في قصر شاهزنان
أما «شاهزنان» فإنها ما برحت تلك الأرض إلا وصورة «كورش» قد ارتسمت في مُخيِّلتها، وألفاظه العذبة ترنُّ في سمعها، وما وصلت إلى مدينة «نينوى» إلا وقد روت الأرض من دمعها، وذبُلتْ نضارةُ مُحيَّاها الباهر. ولما استقرَّ بها المقام دخلت حجرتها الخصوصية، وخلت بنفسها وبكت وشكت وجدها، وأنَّت أنين الثكلى.
وقالت: واويلاه! ما هذا البلاء، وما هذه المصيبة العظمى، كيف العمل؟ ومن أين يتيسَّر لي أن أراه مرة أخرى — ولو في المنام؟ ما هذه البلوى التي لا تُطاق؟ كيف ذهلتُ عن السؤال منه ابن من هو، وأين مقيم، ومن أي طبقة في النسب حتى كنت أعلم مُستقرَّه، ويتيسَّرُ لي تلقِّي أخباره، فيستريح لذلك قلبي، وأستريح؟
ثمَّ أطلقت لفكرها العنانَ قدر ساعةٍ مُتفكِّرةً، كيف تصنع للوصول إلى أخباره؟ ثم خطر لها أن تخبر «خواند» بما عندها لتكون مُساعدةً لها على ما تُريد أن تجريه من البحث، فانشرحت لهذا الفكر، وقامت متجهةً جهة الباب، وإذا بها تجد إحدى الجواري يستأذنون «لخواند» بالحضور إلى حضرة الأميرة «شاهزنان»، فأذنت لها فدخلت، وسلَّمت بكلِّ اشتياقٍ، وجسلتا تتحادثان من موضوع إلى آخر حتى وصلتا إلى ذكر رحلتهما، وكانت «خواند» تُلاحظ بكلِّ دقَّةٍ وجه «شاهزنان»، وتنظرُ ما طرأ عليه من التغيُّر عند ذكرها تلك الرحلة ومسألة غرقها في النهر. ثم التفتت إليها، وقالت: روحي فداك يا مولاتي! مالي أرى على وجهك الباهر علامات الكدر والحزن؟
فانتبهت «شاهزنان» لهذا الكلام، وكانت مُنتظرة فرصة لتُلقي لها سرَّها، وتبثُّ لها ما عندها من الوجد «لكورش»، فقالت: يا عزيزتي «خواند»! بي وجدٌ لا يُطاقُ، وهمٌّ لا تحمله الجبال، ولا تُحصيهِ الأوراق، وكنت أنت السبب بهذا البلاء.
قالت: ما هذا البلاء يا نور العيون وزهرة الألباب؟ أخبريني عنه وأنا أفديك بنفسي، وأقيك بروحي.
قالت: آه يا صديقتي! ألم تتذكري تلك الساعة التي نجوتِ فيها من الغرق، وخلصت من الموت؟
فقالت: نعم أذكر ذلك، ولا أنساه أبد الدهر.
قالت: لما نظرتُ إلى ذاك الشاب الذي خلَّصكِ من النهر التهبت ضُلوعي بنار الغرام!
قالت: كيف ذلك، وأنت لم تريه إلا مرةً واحدةً، ولم تعلمي من هو، ولا في أيِّ أرضٍ مقره، ولا ابن من، وهل يليق أن يكون لك زوجًا؟ أم هو من رعاع الناس؟
فقالت لها: نعم أيتها العزيزة! إنَّ كلَّ ما قُلتيه صحيحٌ، وقد تفكَّرتُ في ذلك، ولم يُخفِهِ عنِّي الحبُّ، ولكنِّي لم أقدر على ردِّ جماح الوجد والهيام، وقد أخبرتُك به لتمديني برأيك؛ لعلِّي أن أتخلَّص ممَّا أنا فيه بأي طريقة كانت.
قالت: يا سيدتي، إنِّي أرى أن تُرسلي من تستأمنينه وتعتمدين عليه ليبحث عنه في تلك الجهة، ويأتيكِ بالخبر الأكيد، وأظنُّه قريبًا من تلك الجهة التي كُنَّا فيها على ضفَّة النهر.
قالت: هذا مُناسبٌ يا عزيزتي، ولكن كيف نجد ذلك الأمين، وهل يركنُ الإنسان إلى أحد؟
قالت: إني أرى خادمك «فيروز» شديد الحرص على تنفيذ أوامرك، وقد كان معنا في تلك الأرض، وهو يعرفُ الطريق إذا أرسلتيه بعد أن تأخُذي عليه العهود بكتمان السر.
قالت: سأفعلُ.
ثم أمرت الجارية باستحضارِ «فيروزَ»، وكانت تلك الجارية قد سمعت كل ما دار بين «شاهزنان» و«خواند» وهي واقفة خلف الستار تسترق السمع، فذهبت الجارية لتستحضر «فيروزَ»، وهي تَهدِرُ وتتَّقِدُ غيظًا؛ لأنها كانت تكره «شاهزنان» لأُمورٍ صرفنا النَّظر عن ذكرها، وكانت تلك الجارية تترقَّبُ الفرص لترى لها شيئًا يُسقِطُها من قلب والدها به. ولما سمعت هذا الخبر وجدته غنيمةً باردةً، ولما حضر «فيروزُ» قالت له شاهزنان: إنِّي أريدُ أن أستأمنك على سرٍّ، وأريدُ أن تُقسم لي أنك لا تبوح به لأحدٍ من الناس.
فقال: يا مولاتي إنِّي أُضحي نفسي تحت أقدامك، فكيف أُخرِجُ سرًّا استأمنتيني عليه قبل أن تزهق روحي من جسدي؟!
ثم أقسم لها الأقسام الشديدة، وبعد ذلك حرَّرت خطابًا تذكرُ فيه: أنها لم تتمكن من مكافأته، وأنها تريد أن تعلم من هو؛ لتُجري الواجب عليها له من الجميل الذي فعله معها، ولم تذكر شيئًا من أمر الحبِّ، ثم سلَّمتها له، وزوَّدَتهُ بشيْءٍ مِنَ المال، وانصرف في طريقه.
أمَّا الجارية فدخلت على الملك وأخبرتْه بكلِّ ما سمعت من تلك الحوادث، وبالغت في الأمر، وقالت: حيثُ إنِّي أنا جارية الملك وغَرْسُ نعمته؛ فيلزمني المُحافظة على شَرَفِهِ، وهذه سيدتي صغيرةٌ لا تعرفُ كيف يدبِّرُ المرء نفسه.
ثم ألقت عليه كل أحاديثها الصحيحة والملفَّقة، فهيَّجت بلابل الملك لهذا الخبر، وأثارت غضبه، وقام من وقته، وأحضر رجلين من رجاله كان يعتمدُ عليهما، وأخبرهما بخروج «فيروزَ» بعد أن استكتمهما الخبر عن كل إنسان، وألَّا يُظهرا شخصيتهما «لفيروزَ»، فإنَّه سارَ برسالةٍ لا آمن أن تضر بمملكتي، وإيَّاكُما أن يعلم من أنتما ولا من أين جئتما، ولا تفتحا الرُّقعة التي تجدانها معه، بل ائتوني بها.
فأجاباه بالسمع والطاعة، لبسا آلة الحرب، وركبا جواديهما بعد ما ضربا لثامين على وجهيهما، وقصدا الطريق المؤدِّيَ إلى بلاد «مادي»، وكمنا هناك في أحد الكهوف الكائنة على الطريق المار منه «فيروز»، وكان اسم أحدهما «بهادر»، والثاني «طيفور»، فجلسا ينتظران مرور «فيروزَ» من ذلك المكان، وإذا بشبحٍ ينتقلُ بينَ الصُّخور، ويفزُّ من مكانٍ إلى مكانٍ كأنَّهُ الغزال الشَّارد، ولقد توارى بين الصخور، فظنَّا أنه «فيروز» فتتبعا أثره فلم يقفا له على خبرٍ، ولا وجدا له أثرًا، فرجعا إلى محلهما بين الظنِّ واليقين. وبعد مضي بضع ساعات من النهار أقبل «فيروز» فهرعا إليه، وقد عرفاه عن بُعدٍ فهجم عليه أحدهما، وسأله: إلى أين أيها الرجل؟ فلم يرد عليه جوابًا، ومضى في طريقه، وكان «طيفور» من خلفه، فطعنه بعقب الرمح، وقد استلَّ سيفه، وضرب «بهادر» فجرحه في كتفه جرحًا بليغًا، فوقع على الأرضِ من ألم الضربة، وكان «فيروز» قد وقع لمَّا ضربه «طيفور» على حين غفلةٍ منه، فانقضَّ عليه، وأوثقه كتافًا، وساقه إلى الكهف.
ورجع إلى ملابسه يبحثُ فيها عن الرقعة، فلم يجد لها أثرًا، وكان في جُعبته بعض أدوات ففتحها، وأخرج ما فيها فلم يجد إلا ما يلزم للمسافر من أدوات السَّفَر من زادٍ وغيره، ووجد من ضمن تلك الأشياء أرنبًا صغيرًا موضوعًا في شبكة، فظنَّ أنه اصطاده في طريقه، ولم يسألاه عن الرقعة خوفًا من أن يعرفهما، أو يطَّلِعَ على أمرها، فيئسا من وجودها. وعمد «طيفور» على قتل «فيروز»، ولكنه تذكَّر أنَّ الملك لم يأمره بقتله، فقام وشدَّ وثاقه، وربطه إلى صخرٍ في داخل المغارة، وذهب إلى رفيقه، وضمد جُرحه، وصعد به إلى محلٍّ عالٍ من الجبل ليستريحا ويملآ جوفهما من الطعام الذي وجداه في جعبة «فيروز». وبينما هما يخرجان الأشياء، وإذا هو وجد ذلك الأرنب فأخذه، وجمع شيئًا من الحطب، وأشعل النار وشقَّ بطنه بعد أن سَلَخَ جلده، ولا تسأل عمَّا شمله من الفرح حينما وجد الكتاب الذي هو بصدده في جوف الأرنب، وطار فؤاده سرورًا حيثُ إنه كان في غاية الخجل من رجوعه إلى الملك بدون جدوى.
وبينما هما كذلك، وإذا هما برجلٍ كبير السنِّ محدوب الظهر أبيض الشعر قد دخل عليهما وسلم، وقال: يا أولادي! هل يُوجد عندكم شربة ماء، فأُطفي أواري بها؛ لأني قد أعياني الظمأ والنَّصب؟ فقال له «طيفور»: ادخل يا عمَّاهُ على الرحب والسعة. فدخل بينهما، ووضعوا الزاد فأكلوا وشربوا، وهو يُلقي عليهم العبارات اللطيفة، وحوَّل وجهه إلى جهة النار، وكان في يده شيءٌ من الشمع المصنوع فألقاه بها. وما تصاعد دخانه حتى زبلت أعينهما، وناما نومًا عميقًا، فعمد إلى حبلٍ كان تحت ثيابه ووأثقهما وثاقًا متينًا، ومدَّ يده إلى جعبة «فيروز»، وكافَّة أدواته، وأخذ الرقعة التي هي في صدر «طيفور»، وقصد محل «فيروز» في لحف الجبل، ولمَّا رآه وأخبره بأنه وجد الرقعة فرح «فيروز»، وركب وسار إلى محل «كورش».