عناية الوفد المصري بالشهداء
إن الحادثة الفاجعة التي وقعت في محطة مونتبا من أعمال إيطاليا تلك الحادثة التي تُوفِّي فيها اثنا عشر من أبنائنا الأعزاء قد آلمت أفئدتنا وأحزنت نفوسنا، فنرجو أن تقدموا تعازينا لأسراتهم ولجميع مواطنينا، وتعربوا عن آلامنا ومشاركتنا للجميع في الحزن على هذا المصاب، فإن فقدان هؤلاء الشبان الذين كانوا مسافرين لإتمام دراستهم ليكونوا أنفع لوطنهم وأمتهم يعد خسارةً كبرى للبلاد
مصاب مصر باستشهاد اثني عشر نجيبًا من صفوة شبابها عظيم، ولكن أعظم منه ثواب الصبر وما أحرزوا للوطن بموتتهم تلك من الفخر. لقد اغترب هؤلاء الشهداء في تحصيل العلم على أن يرجعوا بعد ذلك إلى مصر مفخرةً لها شاملةً وقرةً لها عاملةً، فإذا كان القدر قد أعجلهم عن الحياة التي تمنتها لهم بلادهم فقد ماتوا موتةً سجلت لهم ذكرًا عاليًا ولها فخرًا باقيًا.
وإن القائمين بالدفاع في القضية الكبرى لأوفى إخوانهم نصيبًا من الحزن على أولئك الأعزاء الذين كانوا يرون فيهم مددًا لهم وذخرًا لوطنهم. فتقبلوا تعزيتنا عن نجلكم المرحوم وعن إخوانه الشهداء جميعًا، والله المسئول أن يعوض البلاد منهم خيرًا ويفرغ على القلوب المحزونة صبرًا، وأن يتغمدهم برحمته ورضوانه.
وقد ذكرنا برقيات أسر الشهداء التي بعثوا بها إلى سعادته في تراجم مستشهديهم.
ولقد خابرنا سفير إيطاليا في باريس في مسألة حادثة التصادم فوعدنا أن يُعنى بالمصابين عنايةً خاصةً. وقد أرسل لنا مكباتي بك أسماء الموتى، وعدد الجرحى ٩ وحالتهم حسنة. ونحن مشتغلون بأمر نقل الجثث إلى مصر على نفقات الوفد وسنحيطكم علمًا بما يتم.
وقد اجتمع المكباتي بك وعبد الحميد سعيد بك ومن معهم من المصريين وحصلوا على التصريح لهم بنقل الجثث، وقدم لهم محافظ أودين ورجال الحكومة الإيطالية غاية ما يمكن من المساعدات والتسهيلات التي يسرت عليهم مهمتهم العظيمة.
(١) الاحتفال بنقل الشهداء
كان يوم ١٥ أبريل مشهودًا في أودين، فقد اجتمع كل سكانها وطلبتها لتشييع جنازة الشهداء، وحملوا أكاليل الزهر فجلَّلوا بها التوابيت، وعقدوا موكبًا رهيبًا كان يتقدمه القومنداتوري جيوزب ماري محافظ أودين والدكتور ألسندرو باجاردي الضابط الطبي التابع للحكومة وغيرهما من الصحفيين الإيطاليين ومن أعيان أودين. وسار الأهالي والموظفون والطلبة يحملون أعلامهم، وكان بينهم كثير من فضليات السيدات، وكانت النعوش محمولةً على أكتاف الطلبة المصريين والأعيان من أهل الشهداء الذين سافروا إلى إيطاليا. ومشى الموكب على هذا النظام حتى وصل محطة السكة الحديدية، وهناك فاضت العواطف فتبادلها الطلبة المصريون والإيطاليون. ووقف أحد كبار المصريين فألقى خطابًا نفيسًا مؤثرًا شكر فيه الأمة الإيطالية وحكومتها على ما أظهرتا من العطف نحو المصريين، فقوبل خطابه بهتاف عظيم لإيطاليا ومصر. وسار القطار يحمل الشهداء إلى برندزي فوصلها يوم ١٦ أبريل، ووُضِعت الجثث هناك حتى جاءت الباخرة حلوان فحملتها يوم الجمعة ٢٣ منه إلى مصر وهى منكسة العلم حدادًا عليهم.
(٢) الأمة أثناء ذلك
نشعر من أعماق قلوبنا بخسارة فقد إخواننا الطلبة في حادثة السكة الحديدية بإيطاليا، ونشاطر الأمة حزنها، ونقدم عزاءنا القلبي إلى أهل المتوفين.
لندن في ٢٩ أبريل
يعرب النادي المصري بلندن عن حزنه الشديد على الإخوان الاثني عشر الذين قُتِلوا في سبيل العلم والوطن، يقدم عزاءً خالصًا إلى أسراتهم.
وأرسلت الجمعية المصرية بباريس مثل ذلك. وبالجملة فقد كان حزن المصريين في بلادهم وفي الخارج بالغًا حده.
(٣) لجنة الاحتفال بالإسكندرية
تألفت لجنة بالإسكندرية من حضرات أصحاب السعادة والعزة أحمد يحيى باشا رئيسًا، ومحمود باشا الديب وكيلًا، وعبد الله باشا الغرياني، ومحمد بك فهمي الناضوري، وعبد العزيز بك الحديني، ومحمد بك الكلزه، والسيد بك مرسي، ومصطفى بك الخادم، ورمضان بك يوسف، وإبراهيم بك سيد أحمد، والدكتور أحمد عبد السلام، وسليمان أفندي أنطون، وعبد الحليم أفندي جميعي، وأحمد بك زكي، والدكتور ظيفل بك حسن، وفهمي بك غانم، وسعيد بك طليمات، وصادق أفندي أبو هيف أعضاءً، برعاية صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا، وقررت إعداد الاحتفال بتشييع جنازة الشهداء على الترتيب الذي يجيء في وصف الجنازة.
وصول الباخرة إلى الإسكندرية
وصلت الباخرة حلوان التي تقل جثث الشهداء إلى ميناء الإسكندرية عند الساعة السادسة من صبيحة يوم الثلاثاء ٢٧ أبريل، ورست الساعة السابعة والدقيقة ٥٠، فأُنْزِلت منها الجثث ووُضِعت في مسجد الشيالين بالجمرك، وكان موجودًا في ذلك الوقت أعضاء لجنة الوفد المركزية يتقدمهم أصحاب السعادة والعزة إبراهيم باشا سعيد وعبد الخالق باشا مدكور وفتح الله باشا بركات وواصف بك غالي وعبد الستار بك الباسل وعلي بك حفني محمود ونجيب بك الغرابلي وأمين بك إسماعيل ومحمود بك عبد النبي وحسنين بك عبد الغفار وعلوي بك الجزار، وأعضاء لجنة الاحتفال بالإسكندرية، يتقدمهم أحمد يحيى باشا ومحمود الديب باشا وعبد الله الغرياني باشا ومصطفى الخادم بك، ثم كُتِب على كل تابوت اسم صاحبه ولُفَّ بالعلم المصري.
وقد كانت لجنة الوفد قد انتدبت اثني عشر عضوًا برئاسة صاحب السعادة الشيخ الوقور إبراهيم باشا سعيد للاشتراك في تشييع الجنازة، وانْتُدِب الأب بولص غبريال عن رجال الدين، وانتدبت اللجنة الإدارية للحزب الوطني صاحب العزة عبد اللطيف بك الصوفاني، وانْتُدِب حضرة الكاتب الفاضل السيد أفندي علي صاحب جريدة النظام لتمثيل الصحافة، وانتدب معالي وزير المعارف حضرات أصحاب العزة علي بك حافظ ناظر المدرسة العباسية، ومحمد بك السيد ناظر مدرسة رأس التين، وهدايت بك ناظر مدرسة محرم بك، وعلي بك الكيلاني مفتش التعليم الأولي؛ ليمثلوا الوزارة، وأرسلت كل مديرية وكل مدرسة من يمثلها في الاحتفال، وكذلك فعلت النقابات، واحتجبت صحف الإسكندرية يومئذ على اختلافها، وأُغْلِقت البنوك والمحلات التجارية الكبرى وجميع حوانيت المدينة، ورُفِعت الأعلام منكسةً موسومةً بشارة الحداد لا فرق في ذلك بين وطني وأجنبي، فقد أظهر إخواننا الأجانب منتهى ما يكون من المودة والحب للمصريين باشتراكهم في الموكب وفي الحزن العام الذي كان يبدأ في كل ناحية من نواحي مدينة الإسكندرية.
وقررت مصلحة المواني انتداب ١٠٠ من حراسها للاشتراك في الاحتفال، وأرسلت مصلحة خفر السواحل ١٠٠ من رجالها ليتناوبوا جميعًا حمل النعوش، وقد سعى ألوف من الأهالي للحصول على مقاعد، وهذه أول مرة أجر الإسكندريون شرفات منازلهم للمشاهدين.
نائب عظمة السلطان في الإسكندرية
وقد أناب حضرة صاحب العظمة مولانا السلطان فؤاد الأول عنه حضرة صاحب السعادة الجليل حسن عبد الرازق باشا محافظ الإسكندرية ليسير في تشييع الجنازة، فاهتم كثيرًا في تنسيق النظام بما يذكر لسعادته بمداد الشكر والثناء، وقد نفَّذ رغائب صاحب العظمة السلطان أدام الله ملكه.
تلغراف نائب الملك
حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون
بمناسبة تشييع جنائز الشبان المصريين الذين قضوا نحبهم في مصاب «بنتبا» أقدم خالص شعوري، وقد انتدبت الضابط القائد بالإسكندرية لينوب عني في حفلة الجنازة.
الموكب الرهيب بالإسكندرية
ما وافت الساعة الثالثة ونصف حتى تحرك الموكب الرهيب، وكان البوليس يحافظ على النظام في الطرق التي يمر بها الموكب، وكان الزحام شديدًا جدًّا.
يا سمو الأمير، إني بالنيابة عن عظمة السلطان الذي أنابني عنه للاشتراك في تشييع الجنازات أبلغكم عظيم أحزاني، وأقدم التعزية بالنسبة لهذه الكارثة الكبرى. ونرجو الله أن يعوض الأمة خيرًا، إنه سميع مجيب.
يا سعادة المحافظ، أرجو أن تبلغ تشكراتي لعظمة السلطان. وإني أرجو الله أن يجعل هذا المصاب آخر أحزان الأمة المصرية، وأن يجعل أيامها المقبلة أيام سرور، وأن يبلغها ما تتمناه في القريب العاجل إن شاء الله.
وبعد ذلك قصد أعضاء اللجنة المركزية للوفد المنتدبين لتشييع الجنازة بالإسكندرية إلى سراي صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا، وصاحب السعادة أحمد يحيى باشا يشكر لجنة الإسكندرية على عنايتها بأمر الاحتفال.
محافظ الإسكندرية يشكر الجاليات الأجنبية في الثغر على ما أبدته من جميل العطف على الأمة المصرية في المصاب الذي نزل بها في اثني عشر طالبًا من زهرة شبيبتها، كما يشكر لفرق الكشافة وطلبة المدارس وطلبة المعاهد والطوائف المختلفة ما أخذته على نفسها من حفظ النظام والترتيب في موكب الجنازة.
ومما يستحق الذكر الإعجاب من مميزات هذا الاحتفال، فإنه مع شدة الازدحام ومع اشتراك نحو المئتين وخمسين ألفًا فيه فإنه لم يحدث حادث مكدِّر وانصرفت الجماهير في سكون، مع أن مثل هذا الازدحام لا يخلو من الحوادث. وأرسل الحزب الوطني الوفود إلى بلدان الشهداء لتعزية عائلاتهم، فأوفد إلى دمياط بعض الأفاضل برئاسة الأستاذ محمد أفندي حسين العرارجي المحامي، وإلى طنطا وفدًا برئاسة فضيلة الشيخ علي عبد العليم أحد علماء المعهد السكندري، وإلى دمنهور حضرتي السيد علي المغازي العضو بمجلس مديرية البحيرة، وأحمد أفندي الصوفاني، وإلى نوسا الغيط بمركز أجا وفدًا برئاسة حضرة الأستاذ الشيخ عبد السلام العسكري أحد علماء معهد الإسكندرية.
قطار الشهداء
وقف قطار الشهداء بدمنهور حيث أُنْزِلت جثة الشهيد محمد إبراهيم زويل، وأُنْزِلت جثة المرحومين إبراهيم أفندي العبد ورمضان أفندي هدايت في طنطا، وأُنْزِلت جثتا عبد الوهاب أفندي أحمد سبع ومحمود أفندي عبد الرحمن سليم بها ليحملها إلى المنصورة، وأُنْزِلت جثة المرحوم شفيق أفندي سعيد ببنها، وتابع القطار سيره إلى القاهرة حيث وصلها بعد منتصف ليلة الأربعاء ٢٨ أبريل، وأُنْزِلت الجثث منه استعدادًا لاحتفال القاهرة العظيم.
(٤) اليوم المشهود
لم تشهد العاصمة المصرية يومًا أشد روعةً وجلالًا من يوم الأربعاء ٢٩ أبريل سنة ١٩٢٠، فما كاد ينتصف النهار حتى أُغْلِقت المتاجر والحوانيت والبنوك ورُفِعت الأعلام منكسةً على الدور، وهُرع سكان العاصمة إلى باب الحديد لتشييع جنازة الأربعة الشهداء، وخرجت فرق الكشافة وتلاميذ المدارس وطلابها وأعضاء النقابات والجمعيات ميممةً مكان الاحتفال، وكانت لجنة الوفد المركزية قد أعدت رسمًا كروكيًّا متقنًا بينت فيه موضع انتظار كل جماعة في فناء المحطة لجلوس العظماء وكبار المشيعين، وقد صُفَّ مائتا مقعد ولم تكن كافيةً. وكان في داخل المحطة من الأمراء: صاحب السمو الأمير يوسف كمال والأمير إسماعيل داود، وصاحب الدولة الوزير حسين رشدي باشا، وأصحاب المعالي الوزراء عبد الخالق ثروت باشا وإسماعيل صدقي باشا وإبراهيم فتحي باشا وجعفر ولي باشا وأحمد حشمت باشا ويوسف سابا باشا، وأصحاب السعادة محمد شكري باشا وإسماعيل حسنين باشا، وعدد كبير من الضباط العظام، وسعادة الشيخ الوقور محمود سليمان باشا، والشيخ الجليل إبراهيم باشا سعيد، وأمين سامي باشا، ومرقص بك حنا، وواصف بك بطرس غالي، وعبد الخالق مدكور باشا، واللواء عبد الرحيم فهمي باشا، والأستاذ محجوب بك ثابت، وعبد الستار بك الباسل، ومصطفى بك النحاس، ومحمد بك محمود، وعلي بك لهيطة، وفخري بك عبد النور، وعبد الرحمن بك فهمي سكرتير لجنة الوفد المركزية والقائم بتنظيم الموكب، وعلي بك فهمي كامل وكيل الحزب الوطني، والدكتور إسماعيل بك صدقي، ومحمد بك زكي علي المحامي.
وكان من العلماء: حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وهيئة كبار العلماء، وصاحب السعادة السيد عبد الحميد البكري ومعه مشايخ الطرق، ووكيل البطريركية ومعه كبار القسس، وثلاثة من رجال الدين الإسرائيليين، وثلاثة من الإكليروس الأرمن، ومعهم وفد يحمل إكليلًا من الزهر، ورؤساء مدارس الفرير، ونائب معتمد فرنسا، ونائب معتمد إيطاليا، ومعتمد الحكومة الهاشمية. وكان صاحب المعالي محافظ العاصمة محمود فخري باشا، وزير المالية اليوم، وجناب رسل بك حكمدار البوليس يبذلان الجهد في سبيل راحة جمهور المشيعين.
وكان صاحب السعادة حسن باشا عبد الرازق محافظ الإسكندرية قد حضر لتشييع الجنازة في القاهرة، وكان يحيط به وفد مؤلف من حضرات أصحاب العزة عبد السلام بك رجب ومحمد بك سراج وفهمي بك الناضوري وسالم بك الفروني وبشير بك توتونجي ومصطفى بك جميل برتو ومحمد بك بدير ورمضان بك يونس وعمر أفندي المراكشي، وغيرهم من أعيان الإسكندرية وكبار تجارها.
نائب عظمة السلطان في العاصمة
وقد أناب حضرة صاحب العظمة مولانا السلطان فؤاد الأول عنه حضرة صاحب السعادة المفضال الفريق شحاتة كامل باشا كبير الياوران في القصر السلطاني للسير في تشييع الجنازة، فاهتم اهتمامًا عظيمًا في تنسيق النظام بما يُذْكَر لسعادته بالشكر والثناء، وقد نفذ رغبة صاحب العظمة السلطان في تأدية ما يلزم نحو أولئك الشهداء، كلأ الله عرش عظمته بعين العناية الصمدانية.
مندوب فخامة اللورد اللنبي
وقد أناب فخامة اللورد اللنبي الكابتن موريس ليكون مندوبًا من قِبله في احتفال تشييع الجنازة بالقاهرة.
وأوفد جناب الجنرال كونجريف قائد القوات البريطانية بالعاصمة ضابطين من كبار الضباط ليمثلاه، وكان بين الحاضرين من الموظفين البريطانيين جناب الجنرال كلايتون باشا مستشار وزارة الداخلية، والمستر باترسون مستشار وزارة المعارف العمومية، والجنرال هربرت باشا قومندان قسم المحروسة، والمستر أنتوني مدير عموم مصلحة الأملاك الأميرية، وجناب المستر جريج المدير العام للخارجية المصرية، والمستر براون المراقب العام بوزارة المعارف.
وما وافت الساعة الثانية بعد الظهر حتى خرجت العاصمة رجالًا ونساءً وشبانًا تستقبل جثث أربعة من أبنائها، وتحيي في هذه الأربع أرواح شهدائها.
أجل لقد كانت العاصمة ماثلةً في ذلك الموكب الرهيب المبكي الذي يقصر عنه الوصف ولا يبلغ مداه الطرف، وكان هذا الموكب من روعته وفخامته وجلالته فوق ما يتمثله الخيال. وقد تعذر السير ووقفت حركة المدينة من كل ناحية إلا في طريق مرور الموكب، ولم أرَ العاصمة أشد بكاءً وحزنًا من ذلك اليوم.
وكان طريق المشهد من باب الحديد إلى القلعة مزدحمًا بحيث لا تجد موضعًا للوقوف، وكانت شرفات المنازل ملأى بالعقائل اللواتي لم يستطعن مشاركة رجالهن وإخوانهن فوقفن في الشرفات مرتديات ملابس الحداد، وقد سالت دموعهن وتصاعدت زفراتهن، وكان إخواننا النزلاء قد نكسوا أعلامهم على طول الطريق مشاركةً لنا في مصيبتنا العامة.
وفي الساعة الرابعة تحرك الموكب من محطة العاصمة تتقدمه موسيقى الأحداث عازفةً ألحانًا محزنةً، وكان أفرادها يلبسون ثيابًا سماوية اللون، ففرق الكشافة السلطانية تتقدمها موسيقاها وعلمها منكس، فكشافة مدرسة السعادة، ففرقة الكشافة الإلهامية، فكشافة المدرسة الخيرية الإيرانية، فكشافة وادي النيل، فالكشافة الأهلية، فكشافة مدارس التوفيق، ففرقة كشافة المستقبل، فكشافة الجمالية، فكشافة الأرمن، فمتطوعو جمعية الإسعاف، وكانت كل فرقة تحمل علمها الخاص.
ويلي هؤلاء طلبة مدرسة البوليس، فطلبة المدرسة الحربية، ففريق من الجالية الإيطالية وهيئتها الرسمية والعلم الإيطالي، وقد قابل الجمهور المصري صنيعهم بالشكر والامتنان، وتلاهم طلبة المدرسة الخديوية، فالتوفيقية، فالسعدية، فالعباسية، فالإعدادية الثانوية والابتدائية، فمدرسة وادي النيل، فالرشاد، فالهياتم، فالأقباط الكبرى، فمدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، فالمدرسة الخيرية الإيرانية، فكلية مصطفى كامل، فمدرسة ثمرة التوفيق، فالكلية الأهلية، فالاتحاد الوطني، فالمدرسة السلطانية، فالمدرسة الأهلية المصرية، فمدرسة باب الحديد الثانوية، فمدرسة الفنون الجميلة، فورشة مصر الصناعية الأميرية، فورشة الصنائع الإلهامية، فالطلبة المصريون في المدرسة الفرنسوية الليلية، فطلبة مدرسة الأمريكان الثانوية، فمدرسة صدق الوفاء، فالمدرسة الناصرية فمدرسة العقادين، فمدرسة عابدين، فالمدرسة المحمدية الأميرية، فمدرسة الجيزة، فمدرسة الفنون والزخارف المصرية، فأعضاء نادي خريجي مدرسة المحاسبة والتجارة المتوسطة، فطلبة مدرسة المحاسبة والتجارة المتوسطة، فطلبة مدرسة مشتهر الزراعية، فطلبة الأزهر الشريف، فالمدرسة الإكليريكية القبطية، فمدرسة إليانس الإسرائيلية، فمدرسة المعلمين الأولية في القاهرة، فمدرسة المعلمين التابعة لمجلس مديرية الجيزة، فوفد من طلبة مدرسة بني سويف، فطلبة مدرسة دار العلوم، فمدرسة القضاء الشرعي، فمدرسة الفنون والصنائع السلطانية الأميرية، فطلبة مدرسة التجارة العليا وخريجوها، فطلبة مدرسة الهندسة، فالحقوق، فطلبة الحقوق في الجامعة المصرية، فطلبة مدرسة الحقوق الفرنسية، فمدرسة الزراعة العليا، فمدرسة المعلمين العليا، فمدرسة الطب السلطانية. وكانت كل مدرسة تحمل علمها منكسًا وصور الشهداء وباقات الزهر.
وتلا الطلبة أعضاء المحفل الوطني المصري الأكبر، وكان يتقدمهم حضرة صاحب العطوفة الأستاذ الأعظم إدريس راغب بك وأمامه حامل علم الماسون، فموظفو وزارة المعارف العمومية، فوفد من الجيزة تصحبه الموسيقى تعزف بنغماتها المحزنة، فموظفو التلغراف المصري، فأعضاء نادي النسر الذهبي، فنادي المتحف الفني، فنادي موظفي البريد، فموظفو وزارة الحربية، فنادي المعارف، فوفود من الجمعيات اللبنانية يحملون علم لبنان الجديد وهو أبيض في وسطه شجرة خضراء تمثل أَرْز لبنان، فجمعية اتحاد الشبان المسيحيين، ويليهم أعضاء نادي النجم الأبيض، فتلميذات جمعية المرأة الجديدة، فالآباء القساوسة، فموسيقى ملجأ الأيتام التابع لوزارة الأوقاف، فطلبة الطب البيطري. ويلي هذه الجموع كلها نعشا المرحومين أحمد طلعت ورزق يعقوب، فنعشا المرحومين فريد رزق الله وحسين ﭼلبي ملفوفين في الراية المصرية، وأمامهما أكاليل لطيفة بيضاء محمولة على أيدي كثيرين من الرجال، فالمشيعون من العظماء والكبراء والأعيان والتجار يتقدمهم حضرة صاحب السعادة الفريق شحاتة كامل باشا كبير الياوران في القصر السلطاني موفدًا من قِبل عظمة السلطان، فمندوب من فخامة نائب الملك، فمندوب من قائد القوات البريطانية في القطر المصري، وآخر من سمو الأمير عبد الله أحد أنجال ملك الحجاز، فحضرة صاحب السعادة محمد شكري باشا نائبًا عن وزارة الحقانية، فحضرة صاحب السعادة إسماعيل حسنين باشا نائبًا عن وزارة المعارف العمومية، فحضرات أصحاب الدولة والمعالي والسعادة حسين رشدي باشا وجعفر ولي باشا وإسماعيل صدقي باشا وعبد الخالق ثروت باشا وأحمد حشمت باشا ويوسف سابا باشا، والجنرال السير جيلبرت كلايتون، والمستر رجنالد بترسون مستشار وزارة المعارف العمومية، ومحمود فخري باشا، فالشيخ الجليل محمود سليمان باشا رئيس لجنة الوفد المركزية محوطًا بأعضاء لجنته الأماثل، فآخرون ممن لا تحضرنا أسماؤهم.
ويلي هذا الجمع العظيم كله موظفو وزارة المالية، فموظفو مصلحة الأملاك، فموظفو نزع الملكية، فموظفو المطبعة الأميرية، فأعضاء نقابة الحلاقين، فموظفو مصلحة الورش الأميرية، فأعضاء نقابة عمال الصنائع اليدوية، فموظفو مصلحة السكك الحديدية، فموظفو وزارة الزراعة، فموظفو مصلحة الصحة، فتجار الصاغة والجوهرية، فأعضاء جمعية تضامن العمال، فأعضاء نقابة عمال النسيج وملحقاته، فأعضاء سائر النقابات الأخرى، ومن جملتهم أعضاء نقابة الترام في القاهرة ومصر الجديدة، فأَرْتَال من السيارات والمركبات مجللةً بالرايات المطوَّقة بشارات الحداد تقل كرائم العقائل والأوانس الوطنيات، فثُلَّة من فرسان البوليس جُعِلت ساقةً للموكب لتمنع إطباق العامة عليه.
وقد سار الموكب على هذا النظام المؤثر وكان يموج بالمشيعين موجًا حتى تكاد تحسب الجماهير بحرًا زخارًا وتوابيت الشهداء سفنًا عائمةً فوقه، وكان الموكب يتحرك كأنه كتلة واحدة لشدة التزاحم، وكنت لا تسمع غير أصوات النائحات من كل ناحية، وقد أُغْمي على بعض السيدات من التأثر.
واخترق الموكب عند سيره من محطة القاهرة ميدان باب الحديد، فشارع نوبار، فشارع كامل، فميدان الأوبرا، فشارع محمد علي، فجامع قيسون حيث أُقِيمت الصلاة على المرحومين أحمد طلعت وحسين چلبي. ثم انقسم الموكب إلى أربعة أقسام، الأول سار بالمرحوم رزق يعقوب مخترقًا الحلمية الجديدة، فدرب الجماميز، فالسيدة زينب، فمصر القديمة إلى دير مار مينا بفم الخليج، وكان يرافقه الأستاذ محجوب بك ثابت موفدًا من لجنة الاحتفال.
والثاني سار بالمرحوم فريد رزق الله إلى دير أنبا رويس بالمحمدي مخترقًا شارع الخيامية، فالسكرية، فالغورية، فأمير الجيوش، فالحسنية، فشارع النزهة، فشارع عباس، وكان يرافقه معالي جعفر باشا ولي وعلي بك إسماعيل موفدَين من اللجنة.
والثالث سار بالمرحوم أحمد طلعت مخترقًا شارع محمد علي، فميدان القلعة، فشارع الإمام، وكان يرافقه علي بك لهيطة ومصطفى بك النحاس.
والرابع ذهب إلى قرافة المجاورين، وكان يرافقه سعادة محمد عبد الخالق مدكور باشا.
وقد لُوحظ أثناء مرور الجنازة في ميدان الأوبرا أنها استغرقت نحو ثلاث ساعات تعطل في أثنائها سير قطر الترام في القاهرة والضواحي.
وورد على إدارات الصحف ألوف من الرسائل التلغرافية والبريدية والمراثي، وقد كانت تألفت لجنة لإقامة حفلة تأبين بدار الأوبرا برعاية حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون باشا، مؤلفةً من حضرات أصحاب السعادة والعزة محمود سليمان باشا وإبراهيم سعيد باشا وعبد الخالق مدكور باشا وأمين سامي باشا وعبد الرحمن فهمي بك وواصف غالي بك وعبد الستار الباسل بك والدكتور حافظ عفيفي بك وأمين الرافعي بك وداود أفندي بركات.
ولما دنا موعد الاحتفال أُوقِفت لأمر لا نعلمه، بيد أن الأمة أقامت حفلات التأبين في سائر مدن القطر وفي مدارس القاهرة العالية والثانوية وفي المجتمعات العامة، وسيرد تفصيل ذلك في موضعه.
(٥) عدد مشيعي الجنازة
قدر بعض الذين شهدوا جنازة الشهداء معنا أن عدد المشيعين يبلغ أربعمائة ألف نسمة، وقد كانوا لا يقلون عن ذلك.
ففي ذمة الله أيها الشهداء! لقد كان مصابنا فيكم عظيمًا وخطبنا جسيمًا، ولكن الأمة التي اعتادت أن تتحمل الكوارث بصبر وثبات ستتحمل هذه أيضًا وإن ضاق بها ذَرْع الصبر وغالبها الدمع والجزع. ففي ذمة الله أيها الشهداء الأعزاء.
(٦) احتفال مدينة قنا بتأبين الشهداء
في مساء السبت ٨ مايو ١٩٢٠ الساعة ٨ مساءً اجتمع مئات من أعيان قنا وأدبائها وموظفيها في المسجد «العتيق» بناءً على دعوة من جمعية «الشبيبة الوطنية» بقنا، وكان المسجد مجللًا بالزهور والرياحين، والأعلام على شرفاته منكسة، وكانت منصة الخطابة محاطةً بالزهور وشارات الحداد، وكان علم الاتحاد الذي يجمع بين الهلال والصليب يرفرف عليها ويملأ قلوب المجتمعين من العنصرين أملًا وحياةً في المستقبل رغم هذا الموقف الرهيب، وكان بجوار منصة الخطابة صورة جامعة للشهداء عليها إطار من الزهر والريحان.
وافْتُتِحت الحفلة عند الساعة الثامنة ونصف بتلاوة آيات الذكر الحكيم وكان الخشوع باديًا والأسف مخيمًا والحزن عامًّا والسكوت عميقًا.
وما كاد المقرئ يختم تلاوته حتى وقف الأديب محمد أفندي محمود سكرتير مجلس مديرية قنا، وكان قد انْتُخِب رئيسًا للحفلة، فارتجل كلمة الافتتاح. ثم دعا الأستاذ الشيخ علي إسماعيل الإدفاوي فألقى كلمة ألمَّ فيها بذكر مجد مصر القديم والآمال التي تحوم حول الشهداء ورفقائهم المحروسين بعناية الله في إحياء معالمه التي دَرَسَت وآثاره التي عفَّت، وألقى كلمةً مؤثرةً في تأبين الشهداء. ثم دعا بعده الأستاذ الشاعر الشيخ علي إبراهيم عيد الجيزاوي من خريجي الأزهر الشريف وكبار التجار بالوجه القبلي، فألقى هذه القصيدة التي أسالت الدموع وحركت الشجون، وقد ضمن الشطر الأخير منها تاريخًا محكمًا لوفاة الشهداء وجعله مطلع القصيدة وختامها فجاءت محبوكة الطرفين، وهي:
ومنها:
ومنها:
[طويتم = ٤٦٥، محبين = ١١٢، للمكرماتِ = ٧٦١]
ثم نهض بعده الأستاذ الشاعر الشيخ مصطفى محمد المملوك المدرس بمدرسة ولي العهد بقنا ومن خريجي مدرسة دار العلوم فوقف وألقى قصيدةً غراء، مطلعها:
ومنها:
ثم تلاه الأديب مصطفى أفندي عبد الرحمن الطالب بمدرسة الهندسة السلطانية، فألقى كلمةً استرعت الأسماع وصعَّدت الزفرات، ووقف بعده الشيخ محمد المحرزي المدرس بمدرسة الأمريكان فارتجل كلمةً أبان فيها مآثر أولئك الشهداء وشجاعتهم الأدبية وإقدامهم النادر وهم في سن الشباب.
ومن ثم وقف حضرة رئيس الحفلة فشكر الخطباء والحاضرين على اشتراكهم في تأبين الشهداء واستمطر لهم الرحمة من سماء الرضوان، وخُتِمت الحفلة بتلاوة آي الذكر الحكيم، وكانت الجمعية المحتفلة قد أعدت الصدقات فوزعتها للفقراء صدقةً على أرواح الشهداء، وانفض المحتفلون بسلام.
وكان الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الحليم متولي الطالب بالقسم العالي بالأزهر الشريف قد أعد قصيدةً غراء لتُلْقى في الحفلة، مطلعها:
(٧) احتفال كوم حمادة بتأبين الشهداء
في اليوم الأول من حمل شهداء العلم إلى أرض الوطن أقام أعيان مركز كوم حمادة سرادقًا فخمًا، صُفَّت فيه المقاعد ووُضِع فيه منبر للخطابة وذلك احتفالًا بتأبين شهداء العلم والوطن الذين كانت مصيبتهم من المصائب العامة التي يشترك فيها الناس على اختلاف مراتبهم وتباين مشاربهم.
وما وافت الساعة المحددة للحفلة حتى أمَّ السرادق نحو الثلاثة آلاف نسمة يتقدمهم العمد والأعيان ومعلمو المدارس لتخليد ذكرى أولئك الشبان المجاهدين الذين كانوا يؤمنون بعظمة بلادهم الخالدة ويعملون لمجدها ورفعتها وتشييد صرح مستقبلها على دعامة قوية من العلم والعرفان لا تزعزعها الحوادث ولا تهدها عواصف الأيام.
أيها السادة
ما اجتمعنا في هذا اليوم إلا لنحتفل بذكرى شبان مخلصين ضحوا بشبابهم الغالي في سبيل العلم وخدمة الوطن.
نحتفل بأنجم كانت تتلألأ في سماء العلم فأَفَلَت، وزهور أَذْبلَها القضاء في رياض مصر.
نحتفل بذكرى شباب فارق هذه الحياة الدنيا ولو استمهله القدر لكان عدةً لهذه البلاد المنكودة الحظ، وما كان أحوج الأمة لذلك الذكاء في ساعاتها الرهيبة وأوقاتها العصيبة وهي تطالب بحقها في الحياة ونصيبها من الحرية والاستقلال التام!
نحتفل بمثال الشباب الناهض، والذكاء المشتعل، والهمة الوثابة، والحياة النامية.
نحتفل اليوم بذكرى غصون شباب عصفت بها يد الدهر فتقصَّفت. نحتفل بذكرى من فارقونا لورود مناهل العلم العذبة، واقتطاف ثمراته الجنية من رياضه الحافلة، ليعودوا حاملين لبلادهم الشرف والرفعة وليبعثوا مجدها الوطني الذي أورثهم إياه السلف الصالح والأجداد الأمجاد، فقطع القضاء عليهم الطريق وأوردهم موارد الحتوف وأرغم الأنوف، واأسفاه!
نحتفل اليوم بإحياء ذكرى الشهداء بعد أن احتفلت بهم الأمة الطليانية في بلادها وفاءً منها لمصر وعطفًا على أبناء مصر، فما أكرم تلك الأمة وأوفى ذلك الشعب!
ولقد كان للوفد المصري، مثال الجهاد الوطني الصحيح، اليد الطولى في حمل رفاتهم إلى مصر على نفقته والعناية بهم تخفيفًا لمصاب الأمة فيهم، وتعزيةً لقلوب آبائهم المرزوءة، وما قام الوفد إلا بالواجب الوطني المقدس.
نحتفل بإحياء ذكرهم وهم الشهداء الذين سيدخلون الجنة بغير حساب لأنهم هاجروا في سبيل العلم والوطن، وأراد بارئ النسمات أن يسكنهم جواره فأخذهم إليه، ونعم الجوار جوار الله! «وإنا لله وإنا إليه راجعون»!
ألا رحم الله هذا الشباب الغض، هذه النفوس العالية التي تركت الأهل والأصدقاء وهي في مقتبل العمر للسعي وراء رفعة الوطن.
ثم أنشد قصيدته العصماء، منها:
وقد تلاه حضرة الأستاذ الأديب والشاعر المجيد الشيخ محمد علي خطاب، وألقى هذه الأبيات:
(٨) حفلة التأبين الكبرى لشهداء العلم والوطن بدار المرحوم الأستاذ إسماعيل بك عاصم
رأت السيدة فاطمة هانم حرم الأستاذ المرحوم إسماعيل بك عاصم أن المصاب في شهداء العلم مصاب الأمة بأجمعها، فوزعت رقاع الدعوى على شريفات العقائل وكريمات الأسر وأعدت لهن بهو دارها، فصفَّت فيها المقاعد وأقامت منصةً للخطابة أُقِيم بجانبها العلم المصري المحبوب منكسًا وموسومًا بشارة الحداد، وكان في صدر البهو صورة الشهداء الاثني عشر في إطار واحد مكللًا بالزهور.
ووقفت اثنتا عشرة تلميذةً من تلميذات مدرسة البنات في ناحية من المكان بملابسهن البيضاء وأَوشِحتهن السوداء، فكن كالحمائم المطوَّقة وكن يزدن الحفلة جلالًا والمكان رهبةً وخشوعًا.
إليكم أقدم رثائي يا أنجمًا هوت من سماء العلم، وإلى أرواحكم الطاهرة أوجه مقالي يا حبات القلوب، إليكم أبث حزني يا عِقدًا من الجوهر انتثرت حباته ثم فُقِدت بين طيات الوجود، وكانت أمكم مصر توشك أن تتحلى به. وعليكم أسكب الدمع الغزير يا باقة من الزهر جُمِعت من مصر، وكنا نود أن نستنشق شذاها العطر ولكن حال الدهر بين ما نريد، فهناك في بلاد الغربة مع جميل رونقها هُصِرت كما يهصر الحديد، هناك في بلاد الغربة تدرجوا بالدماء، هناك بعيدًا عن أمهم مصر ماتوا غرباء شهداء، فإليك يا مصر نقدم العزاء. ومعكن يا نساء الشرق يحق البكاء، ابكين هذه الوجوه النضرة، انتحبن على هذا الشباب الغض، ذهبوا متضافرين وكلنا آمال برجوعهم سالمين فائزين، وكلهم آمال بانضمامهم إلى رجال العلم العاملين، فإذا بنا وبهم وقد خيب الدهر آمالنا وآمالهم، فتبًّا لك يا دهر! هلَّا رحمت شبابهم! هلَّا أشفقت على آبائهم! وهلَّا ترأفَّت بقلوب أمهاتهم! لا هذا ولا ذاك، فتبًّا لك من غادر خئون! القلوب تتوجع والعيون تدمع وإنا لفقدهم لمحزونون، أقمار هوت وآمال اضمحلت وعلوم قُبِرت وشباب هُصِر وأنوار أُطْفِئت ولم يبقَ منها غير هذه الرسوم التي لا تجيب، اضمحلت منهم الآمال فيا له من يأس قتَّال!
إني أرى صورهم أمامي فهل يسمعون كلامي؟! نعم، نعم، فأرواحهم بيننا ممتزجة بأرواحنا، فمهلًا، مهلًا يا روحي يا أليفة الأحزان على من فقدت، لا تسترسلي في أحزانك وأفيقي.
اللهم إني أتوسل إليك أن تلقي عليَّ الصبر لأتحمل بلاء الموت! الموت، الموت، ويالهول الموت! ما أصعبه! كم مزَّق من قلوب وأدمى من مقل!
سيداتي، أراني قد استرسلت في أحزاني لدرجة أني شاعرة كأني الحزن المجسم بينكن الآن، هذا مع علمي وعلم حضراتكن أن الحزن لا طائل تحته، بل الواجب علينا أن لا نسترسل في أحزاننا مخافة أن تهبط عزائم شبابنا، ولنجعل نصب أعيننا قول الشاعر:
وإني يا حضرات السيدات، مع احترامي لشعوركن السامي وتقديركن الأعمال الجليلة حق قدرها يسرني أن المرأة الشرقية قد قاربت أن تستعيد سابق مجدها ورفعتها، إذ كانت في ذاك العهد لها القدح المعلَّى والكلمة النافذة والفكرة الراجحة بين مصاف الرجال، فبتعاضدنا هذا مع مساعدة رجالنا العاملين أريد أن أقترح اقتراحًا هو عندي أجل وأسمى من كل ما عُمِل لأبنائنا الشهداء، وهو أنني أريد أن تقوم هيئة موقرة من رجال وسيدات لجمع مبلغ من المال يكفي لإرسال اثني عشر طالبًا يتلقون العلم حتى النهاية ليكونوا شموسًا لنا في المستقبل عوضًا عن أقمارنا التي غربت، ونكون في نظر جميع الأمم الغربية قد قمنا بأحسن تذكار لتخليد ذكرى شهدائنا.
هذا وإني أستميحكم العذر يا أيتها الأرواح الطاهرة الزكية إذا أنا قصرت في رثائكم الآن، فهناك في دار البقاء في جنة الخلد في فردوس النعيم سيقوم لكم رب هذا البيت بما هو أجل وأعظم كعادته في تكريم النابغين، فكم له من أيادٍ بيضاء! ولكنه راح ورحتم فسبحان من له البقاء!
سيداتي
لقد اندمل فؤاد العلم، وتصدعت جوانب مصر، وتزعزعت أركان الأهرام، وأُزعجت رفات الفراعنة من أهوال زلزال الصاعقة، ثم انفجرت براكين الأحزان فتطايرت قذائفها على آل وادي النيل، وأصابت نفوسهم حتى عم الخطب وساد الأسى. ابكِ يا مصر، واسكبي عبراتك على فتية قضت من أجل رفعتك وهنائك. قيل إنك لا تزالين في مهد حضارتك، ولم تأخذي من العلم القسط الذي يؤهلك لأن تقفي في صف الأمم الراقية، فعز ذلك على أبنائك فغادروك ليعودوا إليك رجالًا عاملين يصدون عنك تلك الغربة ويخرجون بك من ركن انزوائك، ذهبوا وكل آمالهم أن سوف يعودون إليك فيرونك مفككةً من أصفاد الرق وأغلال الاستعباد، ذهبوا وهم يتزودون منك بالهتاف لاسمك وحياتك وحريتك، ذهبوا بصدور تهيم بحب العلم وقلوب تضيئها شعلة الذكاء المصري الوهَّاجة، ولكن عاجلهم القضاء فقضى على تلك الآمال وأطفأ تلك الشعلة حتى أظلمت في وجهك! فما أعظم بلواك يا مصر!
كان من بين أولئك أيتها السيدات من قضت السلطة بحرمانهم من التعلم في معاهدهم دون جرم لهم في ذلك سوى أنها رأت منهم هيامًا بحب ذلك الوطن وتفانيًا في حب العلم الذي يستعيدون به مجد آبائهم المؤثَّل، ولكن تُرى ماذا كانت نتيجة الحرمان؟ لم يَثْنِ ذلك من عزمهم شيئًا، بل زادهم تعلقًا بأذيال العلا فغادروا بلادهم إلى غيرها، ولكن أبى القدر إلا أن يفجع مصر فيهم وهم من أعز أبنائها، ففي ذمة الله ذلك الشباب الغض، وألف سلام على تلك الأرواح العالية، وأنت يا مصر فخففي عنك قليلًا لأنك وإن كنت ثكلتيهم فقد عُدُّوا من صفوة أبنائك، فهم لم يستشهدوا حتى سجلوا لك ولهم مفخرة عظمى وأنزلوا علينا آية نتعلم منها الشهامة والعزم والإقدام ورخص النفوس أمام خدمتك.
وأنتم يا آل العلم، فاستمطروا الرحمات على أولئك الشهداء. وأنت يا ماء النيل، فانزل بردًا وسلامًا على ثراهم. وأنت يا خير الراحمين، أغدق عليهم رحماتك ورضوانك، وهب مصر الثكلى عزاءً وصبرًا واجعل لها خير العوض في أبنائها العاملين!
سيداتي
المصاب عميم، والخطب جلل، مصاب تتصدع له المسامع، وترتج منه الأضالع، مصاب أذاب الدموع الجامدة، وألهب الهموم الخامدة، مصاب زلزل الأرض وأقرح الأكباد.
إيه يا مصر! ما للقضاء في أمرك يتحكم، ومن شبابه يتهكم؟! لا يخشى الدهر زفراتنا الحارة وأنيننا المحزن فيكف عن التمثيل بنا: هذا صريع ظلم وعدوان، وذلك صريع وطنية وأمان، أو ضحية أمنية وآمال.
أي مصر، لقد أصبحت بعد الترف والمدنية والرفعة مسرحًا للنوازل والكارثات، آجال المصلحين فيك قصيرة، وأرواح العاملين لحياتك مخطوفة، ولم يبق لنا بعد هؤلاء إلا ذكراهم والتأسي لفقدانهم، وتلك والله أكبر بلية أودت براحة أمة تعمل لغاية هي من أجلِّ الغايات وأخطرها، فصبرًا صبرًا على هذا الرُّزْء!
سيداتي
ما هذا الاجتماع اليوم إلا مأساة تندب فيها نساء النيل شبابًا قضى في سبيل العلم، قضى في سبيل أشرف غاية وأجمل مقصد، قضى في سبيل نصرة الأوطان بعيدًا عن الأهل والديار. ففي ذمة الله أرواح فارقت ربها إلى النعيم وخلَّفت بعدها في النفوس آلامًا تستقر نارها ولا تنطفئ أبدًا وفي القلوب جروحًا لا تندمل، خلَّفت نفوسًا كانت قد علَّقت آمالها على هذا الشباب الناضر في نصرة الأوطان وعز البلاد:
في ذمة الله أرواح خلصت من هذه الحياة وهي في ميدان الجهاد، فأقبلت على العالم الباقي تقيةً طاهرةً تسمع وهي مقبلة أصوات المنادين:
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي.
أيتها السيدات
لقد فُجِعنا فاجعةً كبرى بموت هؤلاء الشبان الذين اغتربوا عن وطنهم في سبيل العلم لكي يعيدوا بعد ذلك مجده القديم وعزه التالد، ولكن الموت لم يمهلهم بل كان لهم بالمرصاد فاختطفهم من بين تلك الحياة التي تمنتها لهم بلادهم وماتوا موتةً سجلت لهم ذكرًا عاليًا وفخرًا باقيًا.
فيا عيون أمطري دمًا، ويا قلوب تفطَّري حزنًا وأسًى على هؤلاء الشهداء الذين لم تمهلهم أيدي القضاء بل أنشبت فيهم أظفارها قبل أن يبلغوا مأربًا أو ينالوا مطلبًا.
فذهبوا وفي القلوب من أجلهم حسرات مترددة وزفرات متصعِّدة، وفي مثل هذا الخطب قد عظُم الأمر.
أيتها السيدات الفضليات
ما كاد وادي النيل الخَصْب يُنبت زهرات غضة كانت حليةً لجيده حتى جنت يد المقادير جمال تلك الأزاهير، وأصبح ما كان من قبل بهجة وادي النيل مبعث الحزن ومصدر الأسى، كانت تلك الزهرات تتطلب ماءً من العلم ومنهلًا من العرفان، فوجدت في ذلك الماء ظمأها، وفي المنهل العذب موتها الزؤام. ماتت وهي تسعى وراء حياتها وحياة بلادها، وكيف لا يكون ذلك كذلك والحياة ليست إلا ما يجنيه الإنسان من العلم وما يعلمه في سبيل الإصلاح والخير وفائدة سائر البشر؟
كانت مصر تهُمُّ بأن تكفكف دمعها الذي سال من أجل المصائب التي دهمتها قديمًا ولكن سرورها لم يتم، إذ إن الفجر الجديد [الذي] بدأ ينتشر منه نور الأمل انطفأ فجأةً وجلَّله الظلام الدامس. مات الذين كانوا ضحكةً في فم مصر الحزينة وأملًا مشرقًا في ظلام اليأس، مات شبانها النجباء وقبلهم مات كامل في ريعان شبابه وفريد بعيدًا عن أوطانه وغيرهما، لقد قِيل إن قلب مصر لم ينبض إلا من جراء حادثتين: موت مصطفى كامل وكارثة دنشواي، أما اليوم فقد نبض قلب مصر للمرة الثالثة، إذ دهمها الموت في أعز شيء لديها، دهمها في خيرة أولادها وخلاصة نجبائها. تجتاز مصر التعسة اليوم عقبةً سياسيةً كئودًا، وهي في حاجة إلى جميع أولادها وكل قواتها لتحمل في سبيل نيل آمالها المنشودة، ولكن القدر لم يشأ أن يتركها تدأب وتجاهد وإنما جعل يخطف منها عاملًا بعد عامل ويطفئ أملًا بعد أمل كأنه يريد أن يصرفها عن عزمها، ولكن هيهات ذلك! فإن كل جثة تذهب في سبيل إعلاء شأن مصر لا تزيد المصريين إلا تمسكًا بمطالبهم واعترافًا في سبيل نيل مأربها. إن كل جثة من جثث أولئك الشهداء ستظل تذكارًا لكل مصري، تذكار المجاهدة في سبيل سعادة مصر والمصريين، وهيهات أن يغفل مصري عن واجبه ما دام يجد من أولئك الشهداء مذكرًا ومنبهًا. إن المصري لا يحقر شهداءه أو يضيع ما بناه أولئك المجاهدون بدمائهم الزكية الطاهرة. وإنني أطلب من الله أن يلهم مصر والمصريين جميل الصبر عن هذا المصاب الجلل.
أيتها السيدات المحترمات
علوت منصة الخطابة قبل الآن ولكن شعورًا استفزني وعاطفةً حدت بي أن أقوم بينكن خطيبةً لأعبر عما امتلأ به فؤادي من الأسى والحزن على شهداء العلم. سيداتي العزيزات: كنت أتمنى أن يهبني سبحانه وتعالى ملَكة الشعر ويلهمني قريحةً وقَّادةً في النثر حتى أوفي هذا المقام حقه من رثاء هؤلاء الأبطال الذين ذهبوا ضحية العلم واسْتُشهدوا في سبيل المدنية والارتقاء.
نعم، إني أتكلم الآن بقلب منفطر يكاد يتمزق، وفؤاد كليم يكاد يلتهب حزنًا وولهًا على هؤلاء البواسل الذين قضوا نحبهم في سبيل العلم المجيد. نعم؛ كنت أود أن أسطر بدمي بدل دمعي مرثيةً لهؤلاء الشجعان الذين قصفت يد المنون غصن شبابهم الرطب قبل أن يرتشفوا من منهل العلم الراقي الذي فدوه بأنفسهم فطوبى لهم! نعم، همدت أجسامهم ولكن أرواحهم لا تزال ترفرف فوق رءوسنا وتسري مبادئهم مندمجةً في دمائنا، فوالله إن أثرهم لخالد وذكرهم باقٍ.
سيداتي، إني لعاجزة عن أن أوفي هؤلاء الأبطال ما لهم من الحق في الرثاء، فإني ما قمت إلا لأظهر ما اشتدت به عواطفي نحو شهداء الغربة والعلم، فما يقع من التقصير في إيفائهم حقهم من التمجيد والتكريم فمعذرةً، حيث إني لست أوسع علمًا منكن وأكثر درايةً في هذا المجال. وها إني أكرر عبارات الأسى والحزن على أبنائنا، ولتحيَ ذكراهم منطبعةً على قلوبنا إلى الأبد.
أيتها السيدات، إن فاجعتنا بموت هؤلاء الشهداء عظيمة جدًّا لا يحتملها قلب مصري شرب من ماء النيل أو تغذى من ثمار مصر، فقد بكت السماء بدموعها الحارة وشَجَت الطيور بنغماتها المحزنة، فأهاجت ما في القلب من الأسى وحركت ما في المهجة من الشجن.
أيها السيدات، جرت العادة بأن الدهر إذا داهم قومًا داهمهم بخطب واحد يمكن احتماله، أما مصر فكان حظها من الدهر أن داهمها بخطوب متعددة وأرزاء مختلفة، ففي كل يوم فاجعة جديدة ورُزْء أعظم مما قبل: رمانا الدهر أولًا بموت المرحوم محمد بك فريد فحزنَّا عليه كثيرًا، ولكن ما وضعناه من الأمل في غيره من الأبطال العاملين خفف عن القلب كثيرًا، ورمانا ثانيًا بموت المرحوم إسماعيل بك عاصم هذا الرجل الوطني الغيور، فأَقْتَم الجو في أعيننا وزادت همومنا وعظمت نكبتنا. هذا كله ولم يغفل عنا لحظة واحدة يدعنا نفرج فيها همنا وكربنا، فقد رمانا بموت هؤلاء الشهداء الذين هاجروا من بلادهم ليستقوا العلم من مناهله ويعيدوا للوطن ما كان له من المجد القديم وكأنما الموت كان لهم بالمرصاد، فغفر الله لهم وأسكنهم الجنة وألهم أهلهم الصبر والعزاء، إنه سميع قريب.