في منشأ مندان بنت الملك أستياج ملك مادي
كانت دولة «الماديين» ابتداؤها من سنة ٧٥١ قبل الميلاد، وكانت من الدول العظيمة، حكمت زمنًا مديدًا.
وكان مقر مُلكها في بلاد «مادي» المقرونة بآذربيجان والعراق العجمي، وكانت عاصمة بلاد «مادي» مدينة «همزان» وهي مدينة بهجة المناظر حصينة الأسوار، بناها الملك «ديجوسيس» وقيل: «ديوكيس» وجعل لها سبعة أسوار، هيئة كل سور منها لا يعلو عن الثاني إلا بمقدار شراريفه. وكانت تختلف هذه الشراريف بالألوان؛ فجعل الأول أبيض، والثاني أسود، والثالث أزرق، والرابع أحمر، والخامس أرجواني، والسادس فضي، والسابع ذهبي … هكذا رووه المؤرخون. وفي زمن «هيرودتس» كانت تُسمَّى «أغبطانة».
ومن داخل السُّور السَّابع قصر الملك؛ فكان يحتوي على جميع الزينة وبهارج الدنيا التي يعجز عن وصفها الواصفون، وفي داخله محل حصين لحفظ خزائن الملك وكنوزه. وأمَّا الشعب فإنه كان يسكن بين الأسوار.
وكان في بدء روايتنا هذه أحد ملوك «مادي» وهو الملك «أستياج» وكان شديد الحرص على مُلكه، قويَّ البطش، يعبد النار دون الملك الجبار. وكان قد تزوج بابنة ملك «ليديا» فرُزق منها ابنة في غاية من الحسن والجمال، فسمَّاها «مندان» وربَّاها ورتَّب لها الأساتذة والمعلمين على اختلاف أنواع العلوم، فبرعت في كل فنٍّ، وأتقنت كل ما مرَّت عليه من العلوم حتى صارت تُعد من فلاسفة عصرها ونادرة زمانها.
ولما كانت في ذات ليلة جالسةً في قصرها فاكرةً في أمر الخليقة، وقد اتَّسَع فكرُها مما استحصلت عليه من المعارف، وقالت في ذاتها: كيف يتسنَّى للنارِ أن تقدر على إبداع هذه المخلوقات، مع ضعفها، إذ إنها لا تتقد إلا بيد بشرية، والقليل من الماء يطفئها؟! فأشغل هذا الفكر الجزء الأعظم من عقلها، وجعلت جل بحثها في هذه الغاية، وكان من جُملة أساتذتها رجلٌ جليل القدر، عالي الهمة، خبيرٌ بدقائق الأمور، يُقال له الكاهن «أرباسيس» وكان كلَّما حضر بين يديها يرى على وجهها علائمَ الحيرة والارتباك، فيفَكِّرُ في ذلك لعلَّه يجد إلى معرفة الحقيقة من سبيلٍ. وبحث في داخليتها، وفتَّش في أسرارها؛ لئلا تكون انشغلت بسبب طارقٍ غراميٍّ أشغل فؤادها بحبِّ أحدٍ يليق بمقامها، فلم يجد لذلك من أثر.
فاحتار في سبب انشغالها، وصبر يتربَّص الفرص إلى أن كان ذات يوم طلبت الأميرة «مندان» من والدها أن يأذن لها بالتجوُّل في أنحاء المملكة؛ لأجل أن تُزيل بعض ما عندها من الانقباض الذي لم تعلم له سببًا، فأذن لها الملك بذلك، وكان يحبُّها محبةً بليغةً؛ لفرط جمالها وكمالها ووافر معارفها وآدابها، ولكونها وحيدته ووريثته في الملك، وكان يعتمد على آرائها في الأُمور المهمَّة … ولما استحصلت على رضا والدها استحضرت الكاهن «أرباسيس» وأخبرته بعزمها، وكانت تعتمد عليه وتُذعن لقوله، وتُقدمه على جميع أساتذتها، فلمَّا سمع منها ذلك فرح وأيقن ببلوغ المراد، وقال في نفسه: لعلِّي أطَّلِعُ على ما في سريرتها، أو أجدُ منها فُرصةً على انفراد، فأستطلع ما في نفسها.
فقال لها نِعْمَ ما رأيت أيتها الملكة؛ لأن في السياحة فوائد عظيمة منها: رياضة للنفس، وزيادة في اتساع المعار. والاطلاع على عوائد الأمم وعقائدها وأديانها يكسب الإنسان حياةً جديدةً.
وعند سماع هذه الجملة ظهر الانشراح على مُحيَّاها، وبرقت أسرة جبينها الزَّاهر، وقالت: هل في مملكة أبي من يتديَّن بدينٍ غير ديننا؟
قال: لا بد أن يُوجد ذلك، ولو سرًّا؛ لأن الملك لو علم بهذا الأمر لأهلك من يخرج عن عبادة النار؛ لأنه شديد التعصب لدينه.
فتنهدت «مندان» وشكرتْه على ما بَيَّن لها من هذا القبيل، وطلبتْ إليه أن يصحبها في سفرها هذا، فلبَّى طلبها وكان يعزُّها كابنة له، ويُحافظ على عدم تغيُّر إحساساتها، ويحب أن ينفِّذَ أوامرها، ولو مهما كان الأمر خطرًا. ولكنَّه تعجَّب منها حينما رأى على وجهها علائم البِشْر وقت ما سمعت منه ما يختص بالأديان، وكان هو أيضًا ممن يعبدون الباري تعالى ويمجِّدونه، ولكنه لا يُطلع على ما في ضميره أحدًا؛ لأنه يخاف من سطوة الملك، فاستبشر بهذا الأمر، وكتم ما عنده لبينما يتبين الحقيقة.
وبعد ثلاثة أيام هبَّت الأميرة للسفر، وودَّعت والدها ووالدتها ومَن في القصر، وركبت هودجها، وسارت تحفُّها الحُرَّاس من كل مكان، ولم تأخذ من الخدم الداخلي سوى جاريتين من خواصِّها فقط، وعلى يمين الهودج الكاهن «أرباسيس»، وساروا يقطعون البراري والقفار مُدَّة ثلاثة أيام، وهم يسيرون بين رياضٍ وغياضٍ. وفي اليوم الرَّابع وصلوا إلى مكانٍ يُقال له المرج الأخضر، وكان في ذلك المكان المعبدُ الأكبر الموجود في بلاد «مادي» وكان على غاية من الإتقان وحسن البناء وغرابة الموقع، وهو مُقامٌ في سهلٍ واسع الأرجاء بهج المناظر ذو غدران دافقة وأطيار ناطقة وأشجار ناضرة وأنوار ظاهرة.
وفي داخل المعبد ٨٠٠ غرفة لنزول الزائرين، وهي في غاية الإتقان والنظام التام، مفروشة على نسق ذاك الزمان، لا تنقص عن غرف الملوك شيئًا، بل تزيد إتقانًا؛ لأنها تختص بالآلهة التي تعبدها الملوك، وفي وسط هذه الغرف حجرة الملك. وكان يزور هذا المعبد كل عام في أيام العيد، ويتقرَّب إلى النار بذبح العدد الوافر ممن يعبدون غيرها، ولمَّا حضرت الأميرة «مندان» خرجت المرازبة لملاقاتها على مسافة أميال، وكانت البشائر قد أتت إليهم من قبل بأمر «أرباسيس» فدخلت الملكة المعبد يحفُّها الحرَّاس، وقد زُيِّن لها الهيكل بأنواع الزينة، وبعد أن أخذت لنفسها الرَّاحة من وعث السفر، أمر الموبدان الأكبر خَدَمَة النيران أن يُوقدوها بالعود والند والصندل، وجميع الأخشاب العطرية، وأمرت الملكة «مندان» أن يخرج الجميع، ولا يدخل معها أحد سوى أستاذها «أرباسيس» لئلا يشغلها كثرة الناس عن العبادة. فأذعنوا لأمرها، وخرج الجميع، ودخلت هي و«أرباسيس».
وفيما هي داخلة من باب الهيكل إذ نظرت إلى مخدعٍ عن يمين الدَّاخل فيه ثلاثة أولاد لا يتجاوز أحدهم الأربع من سنيِّه، وقد وُضع كل منهم في قفصٍ حديد، وأمامه الماء والطعام، فلمَّا نظرت الملكة إلى الأطفال اقشعرَّ جسمها والتفتت إلى «أرباسيس»، وقالت له: ما سبب حبس هؤلاء الأطفال أيها الأستاذ، ومالي أراهم يُحافظون على حياتهم من الجوع والعطش؟
قال: إنهم قُربانٌ للنار يا مولاتي! وإنَّ محافظتهم على حياة الأطفال لأجل أن تلهمهم وهم في قيد الحياة؛ ليكون ذلك أبلغ لرضاها عن عبادها!
فتنهدت وقالت: وما حظ النَّار من أكل لحم البشر وفقد الأرواح.
وكان قد نظر إلى وجه «مندان» فوجد بشائر نور الإيمان تلوح على مُحيَّاها، فتجرأ على إرشادها إلى طريق الصَّواب. فقال: مولاتي إنَّ النَّار مخلوقةٌ من مخلوقاتِ الله تعالى، سخَّرها لعباده لينتفعوا بها، وليس لها سمعٌ لِتَعِيَ كلامنا، ولا بصرٌ لتنظر إلى أفعالنا، بل أعجز من العاجز. ولا يجوز لبشر أن يعبد غير الله تعالى الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وأحصى كل شيءٍ عددًا، وقدَّر الأرزاق والأعمار، ونظَّم الكون بقدرته — سبحانه وتعالى عمَّا يصفون.
فلمَّا سمعت كلامه تلألأ وجهها، وانشرح صدرها، وقالت: وأين هذا الإله العظيم حتى أعبده أيها الأستاذ؟ أرشدْني إليه لأني منذ أيام أُفكِّرُ في أمر النار وعبادتها. ومن هو الإله الحقيقي الذي يجب أن يُعبد؟ فمِن هذا السبب كنت تراني دائمًا مُنقبضة النَّفس ضيِّقة الصَّدر، ولا أجدُ لي من أُلقي إليه نتيجة أفكاري، ولا من يُرشدني إلى طريق الهدى!
قال: يا مولاتي! هو الله الذي في السماء عرشه، وفي الأرض بطشه، يرى ولا يُرى. وهو في المنظر الأعلى لا ينبغي لأحدٍ أن يراهُ، وقد جلَّ عن الوصفِ، وإنِّي قد حيَّرَني أمرك، وأشفقتُ على نضارة شبابك من ذلك الانقباض، وبحثتُ فلم أهتد إلى الحقيقة، والآن ها نحن — والحمد لله — قد ضَمَّنَا الدِّينُ القويم، وسأُلقي عليك بعض ما علمته من العلوم الدينية.
فشكرته «مندان» على ما أولاها من الهدى، ثم قالت: ولكني أودُّ أن أسعى في خلاص هؤلاء الأطفال قبل سفري من هذا المكان.
قال: يا مولاتي، إنَّ ذلك من أصعب الأمور.
قالت: إنَّه عليَّ هيِّنٌ بمساعدة الإله الأعظم.
ثم نهضت ودخلت حجرتها، وأحضرت الموبذان الأكبر، وأنعمت عليه بالخِلَع والهدايا، وأحسنت إليه فدعا لها، وقال: باركت النار فيك أيتها الملكة، وأكثرت فينا من أمثالك!
ولما علمت منه أنه راضٍ عنها، قالت له: إنَّ النَّار قد رضيت عنِّي، وعلمتُ ذلك؛ لأنها منحتني ثلاثة أنفار من أسراها.
قال: يا مولاتي، من هم هؤلاء الأُسَراء الذين غضبت عليهم النار، ولم تقبلهم لها قربانًا؟!
قالت: إنهم الثلاثة أطفال الذين داخل الهيكل.
قال: إنهم أولاد أكابر البلاد، وهم مَنذُورون من أهاليهم ليقدمونهم قُربانًا للنار، وأخاف إن لم أقدمهم أن يحدث من ذلك فتنة يقوم بسببها حرب ضدنا وضد الملك، وأما أنا فإني أريد أن أنفذ أوامرك، ولا أُغضب النار.
قالت: اعلمْ أيها الموبذان أنَّ الأمر بيد الآلهة، ولا بدَّ أن يكون النَّذرُ غير مقبولٍ حتى إنها لم تقبلهم، وربما إن قدَّمْتهم لها تغضب من أجل ذلك.
قال: وكيف الخلاص من هذا الأمر الخطير، والباقي على وقت الاحتفال مدة ثلاثة أيام؟ وقد أخَّرْنا هذا اليوم إلى وقت حضور الملكة، ولولا ذلك لكان قُضي الأمر.
قالت: فلنتدبر بأية حيلةٍ كانت، ونُنَفِّذ أمر الآلهة.
فوعدها بإتمام مرغوبها وخرج. وأما هي فإنها أرسلت إلى «أرباسيس» وأخبرته بما تمَّ بينها وبين الموبذان، ففرح وأبدى لها واجبات الشُّكر على حسن تدبُّرها ودرايتها.
ولما جنَّ الليلُ دخل الموبذان إلى خلوته، وكان عنده تلميذٌ نبيه، حاوٍ على أنواع المكر والحِيل، فأرسل له وأخبره بما دار بينه وبين الملكة من الكلام، وقال له: يا ولدي، إنَّ الربَّة قد وهبت هؤلاء الأطفال للملكة، وليس علينا خوف من غضبها، ولكن ما الحيلة في مرضات الأهالي وأهل الأولاد؛ لأنه لو ظهر للناس أنَّ النار لم تقبلهم لبقي فيهم العار إلى آخر الأبد، وصارت فيهم وصمةً لا تمحوها الأيَّام، وربما سبَّبَ من ذلك فتنة أثارها عائلات الأولاد تخلُّصًا من العار؟!
فقال له: يا أستاذي! إنِّي أنا المدبِّرُ لهذا الأمر، ولكن أريد المُهلة قدر أسبوعٍ على الأقل حتى أجد وقتًا لاستنباط الحيلة.
قال: وما الذي تريد أن تفعله، أخبرْني به حتى أكون على بصيرةٍ من أمري!
قال: أُريدُ أن أصنع ثلاثة تماثيل يُشبهون الأولاد، وأُلبسهم الملابس الفاخرة، وأجعل إلقائهم في النار بأمر الملكة، وأن لا يقرب منهم أحد إلا الموبذان الأكبر، وحينئذٍ تفعل بهم ما شئت، ويصير الاحتفال كباقي الاحتفالات، وتُلقيهم بيدك ليكون الفخر أعظم.
فقال الموبذان: نِعْمَ ما رأيتَ يا ولدي! فأسرع للعمل.
وأمر له بما يكفيه لصنع التماثيل، فأخذه وخرج، ثم جدَّ في عمله.
أمَّا الموبذان، فإنَّه استأذن على الملكة، فأذنت له، ولما تمثَّل بين يديها أخبرها بما تمَّ بينه وبين التلميذ من الرأي، فَرَاقَ ذلك لديها وشكرتْه، ومدَّته بمالٍ، وقالت: كيف الرأي في إخفاء الأولاد؟
قال: يا مولاتي، لما تتم التماثيل نضعهم في محلهم ليلًا، ونخرجُ الأطفال سرًّا، فلا يعلمُ بذلك أحدٌ.
وكان «أرباسيس» سامعًا لما دار بينهما، فقال: لا يتأتَّى لنا إخفائهم إلا بأحد أمرين: إما وضعهم في صناديق، وإمَّا تغيير ألوانهم وملابسهم، وهذا الرأي عندي أسهل؛ لأنني أعرف مُرَكَّبًا لو طُلِيَ به جسم الإنسان يصير حبشي اللون، لا يفرق عن الحبش شيئًا، ولو غُسل بالماء يوميًّا لا يتغيَّرُ إلا بعد شهرٍ على الأقل.
فقالت «مندان»: لا عدمتُك من أستاذٍ فاضلٍ! تسعى بكل ما يرضي الرَّبَّة.
واتفق رأيهم على ذلك، وانفضَّ المجلس، وفي تمام الأجل المضروب أُحضرت التماثيل، ووضعوهم داخل المعبد بغاية كل تحفُّظ، وأخرجوا الأولاد، وطُلِيَ جسمهم بذلك العلاج، وألبستهم ثياب الخدم، وسلمتهم للجاريتين، وأوصتهما بهم. وفي ثاني يوم احتُفِل بتقديم القربان للنار، وزُيِّن ذلك المكان، واصطفت العساكر، ولعبت في ساحة الهيكل، وذُبِحَت الجُذُرُ على نفقة آباء الأولاد، وهم في فرحٍ زائدٍ كأنهم يُقدِّمُون أولادهم إلى حفلة العرس. ولما حان وقت تقديم الضحايا دخلت الملكة إلى داخل المعبد، ووقفت أمام النار، وأمرت ألَّا يقترب إليها أحد، ثم تقدم الموبذان، وأخرج أول طفل وقدَّمه أمام الملكة لأجلِ أن تتبرك به فمدَّت يدها، ومسحت على رأسه، وتلت بعض كلمات على مُقتضى ديانة المجوس، وأمرت بأن يُلقَى في النَّار، ثم عجَّلت بإلقاء الاثنين الآخرين، وهلَّلت الجموع، وأنشدوا الأناشيد التراجديه، وابتهج ذلك النادي كأنهم أَدَّوْا فريضةً دينيةً.
وقد التهمتهم النار، وكانوا من الخشب المكسي بالجلد المدبوغ، ومطلي بدهانٍ كلون الإنسان، وبعد أن فرغوا من تقديم الضحايا، ولعبوا الألعاب المُختلفة، قدَّموا الطعام والشراب المروق فأكلوا وشربوا، وعزفت آلات الطرب، وتقدم بعد ذلك كافة الموجودين، وهنَّأوا آباء الأولاد بهذه النعمة التي نالوا بها رضاء الرَّبة، وصار لهم بذلك الشرف الأعظم، ثمَّ أجلسوهم في صدر المجلس، ووضعوا على رءوسهم أكاليل الزهور.
وبعد ذلك انصرف الجميع، وأنعمت الملكة على ذلك التلميذ الذي صنع التماثيل، وعلى جميع الخدم، وودَّعت الجميع، وانصرفت من ذلك المكان خوفًا من أن ينكشف الأمر، ويصعب إصلاحه. وفي الحال حُملت الحمول، وركبت الملكة، وساروا في طريقهم وقد فرحت وحمدت الباري تعالى الذي جعل خلاص هؤلاء الأطفال على يدها، وقدَّرها على حقن دمائهم الطَّاهرة البريئة من كل دنس.