فيه أرواح الشهداء ورثى فيه صديقه البكري رثاء الوفي الأمين على المودة.
وقام المرحوم الأستاذ الشيخ محمد محمد منيعم فألقى هذه القصيدة التي تفيض دموعًا، وتسيل حزنًا:
وتبعه الأستاذ الشيخ إبراهيم منصف فألقى هذه القصيدة:
وقام حضرة محمد أفندي الأسمر وتلا القصيدة الآتية:
•••
وتلاهم الكثيرون من الخطباء. وخُتِمت الحفلة بتلاوة القرآن الكريم، وانصرف الحاضرون يستمطرون شآبيب الرحمة على شهداء العلم ويسألون الله أن يُلْهِم والد فقيد دمياط جميل الصبر.
(٢-٤) الاحتفال بتشييع جنازة الفقيد في مدينة دمياط
كان يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شهر أبريل سنة ١٩٢٠ يومًا مشهودًا بدمياط، لم ترَ مثله مع كثرة ما مر بها من الحوادث أيام الحروب الصليبية وغيرها، فقد وصلت الجثة إلى محطتها الساعة الواحدة بعد الظهر وحُمِلت إلى مكان الاستراحة، وكان النعش مجلَّلًا بأكاليل الزهر التي وضعت عليه عند تشييع الجثث بالإسكندرية، وكان مغطًّى بالعلم المصري، وموسومًا بشارات الحداد.
وكانت مدينة دمياط في ذلك اليوم مغلقة الحوانيت، والأعلام المنكَّسة مرفوعة في كل مكان، وما وافت الساعة الثالثة بعد الظهر حتى احتشدت الجماهير حول منزل عبد الله بك البكري الذي تبتدئ منه الجنازة، وعند الساعة الرابعة كان تابوت الجثة قد نُقِل إلى الشاطئ الثاني من النيل، وتحرك الموكب الرهيب في صمت عميق لم تكن تسمع خلاله غير نغمات الموسيقى المحزنة وزفرات المشيعين. وكان نظام الموكب يسير على هذا الترتيب: الموسيقى – عساكر البوليس – جنود خفر السواحل – الخفراء – موسيقى دمياط – تلميذات مدرستَي دمياط الأميرية والراهبات – تلاميذ المدرسة الأميرية – نعش الفقيد محمولًا على الأعناق ومحاطًا بالسواري – والد الفقيد وعائلته – طلبة العلم – رجال الدين والرؤساء الروحانيون – سعادة المحافظ نائبًا عن عظمة السلطان – كبار الموظفين – عضو الجمعية التشريعية – عضو لجنة الوفد بدمياط – وفد الإسكندرية – رؤساء المصالح – أعضاء المجلس البلدي – رجال القضاء والمحامون – الأطباء – نظار المدارس ومعلموها – الأعيان والتجار – النقابات بأعلامها. وكان الزحام بالغًا حده والطرقات غاصَّة بالنساء والرجال.
وسار المشهد على هذا الترتيب: من منزل عبد الله بك مخترقًا شارع البحر – شارع الخمس – شارع مدرسة البنات – الشارع الأعظم – شارع الحدادين – شارع سوق الجبنة – شارع القرافة، ومنه إلى مقبرة عائلة الفقيد. وكان هناك سرادق فخم معدٌّ لاستقبال المشيعين فانعطفوا عليه، وهناك وقف الأستاذ محمد بك يوسف المحامي فأبَّن الفقيد وشكر المشيعين بالنيابة عن أسرته واختص منهم وفد الإسكندرية.
ثم وقف شاعر دمياط الأستاذ علي أفندي علي العزبي فألقى هذه القصيدة العصماء فاستمطر الدموع وأبكى العيون، وهي:
•••
•••
•••
وتلاه الأستاذ محمد أفندي حسين العرارجي المحامي الشهير بإسكندرية، فألقى كلمةً استرعت الأسماع وهوَّنت آلام النفوس، وكَفْكَفَتْ دموع العيون.
وقام بعده الأستاذ الشيخ عبد الحميد النحاس فاختتم الاحتفال بخطبة أثرت في السامعين وكانت خير تعزية لآل الفقيد.
ثم انصرف المشيعون من القرافة الساعة السابعة مساءً وهم يعزون بعضهم البعض في هذه الكارثة العامة.
بلسان الوطن المحبوب نرفع إلى سموكم شعائر الامتنان على عنايتكم الشريفة بتشييع جنائز الشهداء، ونسأل الله أن يبقيكم ذخرًا للوطن وبنيه.
أقدم آيات الحمد للوفد المصري ومعالي رئيسه في شخصكم الكريم على شعور التضامن الشريف والاهتمام للوطن وبنيه باستحضار جثث شهداء العلم وتشييع جنائزهم. لا زلتم نصراء مصر للمصريين.
(٣) ترجمة حسين أحمد ﭼلبي
(٣-١) مولده
وُلِد شهيد العلم وفقيد الوطن المرحوم حسين أحمد ﭼلبي عام ١٨٩٩ ميلادية بحارة درب القزازين بقسم الجمالية بالقاهرة، وهو نجل السيد أحمد ﭼلبي الكبير تاجر الحرير بالتربيعة وكبير العائلة. والسيد أحمد شديد العناية بتربية أنجاله وتهذيبهم في الصغر وبث روح الفضيلة والمروءة في نفوسهم وتعويدهم على تأدية الفرائض الدينية حتى يشبوا صالحين، لاعتقاده بأن تقوى الله أساس نجاح الإنسان في هذه الحياة الدنيا، لأن الإنسان إذا اتقى الله في جميع أعماله يكون موفقًا لعمل الخير دائمًا، ومن كان موفقًا للخير والسعي في صالح العباد يصيب النجاح في حياته.
(٣-٢) دراسته
لما بلغ الفقيد السابعة من عمره ألحقه والده بمدرسة خان جعفر التحضيرية ليتلقى مبادئ الكتابة والقراءة ولبث فيها ثلاث سنوات، ثم أدخله مدرسة القربية الأميرية فنال منها شهادة الدراسة الابتدائية وهو في سن الرابعة عشرة.
وفي هذه السنة من عمره أدخله والده بالقسم الداخلي بمدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية، وكان وجوده في ذلك القسم مدعاةً لاجتهاده وانصرافه إلى المذاكرة. وقدم في امتحان شهادة الكفاءة فحصل عليها، ثم استمر في تحضيره لامتحان الشهادة الثانوية وقدم لدخوله فحالت بينه وبين تأديته اضطرابات شهر مارس سنة ١٩١٩م المعروفة وفُصِل من المدرسة بأسبابها.
وكان المرحوم حسين على صغر سنه عالي الهمة متين الإرادة، وكان يجيد الكتابة والرسم بيده اليسرى كما يجيدها بيده اليمنى، وكان مستمسكًا بأوامر الدين مستقيمًا في سيره وسيرته كريمًا في خلقه محبًّا لوطنه.
ولهذا لم يُثْنِ عزمه عن طلب العلم فصله من المدرسة، فأظهر لوالده رغبته في السفر إلى أوروبا لمواصلة الدراسة فلم يجد الوالد بدًّا من تلبية طلبه، وأعد الفقيد عدة السفر إلى بلاد الألمان مع المهاجرين إليها في طلب العلم، فساقه القدر لما أصابه في حادثة التصادم وقُضي على آماله الواسعة معه. وقد شُيِّعت جنازته بالقاهرة وحُمِل إلى مدفن العائلة أمام ضريح الأستاذ المنوفي بجوار العفيفي بقرافة المجاورين ودُفِن به. وقد توافد العظماء والوجهاء والتجار لتعزية والده الحزين وأشقائه حضرة صاحب العزة إبراهيم بك أحمد ﭼلبي القاضي بالمحاكم الأهلية، وحضرات محمد أفندي عبد السلام ﭼلبي بهندسة وزارة الأوقاف، وعلي أفندي أحمد ﭼلبي الطالب بالمدرسة الحربية؛ فقابلوا عطف الأمة بالشكر والامتنان.
فرحم الله الفقيد العزيز وألهم أسرته الصبر الجميل!
(٣-٣) شكر أسرة الفقيد لمن واسوها
وقد كتب السيد أحمد ﭼلبي والد الشهيد وأشقاؤه يشكرون الأمة لمشاركتها إياهم في مصابهم، رافعين أكف الضراعة إلى الله — تعالى — أن يبارك في أبناء الأمة ليعوضوا عليها هذه الخسارة. كما أنهم يقدمون للشعب الإيطالي العظيم مزيد الشكر لاهتمامه بأمر الشهداء وتشييع جنازتهم، ويقدمون للوفد المصري آيات الشكر لما بذله من العناية بنقل رفات الشهداء، ويسألون المولى القدير أن يبارك في رجاله ويكلل أعمالهم بالنجاح.
(٤) ترجمة شفيق سعيد
(٤-١) مولده
نشأ الفقيد من بيت عريق في النسب، شريف الحسب. وكان على صغر سنه مثلًا من أمثلة الفطنة والأخلاق الحميدة والوداعة، ورأى والده ذكاءه وحبه للاستطلاع والوقوف على حقيقة كل شيء يمر ببصره فأدرك ميله للتعليم فبعث به إلى القاهرة.
(٤-٢) دراسته
ودخل الفقيد مدرسة القربية الأميرية فأكبر آية ذكائه معلموها، ومكث بها حتى نال الشهادة الابتدائية، ثم التحق بالمدرسة السعيدية الثانوية ففاز على زملائه في جميع الفصول حتى حصل على شهادتَي الكفاءة والبكالوريا.
وكان الفقيد ميالًا للرياضيات، وحل ما فيها من المعضلات، فالتحق بمدرسة الهندسة السلطانية فكان موضع تجلَّة أساتذتها واحترامهم الفائق، ثم دفعه شغفه بارتضاع أفاويق العلم الصحيح إلى الانضمام للقافلة العلمية المهاجرة إلى بلاد الألمان، فشمر عن ساعد الجد والعزيمة مغتربًا عن زوجه وولده الوحيد محمد الذي كان يبلغ من العمر حينذاك نصف العام، وسافر — رحمه الله — مودَّعًا من عائلته الكريمة، مزوَّدًا بإكبارها لهمته وإعجابها بإقدامه. وأقلعت الباخرة حلوان بتلك القافلة، وكان أولئك الشبان المصريون موضع إكرام المسافرين وتبجيلهم، وكانوا يملئون الباخرة حياةً وسمرًا، بل كانوا كالحمائم في الحنين إلى عشها وكأنهم بمظهرهم هذا كانوا يودعون الحياة ويقضون ما بقي من أيامهم في التزود من انشراح الصدر وترك حبل الأقدار على غاربها.
وما هي إلا أيام كانت عائلة الفقيد فيها تتلهَّف على أخباره وتترسم آثاره حتى جاءها نبأ وصوله سالمًا إلى «تريستا»، وما كادت تحمد الله على سلامته وتحمل أجنحة النسيم تحياتها إليه حتى جاء الخبر المفجع، فانقلب سرورها حزنًا وضحكها بكاءً، وتوافد أهل البلاد المجاورة على صهرجت لتعزية أشقائه وعائلته الأسيفة لفقد فرع من تلك الدوحة العظيمة.
ومما يؤثَر عن الفقيد أنه كان لا يتعاطى المسكر، ولا يميل إلى سفاسف الأمور، وكان لا يترك فرائضه الدينية، وكان يعطف على الفقراء والمساكين ويمدهم بما يوفقه الله إليه.
(٤-٣) الاحتفال بجنازة الفقيد
نُقِلت جثة الفقيد بعد احتفال الإسكندرية إلى بنها، فاحْتُفِل بتشييعها احتفالًا مهيبًا في موكب كبير يتقدمه رجال الطرق الصوفية حاملين أعلامهم، فالموسيقى، فالجنود ركبانًا ومشاةً، فطلبة مدارس بنها الذين عطلوا الدراسة للاحتفال بأخيهم الراحل، فنعش الفقيد ملفوفًا في علم مصري، فجمهور من كبار الموظفين والأعيان يتقدمهم سعادة المدير نائبًا عن عظمة السلطان، فالعلماء الأعلام، فالآباء الروحيون، فكثير من المشيعين من وطنيين وأجانب. وظل الموكب سائرًا على هذا الترتيب مخترقًا شوارع المدينة — وكانت حوانيتها مغلقةً والأعلام منكسةً عليها — حتى وصل إلى محطة الدلتا فنُقِلت الجثة إلى مركبة أُلْحِقت بقطار سافر إلى صهرجت، ورافقها كثيرون من المشيعين.
(٤-٤) الاحتفال بصهرجت الكبرى
ما كاد يصل القطار المقل لجثة الفقيد إلى صهرجت حتى كانت الألوف قد اجتمعت هناك من العمد والأعيان، ولما حان موعد تشييع الجنازة إلى مقرها الأخير عُقِد موكب كبير يتقدمه موسيقى كوم النور، والعلماء، والقُسُس، والموظفون، وتلاميذ مدارس ميت غمر وصهرجت، ونعش الفقيد محمولًا على الأعناق يتبعه أعيان البلدة والعمد، حتى وُورِي التراب مأسوفًا على شبابه وحرمان الوطن من ثمرة اجتهاده.
وكان الشيخ الوقور صاحب السعادة محمود باشا سليمان قد أوفد صاحب العزة محمود بك عبد النبي العضو بمجلس مديرية الدقهلية وأحد أعضاء لجنة الوفد المصري إلى ناحية صهرجت الكبرى مقر عائلة المرحوم، فاستقبله صاحب العزة عبد الله بك شريف وحضرات إخوة الفقيد وجميع أصهاره وأقاربه، فأبلغهم حضرته أنه موفد بالنيابة عن الوفد المصري لتعزيتهم. ثم تلا عليهم آيات بينات ومأساةً بليغةً مرسلةً من ذلك الأب الرحيم والشيخ الجليل، فكانت على نفوسهم المجروحة وأفئدتهم الموجعة مرهمًا شافيًا، فأثلجت الصدور ونفَّثت عنهم لوعات تلك النازلة التي لولا وقوعها موزعةً على جميع طبقات الأمة لعزَّ احتمالها.
فرحم الله الفقيد رحمةً واسعةً، وألهم عائلته الصبر الجميل!
(٤-٥) حفلة تأبين الفقيد بصهرجت الكبرى
لم تكد جثة الشهيد تُوَارى في ثرى مسقط رأسه «صهرجت الكبرى» وما كادت تخفت زفرات النادبين وحسرات الباكين، حتى وقف الأستاذ الفاضل الشيخ بكري هندي بين الجموع المحتشدة فألقى كلمةً مؤثرةً استجمع فيها ما يسَّر الله له من الرثاء والتعزية، فكانت بردًا وسلامًا على القلوب المشتعلة بنار الحزن.
أي شفيق، يا كوكبًا هوى من سمائه، كيف تنتهي بك نفسك الوثابة إلى تلك الحفرة الضيقة بعد أن ضاقت بك مصر على سعتها؟ أأنت راضٍ يا شفيق أم أرغمتك المنون فاستسلمت فنمت؟ إلى حدٍّ نومك، إلى ميقات أودعت روحك.
أي شفيق، أيقنعك افتراش الغبراء والتحاف الصخور؟ إيه، لو كانت المنون تقبل الفداء لما نمت نومتك!
وارحمتاه عليك يا شفيق، وارحمتاه على شبابك الذي ذَوَى قبل يَنْعِه وقبل أن تنضج ثمراته.
واعزاءً لزوجك التي ثكلتك، ولأمك التي فقدتك، ولأهلك وذويك! واعزاءً لصحبك! واعزاءً لنا جميعًا!
أي شفيق، إن المصاب جلل والفاجعة عظيمة، فلا عتب إن رأيتنا واجمين! أي شفيق، يا شهيد همتك وضحية عزيمتك، يا رسول حزننا الأبدي، ونذير تفجعنا اللانهائي.
أي خطب دهى أسرتك؟ وأي مصاب جاء زوجك؟ وأي يتم لحق طفلك؟
وارحمتاه يا شفيق! وامصيبتاه! واحرَّ قلباه!
يا شفيق، لو كانت الدموع تكفي للتعبير عن حزننا لهمرناها انهمارًا ولسكبناها أنهارًا ولكنها دون حزننا، فلترفرف علينا روحك العالية لترى منا المفجوع الباكي، لترى تلك القلوب الدامية والأفئدة المكلومة، لترى زملاءك قد جاءوك ليذرفوا العبرات على قبرك تفجُّعًا عليك وعلى شبابك وإيذانًا لفقدهم إياك، وهل فقدوا غير أخ ذكي ورفيق محبوب طاحت بروحه الأيام فأوردته المنون في بلاد غير بلاده، في بلاد غير مصر، في بلاد غير وادي النيل، فوافجعتاه؟!
أي طفلَ شفيق، أَوَلَا تتشوق إلى أبيك؟ أتأمل أن تراه مرةً أخرى؟ يفجعني أن تكون حُرِمت أباك، يفجعني أنك لا تراه إلى الأبد، يفجعني أنك ستعيش بلا أب، يفجعني أنك ستبقى يتيمًا! فلتبك ما أردت، وها نحن نبكي معك بكاءً مرًّا.
أي طفلَ شفيق، يا من حُرِمت لذة الحنان الأبوي، يا من أُصِبت في أعز ما لديك وإن كنت لم تقدر للحياة قدرًا بعد، يا من فقدت والدًا هو كل ما تقر به عينك في هذه الحياة المظلمة، فرحمةً لوالدك أيها الطفل، وفي ذمة الله أبوك وفي وديعته.
ثم جلس ونهض بعد ذلك فألقى قصيدةً بليغةً تسيل أسًى وتفجُّعًا نَظْمَ شقيقه الشاعر الوجداني الرقيق الشيخ عبد الله حبيب الطالب بالقسم العالي بالأزهر الشريف، وهي من الشعر النائح الذي ينبعث من أعماق النفس فيهز العواطف ويؤثر في القلوب. وهذه هي القصيدة:
•••
ورجع المشيعون من المقبرة إلى دار عائلة الفقيد حيث أُعِدَّ سرادق فخم، وهناك تُلِيت آيات الكتاب الحكيم فكانت شفاءً لما في الصدور وكانت رحمةً من السماء نزلت على القلوب فسلكت بها سبيل الصبر والرضا بما قضاه الله وسبق في علمه.
ووقف أحد طلبة مدرسة رأس التين بالإسكندرية فألقى كلمةً شاملةً، ضمنها حكمةً ساميةً كانت من خير ما يعزَّى به المحزونون.
ثم وقف أحد الأساتذة خطيبًا ونائبًا عن لجنة تشييع الجنازات بالإسكندرية، فألقى عبارةً مؤثرةً قُوبِلت بالثناء الطيب.
ثم تلاه الأديب الفاضل محمد أفندي شريف ابن عم الفقيد، ونجل حضرة صاحب العزة الشاعر الفصيح عبد الله بك شريف، وألقى قصيدة عصماء من نظم والده الجليل أثَّرت في النفوس تأثيرًا بليغًا. قال عبد الله بك أمد الله في حياته:
ثم شكر للمشيعين مشاركتهم لعائلة الفقيد في مصابه الذي هو مصاب الأمة وختم موقف التأبين بذلك، وانصرف المشيعون يترحمون على الشهداء الأعزاء أسكنهم الله فسيح جناته وعوَّض مصر فيهم خيرًا.
(٤-٦) شكر أسرة الفقيد لمن واسوها
بلسان الشكر والواجب المقدس نرفع إلى سموكم واجب الامتنان على عنايتكم بتشييع جنازة الشهداء، ونسأل العناية الصَّمَدَانية أن تكلأ سموكم ذخرًا للوطن وبنيه.
نقدم آيات الشكر للوفد المصري ومعالي رئيسه في شخصكم العظيم، للاهتمام باستحضار جثث شهداء العلم وتشييع جنائزهم. لا زلتم نصراء الأمة المصرية.
(٥) ترجمة محمد إبراهيم زويل
(٥-١) مولده
وُلِد الفتى النبيل فقيد الهمة محمد إبراهيم زويل بمدينة دمنهور قاعدة مديرية البحيرة عام ١٨٩٣م من أبوين سرِيَّين، وكان لا يعيش لأمه أولاد فعاهدت الله إذا رزقها مولودًا أن ترتحل به عن مدينة دمنهور، ولما وضعت الفقيد برَّت بعهدها، فحملته إلى قرية بسيون بمديرية الغربية ولبثت بها حتى شبَّ وترعرع ونمت عضلات جسده وأصبح يدرك ما حوله من الأشياء، وأحس من نفسه على صغر سنه بهاجس يجيش في صدره إلى تحصيل العلم فكاشف والدته بما في نفسه، ولم يكن بالقرية مدرسة تلحقه بها، وهي مع محبتها له وعنايتها به لم تجد بدًّا من العودة به إلى دمنهور، وألحقته بإحدى المدارس الأولية، وأكبرت في نفسه هذه الأماني الشريفة.
(٥-٢) دراسته
أدرك الفقيد مبادئ القراءة والكتابة والرياضة، والتحق بمدرسة التعاون الإنساني بدمنهور عام ١٩٠٩م وحصل على شهادة الدراسة الابتدائية سنة ١٩١٢ ميلادية.
وفي تلك السنة انتظم في سلك طلبة مدرسة المساعي المشكورة الثانوية بشبين الكوم ونال منها شهادة الكفاءة.
ثم جاء إلى القاهرة وتخير المدرسة الإعدادية لإتمام دراسته وذلك عام ١٩١٥م، وحصل على شهادة الدراسة الثانوية عام ١٩١٦م. وكان في سائر أيام دراسته آيةً من آيات الذكاء المصري والنشاط الخليق بهمم الشباب.
وفي عام ١٩١٧م التحق بمدرسة الحقوق السلطانية ومكث بها ثلاث سنوات، ثم أجمع أمره بعد ذلك على الهجرة إلى عاصمة الألمان لإتمام دراسته بها مع المهاجرين من شباب مصر ليرتشف العلم من مناهله، حتى وقف به الأجل دون مرحلة همته.
وكان رحمه الله على جانب من رقة الأخلاق ووفرة الذكاء وطلاقة المحيا، وكان شغوفًا بالأدب حسن الأسلوب في الكتابة، إذا أسمعك حديثًا اجتذبك لسماعه بطلاوة تحديثه. وكان محبوبًا من عشيرته محترمًا من أصدقائه لا يميل إلى الهَذَر في القول، ولا يألف إلا من يحب المروءة ويترفع عن الدنايا، ولو أن الأجل أمهله لكان أدى لوطنه أجل الخدمات، ولكن هكذا قضى الله ولا مرد لحكمه له الأمر وإليه ترجعون.
أيها الفقيد الشهيد
هاجرت في سبيل العلم والوطن، ولم يُثْنِك عن المهاجرة رجاء والدتك الثكلى التي أنت كل أملها في هذا الوجود، ولم يقعدك توسلها وضراعتها إليك، وتلهفها عليك، وتوجعها لبعدك، وتفجعها لفقدك، بل ولا دموعها التي كانت تفيض منها أسًى نفسها، وتتطاير لهب أنفاسها، ومن ورائكما وطنك يهيب بك أن سافر في طلب العلم الصحيح وعد به تنشره علينا، وقل هذه بضاعتنا ردت إلينا.
فأصخت للوطن السمع ولبيت نداءه، علمًا منك بأن حبه فوق كل حب، وأن في إسعاده إسعاد الكل، ولم ترحم كبر والدتك وشيخوختها ولسان حالك يقول:
سافرت أنت ورفاقك وقد وُدِّعتم منا أجمل وداع يليق بهممكم وشَمَمِكم ونفوسكم الوثَّابة للمجد الطماحة إلى الجهاد لنصرة الوطن المفدى، وداعًا يليق بتلك القلوب المملوءة عزمًا وحزمًا وهمةً وذمةً، وأملًا وعملًا، لأنكم ضربتم لنا في هجرتكم هذه مثلًا بليغًا في الإقدام وتضحية النفس والنفيس في سبيل الوطن العزيز، وفي أنكم لم يرضكم من العلوم القشور ومن المعارف مصة الوَشَل، بل أردتم أن تَرِدُوها عذبةً من منابعها صفوًا من مناهلها لا يشوبها شائب أو يكدرها مكدر.
سافرت أنت ورفاقك وقد ضربتم لنا مثلًا في الوطنية غاليًا، وأرسلتم في الخافقين صوتها داويًا عاليًا، لا، بل ضربتم للأمم الغربية مثلًا ناطقًا بأن المصري رجل جد وعمل يعرف معنى الحياة ويدرك سر الرقي وأنه خليق بنيل ما تصبو له نفسه من الأماني القومية الشهية.
سافرت وسافروا، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى دوت أسلاك البرق النبأ المشئوم فاهتزت له البلاد من أقصاها إلى أقصاها جزعًا وارتجفت هلعًا، فعلمنا أن قد حُمَّ القضاء وخاب الرجاء وجل العزاء، وأن قد جاءت المنية من طريق الأمنية، علمنا أن قد دُكَّت هضبة من هضبات العلم وقُوِّض صرح من صروحه الشاهقة، وهوت الأهلة من هالتها المستقلة، وهُصرت الأزاهير من روضها النضير، علمنا هنالك أن قد أخذت السبل عليكم وسُدَّت الفجاج دونكم، فاحتكم فيكم الحَيْن واشتفى منكم البَيْن. ولو أنصفت حوادث الأيام لتركت هذا السرب محلقًا في فضاء العلم الفسيح، فلا تذعر آمنه أو تثير مساكنه، ولكن هي الأيام ملأى بالعبر من باب المبتدأ حتى الخبر.
فإيه أيها الشهداء! لقد أفدتم وطنكم في حياتكم فائدةً جُلَّى، وأي فائدة أجل من فتحكم باب تحصيل العلوم الصحيحة للنشء على مصراعيه؟ ذلكم الباب الذي ما كان يلِجُه إلا القليل من الشبيبة المصرية من لا يتجاوزون أصابع اليدين عدًّا، بل أي فائدة أعظم من كونكم خلقتم لنا عهدًا جديدًا عهد المهاجرة في سبيل العلم؟ وهاهم المئات في أثر المئات من شبيبتنا الناهضة يقتفون أثركم ويؤمون البلاد الغربية طلبًا للعلوم الحية، ولم تُثنهم فداحة هذا المصاب أو ما يلقونه من كثرة الصعاب. وإن من يفتح مغلقات القلوب بنور التأديب والتهذيب لهو أجل خطرًا وأبقى ذكرًا وأثرًا ممن يخضع الرقاب بحد السيوف.
وأفدتم وطنكم باستشهادكم فائدةً أتم وأعم، وهاهي مصر وقد خفق قلبها للمرة الرابعة لفجيعتكم، فكان يومكم يومًا مشهودًا تجلى فيه الحزن عميقًا والأسى شديدًا، فالأكباد حرَّى والأعين عَبْرَى، والنفوس سكرى، والحزن تترى، شفعًا ووترًا. وحق على مصر وقد فقدت هذه الشمائل الزهر والأخلاق الغر أن تشق جيب الصبر وتجعل النار حشو الصدر.
الله أكبر! سيذكر التاريخ لكم هذا اليوم بكل تجلة «والذكر للإنسان عمر ثان»، وسيبقى ذكركم خالدًا ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماءً: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ. وفي هذا العزاء كل العزاء حتى أصبح كل والد أو والدة (على الخصوص) فقدت فلذة كبدها في هذا الحادث المؤلم تقول قول الخنساء لما بلغها استشهاد بنيها الأربعة يوم القادسية بعد تحريضها لهم على القتال: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو ربي أن يجمعني معهم في مستقر رحمته.»
أخلقْ أيها السادة بأمة هذا مبلغ عطفها على أبنائها الشهداء الأعزاء أن تتبوأ المنزلة اللائقة بها وبمجدها بين أمم العالم جمعاء قريبًا إن شاء الله.
وأخلق بمديرية هذا مبلغ احتفالها بشهيدها العزيز أن تكون في مقدمة المديريات قيامًا بكل واجب وطني مقدس ونهضة شريفة.
فسلام على شهدائنا الأبرار الأطهار يوم عدا عليهم الموت فهصر غصن هذا الشباب، ووارى بُدُورهم التراب. وسلام عليهم يوم عادت جثثهم إلى هذا الوطن الأسيف، فسطَّرت له أحرف الفخار في أوبتها كما سطرت له في غربتها.
(٥-٣) لجنة الاحتفال بدمنهور
تشكلت لجنة بمدينة دمنهور للاحتفال بتشييع جنازة شهيد العلم المرحوم محمد إبراهيم زويل، برئاسة حضرة صاحب العزة الوجيه كامل بك الحرفة وعضوية حضرات أصحاب العزة محمد بك بلبع ومحمد بك الوكيل وأحمد بك غزال وعلي بك نجاتي وإبراهيم بك مظهر والشيخ عبد الله الكاتب والشيخ مرسي بلبع وأحمد أفندي الوكيل والشيخ سليمان بلبع ومحمد أفندي رفعت الزرقا. وقد اجتمعت يوم الخميس ٢٢ أبريل سنة ١٩٢٠م وقررت الاحتفال بتشييع الجنازة وانتخاب لجنة فرعية لترتيب الموكب مؤلفةً من حضرات علي بك نجاتي وسعد أفندي الأنصاري وحليم أفندي فهمي وأحمد أفندي عبد النبي، فقامت بما عُهِد إليها خير قيام.
وفي يوم وصول الجثة إلى دمنهور كان في استقبالها جمع كبير من الوجوه والأعيان وكبار التجار يتقدمهم صاحب السعادة مدير البحيرة، وما وافى موعد تشييع الجنازة حتى غُصَّت ساحة المحطة بألوف المشيعين، وسار الموكب يحفه الوقار والجلال على النظام الآتي: فرقة الكشافة من راكبي الدراجات والبيادة – الموسيقى – مدارس الزراعة والصناعة والأقباط والتعاون والمعلمين – نعش الفقيد مجلل بالرياحين ومحاط بالفرسان – العلماء الأعلام – الآباء الروحيون – أعضاء لجنة الاحتفال – أعضاء الهيئات النيابية – موظفو مصالح الحكومة يتقدمهم سعادة المدير نائبًا عن عظمة السلطان – رجال القضاء والنيابة – المحافل الماسونية – الأعيان والتجار – موظفو المصالح الأهلية – أعضاء نقابات العمال بأعلامهم – جمهور المشيعين. وما زال الموكب سائرًا على هذا الترتيب مخترقًا شوارع المدينة حتى وصل إلى مدفن عائلة الفقيد فأُنْزِلت الجثة إلى مضجعها الأبدي.
وكانت لجنة الاحتفال قد انتخبت لجنةً لتأبين الفقيد مؤلفةً من حضرات محمد بك بلبع وسعد أفندي الأنصاري والأستاذ الشيخ محمد العصار وأحمد أفندي عبد النبي، فقاموا بتأبين الفقيد وذكروا تلك الفاجعة بأسف شديد على شباب مصر الذي ذهب ضحية القضاء والقدر، في الوقت الذي تحتاج فيه مصر إلى الألوف من النوابغ المحبين للعلم أمثال هؤلاء الشهداء، وقد تلاهم كثيرون من الشعراء والأدباء يوم حفلة التأبين فعددوا مآثر الفقيد وشرحوا ما كان عليه من مكارم الأخلاق وشريف المبادئ.
ومن القصائد التي أُلْقِيت يوم التأبين هذه القصيدة وهي لحضرة الشاعر الأديب «عبد الجواد أفندي محجوب مكايد»، وهي:
•••
•••
وتلاه حضرة الشاعر المجيد محمود أفندي محمد حسن وألقى هذه القصيدة:
•••
•••
•••
وألقى الأستاذ الشيخ «كامل قطب النعيم» هذه القصيدة:
قال صديقه حقي
لعلي أحق أصدقاء المرحوم زويل بترجمته، إذ كنت ألصق الأصدقاء به وأكثرهم صحبةً له، وربما كنت أعزهم عنده وأقربهم إليه.
وحياة زويل في ذاتها وإن كانت حياةً قصيرةً عاديةً مُلِئت بظروف قد تعرض لكثير من الشبان، إلا أنها مع ذلك لا تخلو من كثير من الأمور التي تسترعي نظر الباحث المدقق، والتي إن كان القدر هيأ له العظمة لجعلها المترجَم له من أول أسباب عظمته ونبوغه.
ولكن لا مندوحة لنا عن ذكرها هنا لا على أنها من علامات النبوغ أو أمارات العظمة، ولكن على أنها أمور عادية بسيطة ميزت حياته بشكل خاص، وكان لها على نفسه بعض الأثر.
فزويل مثلًا كان من أولاد التجار، ولكنه لم ينشأ نشأتهم ولم يقم في محل تجارة أبيه كما أراده على ذلك، بل كان يحث أباه على إرساله للمدرسة للتعلم إذ وُجِدت في نفسه رغبة شديدة إلى العلم، وكان يرى «أولاد المدرسة» بكتبهم كل يوم فكان يغار منهم، وتشدد في طلب إرساله إلى المدرسة حتى يمكنه أن يقرأ كإخوانه الصبيان.
وكان له ما أراد، وأرسله والده إلى المدرسة الابتدائية بدمنهور وهو في الرابعة عشرة من عمره وهي سن يتخرج الطلبة فيها من المدارس الابتدائية، فلم يكن كبر سنه على أقرانه في الفرقة من دواعي كراهته للمدرسة، بل كان باعثًا في نفسه روح الجد والدرس حتى يفوز عليهم.
ولم يمكث بالمدرسة إلا قليلًا حتى توفي أبوه إلى رحمة الله. ووفاة الآباء يعقبها في كثير من الأحيان تلَفٌ في الولد وفساد في تربيته لشعور الطفل بأنه أصبح مطلق العنان، فكان في استطاعة زويل أن يهرب من المدرسة ولا يقيم في محل أبيه وأن تسوء أخلاقه ولكن شيئًا من ذلك لم يكن، بل استمر في مدرسته بجد مضاعف.
ثم انقضى دور الدراسة الابتدائية وهو في الثامنة عشرة من عمره، فلم يجد مدرسةً ثانويةً أميريةً تقبله لكبر سنه، فلم يُثْنِه ذلك عن التعليم، وقصد مدرسة المساعي المشكورة بشبين الكوم يتمم فيها دراسته الثانوية، ثم تركها إلى الإلهامية حيث تعارفنا وأخذ منها البكالوريا، وكان في القسم الأدبي وكان ذلك سنة ١٩١٧ ميلادية.
ثم دخل مدرسة الحقوق السلطانية، وكان جميع الطلبة في القسم الأدبي يرون أن أقصى سعادتهم التوصل إلى مدرسة الحقوق، وكان زويل يرسمها في خياله صورةً كبيرةً ويرى فيها أوسع الآمال.
ولعل من أكبر عيوبنا التهافت على مدرسة الحقوق هذا التهافت الشديد، فكل طالب من القسم الأدبي لا تجول بخاطره غير الحقوق ولا يذهب به الأمل إلى أبعد من الدخول في مدرسة الحقوق، حتى إذا لم يستطع الدخول فيها حَسِب نفسه بائسًا سيئ الحظ، بل صغرت نفسه في عينه وهُدمت آماله وقضى أيامه في غيرها من المدارس العليا مضطرًّا غير مدفوع بدافع من نفسه.
على أن زويل كان من أولئك «السعداء» الذين ضمتهم جدران مدرسة الحقوق لتحقق لهم آمالهم الواسعة وأحلامهم الذهبية، ولكنه ما لبث أن صغرت في عينه المدرسة إذ كان يتخيلها شيئًا عظيمًا هائلًا فلم يجدها كما توهم، ورأى الصعوبات التي تصادف الطلبة والمتخرجين، وأدرك أن شهرة الحقوق هذه شهرة كاذبة وراء أوهام محضة، وأنها لا تمتاز عن غيرها من المدارس العليا بشيء، وبالجملة فإنه تغير في أفكاره كثيرًا وأصبحت المدرسة لا تعجبه.
وكان زويل — رحمه الله — من أشد الناس اعتناءً بصحته وأكثرهم خوفًا على حياته، إذ كان ضعيف البنية، كثير الوهم، وزاده وهمًا أن بعض الأطباء ألقى إليه أن به مرض القلب فأصبح يحاذر على نفسه كثيرًا، ولذا كان يراعي القواعد الصحية في أكله وشربه ونومه ورياضته ومقدار درسه، وكان لا يدخن ولا يشرب القهوة، ولا يجاري إخوانه الطلبة في شيء مما يفعلون، بل كان يبتعد عنهم، من أجل ذلك كان قليل الدرس وجاء الامتحان فرسب فيه، ولكن ساءه أن من الطلبة من كان أضعف منه في درسه ونجح وكان يمكن أن ينجح هو أيضًا لو ساعده المدرسون.
وشعر بعد هذا الرسوب بشيء من الخيبة في الحياة، وهكذا هدم ما كان يشيده من الآمال في مدرسة الحقوق، ولكنه لم ينكص على عقبيه بل تحمل صابرًا ورجع إلى فرقته من جديد وإن كان هذا من أكبر دواعي الألم للطالب.
وهنا أصبحت حياته سلسلةً من اليأس لم يكن يدري بها أحد لأنه لم يكن يبوح بما يؤلمه إلا نادرًا، ومكث بالمدرسة حتى جاءت اضطرابات مارس الماضي فعطِّلت الدراسة، وهكذا رأى أن ثلاث سنين من عمره قد ضاعت هباءً لم يستفد منها بشيء.
ثم فُتِح الطريق إلى ألمانيا فتهافت عليه الطلبة، وربما كان معظمهم يائسًا من التعليم في مصر يأس الفقيد زويل، فهجروا بلادهم يقصدون ألمانيا بالرغم مما يعترضهم في الطريق من عقبات.
ولم يكن زويل متسرعًا بل لم يكن يقوم بعمل إلا بعد تفكير ودرس طويلين، ولذا لبث ينتظر أخبار رفقائه الذين سبقوه حتى إذا استوثق منها عزم على السفر وتوكل على الله، وكان يريد دراسة الاقتصاد السياسي والعلوم المالية.
وكذلك سافر تلك السفرة الطويلة، ولعله بذلك كان أسعد حظًّا من الأحياء.
وبذلك انتهت حياته القصيرة كالوردة تذبل ولمَّا ينقضِ الربيع، وكالشمس تكسف ولما ينتصف النهار!
وهكذا تنتهي ترجمته ولا مندوحة لي عن القول إن الفقيد كان لطيف العشرة حلو الحديث، وكان له أفكار وآراء صائبة في كثير من الأحيان، وكان يُشَاهد به بعض التطرف في آرائه.
لعلي قمت الآن بواجبي من ترجمته التي عاهدت نفسي على كتابتها ذكرى له بعد وفاته رحمه الله.
ومما يذكر بالشكر والثناء همة حضرات أعضاء لجنة احتفال تشييع جنازة فقيد العلم المرحوم محمد أفندي إبراهيم زويل، التي كان يرأسها حضرة صاحب العزة الوجيه كامل بك الحرفة وبقية حضرات أعضائها الذين أتينا على ذكر أسمائهم تحت عنوان «لجنة الاحتفال بدمنهور»، وحضرات الخطباء والشعراء والوجهاء والأعيان وأصحاب الحيثيات في مديرية البحيرة. وإنا نحيي فيهم هذه الهمة العالية والأريحية الشماء لما قاموا به نحو الفقيد، أثابهم الله الأجر والثواب وشكر لهم سعيهم!
(٦) ترجمة عبد الوهاب أحمد سبع
(٦-١) مولده
وُلِد شهيد العلم والغربة الشاب النبيل عبد الوهاب أحمد سبع في ١٠ يوليو سنة ١٨٩٦ بقرية «نوسا الغيط» من أعمال مركز أجا دقهلية، وهو نجل المرحوم الشيخ أحمد البدوي سبع أحد أعيان تلك الناحية ووجهائها.
وشب الفقيد في وسط يقدس الفضيلة ويحترم المعتقدات والتعاليم الدينية، فكان طول حياته تقيًّا نقيًّا، محافظًا على أوقات الصلوات مستمسكًا بالصوم، مبتعدًا عن الملاهي الفارغة والشهوات الدنيئة … وكان كريم الأخلاق طيب القلب، سليم الطوية، حسن النية، وكان محبوبًا في عائلته ومحترمًا بين أصدقائه وزملائه في الدراسة.
(٦-٢) دراسته
دخل الفقيد مكتب القرية وهو في سن الرابعة من عمره فتلقى مبادئ القراءة والكتابة، وأتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن الثامنة، وتجلت لوالده في وجهه أسارير النجابة ومخايل الفطنة فوجه به إلى القاهرة صحبةَ أخيه الشيخ عرفان أحمد البدوي سبع الطالب بالأزهر الشريف ليلحقه بإحدى مدارسها، فأدخله مدرسة القربية الأميرية، ولبث يتعلم بها حتى حصل على شهادة الدراسة الابتدائية ثم دخل المدرسة الإلهامية الثانوية ونال منها شهادة الكفاءة، ثم انتقل إلى المدرسة الإعدادية الثانوية وحاز امتحان الشهادة الثانوية «البكالوريا»، ولم يتخلف مدة دراسته في فصل من الفصول لاجتهاده وانصرافه إلى الدرس بكليته وحرصه على وقته الثمين، وكان لا يميل للعب ولا يحب الهذر ولا يماشي إخوان السوء، ولم يسمع منه أحد طول حياته كلمة تمس إحساسه أو تزري بكرامته، وكان يرى أن خير وقت للطالب وخير ما يَسُرُّ نفسه هو الوقت الذي يصرفه منكبًّا على مكتبه منهمكًا في تقليب صفحات كتابه يذاكر درسه ويحاسب على ثواني حياته بنفسه … ومن هذه الأخلاق والمبادئ كان سر تقدم الفقيد ونجاحه في حياته الدراسية.
ولم يقف به الحد عند حصوله على الشهادة الثانوية، بل التحق بمدرسة المعلمين السلطانية العليا ولبث بها سنتين، وفي أثناء ذلك رأى أن يدرس علم الحقوق لأنه كان ميالًا للأعمال الحرة، وقد استشار بعض أصدقائه فأقروه على ذلك. والتحق بإحدى الوظائف بوزارة الزراعة في يناير سنة ١٩٢٠م ليتمكن من دخول مدرسة الحقوق الفرنسوية الليلية.
ولكنه رأى كثيرين من إخوانه ورفقته يتأهبون للسفر إلى بلاد الألمان لإتمام دراستهم بها، فوجد الفرصة سانحةً لتحقيق أمانيه العلمية، وأعد أداة السفر ورَزَم حقائبه، ولكنه في ساعة سفره لاحظ أهله عليه الانقباض وأخذ يُظهر تردده في السفر ورغبته في تأجيله كأنه كان يقرأ صحائف الغيب بوجدانه الخفي، ولكنه حبًّا في العلم تشجع واطَّرح تلك الخيالات الوهمية وعاد طَلْقَ المحيا وودع أهله وارتحل.
الوداع يا إخوتي! الوداع أيتها الحياة! الوداع يا مصر، يا أيتها البلاد العزيزة! ففيك نشأت، وعلى أديمك دَرَجْت، ومن خيراتك اغتذيت، ومن نيلك العذب استقيت، وبسمائك استظللت، ومن هوائك استنشقت، فواجبي إذنْ أن أضحي بحياتي في سبيل حياتك ووجودي في سبيل وجودك، ولا حياة إلا بحريتك يا مصر.
وبعد ذلك ورد خطاب على عائلته منه يبشرها بسلامة وصوله إلى تريستا … ثم مضت فترة قصيرة بعد ذلك وخفق فؤاد مصر كلها لذلك الخبر المشئوم خبر الفاجعة الأليمة، وصمت صوت ذلك الشباب وطارت نفوسهم شَعَاعًا! فرحم الله تلك الآمال التي كانت تملك تلك القلوب الطاهرة!
وانتدبت لجنة الوفد المركزية حضرة صاحب العزة محمود بك عبد النبي لتعزية أسرة الفقيد ﺑ «نوسا الغيط» مركز أجا دقهلية، وبلغهم تعزية سعادة رئيس وأعضاء اللجنة المركزية للوفد المصري فكانت بلسمًا شافيًا لجرحهم البليغ، وشكروا له حسن سعيه ورفعوا لعزته آيات الشكر لتبليغها إلى سعادة رئيس وأعضاء اللجنة المركزية لما أبدوه نحو الشهداء. أمد الله في حياتهم وكلل سعيهم بالنجاح!
(٧) ترجمة محمود عبد الرحمن سليم
(٧-١) مولده
وُلد شهيد العلم والذكاء المرحوم محمود عبد الرحمن سليم بقرية ميت بزو وكفر عثمان سليمان من أعمال مركز أجا دقهلية في ٢٥ سبتمبر سنة ١٨٩٦م، وهو نجل حضرة الوجيه عبد الرحمن أفندي عثمان سليم من أعيان مركز أجا. وقد نشأ في أحضان والديه فشبَّ دَمِث الأخلاق طيب السريرة شغوفًا بالفضيلة، وتلقى مبادئ الكتابة والقراءة بقريته، ثم رأى والده ميله للعلم فأرسله وهو في الثامنة من عمره إلى القاهرة للدراسة في مدارسها.
(٧-٢) دراسته
التحق الفقيد الشاب عام ١٩٠٥م بمدرسة الحسينية التابعة للأوقاف السلطانية بجوار المسجد الحسيني فلبث فيها سنةً كاملةً، ثم دخل مدرسة محمد علي الأميرية ومكث بها حتى حصل على الشهادة الابتدائية عام ١٩١١م.
وفي تلك السنة انتظم في سلك طلبة المدرسة الخديوية فحصل على شهادة الكفاءة عام ١٩١٣م وعلى الشهادة الثانوية عام ١٩١٥م، وتاقت نفسه إلى دراسة العلوم الهندسية وكان شديد الشغف بها، وقد تجلى ميله إليها أثناء دراسته بالقسم الثانوي فنشط للالتحاق بمدرسة الهندسة ولكنه لم يستطع نيل بغيته من ذلك لإخفاقه في الكشف الطبي بمناسبة ضعف إحدى باصرتيه.
ولكن ذلك لم يَحُل بينه وبين متابعة الدراسة، فالتحق بمدرسة المعلمين السلطانية ومكث بها عامين صرف كل مجهوده أثناءهما في تحصيل العلوم الطبيعية تمهيدًا لسفره إلى أوروبا لتتميم الدراسة بكلياتها، ولكن قيام الحرب العامة خلال ذلك وقطع سبيل السفر على قصَّاد أوروبا أوقفه عن الهجرة إليها في سبيل العلم.
وترك الفقيد مدرسة المعلمين وانصرف إلى دراسة اللغة الإفرنسية ليهيئ نفسه لدخول مدرسة الحقوق الفرنسوية، وقد تمكن في وقت قصير من تعلمها ومن الانتساب إلى تلك المدرسة.
ثم أشار عليه بعض صحابته بالتوظف مع متابعة الدرس ففعل والتحق بالقسم الميكانيكي بوزارة الأشغال في يوليه سنة ١٩١٩م، وكان في مدة توظفه القصيرة مثال الاستقامة والنشاط في العمل.
ولما وضعت الحرب أوزارها وأصبح الارتحال إلى أوروبا ميسورًا عاد لنفسه شغفه الأول بالهجرة، فأعد عدته لتلقي العلوم الميكانيكية بإحدى الكليات الألمانية، وبرح وطنه العزيز مع زملائه على الباخرة حلوان، فقطع عليه الطريق القدر المحتوم وعاد إلى الوطن مع العائدين المبكيين، ونُقِل إلى بلدته في احتفال كبير لم يُشهد له مثيل في تلك الناحية، حيث دُفِن بمدافن عائلته الكريمة مبكيًّا على شبابه، مشكورًا جهاده العلمي وهمته العالية، أسكنه الله فسيح جناته!
وعند مواراته التراب وقف الشيخ محمد الهندي فألقى هذه الكلمة في رثاء الفقيد:
إن القلوب لتتفطر أسفًا عليك يا فقيد الأدب ويا شهيد العلم، أي عين لا تبكيك وأي نفس لا تندبك وأي قلم لا يرثيك؟ إنك يا محمود أذبت قلوبنا حسرات عليك وأشعلت أفئدتنا بنيران الحزن.
أبكي فيك الفضيلة والمروءة، وأرثي الحياء والشمم، وقد كنت أرجو أن تطول حياتك، ويتحقق أملك، فواأسفا على شبابك الغض وأخلاقك الطاهرة!
لقد كنت أيها الفقيد العزيز مثال الفطنة، وعنوان الذكاء، وصرفت كل مجهودك في تحصيل العلوم حبًّا في أمتك وبلادك، واستهنت بالمصاعب، وهاجرت لتفوز بثواب المهاجرين في سبيل العلم، ولتوفي لمصر حقوقها عليك، ولتحقق آمالها فيك، وتحملت مشقة المهاجرة، وبعد الشقة، وفراق الأهل والوطن لتعود رجلًا تنفع مصر، فما أبرك بمصرك يا محمود!
لقد ودعناك وكنا نرجِّي أن يكون وداعنا لك ودادًا لا تنقطع حباله ولا يطول أمده، وارتحلت وقلوب والديك تخفق يوم وداعك حنانًا، وتزودك بالدعوات الصالحات وترجِّي لك مستقبلًا سعيدًا وحياةً طيبةً، ولكن شاء القدر أن يكون وداعك أبديًّا ولقاؤك في هذا العالم مستحيلًا، فواأسفاه لأيام تقضَّت وساعات سلفت! وما أبعد الصبر عنا! وما أضعف قلوبنا عن احتمال الخطب، وما أكبر مصابها فيك! تغمدك الله برحمته، وألهمنا ووالديك من الصبر على فقدك ما يخفف آلام الحزن وفداحة المصاب!
فسلام عليك يا محمود يوم وُلِدت، ويوم درست، ويوم هاجرت، ويوم مت، ويوم تبعث حيًّا.
نم هادئًا في أرض مصر فإنها أحسن أرض على أبنائها البررة الشهداء، ولتسبح روحك في الخلود ما تشاء. وإنا لفقدك لمحزونون، ولموتك آسفون.
(٧-٣) شكر أسرة الفقيد لمن واسوها
كتب حضرة عبد الرحمن أفندي سليم بمركز أجا دقهلية كلمةً يقول فيها بأنه يقدم الشكر الخاص لرئيس الوفد ورئيس اللجنة المركزية وجميع الأعضاء لما أبدوه من حسن الرعاية وجميل المؤازرة والمجاملة بإيفادهم حضرة صاحب العزة محمود بك عبد النبي أحد الأعضاء لأداء التعزية.
(٧-٤) احتفال المنصورة
لم تكن المنصورة أقل استعدادًا من غيرها للاحتفال بجنازة الشهيدين المرحومين عبد الوهاب أحمد سبع ومحمود عبد الرحمن سليم، فما كاد ينتصف نهار الأربعاء ٢٩ أبريل سنة ١٩٢٠م حتى احتشد سكان مدينة المنصورة على اختلاف درجاتهم وتباين جنسياتهم في ميدان المحطة، وقد نُكِّست الأعلام في سائر أنحاء المدينة موسومةً بشارات الحداد، وارتسمت سمات الحزن على وجوه الشعب فلا تكاد ترى رجلًا أو شابًّا حتى تدرك لأول وهلة أن المدينة في حزن عام، وكان الكل خاشع الطرف، مرسل الدمع. وابتدأ سير موكب الجنازة بثُلَّة من فرسان البوليس، فطلبة مدارس المنصورة على اختلافها من علمية وصناعية، فمدرسة المعلمين، وكانت كل مدرسة تحمل علمها وباقات من الأزهار وصور الشهداء، ثم نقابة التجار، فالحراس منكسي السلاح، فموسيقى المجلس البلدي تعزف بأنغامها، فالجنود المشاة، فبعض الطلبة يحملون أكاليل الزهر، فنعشي الفقيدين يحملهما الخفراء وكانا ملفوفين في علمين مصريين ومجلَّلَيْن بالأزهار الغضة، وعلى كل منهما اسم صاحبه، وخلفهما أصحاب الفضيلة العلماء، فالآباء الروحيون، فقناصل الدول، فرجال القضاء والنيابة، فالأساتذة المحامون، فالأطباء، فالمهندسون، فرجال الماسون، فموظفو الحكومة، فحضرة صاحب السعادة مدير الدقهلية نائبًا عن عظمة السلطان، فالأعيان، فالتجار، فطوائف العمال، فالنقابات على اختلافها من زراعية وصناعية وتجارية. وسار الموكب على هذا النظام بين الألوف المصطفَّة عن جانبي الطريق مخترقًا شارع إسماعيل فشارع عبد القادر فشارع الجبانة، وبلغ محطة الدلتا في منتصف الساعة الثانية بعد الظهر حيث وُضِعت الجثتان في مركبة خاصة أُلْحِقت بالقطار، وسافر جم غفير من المشيعين ومندوبون من لجنة الوفد المركزية لتعزية عائلة الفقيدين ﺑ «نوسا الغيط» مركز أجا بلدة عبد الوهاب أحمد سبع، ثم توجهوا لميت بزو وكفر عثمان سليمان بلدة محمود عبد الرحمن سليم، فرحمهما الله رحمة واسعة.
(٧-٥) كلمة
أيها السادة، بصفتي منتدبًا من أهالي مدينة الإسكندرية وفضيلة زميلي المحترم الشيخ عبد السلام العسكري من علماء المعهد والمدرسين به لمرافقة تلكم الجثة جثة الفقيد إلى هنا حيث تقيم أسرته الكريمة، للقيام بواجب التعزية؛ أقف أمامكم في هذه الساعة الرهيبة أرثي رأسًا من الرءوس العاملة لخير البلاد، وأندب فتيان العلم الذين هاجروا لنصرة أمة رأوها تئن من الجهل، فأبوا إلا أن يعيشوا سعداء بالعلم وتعيش هذه الأمة سعيدةً في كنفهم بفضل مجهودهم العظيم.
في ذمة الله شبابًا ناهضًا، في رحمته أفكارًا نقيةً، في جواره نفوسًا أبيةً، عاليةً، في جنته أرواحًا غاليةً.
ليس المصاب أيها السادة مصاب عائلة أو أسر معدودة، وإنما المصاب مصاب الأمة جمعاء، مصابها في شبابها الناهض، مصابها في كنزها الثمين، مصابها في ساعدها القوي، مصابها في سلاحها القاطع الذي أعدته للزمن، وادخرته للدفاع عن الحق ونصرته، لذلك ترى في كل بيت من بيوتات مصر مأتمًا قائمًا ودعوات منها له ورحمات متتالية، حتى لقد تنازع فيهم الشرق والغرب:
لا تندبوا الشهداء أيها السادة، بل اذكروهم بكل أنواع الحفاوة والتبجيل والإعظام، فالتاريخ فاتح صفحاته لتمجيدهم والأمة ذاكرة لهم حسن هذا الصنيع ومقدمة لهم هذه المخاطرة، اذكروا هذه التضحية والمبدأ الذي من أجله كانت هذه التضحية تخفَّ الزفرات عن قلوبكم وتزاح العبرات عن عيونكم، ونحن إن بكيناهم اليوم فإنما نبكي الأمل الذي أمَّلناه فيهم والرجاء الذي رجوناه من هجرتهم. إيه يا مصر! ما أتعس حظك! وما أنحس طالعك! أوَكلما نبت فيك نبت فأينع وأثمر وأخذ للعمل في سعادتك والسير بك إلى حيث مصافِّ الأمم الحية والشعوب الناهضة سلط الدهر عليه سهامه ليطفئ نوره وليسكت صوته؟! تعيسة أنت يا مصر، فما كان أحوجك إلى هذا الشباب الغض الذي ذهب ضحية حبك وهنائك.
إن العمل لسعادة البلاد ورفعتها أيها السادة بالاتحاد، وها قد تعانق الهلال والصليب وأصبحنا قاب قوسين أو أدنى إلى السعادة، وقد رأيتم جهاد الشهداء في العلم فكان مثالًا صحيحًا وعاملًا قويًّا وشعارًا لا يبلى، فسيروا في طريقهم المحمود واحذروا التفريق. وأنتم أيها الشهداء ناموا آمنين مطمئنين فلكم الذكر العاطر في الدنيا.
والأجر في الآخرة، وإنا إن شاء الله على هديكم لسائرون.
(٨) ترجمة رمضان محمود هداية
(٨-١) مولده
وُلد شهيد العلم والشباب المرحوم رمضان محمود هداية يوم ٦ يناير سنة ١٩٠٠، وهو نجل الوجيه السيد محمود هداية من أعيان مدينة طنطا. وكان رحمه الله في طفولته قوي الذاكرة رقيق العاطفة ميالًا للجد والنشاط، ورأى والده استعداده لتلقي العلم فعُني به عنايةً خاصةً وجعله موضع التفاته.
(٨-٢) دراسته
دخل الفقيد مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بطنطا، فكان همه المذاكرة ومسابقة إخوانه في الدرس والتفوق عليهم بالأخلاق والآداب، وما زال يتنقل من فصل إلى آخر حتى حاز شهادة الدراسة الابتدائية وكان في أوائل الناجحين.
وألحقه والده بمدرسة طنطا الثانوية فكان موضع إعجاب أساتذته لفرط ذكائه وشدة شغفه بالانكباب على الدرس وارتشاف مناهل التعليم برغبة شديدة وإرادة قوية، وقد نال منها شهادتي الكفاءة ثم البكالوريا.
ثم استطلع والده رأيه في المدرسة العالية التي يريد الالتحاق بها، فتخير مدرسة الهندسة لشغفه بالرياضيات، وهي من دلائل الذكاء وسعة العقل، ولكنه لم يلبث بها غير سنة واحدة لأن أبواب السفر إلى بلاد الألمان كانت قد تفتحت، فرأى أن يرتحل إليها لدراسة العلوم التجارية والاقتصادية ويعود ليشتغل بالأعمال الحرة، وسافر على بركة الله مع المسافرين من الشبان وكان الأمل يرفرف فوق رأسه بجناحيه ووالده يتمنى له كبار المنى لثقته بنشاطه وحبه للعلم، ولكنه لقي حتفه في الطريق بين من باغتهم الأجل من شباب مصر، فعاد محمولًا على الأعناق. واحْتُفِل بمشهده بمدينة طنطا مع المرحوم إبراهيم أفندي العبد كما ذُكِر في غير هذا المكان، ودُفِن بمقبرة عائلته بطنطا، فرحمةٌ عليه رحمة واسعة.
(٨-٣) دمعة على صديق شهيد
أي صديقي رمضان، رحلت عني إلى ديار نائية لطلب العلم فوافتك منيتك قبل أن تحقق أمنيتك، فواهًا للأيام! لشدَّ ما تفرق بين الإخوان.
أرثيك الساعة يا صديقي ولا أملك لنفسي إلا عبرةً تترقرق بين عيني ونفثةً تضطرم حنقًا على المنايا «التي تفقد على كفها الجواهر تختار منها الجياد.»
أرثيك الساعة يا صديقي وما كان يجول بخاطري أن أكتب عنك راثيًا، بل كان غاية أربي أن أصوغ لك عبارات التكريم احتفاءً بمقدمك حاملًا إجازة العلم ومؤديًا لوطنك المفدى واجبك بصدق وإخلاص.
يا طالما سمعتك تتغنى بآمالك الجسام، وتتوق إلى العمل حرًّا مستقلًّا وتبغض التوظف في الحكومة لئلَّا يسيطر عليك مسيطر، ولقد كانت آخر كلماتك لي أن اعمل لتكون محاميًا حتى إذا ما أتيت بعد حين متممًا دراستي يكون بعضنا لبعض ظهيرًا.
أجل أيها الصديق الداعي إلى الخير سأعمل ما في وسعي لأحيا حياةً حرةً فتلك هي غايتي في حياتي، وأكبر أمنية تطمح إليها نفسي. سأذكر كلمتك يا صديقي ما حييت، وعندما تشرق عليَّ شمس ذلك اليوم الذي أعمل فيه حرًّا أحمل إليك الزهر الجميل وأنثره على جَدَثِك الطاهر أسفًا وحسرةً على فقدك في غضارة الشباب وغضاضة الإهاب.
لقد كنت في حياتك خير مثال يحتذى: كنت زكي الفؤاد، طيب القلب، متوقد العزم، صادق الرغبة في العمل، لطيف المعشر، حريصًا على وقتك، ولكن الدهر لم يكن حريصًا عليك فوافاك الأجل المحتوم في غربتك وأنت أكثر ما تكون شوقًا إلى اغتراف العلم من أعذب مناهله.
ألا ليت المنون التي عاجلتك وأنت في زهرة العمر وريعان الشباب أمهلتك حتى تدرك أمنيتك التي طالما جاشت في صدرك واختمرت في فؤادك، فارتحلت عن مصر مودعًا الأهل والسكن والصحاب والوطن في سبيل تلك الغاية الشريفة، غير أنه بما يحيط بها من مصاعب ومتاعب لحق عليك قول القائل: «رب أمنية جلبت أسًى ومنية».
لقد كان الاحتفال بجنازتك أنت وإخوانك الشهداء رهيبًا، لبست فيه الأمة عليكم شعائر الحداد واشترك فيه رجالها والنساء، وشبابها والشيوخ، وكان دليلًا ناطقًا على حيويتها وتطلعها إلى الحياة الراقية. وإن مصرعكم لأكبر مشجع لإخوانكم على انتهاج طريقكم بعد أن رأوا ما رأوا من فرط عناية الأمة بواجبها حيال إحياء ذكرى شهدائها الذين تمزقت جسومهم وتحطمت أشلاؤهم في سبيل المجد الخالد والأمل البعيد، مجد الوطن الذي يحيا بأبنائه البررة المخلصين له الحب. نعم إن مصرعكم لأسطع برهان على رغبة المصري في الحياة العلمية الصحيحة وركوبه متن الأخطار لإحراز المجد والفخر.
لقد طيَّر البرق نبأ مصرعكم إلى جميع أنحاء العالم المتحضر، فكان له في وطنكم رنة حزن مؤلمة اخترقت البلاد من أقصاها إلى أقصاها، كيف لا ومصابكم مصاب أليم ورزؤكم رزء جسيم؟ ولكن الذي خفف أحزاننا وآلامنا هو ذلك الأثر الخالد الذي خلَّفتموه بعدكم وسمع عنه العالم أجمع، ألا وهو استشهادكم غرباء في سبيل العلم، ولولا ذلك لنال منا الأسى كل منال.
فيا أيها الشهداء الراحلون في مثل أعمار المنى، إذا اجتمعتم في روضة من رياض الجنة أو تلاقيتم تحت ظلال شجرة من أشجارها ادعوا لنا ربكم يمدنا بروح من عنده في سبيل إنجاح قضيتنا ويهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
لقد اختارك الله يا رمضان لجواره وقدَّر لك أن تموت شهيدًا، فتركت دار الفناء دار اللؤم والخسة والدناءة، وتركتنا على أسوأ ما يُترك الصديق، وما هي إلا قلوبنا يضنيها الحزن ويقلقها الأسى.
في ذمة الله روحك الطاهرة، وفي جوار إخوانك الذين أنعم الله عليهم من الصدِّيقين والشهداء والصالحين، هنالك تنعم بالجنة التي أعدها الله لعباده المتقين.
سلام عليك في الشهداء، سلام عليك في البررة الأتقياء، وسلام عليك يوم وُلِدت ويوم مت ويوم تبعث حيًّا.
حضرة الفاضل المحترم مدير تحرير الكنز الثمين لعظماء المصريين
تحيةً وسلامًا، وبعد: فأرسل لحضرتكم طيَّه الكلمة التي كتبتها بمناسبة وفاة صديقي المرحوم «محمد رمضان هداية» في حادثة أودين؛ رجاءً نشرها في تاريخ حياة شهداء العلم والوطن.
وإني أشكركم كل الشكر على تلك الهمة الشماء التي بذلتموها في إصدار الكنز الثمين الذي ملأ فراغًا مهمًّا في عالم الأدب أهمله الكتاب وراءهم ظِهْريًّا مع أنه من دواعي تقدم الأمم ونهوضها، لأنه المسبب لازدياد عدد عظمائها وكبار رجالاتها.
ولقد كتبت منذ حين كلمةً على صفحات السفور أستنهض فيها همم الكتاب للقيام بإنشاء لجنة خصيصة للقيام بعمل تراجم لعظماء مصر، وبينت لهم أهمية هذا العمل الذي أغفله الكثيرون مستعينًا على ذلك بقلمي الضعيف الذي لا أملك سواه، فما تحرك ساكنهم. واليوم وقد وجدت فردًا من أفراد الشعب المصري الراقي يقوم وحده بهذا العمل الجليل خير قيام على ما فيه من المصاعب فحق عليَّ أن أبذل ما في وسعي للإشادة بعمله، والتنويه بفضله، وتعداد مآثره وتنبيه الأذهان إلى أهمية حياة العظماء التي هي السراج المنير الذي يهدي الناس في ظلمات الحياة. إنك بعملك هذا العظيم قد حققت أملًا من آمالي طالما تاقت نفسي إلى تحقيقه. إن شدة إعجابي بعملكم وبقلمكم الذي ينطق عن علم غزير وفكر ثاقب وأناة وروية، هذا فضلًا عن الأسلوب الرائع الذي تكتبون به؛ ليدعوني إلى أن أفخر بكم، وأرجو لكم مستقبلًا سعيدًا ونجاحًا عظيمًا في عملكم بفضل معونة مصر الناهضة التوَّاقة إلى المجد المتطلعة إلى الحياة الراقية. وقد كان بودي أن أحضر لأراكم شخصيًّا وأقدم لكم خالص شكري وسروري من عملكم، ولكن بما أني مشغول الآن فقد فضلت أن أرسل لكم كتابي بما أن الحظ لم يسعدني بوصول ركابي إليكم. وسأحضر إليكم إن شاء الله في أوائل يوليو سنة ١٩٢٠ لأنتهز فرصة اشتراكي في الكنز الثمين ولأقدم لحضرتكم من المساعدات الأدبية ما يكون في مقدور شخصي الضعيف. والسلام عليكم ورحمة الله.
لما احتفل ناظر مدرسة القرشية التابعة لمجلس مديرية الغربية بتأبين الشهداء ودعا لذلك أدباء وموظفي وأعيان القرشية وميت يزيد، ألقى القصيدة الآتية بعد افتتاحه حفلة التأبين، وتلاه الأدباء والتلاميذ بما أبكى العيون وفطَر القلوب على أولئك الشهداء، شهداء العلم والغربة:
•••
•••
•••
•••
وقال هذه الكلمة التي ألقاها أحد تلاميذه:
•••
(٨-٤) الحفلة الأولى بالجامع الأحمدي بطنطا لرثاء الطلبة
كانت يوم الجمعة ٢٢ مارس سنة ١٩٢٠ (على ما أتذكر) في الجامع الأحمدي، وقد حضر جم غفير من كبار علماء الجامع حوالي الساعة الخامسة مساءً يتقدمهم فضيلة الأستاذ الشيخ مرسي طبل شيخ علماء المالكية، فوقف فضيلته وصلى صلاة الجنازة على أرواح الشهداء، وبعد الصلاة حضر فضيلة الأستاذ الشيخ الظواهري شيخ الجامع ومعه السيد حسين القصبي. وافتتحت الحفلة بالقرآن الكريم، ثم وقف فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الجليل أحمد أحد علماء الجامع وألقى كلمات أبكت الحاضرين، ثم تلاه حضرة زكي أفندي قدسي واعظ الكنيسة القبطية بكلمات موجزة كان لها تأثير عظيم في نفوس السامعين، ثم تلاه الشيخ محمد عبد السميع بزَجَلٍ نشر في غير هذا المكان ومطلعه:
وتلاه كثير من الخطباء والأدباء، وخُتِمت الحفلة كما فُتِحت بتلاوة القرآن الشريف.
(٨-٥) الحفلة الثانية في الجامع الأحمدي
كانت في ١٢ أبريل سنة ١٩٢٠ عقب حضور جثث الشهداء وقد أقامتها لجنة الوفد المركزية في طنطا، وكان ذلك في الساعة الثامنة مساءً، وقد حضرها سعادة مدير الغربية نائبًا عن عظمة مولانا السلطان (المدير سعادة حافظ باشا حسن)، وقد أمها كثير من المدعوين من العلماء والقضاة والأطباء والمحامين وأعيان البلاد والطلبة، وكان رئيس الحفلة حضرة الدكتور حسن بك كامل، وسكرتيرها حضرة أحمد بك الشيخ. فوقف الدكتور وافتتح الحفلة بكلمات موجزة كان لها وقع حسن، ثم تلاه حضرة أحمد بك الشيخ بخطابة نالت الاستحسان، ثم تلاه الأستاذ نجيب أفندي الغرابلي بقصيدة فيحاء، ثم تلميذتان من مدرسة ميرزا العجمي فألقتا قصيدةً واحدةً تحاورتا في أبياتها، ثم تلاهما الأستاذ الشيخ محمد الخشن المدرس بمدرسة الأقباط بقصيدة جليلة، وهنا شَغَب الناس بسعادة أحمد بك الشيخ لأنهم لاحظوا عليه تقديمًا وتأخيرًا في مناداة الخطباء فخرج وخرج بعض الناس ومنهم الدكتور حسن بك كامل وسعادة مدير الغربية وشيخ الجامع ولكن الحفلة لم ترْفَضَّ بعدُ، واستمر الخطباء واحدًا بعد واحد إلى أن ألقى الشيخ عبد السميع هذا زجلًا نشر في غير هذا المكان، ومطلعه:
ثم انتهت الحفلة بسلام.
(٨-٦) رثاء الطلبة في حفلة العلماء بالجامع الأحمدي بطنطا
زجل
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وله أيضًا: رثاءٌ في الشهداء
المذهب
دور
المذهب
المذهب
المذهب
المذهب
المذهب
المذهب
المذهب
المذهب
المذهب
(٨-٧) نص الخطبة
أيها السادة
باسم مديرية الغربية التي تحملت نصيبها في هذه الفاجعة العظمى أقدم للأمة المصرية في شخص لجنة الاحتفال أجمل التعازي على هذه المصيبة الفادحة، متوسلًا إلى ذي العزة والجبروت أن يجعلها خاتمة مصائب مصر وأن يَمُنَّ عليها بتفريج كربتها وتحقيق أمانيها.
وأقدم جزيل الشكر المنبعث من أعماق القلوب إلى وفدنا المفدَّى تلقاء عنايته برفات أبنائنا وحملها من الغرب إلى وطن يحن إليها حنين الثكلى.
أعزي الأمة المصرية في شباب ناهض ارتحل عنها للجهاد فيما يرقِّيها وينهض بها من وهدتها، ذلك الشباب الذي ودَّعناه عند السفر وأتبعناه النظر وكل منا يردد قول القائل:
أيها السادة
إن موقفنا رهيب والباعث عليه جليل عظيم، فاعذروني إذا أقعدني فرط حزني عن الإفاضة فيه، فإن موقفًا كهذا إذا لم تُلقَ فيه عصا التسيار إلى جبروت القاهر فوق عباده والقادر على إنفاذ مراده، فقد يطيش السهم وتزلُّ القدم.
أيها السادة
إن خَطْبًا وإن كان في أحوالنا الحاضرة عظيمًا فإن مصابنا في أبنائنا أعظم، ولئن قابلنا الحوادث التي مرت بنا بصبر وجَلَد، فإن هذه الكارثة قد أرهبت عنا الصبر وأَدْهَت منا الجلد وأهاجت منا مكامن الأسى.
فإذا ما وقفنا هذا الموقف فإنما نبكي أملًا خيَّمت عليه سُجُف الأقدار فأخفته عن الأنظار، وعبثت به عوامل القضاء فأصبح في عالم الفناء، ولا رادَّ لقضاء الله.
أيها السادة
اجتمعنا الآن لتأبين الشهداء، وما كل من مات من الشهداء. اجتمعنا لنؤبِّن بررة الأبناء وذخر الآباء، اجتمعنا لنرثي من دعاهم داعي الوطن فلبُّوا النداء، وراحوا ليشيدوا للعلم أمتن بناء.
اجتمعنا لنبكي من تقاذفتهم الأعاصير والأنواء، فماتوا واأسفاه في طريقهم غرباء، وكأني بهم وقد فاضت أرواحهم إلى السماء وهم يرددون بين اليأس والرجاء: «نحن لك يا مصر الفداء.»
أيها السادة
نعى البرق إلينا أبناءنا فأسال بذلك الدماء المتجمدة على جراح أكبادنا، وأضرم بين جوانحنا من الوجد والأسى ما الله عالم به.
ومما زادنا لوعةً وحسرةً أنهم ماتوا على قارعة الطريق، ولا من رحيم ولا شفيق، اللهم إلا رحمة الله التي وسعت كل شيء، وعطف الشعب الإيطالي الذي خفف كثيرًا من آلامنا وأحزاننا.
ذلك العطف الداعي إلى توثيق عرى المودة والارتباط بين الشعبين، فالشعب المصري يقدم للشعب الإيطالي جزيل تحياته مصحوبةً بعظيم ممنونيته ووافر شكره، ويحفظ له في أعماق قلبه جميل الذكر وطيب الأثر.
لقد مر بنا من الحوادث والكوارث ما يدك شوامخ الجبال ويفتت رواسي الأطواد، ومع هذا قد اتخذنا من الصبر قوةً ومن الجَلَد عزيمةً ومن الاتحاد والتضافر سلاحًا أمَتْنا به اليأس، ونرجو أن نتغلب به دائمًا على كوارث الدهر فإنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس.
فهل بعد ذلك يمكن أن يقف بنا ذلك الخطب عند حد اليأس أو يقعد بنا عن متابعة السير في طريقنا المعهودة …؟ كلا، فإن دماءنا وأرواحنا وفلذات أكبادنا كلها فداء للوطن.
ولن يُفتدَى الوطن إلا إذا اغترف أبناؤه العلم من مناهله، وهي مع الأسف نائية لا تُدرك إلا بالتضحية واستسهال المصاعب، وحاشا أن ما حصل يوهن عزائم أبنائنا، ويقعد بهم عن السفر في طلب العلم والمخاطرة لأجله.
فإن شباننا وزهرة مستقبلنا الذين توجوا بلادهم بالأكاليل الفَخَار يعتقدون ولا شك أن الأقدار وإن كانت لا محالة نافذة … إلا أن الآجال موقوتة محدودة، ولكل أجل كتاب.
أيها السادة
قد جعل الله لكل شيء سببًا، والأسباب ترجع إلى مسبباتها، وقد كان سبب استشهاد شهدائنا سفرهم، وما الذي بعثهم على ذلك السفر؟
بعثهم إليه أيها السادة أن بلادهم مع الأسف لا تزال — ونحن في القرن العشرين — خاليةً من المدارس الجامعة والكليات الناجعة والصناعات النافعة، ولو كان بها ذلك كغيرها أو شيء منه لما تجشَّم أبناؤنا مشاقَّ السفر وركبوا متن الخطر.
فبالله عليكم هل رأيتم أو قرأتم أو سمعتم أن قُطرًا من أقطار المسكونة لا يزال عالةً على غيره، وعلى الخصوص في التربية والتعليم اللذين هما أساس حياة الأمم؟ هذا ما لا أظن أن يكون.
ولكن لا، لا، أستغفر الله! فإن مصر المنكودة الحظ — على خصب تربتها وعذوبة نيلها ووفرة أموالها وضخامة ميزانيتها وكثرة سكانها — لا تزال وحدها فقيرةً في مدارسها، ناقصةً في تربيتها، تضطرها الحاجة إلى المخاطرة بأبنائها فتقذف بهم إلى الخارج لارتشاف العلوم من مناهلها العذبة، وقد كانت المصيبة نتيجة ذلك السفر.
فهل لهذا الحال يا سادتي من آخر؟
أيها السادة
يؤسفني ويؤسفكم، ويؤلمني ويؤلمكم، بل ويدمي قلبي وقلوبكم أن مصر المحبة لأبنائها الغنية بشبانها كانت هي على الرغم منها سببًا في فقد اثني عشر كوكبًا من كواكبها … وقد كانت تعدهم للاستضاءة بنورهم بعد أن يتمموا علومهم، فمصر هي المسئولة عن هذا الخطب الجسيم.
إننا بتهاوننا في أمورنا ورضائنا بما أوجب تأخرنا وانحطاطنا كنا سبب هلاك أبنائنا! فمسئولية الحادث واقعة علينا ونحن عنه إذن مسئولون.
أيها السادة
إن العلم واحد في كل مكان كذلك العقل، فلماذا لم نحصل على قسطنا من العلم؟
يتهموننا بالجمود والتقصير، ولو عدلوا لعرفوا أننا لم نقصر في طلب العلم، وإنما قد حُرِمنا أسبابه ووسائله، ورغمًا عن هذا الحرمان دَفَعَنا حبنا للكمال اقتداءً بأجدادنا العظام أن نهاجر في طلبه ونخاطر بأرواحنا للحصول عليه، وأكبر برهان لدينا أن العطاش من شبابنا حينما لم يجدوا في بلادهم من موارد العلم ما يشفي غُلَّتهم ويروي ظمأهم، ولَّوْا وجوههم شطر بلد أَيْنَع فيه غراس العلم نازحين عن بلد متعطش إلى موارد العرفان أطفأت مصابيحه يد الرغبة في تأخره وإذلاله ودوام استعباده، وكل منهم آمل أن يعود إليه سراجًا وهاجًا يُسْتَضاء بنوره، ولكن قُدِّر فكان ولا رادَّ لما أراده الله.
ولئن أطفئت تلك المصابيح قبل أن يتم نورها، فإن انطفاءها يشعل في طيات القلوب نارًا تثأر للعلم.
أيها السادة
يجب على العاقل أن يتعظ بالحوادث ويستفيد منها، وخير ما يجب أن نعود به من موقفنا هذا بعد الاستسلام لله على قضائه وقدره، هو عامل الثأر للعلم ولن يُثْأر للعلم إلا بالعمل على محو الجهالة، ولا تُمْحى الجهالة إلا ببذل المال والتضحية وحمل النفس على الترحيب بالخطر في سبيل إنقاذ البلاد من الجهل، فعلى الآباء بذل أموالهم لإيجاد المعاهد الكافية للعلم في بلادهم كما هو الحال عند غيرهم، وعلى الأبناء أن يندفعوا في تيار تحصيله مهما أوذوا في سبيله ليُتَوَّجوا بأكاليل الفخار، أو تُنْقش أسماؤهم بعد موتهم في سبيل إنقاذ بلادهم من الجهل على قلوب أفراد أمتهم بحروف لا تقوى على محوها يد الزمان.
أيها السادة
حقًّا إن مصر بلاد العجائب، فإن الشمس لا تكاد تشرق فيها إلا على جديد من الحوادث والكوارث، وكأني بالأيام وقد آلت على نفسها أن تعطينا في كل وقت درسًا جديدًا لا ننساه ما دبَّ فينا دبيب الحياة.
وإننا وإن لم نجنِ على الأيام ما يدعو إلى ذلك الانتقام، فإننا قد مكثنا غارقين في بحار الغفلة أعوامًا مخدرين ﺑ «مورفين» التواكل والتخاذل سنين وأيامًا!
فهل لنا بعد ذلك أيها السادة أن نهبَّ من غفلتنا ونعمل ما يطفئ غُلَّتنا ونسعى لعمل ما يرقِّي بلادنا ويحررها من رِبْقة الجهل؟ ذلك ما أرجو أن يكون إن شاء الله تعالى.
أيها السادة
ليس هذا بالصعب علينا بل إنه في قدرتنا وفي طاقتنا الحصول عليه بفضل اتحادنا ووئامنا وسر تضامننا وتضافرنا، وبهذا نحيا حياة المُسْعَدين ونعيش عيشة الأحرار المستقلين.
ففي ذمة الله — أيها السادة — تلك النفوس الطاهرة التي جنينا عليها باستسلامنا وتواكلنا.
وفي وديعة الله تلك الآمال الكبار التي أضعناها.
وفي رحمة الله تلك الكواكب التي واريناها. وإنا لله وإنا إليه لراجعون.
(٩) ترجمة إبراهيم أفندي السيد العبد
إن مسئولية المؤرخ خطيرة الشأن عظيمة الأهمية، إذ يدعوه واجبه التاريخي دائمًا إلى البحث والتنقيب وراء الحقائق والتثبت منها لأنها دستور يقتفي أثره أبناء هذا العصر والأجيال المقبلة. وبما أننا قد تصدينا لوضع تواريخ شهداء العلم والغربة وبذلنا كل مجهودنا في الحصول على تراجمهم من أسرهم وأصدقائهم بطريق النشر في الصحف السيارة وبكافة الوسائل الأخرى، ولسوء الحظ بذلنا قصارى الجهد في الحصول على ترجمة المرحوم إبراهيم أفندي السيد العبد فلم نوفق لذلك، وقد أرسلنا خطابًا في ١٥ يوليو سنة ١٩٢٠ إلى حضرة سليمان بك العبد أحد أفراد هذه الأسرة الشهيرة بشبرا النملة، وأردفناه بخطاب ثانٍ تاريخه ٢٧ يونيو سنة ١٩٢٠ وكذا خطاب ثالث في ١٤ سبتمبر سنة ١٩٢٠، وأفهمناه ضرورة إرسال التفاصيل الخاصة بفقيدهم وبينَّا له أمرنا من هذا الكتاب دون أن نكلفه بدرهم ولا دينار؛ فأبى علينا الرد، وقد تسرب إلى ذهننا أن ابنه أكبر عامل على تخليد مآثر والده فبعثنا إليه بخطاب تاريخه ١٩ أغسطس سنة ١٩٢٠، فلم يتكرم بالرد ولو على سبيل المجاملة في الأمور التحريرية؛ ولما رأينا أنه لا مندوحة من أن نذكر كلمة عن المرحوم إبراهيم أفندي العبد وإن كان ابنه وذوو قرابته أبوا علينا ذلك فنقول:
وُلِد المرحوم إبراهيم أفندي السيد العبد في بلدة شبرا النملة، ومات في حادثة القطار التي استُشهد فيها مع طلبة العلم، وكان مرافقًا لابنه عبد الحميد أفندي العبد لإدخاله إحدى كليات ألمانيا، وكان أشد تأثيرًا على النفس أن المرحوم إبراهيم العبد قد حال القضاء بينه وبين ابنه، ولكن الأب استطاع وهو يجود بنفَسه الأخير أن يخاطب ولده مشجعًا ببضع كلمات شدت عزمه وفتحت له منفذًا إلى الحياة، وقد ذهب إلى رحمة ربه موقنًا بسلامة ولده فمات عن إحدى وخمسين سنةً. أخبرنا بعض محدثينا عنه أنه من عائلة عريقة قضى عمره في الاشتغال بالأمور التجارية والزراعية بجد واجتهاد، وفي هذه السفرة الأبدية كان يرغب أن يجلب بضائع للتجارة حتى يسد حاجات مواطنيه، وكان نقي السيرة طاهر السريرة. رحمه الله وأسكنه جنة الخلد!
إلى رئيس لجنة الوفد المركزية: حسن عزائكم وعطف معالي الرئيس المحبوب وحضرات أعضاء الوفد خفَّف كثيرًا من أحزاننا بوفاة المرحوم إبراهيم أفندي العبد. أبقاكم الله ذخرًا للأوطان، وكلل جهادكم الشريف بالنصر والنجاح.
(٩-١) احتفال طنطا بجنازة المرحومين إبراهيم أفندي العبد ورمضان أفندي هداية
أصبح ظل الأحزان مخيمًا على مدينة طنطا، فالوجوه عابسة والدموع تترقرق في العيون والقلوب مكلومة والزفرات تتصاعد من صدور يمزقها الأسى بتلك الكارثة.
وقد رُفِعت الأعلام منكسةً في كل مكان مجلَّلةً بالسواد، وكان الأهالي ينتظرون بالخشوع ساعة الاحتفال بتشييع جثتي المرحومين إبراهيم أفندي العبد ورمضان أفندي هداية، ففي منتصف الساعة الرابعة كان كل فريق من المشيعين في المكان الذي أعدته له لجنة الاحتفال.
وفي الساعة الرابعة أقبل سعادة مدير الغربية مندوبًا من قِبل مولانا عظمة السلطان، وبدأ سير الجنازة من المحطة على الترتيب الآتي: موسيقى الملجأ العباسي – قوة من البوليس البياة – فرقة الكشافة – موسيقى علي أفندي حسن – طلبة الجامع الأحمدي والمعهد العلمي – مدرسة المعلمين الأولية – طلبة المدارس الثانوية، فالمدارس الابتدائية، فمدرسة الفرير، فالاتحاد الإسرائيلي، فموسيقى حافظ أفندي يوسف، فمدرسة البنات، فحَمَلة المباخر والزهور، فنعش الفقيدين ملفوفَين بالأعلام المصرية يحملهما فريق من طلبة مدرسة طنطا الثانوية، ويتبعهما أهل الفقيدين، فالعلماء، فالرؤساء الروحانيون، فرئيس وأعضاء لجنة الوفد بطنطا، فالقضاة، فالمحامون والأطباء ونظار المدارس والمدرسون والمهندسون ورجال الصحف، فوفد من الإسكندرية، فالجاليات الأجنبية ومنها الجمعية الخيرية الإيطالية التي قدمت إكليلًا من الزهور لوضعه على القبر، فموظفو الحكومة، فالأعيان، فرئيس وأعضاء الغرفة التجارية، فالتجار، فنقابات العمال على اختلافها. وسارت الجنازة من المحطة إلى شارع المديرية، فالبورصة، فالخان، فالسكة الجديدة، وهناك أُقِيمت صلاة الجنازة في الجامع الأحمدي. وبعدها انفصل فريق من المشيعين لمرافقة جثة المرحوم إبراهيم أفندي العبد إلى بلدته شبرا النملة، يتقدمهم عبد الحليم بك ناشد مندوبًا من عظمة السلطان وحضرتا نجيب بك الغرابلي وأحمد بك الشيخ منتدبَيْن عن لجنة الوفد المركزية.
ثم استمرت الجنازة من السكة الجديدة إلى شارع الصاغة فالجبانة حيث وارَوْا جثة رمضان أفندي هداية التراب. وكان الموكب يسير بتمام النظام تحف به المهابة والإجلال، والمشيعون مطرقون احترامًا لجلال الموقف الرهيب.
وقد أُقِيمت حفلة تأبين في منتصف الساعة التاسعة مساء ١٠ شعبان سنة ١٨٣٨ بالجامع الأحمدي، حيث خطب الدكتور حسن بك كامل ونجيب بك الغرابلي وأحمد بك الشيخ وإبراهيم بك جلال القاضي ومحمد أفندي عبد الرازق والشيخ علي عبد الحليم من الإسكندرية وآخرون، وقد أثبتنا لحضراتهم في غير هذا المكان بعض مراثيهم. تغمد الله الشهداء بالرحمة والرضوان، وألهم الأمة المصرية الصبر والسلوان!
(١٠) حياة المرحوم فريد فتحي رزق الله بقلم صديقه الحميم حبيب أفندي غبريال
(١٠-١) حياته الدراسية
وُلِد الفقيد في بلدة «الشيخ زين الدين» من مركز طهطا.
ولما بلغ فريد أشده دخل مدرسة الأقباط بطهطا إلى أن صار في الحادية عشرة من عمره، وما زال منكبًّا على الدرس حتى حصل على شهادة الدراسة الابتدائية من المدرسة الإنجيلية بطهطا عام ١٩١٤، ثم التحق بمدرسة الأقباط الكبرى بالقاهرة واستمر فيها حتى حصل منها على شهادة الكفاءة. وبعد ذلك التحق بالمدرسة السعيدية، وكان أثناء وجوده بها يشكو دائمًا ألم الصداع لذلك حال ضعف صحته دون نجاحه في البكالوريا سنة ١٩١٨، فأعاد الكرة سنة ١٩١٩ ولكنه لم يتقدم للامتحان لأنه كان قد عقد النية على السفر.
(١٠-٢) عزمه على السفر
وفي سنة ١٩١٩ كثرت الاضطرابات بين الطلبة وتعطل العمل في كثير من المدارس، فعزم فريد على السفر إلى الخارج لتتميم دراسته، فحالت والدته دون ما كانت نفسه طامحةً فيه، فكانت كلما ذكر أمامها رغبته في الهجرة لنيل العلم تقابل ذلك بالبكاء والنحيب، ولا غبار عليها في ذلك فلم يكن لها بعل يهتم بأمرها ولا ولد ثان تطيب به نفسها. وهنا تجلت في فريد روح وطنية سامية، روح يندر وجودها اللهم إلا في نفر قليل من الشبان، كتب إلى أحد أصدقائه يقول: «أنا بين عاملين، كلما ذكرت أمام والدتي أنني سأسافر للخارج تمرض وتذوب حزنًا فتكاد تثني عزمي وتثبِّط همتي، وإذا بي في النزع الأخير أسمع صوت أمي العزيزة مصر تناديني إلى الواجب فأمتلئ أملًا وحياةً وقوةً ونشاطًا. وعندي أن والدتي لو قضت حسرةً على وفاتي وقضيت أنا حزنًا عليها لطابت نفسي أن نقدم أرواحنا عن طيب خاطر تضحيةً للواجب نحو الوطن، فهل رأيت أو سمعت قبل اليوم عن ابن أمين رضع من ثديين تتنازعه العوامل كما تتنازعن؟»
- الأولى: أن هذه الجهة من أمريكا هي بلاد زراعية محضة مشهورة بمحاصيلها القطنية والقمحية وما شاكل، ذلك لهذا أنشئت فيها الجامعة المذكورة. وكان فن الزراعة في المدرسة الأولى من فروع الدراسة بها، ويوجه إليه اهتمام خاص من الحكومة والشعب على السواء.
- والثانية: أن تشابه مناخ تلك الولاية بمناخ مصر يجعل طرق الزراعة في كلتيهما متقاربةً إن لم تكن متماثلةً تمام التماثل.
لهذين السببين صمم فريد على السفر إلى أمريكا ليتلقى هذا الفن الجميل الذي كان مولعًا به ولع محب الطبيعة بالزهور والرياحين والخضرة وما شابه ذلك.
وهنا قامت معضلة أخرى في وجه فريد، فقد ارتفعت قيمة الدولار إلى درجة مدهشة حتى بلغت حينذاك اثنين وثلاثين غرشًا صاغًا للريال الواحد، ثم تضاعفت أجور السفر، فماذا يعمل فريد أمام إيراده الصغير المحدود؟ مع كل ذلك لم يحفل فريد ولم ينكص إلى الوراء، إذ قد حَزَم الأمل بين جنبيه حزامًا حاميًا.
لقد بذل فريد جهدًا فوق طاقة شاب أن يقوم به منفردًا في الحصول على تصريح للسفر حتى حصل عليه بعد جهاد ثلاثة شهور تقريبًا.
(١٠-٣) النقطة الفاصلة
في حياة كل إنسان نقطة فاصلة، نقطة الاختيار العظيم، ما أحرج الإنسان في ذلك الحين! وما أشد كربته في أفكاره وخيالاته! ففي ذلك الظرف العصيب ساعة أو دقيقة أو لحظة … عليه أن يقول قوله النهائي وينطق بكلمته الفاصلة.
وبعد، فإلى القوة أو إلى الضعف، إلى السعادة أو إلى الشقاء، إلى الحياة أو إلى الموت، إنها لأزمة خطيرة يقف فيها الإنسان — مهما كان مقامه — مبهوتًا حائرًا لا يدري إلى الشرق يتجه أم إلى الغرب، أإلى الشمال أم إلى الجنوب؟
غير أن تلك القوة الصمدانية التي تخترق الظلمات وتنظر من وراء السحاب، التي ترقب أعمال الناس وتَسْبُر العالم بين أزلية من محبة ونار، تلك القوة عينها هي التي تحرك هذا المخلوق الحقير إلى حيث قضائها المحترم وأمرها غير المردود، فما لَفَظَ امرؤ إلا مشيئتها ولا قال إلا إرادتها ولا امتثل إلا لأمرها، وهذا ما جرى لفريد.
(١٠-٤) تحول عزمه عن السفر إلى أمريكا
دعوته قبل سفره بثلاثة أيام لسماع محاضرة ألقاها محمود بك عزمي المحامي عن الديمقراطية، خرج فريد من تلك المحاضرة بحالة نفسية جديدة ظننتها في بادئ الأمر ترددًا وضعفًا فإذا هي وحي أوحي إليه، لست أدري أمن مَلَك كريم أم من شيطان رجيم أن يحول دفة مسيره إلى ألمانيا لا إلى أمريكا، وقد عزَّه على ذلك رخص المعيشة في الأولى الذي كانت تذيعه بعض الجرائد حينذاك بشكل بديع خلاب، وكذلك تدفق الشبان في ذاك الحين على ألمانيا تدفقًا هائلًا.
جميل كل هذا يا فريد، كله نافع ومحبوب، علم واقتصاد، ولكن لم تكن هذه فكرتك الأولى فما الذي طرأ على نفسيتك في اليومين الأخيرين قبل سفرك؟ وأية قوة كانت هي القاضية على عزمك الأسبق؟ لم يكن ذلك لأن هنا انتصارًا ووفرًا وهنالك إسراف وتبذير، لم يكن ذلك لأن هنا إخوانًا كثيرين وأصدقاء عديدين وهنالك لا شريك ولا رفيق، لم يكن ذلك لأن هذه قريبة دانية وتلك بعيدة نائية، كلا، لم يكن شيء من ذلك، بل هو حظك التعس يدعوك إلى حتفك ونهايتك المرة تناديك إلى يوم نحسك.
(١٠-٥) وفاته
هكذا كان، وسافر فريد مع إخوانه على ظهر الباخرة حلوان في اليوم الثامن والعشرين من شهر يناير سنة ١٩٢٠، ولم يمض على سفرهم بضعة أيام حتى جاءنا البرق بذا الخبر المشئوم، وإذا باسم فريد بين قائمة القتلى، فواحرَّ قلباه.
(١٠-٦) أخلاقه
الاستقلال الفكري: كان فريد على شيء كثير من الاستقلال الفكري وحرية الضمير مع رجاحة في العقل لا يشوبها طيش الشباب، ولعل منشأ ذلك يرجع إلى وفاة والده، فلم يكن لأحد أن يسيره في شيء بل كان هو محتذًى في كل أعماله، فحصل بين التجربة الانفرادية والخبرة الاستقلالية على ما أزكى عقله وفؤاده وأحكم خطواته في كل أعماله، ظهر أثر ذلك في حياته المدرسية فكان يتخذ لنفسه من المدارس والأصحاب ما يروق في نظره، وطالما كانت نفسه تتألم من نظام التعليم بالمدارس التي وُجِد فيها من حيث التضييق على حرية الطلبة، وكان يعتقد أن أولي الشأن يتعمدون تربية الناشئة على الاحترام الأعمى لرؤسائهم بوضع نظام الطوابير وتحريك الطلبة تحريكًا ميكانيكيًّا في الدرس والأكل على غير جدوى وبغير إرادتهم وبإكراههم على تأدية التحية لهم في المدرسة وفي الطرقات، فكان فريد يكره ذلك ويظهر من العصيان والغطرسة ما حدا ببعض المدرسين أن يتهمه بالكبر.
كان يكره الأنظمة القهرية ويمقت التوظف في دوائر الحكومة جهد استطاعته. وكثيرًا ما كنا نتريض معًا في حقول الجيزة، فكان يُعْجب بالطبيعة والزهور والنبات أيَّما إعجاب ويحسد الفلاح على حريته وهو في الغيط طليقًا حرًّا، ولذاك صمم على دراسة فن الزراعة إتمامًا لبغيته.
الإخلاص في المعاشرة
كان فريد مخلصًا في معاشرته، فإذا أحب صديقًا مال إليه بكل جوارحه وأخلص له في سره وعلانيته، ليس للتجمل أو الرياء منفذ إلى صدره، وسرعان ما كان يسلم لروحه وفؤاده بغير تكلف لكل من طلب وده فكان يحب كل معارفه على السواء والكل به وله، ذلك لما طُبِع عليه فريد من الدَّعَة وظريف الشمائل.
الثقة بالذات
كان فريد شديد الثقة بنفسه، ولكنه رغم وقوفه برجاحة عقله كان لا يستنكف من المشورة في كل أموره سعيًا وراء نجاحه. علم أن صديقًا له موظفًا بوزارة الحربية نُقِل إلى بحر الغزال في جنوب غرب السودان على مسيرة خمسة وأربعين يومًا من مصر، فبعث إليه يحضه على الامتناع عن السفر، فأجابه أن الذي حبب إليه السفر إلى تلك الجهات النائية هو أن مرتبه سيبلغ الضعف تقريبًا، فوقعت هذه الفكرة عند فريد موقع السخرية والاستهزاء، وكتب إليه يقول: «لو كانت ثقتك بنفسك شديدةً لعرفت أنك لن تعدم حيلةً في كسب أضعاف مرتبك أنى شئت.»
الاقتصاد
كان فريد يحب الاقتصاد ويضع الشيء في موضعه، ولم يُعِقه ميله للاقتصاد عن القيام بالواجب، حتى لتَخَاله في كثير من المواقف كريمًا في البذل عن سخاء وطيب خاطر.
(١٠-٧) مرثية ألقاها على قبر فريد حضرة صديقه الحميم الكاتب الأديب حبيب أفندي غبريال
أي فريد، ها قد جئنا لنزورك وأنت في مرقدك الهادئ فاستيقظ يا فريد من نومك لتحيي إخوانك القادمين إليك، قم وامدد إلينا يديك الطاهرتين فقد حَقَّ علينا أن نقبِّلهما بحرارة ولهف. ولكن لا، لا، فكن في مكانك بعيدًا عنا ولتبق روحك في ذلك المقام العلوي، فما كان للطهارة أن تمس الدنس، وما كان للنور أن يقترب من الظلام. أي إخواني، في ليلة البارحة بينما الناس في سُبات عميق طلبت فريدًا، ولكن واأسفاه طلبته فما وجدته!
قالوا لي لقد خرج إلى الحقول، هنالك وجدت الوردة تبسم للنسيم والزَّنْبَقة تقبل شعاع الشمس، أما هو فقد طلبته فما وجدته.
قلت في نفسي لعل فريدًا يتفيأ ظلال الأشجار التي على ضفة الغدير، فأسرعت إلى هناك وكلي أمل في لقياه وبنفسي حنين إليه كحنين الأخ إلى أخيه، هنالك سمعت هفيف الريح وسمعت خرير المياه، وسمعت هدير الطيور تغني شجنًا.
يالله! كأنني أسمع صوتًا ظافرًا فوق الجبال، قافزًا فوق التلال، هابطًا إلى الوديان، وإذا بالصوت الذي كنت أسمعه قد اختفى، واستحالت الحركة إلى سكون عميق. فتشت على فريد وقلبي منكسر ونفسي ملآنة حزنًا، ولكن واحزناه طلبته فما وجدته!
يا ربي أين ذهب فريد؟ ومن يعرف أين هو؟ وإذا بصوت خافت يرد عليَّ قائلًا: أيتها النفس المضطربة، اسألي الأمل فهو يعرف أين مستقر الحبيب، اسألي السفينة التي تمخر العُباب كالسهم، اسألي الجبل الذي يطل بعظمة واستكبار، اسألي الطبيعة القاسية المتسلطة على الأرواح، اسألي ذلك السهل التعس حيث سقط حبيبك مع إخوته التعساء حيث صعِدت روحه الطاهرة ترفرف كالحمامة إلى ربها.
أيتها السفينة القادمة من شواطئ إيطاليا تحملين في جوفك رفات صديقنا المحبوب، أسرعي به إلينا، إلى هنا، إلى وطنه الذي كان يحن إليه، إلى بيت أمه وأبيه، إلى إخوته النائحين عليه. أطفئي أنوارك أيتها السفينة، قفي أيتها السحب، واهدئي أيتها الرياح، واسكني أيتها الطبيعة ورافقي فريدًا في سكونه، في نومه، في راحته.
ما لك يا فريد؟! تجفل كلما دنوت منك! ماذا جنيت حتى تقابلني بهذا الجفاء؟! لقد ناديتك حتى بُحَّ صوتي فلم لا تبدي جوابًا؟ ألا تسمع زفيري؟ ألا تخترق مسمعك الطاهر كلمات جزعي؟ ألا تصل إلى قلبك الناصع نبضات نفسي …؟ لقد كسرت قلبي يا فريد ببعدك عني، حتى لقد سقط رأسي إلى التراب وتبللت عيني بالدموع، واحترق قلبي بلهب اللوعة.
أين أنت الآن؟ أين يدك الطاهرة لأمسك بها وأدنيها إلى صدري؟ أين وجهك الصبوح الذي يتألق فيه نور القمر؟ أين ثغرك الباسم الذي يشبه وردةً دائمة الفرح أبدية الانشراح؟ أين عيناك البراقتان اللتان يتألف منهما نور الحياء الخالص وقوة الشباب؟ أين منطقك العذب الذي يقطر شهدًا؟ أين قلبك الناصع كالثلج اللامع كالبلَّوْر الصافي كشعاع الشمس؟ أين روحك الطاهرة المشبهة بدَعَة الملائكة وطهارة أبناء السماء؟ أين ذهب يا فريد كل هذا؟ أهو في جوف الأرض يخبئه عن نواظرنا التراب؟ كلا، ثم كلا، فحاشا للكمال أن يُدْفَن! وحاشا للطهارة أن تُقْبر! إن مكانك لفي أسمى طبقات السماء وكأنك بين يدي ربك الذي أحبك أكثر منا فأخذك صغيرًا ليقربك إليه ويدنيك إلى عرشه، فسلام عليك حيث أنت الآن، وسلام على روحك الجميلة.
إن جسمك الغصن، وعودك الرطب، فهنا يا فريد في هذه البقعة الضيقة، في هذا المكان الموحش، حيث لا يُسمع صوت سوى صوت هفيف الريح ممتزجًا بترنيمة الحزن والأسى ترددها بعض العصافير التي ترفرف بأجنحتها فوق ضريحك المقدس. هنا حيث لا شريك ولا أنيس ولا حبيب ولا جليس، هنا حيث يسود السكون الدائم فيملأ النفس هيبةً وجلالًا، ويخيم ظل الموت فتجمُد منه العواطف رهبةً وخشوعًا.
هنا في وسط هذه الأضرحة الصامتة نودع يا فريد رفاتك الطاهرة، نودع وردة الصباح اليانعة، نودع أملًا عاليًا ونفسًا كبيرةً.
أملًا؟! آه ما أحلى الأمل وما أمرَّه!
فهو زهرة الربيع التي تنعش النفس وتملؤها رحبًا، وفي الآخر تذبل ويذهب عنها جمالها.
هو تلك القوة الروحانية التي تبعث في الإنسان روح العزيمة والصبر والمثابرة ثم تتركه في منتصف الطريق.
هو ذلك السراب الذي يغري الإنسان على تحمل مشاق الأسفار بحرًا وبرًّا وتجشُّم المخاطر بردًا وحرًّا ومواجهة الكارثات والمصاعب، وإذا به عنصر منحل في ذاته لا يروي غليلًا.
هو ذلك الجمال الشعري الذي يغمر النفس حينًا ثم يتركها تحت رحمة وحدتها وعذابها.
هو ذلك الظل الذي يبتعد دائمًا عن النور ويهرول مسرعًا إلى أم الظلمة. نعم، هو الحياة، بل هو الموت.
ذلك هو الأمل يا إخواني، الذي من أجله ينام فريد نومًا هادئًا.
أي أخي، البارحة تركتنا حزينًا باكيًا يخفق قلبك مع منديلك لفراق بلادك ووطنك المحبوب. البارحة كتبت إليَّ وما أحلى كلماتك وأعذب روحك! إن كل الجمال الذي رأيته في سفرك والمناظر البديعة التي تمتعت بها في طريقك إلى حتفك، كل ذلك لم ينسِك فراق إخوانك ولم يخفف آلامك في غربتك، فما هذه الحلاوة يا فريد التي تقطر من فمك العذب؟! وما هذا الحياء الذي يتألق فوق جبينك؟!
أي صحبي، وقوفًا أمام هذه الحقيقة المرة، خشوعًا أمام هذا المنظر القاسي، وهل من منظر أشد على النفس وأكثر إيلامًا للعواطف من ضياع شاب صغير ونافع ومحبوب؟! نعم، صغير، فما تُرى غرض الموت من فعلته القاسية؟! ونافع، فما تُرى قصد الإله في إصدار هذا الحكم الرهيب؟! ومحبوب، فما عسى أن تكون هذه التصاريف الشديدة؟!
لقد ذهب فريدنا بين من ذهبوا، لقد راح ضحية الأمل العالي فخلف لنا الألم المستديم، ليت تلك الساعة لم تكن التي جاءنا فيها ذلك النبأ المشئوم! وأنت أيها السهل الذي سقط عليك فقيدنا وإخوته الأبرياء، ليذهب عنك الجمال، ولينقطع عنك الظل والمطر، إذ عليك هلك هذا البريء، وفوق بطاحك تناثر جسمه الغض كما تتناثر أوراق الأشجار أمام ريح الخريف القاسية.
إننا نحزن ونبكي ذلك لأننا نحب، أليس تأثر العواطف هو مقياس المحبة؟ أوَليس روح ذلك التأثر هي دليل على روح تلك المحبة وجوهرها؟ وهل يُسكب دمع إلا لعزيز؟ إذنْ فلتتمسك المحبة بالحزن وليقبل كل منهما الآخر لئلا يهلك الاثنان معًا.
يا قلبي، لقد فقدت شيئًا، نعم، فقدت شيئًا عزيزًا، فقدت سرورًا كان لك في سِنِيك الغابرة، خسارة فادحة لا يعوضها سوى الدموع، ولا يخفف تأثيرها سوى البكاء.
أيها المنزل الذي كان يقطنه فريد، ما لك مكتئبًا حالكًا؟! لقد تعودت أن أقف أمام بابك نابض القلب مهتز العواطف منتظرًا تلك اليد اللطيفة التي لن أعود أمسك بها بعد اليوم. آه! ما أشقاني وما أكبر تعاستي! لقد تركني النوم ورغب النعاس عن عشرتي، وكمجرم أثيم أراني أهرب كل ليلة إلى مخدعي لأحزن على جرمي وأستغفر ربي.
أين ذلك النور الذي كان يتلألأ فيك أيها البيت التعس؟ ما لي لا أرى بك سوى ظلام دامس؟! لقد انطفأ النور، لقد ولَّى القمر، لقد اشتد الحَلَك، وخلت الغرفة التي تعودنا بالجلوس فيها معًا من السرور والانشراح.
خروجًا يا نفس من هذه البقعة المؤلمة، خروجًا من هذا المكان المشبع بالشقاء، إلى الشوارع، إلى القرى، إلى الفضا، الفضاء الفسيح حيث كنا نقضي الساعات الطوال فوق الحشائش الخضراء وتحت ظلال الأشجار الباسقة، هذه أيضًا مظلمة. غير أنني في نورك الروحاني يا فريد رأيت بين الزهور وردةً ناصعة البياض تلمع في وسط الحلك، فاقتربت منها واقتطفتها من عودها، ووضعتها فوق صدري وأدنيتها من مصدر حياتي لتمتص الحياة من قلبي ومن روحي.
ها هي يا فريد، لقد جئت بها إليك لأضعها فوق ضريحك، فإذا ما استطاعت النمو نمت وأزهرت، وإذا ما ذبلت فما أسعدها! لأنها فوق رأسك تذبل وبالقرب منك تموت.
الحمامة تطير في الفضاء، تغني وتفرح لتبلغ السماء خيرًا وتملأ الفضاء سرورًا، كذلك روحي إنها لتحلق كل ليلة في الفضاء إلى العالم غير المنظور، تاركةً وراءها هذا الغشاء المحتقر الفاني هذا الجسم الترابي على قُنَّة الجبال فوق متن البحار على أجنحة الرياح إلى السحابة، هنالك تناجيك نفسي وفي النهاية تعود روحي من حيث أتت مهرولةً بسرعة إلى غشائها المحتقر، فتجده هادئًا هدوء جسمك الآن منتظرًا عودتها إليه.
أي فريد، لقد سرنا في الحياة معًا أيامًا وشهورًا وسنين في حالة طبيعية لا يتخللها سوى الأخذ والرد الهادئين، ولَكَم تماسكت أيدينا! غير أننا ما كنا نشعر بروح هذا التماسك، ولَكَم تناقشنا في أبحاث كثيرة! غير أننا ما كنا لنرى في خلال ذلك الجدل وتلك المناقشة ما يستلفت النظر إلى وجود ذلك السر الكامن في كل لفظ من الألفاظ ورأي من الآراء وحجة من الحجج، لقد تعاملنا طويلًا غير أننا ما كنا لنرى في خلال هذا التعامل ونحن في أوقاتنا الساكنة الهادئة شيئًا مما هو وراء المادة.
كنا نلهو ونلعب متوجةً أعمالنا بسرور وانشراح، وإذا بالموت رابط في طريقنا يترصد مجيئنا ظل الموت الرهيب الذي تخافه كل الخلائق، لقد قطع بسيفه الصارم حبل الحياة الذي كان يربطنا، وحملك يا فريد بعيدًا عني حيث لا أستطيع أن أراك أو أن أتبع سبيلك، غير أنني لاحق بك يومًا ما لأن ظل الموت ينتظرني في الظلام كما كان ينتظر روحك الطاهرة.
•••
أفريدُ، على قبرك سطع القمر، بالليل سطع نوره الفضي على ضريحك، وإذا بشعاعه المصافي يتألق فوق صورتك الجميلة، ويقبل فمك العذب، ويحل بين ذراعيك الطاهرتين. وبينا أنا يا فريد في مضجعي مرتبك الفكر قلق الفؤاد مجروح الحشا، إذا بنور القمر هذا يطل من شباك غرفتي حتى تحقق من وجودي، وعرف أنني وحيد منفرد فطرح بين يدي رسالةً منك، رسالة صديق إلى صديقه، رسالةً طاهرةً من محبٍّ سامٍ إلى شقيٍّ بائسٍ مكتوبةً بحروف من نور على ورق فضي، ففضضتها بلهف وكدت ألتهم كلماتها التهامًا، قرأتها مثنى وثلاث ورباع، قرأتها والدموع ملء محاجري والحزن قابض على قلبي، قرأتها وسأقرؤها إلى أن نتراسل، الأرواح مع الأرواح، وينطفئ نور هذا القمر المنظور وتصير الملائكة النورانية هي الرسل بيني وبينك، بل إلى أن لا تكون في حاجة إلى التراسل بشعاع القمر.
•••
يا إخواني، أنا لا ألوم الموت لأنه حمل الفضيلة من الأرض واختطف الطهارة من بيننا، فللفضيلة والطهارة مناقب دائمًا خضراء وقد ترك فريد كثيرًا من فضائله وطهارته. إنني لا ألوم الموت لأنه فرَّق بيننا وبين من نحب فلن نعود بعد اليوم أن نتحدث مع شخصه المنظور. نعم، لا يمكن أن نراه، ولكن من يستطيع أن يمنع مناجاة الروح للروح وهما يعيشان في فضاء لا بعد فيه؟ فتعالي أيتها الروح المنبسطة في الفضاء، اقتربي مني واقرعي باب قلبي وادخلي إلى نفسي لعلك تشعرين بالحنين الذي يعجز اللفظ عن تعبيره لأنه حنين السماء إلى السماء.
آه! ما أطهر القلب وأنقى العواطف التي تتمتع ساعةً واحدةً بمناجاة محب فارق الحياة، حين تنتقل النفس إلى عالم الخيال، إلى العالم الأعلى، إلى حيث الطهارة والصفاء!
إخواني، إن فريدنا لم يمت، فهو حي في قلبي وقلب كل واحد من إخوانه. نعم، هو حي في نفوسهم بما كان له من التأثير الهادئ والخلق الحسن، وهل يموت من كان حيًّا في القلوب؟ كلا، لن يموت.
فهو إذنْ حي، وسيحيا فينا إلى أن ننتقل إليه، وهنالك نحيا جميعًا تحت أجنحة إله واحد، هو إله الحب الذي يجمع الأحباب بعد شتاتهم.
نعم، إن فريدنا سيحيا، فإن الذكرى أشبه شيء بالورد تغيب حينًا، حتى إذا ذهب الشتاء ببرده القارس ومر الخريف بزمهريره وجاءت أوقات الربيع الصافية حينئذ تزهر الوردة من جديد ويفوح عبيرها العاطر، فذكرى صديقنا الراحل ستبقى دائمًا أبدًا زاهرةً زاهيةً دون أن يعتريها أي ذبول.
أي صديقي البعيد عني كثيرًا على قرب ضريحك مني، إنني لن أراك بعد اليوم، فقط أراك يا فريد في خيالي، أراك في الحقول تداعب الورد في أكمامه، أراك في جوف الليل بين النجوم والكواكب، أراك مع رؤية القمر وأسمع صوتك مع تغريد العصفور، أراك بين الأحباب تلاعبهم وتداعبهم بدَعَة الملائكة وطهارة سكان السماء.
أيها الشهيد الكريم، عليك سلام الله وأنت في مضجعك الهادئ.
والآن وقد واريناك لرمسك وأودعناك لحدك فأمام ضريحك نقف بخشوع وهيبة برءوس منكسة وقلوب منكسرة كليمة. نعم، نضع فوقك بعض الزهور ولكن سرعان يا فريد ما تذبل هذه الزهور ويذهب عنها رونقها وجمالها كما ذبلت حياتك الغضة وتوارى شبابك اليانع.
أي صديقي الراحل، لو أن رأسي ماء وعيني ينبوع دموع إذنْ لبكيتك نهاري وليلي وليس من يلومني فلم يجمد دمعي قط على حبيب، سوف يذهب الحزن والأسى ولكن المحبة باقية ومعها وبها يستمر هذا الخيال الباقي لي.
الشباب يذهب قبل أوانه والهلال ينزوي قبل إبداره، وما ذلك إلا ليكْمُل في ظل الإله العظيم.
ذلك الإله الواحد الذي يقيم في النور وإليه تتجه كل الخليقة.
فكن في انتظارنا يا فريد ونحن متجهون إليك، كن في انتظارنا أيها الشقيق المحبوب، كن في انتظارنا أيها الراحل الكريم، كن في انتظارنا أيها الخِلُّ الوفي.
والآن، الوداعَ الوداعَ يا من ملكت الأفئدة، وقد سُدْت سويداء الضمائر، الوداع أيها الشهم الصادق والصديق الحميم، الوداعَ الوداعَ إلى أن نلتقي.
(١١) ترجمة المرحوم رزق يعقوب
(١١-١) مولده
وُلِد الشاب الذكي شهيد الهمة المرحوم رزق يعقوب بمدينة دمياط في شهر أغسطس سنة ١٨٩٦ ميلادية من أبوين كريمين، وكان والده موظفًا بها، وكان شديد العناية بتربية أولاده وتهذيبهم. وما كاد الفقيد يبلغ الخامسة من عمره حتى أدخله مدرسة الأقباط فتلقى بها مبادئ القراءة والكتابة، ثم نُقِل والده إلى بور سعيد وهناك ابتدأ دور دراسة الفقيد.
(١١-٢) دراسته
دخل الفقيد مدرسة الأقباط ببور سعيد ومكث بها عامين، ثم عاد والده فنُقِل إلى دمياط، وراقه أن يُلحق الفقيد بمدرستها الأميرية ثم مدرسة أسوان فمدرسة عابدين الأميرية بالقاهرة حيث نال منها الشهادة الابتدائية. ولم تمنعه كثرة التنقل من مدرسة لأخرى من النشاط والتقدم فكان أول فرقته طول مدة دراسته.
انتهت دراسته الابتدائية فأدخله والده مدرسة رأس التين الثانوية، لأن مدارس القاهرة كانت قد غَصَّت بالطلاب، فجد واجتهد مثابرًا على الدرس ليل نهار لا يعرف للعب طريقًا، فأمضى الأربع سنوات بلا توانٍ ولا تأخير حتى البكالوريا، ولكن المرض حال دون مرامه في السنة الأخيرة فعاقه عن الامتحان، فانتقل إلى المدرسة الخديوية وأمضى بها السنة الأخيرة وحاز منها شهادة البكالوريا في القسم العلمي عام ١٩١٧.
وبعد نجاحه وجه نظره لدراسة الطب إلا أن ترتيبه لم يساعده فالتحق بمدرسة الطب البيطري فأمضى بها السنة الأولى والثانية، وبعدها قامت نهضتنا الأخيرة فكان جنديًّا باسلًا وفي مقدمة الصفوف، بل وطنيًّا غيورًا دفعه حب بلاده لأن يضحي بعلومه مقدمًا الواجب المقدس على العلم، فجاهد جهاد الأبطال في ميادين القتال، قدم نفسه للخدمة فكان خير من اؤتُمن عليها، ولم يفتر عن هذا الواجب دقيقةً واحدةً، وتحوَّل كل همه أن يرى مصر نالت استقلالها.
ولما فُتِحت أبواب السفر إلى أوروبا طلب من والده السفر مع إخوانه، مقنعًا إياه بالفائدة العظمى التي يجنيها ليجمع بين طب الحيوان والإنسان حاثًّا إخوانه على الاقتداء به، وصوَّب أمله إلى تلقن الطب البشري ليخدم بلاده خدمةً حقيقيةً بل الإنسانية جمعاء. إلا أن القدر كان يجري وراءه ويخبئ له ما لم يكن في الحسبان، فلاقى منيته وهو على أبواب الجهاد فاستشهد بأودين وفاضت روحه الزكية إلى بارئ النسمات، وغمَّض الموت أجفانه وأسكت صوته وأوقف قلبه الخفَّاق إلى العلا والأمل الواسع والحياة المنشودة قبل أن يخطو فيها خطوات واسعةً، وقضى كما تقضي الوردة داخل الكمام قبل أن ترى ضوء النهار وحرارة الشمس بل ذوى هلالًا في أيامه الأولى.
كان — رحمه الله — طيب القلب، شابًّا مملوءًا صحةً ونشاطًا، وغيورًا، محبًّا لإخوانه، كريم الأخلاق، متفانيًا في حب بلاده، عالي الشعور رقيق الإحساس يتألم لمصائب الغير. وكفى أن نذكر له تلك الحادثة التي رفعته في نظر إخوانه إلى السِّماك الأعلى، ففي يوم حضور قرياقص أفندي ميخائيل قُبِض على أخيه متري أفندي وشاب آخر في القاهرة يدعى أحمد أفندي صبري، فحكمت المحكمة العسكرية بحبسه شهرًا أو بغرامة عشرة جنيهات، فأبت عليه نفسه أن يرى أخاه حرًّا طليقًا وذاك سجينًا متألمًا لخلو يده من المال، فقام بين إخوانه حاثًّا إياهم على التبرع وقد توَّج الاكتتاب بكل ما يملك ومر على دور الحكومة جامعًا من أولي الإحسان ما تجود به أنفسهم، وفي أيام قلائل جمع المال اللازم وأخرج الشاب من السجن، وكان لم يكن له به أدنى معرفة سوى أنه وطني مثله.
فيحزننا أيها الصديق المحبوب والراحل الكريم أن نذكرك اليوم باكين متأسفين، وإننا بفقدك فقدنا قمرًا كنا نود أن نستعين به على عبور هذه الأيام المظلمة ودرعًا ندافع بها إذا حلت المصائب. وليكن في موتك أيها الصديق مثالًا حيًّا على الجهاد والعمل وقوة العزيمة والدأب وراء إعلاء شأن هذه الأمة الأسيفة، التي كتب عليها سوء الطالع أن ترى في كل يوم من معاكسة الدهر حادثًا جديدًا.
فإذا حق لنا البكاء فإننا نبكي منك النجابة والفتوة، نبكي فيك ذلك الإقدام الذي صوَّبك نحو طلب العلم وبلوغ الكمال، ونندب فيك كد نفسك وطموحها إلى المجد الأدبي غير مبالٍ بما قد يعرض لك، ونبكي فيك الأخلاق والشعور الحي والفضيلة وكرم الأخلاق.
مات رزق وكان يود أن يعيش ليرى ثمرة أتعابه، كان يود أن يعيش ليخدم أمته وبلاده، كان يود أن يعيش حتى يرى أعلام الحرية ترفرف على هذه الدار، كان يود أن يعيش ليكون إنسانًا عاملًا في الحياة، ولكن شاء القدر أن يموت رزق فلا مرد لقضائه.
سلام عليكم أيها الشهداء الأبطال.
سلام عليكم من أمة ثَكِلَتكم قبل أن تجني من ثماركم، وفقدتكم في ساعة محنتها … أسكنكم الله فسيح جناته وأسبغ عليكم واسع رحمته، وبعث في قلوب أهلكم وإخوانكم الصبر والعزاء، وألهم الأمة جميعها الثبات والسلوى على هذا المصاب، إنه سميع مجيب.
(١٢) ترجمة المرحوم عبد الحليم حلمي
(١٢-١) مولده
وُلِد فقيد النشاط والجهاد العلمي الشهيد المرحوم عبد الحليم أفندي حلمي بقرية قطاوية من أعمال أبو حماد شرقية سنة ١٨٩٨ ميلادية. وهو نجل حضرة الوجيه الحاج محمود حلمي من أعيان قطاوية ومن وجوه مديرية الشرقية ومن الرجال الذين يحبذون كثرة الإنفاق على أبنائهم وتربيتهم تربيةً عصريةً صحيحةً ويفضلون أن يورثوا أبناءهم علمًا وأدبًا، وله نجل غير الفقيد بألمانيا هو الدكتور علي علوي أفندي من أذكياء الشبان المصريين ومن نجباء أبناء مصر في أوروبا الذين يتسابقون في طلب العلم ليكونوا أمثلةً عاليةً لأبناء وطنهم وليرفعوا قدر الوطن وقدر الأمة المصرية بين الأوطان والأمم.
(١٢-٢) دراسة الفقيد
التحق الفقيد بمدرسة محمد علي الابتدائية بالقاهرة بعد إلمامه بمبادئ الكتابة والقراءة في قريته وأتم بها دروسه الأولية، وعندما حصل على شهادة الدراسة الابتدائية سافر إلى الإسكندرية وانتظم في سلك طلبة المدرسة العباسية ولبث بها عامين، ثم رأى أن يدخل مدرسة طنطا الثانوية ويتمم دراسته بها فسمح له والده بذلك لأنه كان يثق بذكائه ونشاطه تمام الثقة، فترك له حق تخير المدرسة التي يراها ملائمةً له.
وقد أفرغ الفقيد جهده وحصل على الشهادة الثانوية ثم راقه أن يلتحق بمدرسة الطب لأنه كان في المئة الأولى من حائزي شهادة البكالوريا، وقد مكث بهذه المدرسة عامًا كاملًا متمشيًا مع ميوله ومحبته للبحث والدرس.
ولما رأى قوافل الطلبة تَشُدُّ الرحال إلى مهد العلوم الحديثة والاكتشافات الطبية بألمانيا، سأل والده أن يأذن له بالسفر ليكون مع شقيقه هناك فوافقه الوالد على رغبته وسافر مع إخوانه الطلبة المرتحلين، وهناك على الحدود الإيطالية النمسوية لقي حتفه في حادثة القطار وكان عمره اثنتين وعشرين سنةً فَحُمِل إلى مصر وطنه العزيز، وبعد تشييع جنازته في الإسكندرية نُقِل إلى قريته حيث دُفِن بها باحتفال لم يسبق له مثيل، وقد توافد العمد وكبار الموظفين والأعيان لتعزية والده، وزاره مندوب من الوفد المصري ومندوب من الحزب الوطني لتعزيته في ذلك المصاب الفادح.
فرحم الله الفقيد رحمةً واسعةً وألهم عائلته الصبر والسلوان.
وقد رثاه ضمن إخوانه الشهداء صديقهم الحميم حضرة الكاتب الأديب هارون أفندي مصطفى، طالب طب بجامعة برمنجهام بإنجلترا، بهذه الكلمة المؤثرة:
إلى أصدقائي الراحلين
عبد الحليم أفندي حلمي، وعلي أفندي حسن بكري، وشفيق أفندي سعيد … أي إخواني:
عاجلتكم المنون وأنتم في ريعان الشباب فذوى غصنكم وذهبت نضارة حياتكم فكنتم كالهلال.
لقد مضينا شطرًا عظيمًا من حياتنا المدرسية سويًّا فكنتم مثال الجد والعمل، ولقد ألف الله بين قلوبنا فأصبحتم مثال الإخلاص والوفاء لصديقكم الذي خلَّفتموه للحزن والأسى.
تركتكم في مصر على أن تلحقوني لتتميم دراستكم ولكن أراد الله غير ذلك، فداهمتكم المنون وكان أمر الله مقضيًّا.
لطالما تمنيت أن أراكم في غربتكم مجاهدين للحصول على أمانيكم بعزيمة ماضية وبجدكم المعهود، ولطالما تمنيت أن أراكم وأنتم مثال ذكاء الشرق في هذه البلاد النائية.
ولطالما تمنيت أن أراكم بدورًا ساطعةً في سماء وادي النيل لترفعوا من شأن بلادنا العزيزة، ولكن:
فكان لخبر استشهادكم وقع عظيم على فؤادي الحزين. وإني لأسلو بنفسي في ديار غربتي بين كل آونة فيعيد التاريخ على الذاكرة أنباء الماضي فأحني رأسي إجلالًا لتلكم الأرواح الطاهرة التي تحوم حولي لتسمع أنات قلبي الحزين.
فسلام عليكم يا رفاق الصبا ممن يتمنى أن لو كان لكم الفدى.
سلام عليكم من مخلص يسأل الله أن يجمعه بكم في جنات النعيم.