في دخول كورش مملكة فارس ورجوعه إلى همذان وفتحها وأسر جده
وركب «كورش» ومن معه، وقد كان أرسل «روبير» في أثناء ذلك لتخليص الرَّاعي وزوجته من سجن «أستياج» ففعل، واستصحبهما معه، وقاموا جميعًا يقصدون بلاد فارس، وقد وفقتهم العناية الإلهية بلُطفها، فوصلوا إلى مدينة «شيراز» في أقرب وقتٍ. وكان الوزير أرسل الرسل بدهائه إلى من يعتمد عليهم من أكابر إيران، وأخبرهم بمجيء ابن ملكهم «قمبيز»، ولما علموا بذلك فرحوا فرحًا شديدًا، وكانوا مُنتظرين حضوره منذ بضع سنين بناءً على وعدِ الوزير لهم. ولمَّا علموا بقرب حضوره تجمعوا سرًّا، واستحضروا لمُقابلته، وقد دخل «كورش» «شيراز» كالأسد الضاري، فقابلته أهل «شيراز»، وهجم على قصر الملك بمن معه، وخلع الحاكم الذي من قِبَلِ «أستياج»، وجلس مكانه. وأعلن في المدينة أن الملك «كورش» ابن الملك «قمبيز» قد حضر، وجلس على سرير أبيه، فمن يُريد أن يدخل تحت رايته فليحضر.
وقد نشر هذا الإعلان في جميع مملكة إيران، وكانت تلك المملكة قد ضجر أهلها من ظلم «الماديين»، واستعبادهم لهم وحرمانهم من السلطة في بلادهم، فجمعوا أكابرهم وعقدوا الرأي على تعضيد «كورش» ومُبايعته عليهم ملكًا، ثم جمع العساكر، وحشد الجنود، وهجم على مدينة «همذان»، وكان الملك «أستياج» قد أحسَّ بالأمر فجمع الجيوش، وأمَّرَ عليهم وزيره «أرباغوس»، وحَصَّنَ المدينة من كل جهةٍ، وكان «أرباغوس» يَدُسُّ الفتن من كل جهةٍ ضد «أستياج»، وقد جاء «كورش» بجيوش الفرس، وعسكر حول المدينة، وكان الملك وقومه في أمان من ضبط الأسوار، وفي ثاني يوم اصطفَّت العسكر، ودار بينهما الحرب؛ ففي اليوم الأول كان فيه النصر للماديين، ولما أمسى المساء دخلت عساكر «أستياج» إلى المدينة، وأوصدوا الأبواب.
أما «كورش» فإنه جلس في سرادقه، وجمع أكابر قومه، وطلب آراءهم في فتح المدينة، فقالوا: إنَّ هذه الأسوار متينة جدًّا، وليس لنا في فتحها إلا أن نستعمل الحيلة.
قال «فانيس»: فانتظروا «روبير» إلى حين حضوره، فإنَّه الآن في المدينة داخل الأسوار.
فتعجب «كورش» والحاضرون من ذلك، وقالوا: كيف أمن على نفسه، ودخل بين الأعداء، وهو معروف بينهم؟!
قال «بركزاس»: لا خوف عليه، فإنه يَنفُذُ من الزرد.
وكان «روبير» لما دخلت عساكر «مادي» إلى المدينة لبس لباس الجند، ودخل من ضمنهم، ولم يزل سائرًا إلى أن دخل على الوزير، ولما رآه استبشر به، وكان في احتياج له ليُرسل معه التعليمات إلى الملك «كورش»، وبعد أن سلَّم وجلس سأله عن أحوال الملك، قال: هو بخير أيها الوزير.
ثم قال: يا «روبير»، إننا لو تركنا الحرب على ما هي عليه لهلكت أبطال فارس، ولكن الحرب خُدعة، فاذهب أنت الآن إلى مولاك وأخبره أن يهجم في الليلة الآتية على الأبواب فيجدني قد فتحتها له من الداخل؛ بحجَّة أني سأهجم عليكم على حين غفلةٍ منكم.
فقال: سمعًا وطاعةً.
ثم ودَّعَهُ وخرج، وانخرط بين عساكر «مادي».
وكان الملك «أستياج» فرحًا بنصر جيوشه وخامره السرور من شدة فرحه، وأرسل إلى «أرباغوس» وقال له: كيف رأيت عساكرنا في هذا اليوم؟
قال: يا مولاي، على غاية ما يرام من الانتظام حليفهم النصر، وعما قليل تُرَدُّ عساكر الفرس على أعقابهم، ونأتيك «بكورش» أسيرًا أو قتيلًا، وفي هذه الليلة سأهجم عليهم على حين غفلةٍ، وأمحي أثرهم.
قال: باركت النار فيك يا وزيري الأمين!
وفي اليوم الثاني خرج «روبير» ضمن عساكر «مادي»، واختلط بعساكر الفرس، ودخل على الملك، وأخبره بما تمَّ بينه وبين الوزير ففرح لهذا الخبر، وجمَّع القُواد، ورتبهم بحسن درايته، وقال: كونوا على أهبة لحين أن يَصدر لكم أمري بالهجوم على الأبواب.
قالوا: سمعًا وطاعةً.
ثم أمر «روبير» أن يُلاحظ الوقت المعين، وفي الميعاد جاء «روبير»، وقال: يا مولاي، أَزَفَ الوقتُ. فصدر الأمر للقُوَّادِ بالهجوم، وقد هجموا هجوم من يُريدُ التخلُّص من الظُّلم، وألقوا بأنفسهم في حزافر الموت، و«كورش» شاهرٌ حُسامه في مُقدِّمة تلك الصفوف، و«روبير» أمامه، و«فانيس» عن يمينه، و«بركزاس» عن يساره، ولمَّا رَأَى الوزير ذلك، وعسكر الفرس كالسيل الجارف أمر القواد بالرجوع إلى الوراء، وأن تُخلى الأبواب، فعلموا أنها مكيدة، وألَّا مناص من الخضوع، فامتثلوا أمره، ودخل «كورش» بجيوشه المنصورة ومَلَكَ الأسوار، واستولى على قصر الملك بعد أن قادوه أسيرًا، ثم جلس «كورش» على سرير مملكة «مادي»، وجمع أكابر الدولة، وسألهم فيمن يختاروه عليهم حاكمًا لبينما يفرُغُ هو من غزواته، فقالوا كلهم بلسانٍ واحدٍ نحنُ نُريد الوزير «أرباغوس»؛ لأنه مُحِبٌّ لنا، عادلٌ بالرعية، فولَّاهُ وأمر باستحضار «أستياج»، فحضر فقال له: كيف رأيت صنع الله في الظالم؟! ولماذا قتلت أبي وأمي — ولم يعصيا لك أمرًا؟
قال: فلم أقصد قتل أُمك؛ وهي ابنتي الوحيده، ولكن كان قصدي قتلك وأنت في بطنها خوفًا على ضياع مملكة «مادي»، فلم يتيسَّر لي ذلك، ولا بُدَّ أن يكون للنار فيه إرادة.
قال: يا ظالم، إنَّ النَّار مخلوقة من مخلوقات الله — سبحانه وتعالى — ليس لها حل ولا ربط، وإنما الإرادة بيد الله سبحانه فمن آمن به فقد نجى، ومن كفر فجزاؤه الخزي وعذاب الجحيم فآمِنْ به واترك عبادة النار وأنا اتركُ لك ثارات أمي وأبي.
قال: ما كنتُ لأترك دينًا وجدت عليه آبائي وأجدادي.
فألح عليه «أرباسيس»، وأنذره فلم يقبل، فلما وجد «كورش» امتناعه وترفُّعَهُ عن عبادة الخالق — سبحانه وتعالى — أمر بأن تُجمع الأحطاب، وتُوضع في ساحة القصر، ثم يُوقدوا فيها النار ففعلوا، وأمر بإحضار الملك «أستياج» فحضر — وقد جلس الملك «كورش» على كرسيِّ مملكته، وحوله الوزراء والقواد، وأكابر الدولة — ثم أمر «فانيس» أن يخطب فيهم والعساكر شاهرة السلاح فوق رءوسهم. فقام وقال: أيها القوم! إنَّ الله يأمركم بعبادته، وألَّا تعبدوا إلا إيَّاهُ، فمن أطاع منكم، فله أجرهُ من الله، ومن خالف فمأواه النار التي تعبدونها من دون الله. فهاج الجمعُ وماج، ثم التفت أكابرُ القوم إلى «أرباسيس»، وكانوا يعلمون فيه الحكمة والدراية، ويحترمون قوله واستشاروه، في ماذا يعملون؟
فقال لهم: هذا هو الحق. ثم قام وألقى عليهم خُطبةً كلها حِكَم، وأرشدهم إلى صراطٍ مُستقيمٍ، فآمنوا جميعًا إلا «أستياج» فإنه وقف مبهوتًا لا يُحر جوابًا، فقال له «كورش»: كيف رأيت ربتك أيها الملك؟ هل قدرتْ أن تُدافِعَ عن نفسِها، وتمنعَ عُبَّادَها من الخروج عن عبادتها؟!
فسكت «أستياج»، ولم يُحر جوابًا.
فقال له: انطق بالوحدانية، وإلَّا كانت هذه النار مأواك.
وأشار إلى النَّار المُوقَدة في ساحة القصر، فأطرق «أستياج» إلى الأرض، فاحتدَّ «كورش»، وأمر بأن يخلعوا ما عليه من الملابس، ويُدنوه من وهج النار، لعلَّه يتذكَّرُ أو يخشى، فقرَّبوه حتى إذا صار قيد رُمحٍ لفحه لهيبُها، فرجع إلى الوراء مذعورًا مرعوبًا طائش الفكر، وقال: أرجعوني إلى الملك.
فرجعوا به فقال له «كورش»: ماذا تراءى لك الآن؟
قال: إنِّي آمنت بربك، فاتركني من هذا العذاب.
فقام «أرباسيس» وحلَّ عقالَهُ، وأجلسه عن يمين الملك، وعلَّمَهُ شروط الإيمان عن ملة إبراهيم خليل الرحمن — عليه السلام — وبعد ذلك بالغ في إكرامه، وتركه داخل قصره يعبد الله ما بقي من حياته.