في زواج كورش بشاهزنان وفتح مدينة بابل
أما «كورش» فإنه بعد أن رتَّبَ أحوال المملكة أَمَرَ بقيام الجيوش إلى مدينة «شيراز»، فساروا بعد أن تركوا «أرباغوس» ملكًا على «مادي»، وهكذا تَمَّ سائرًا إلى أن بلغ ظاهر المدينة، فنظر إلى جيوشه وحاشيته، فتذكَّرَ «شاهزنان»، وكان «روبير» لا يُفارِقُ ركابه، فقال له: يا «روبير»، كيف رأيك بمالكة فؤادي؟ هل تقبلني الآن أن أكون لها بعلًا أم لا؟
قال «روبير»: كيف لا وقد كاد الغرام أن يذهب بحياتها؟!
قال: ولكنها لم تعلم أنِّي ابن ملك فارس، وجدِّي «أستياج».
قال: بل هي تعلم ذلك قبل أن تعلمه أنت.
قال: كيف ذلك؟
قال: يا مولاي، إنِّي لمَّا أرسلتني ووجدت «فيروز» كما أخبرتُك، ولم أرد أن أتأخَّر عنك فأخذتُ منه الكتاب، وأرسلته إلى سيدته ليخبرها بك من أنت، ووضَّحْتُ لها كُلَّ شيءٍ أنت غافل عنه، وأعلمته بما عندك من الحب والهيام. والآن هي تعلم كل شيء.
قال: أنا أرسل «أرباسيس» ليطلبها لي من أبيها.
قال: هذا رأيٌ سديدٌ، وأرجو أن تُرسلني معه لأتجسَّس الأحوال الداخلية.
قال: وهو كذلك؛ لأني أعلم أن الملك «أكيا كسار» شديد البأس والأنفة، وأن المملكة الآشورية كلها تهابه، وتكبر رأيه، وأخاف أن يرُدَّكُم خائبين.
قال: يفعلُ اللهُ ما يشاءُ.
ثم ساروا كأنهم السَّحاب المنتشر، وكان «أستياج» على ظهر جواده يتأمَّلُ في صنع الله، وكيف كان يظنُّ أن يقدر على أن يُطفئ نورًا أراد الله إظهاره وانتشاره في الأرض بعد أن أطلعه الله عليه في عالم الرؤيا، فيندم على ما فرَّط منه، ويستغفر الله لذنبه، وما زالوا سائرين إلى أن بلغوا مدينة «شيراز» فضُرِبَت الطبول، وقامت الأفراح، وزُيِّنَتْ المدينة بأحسن زينة، ودخل «كورش» إلى محل عِزِّهِ ورايات النصر تخفق فوق رأسه، وقد كان ذلك اليوم يومًا مشهودًا يحدِّث به التاريخ جيلًا بعد جيل، كلُّ ذلك والملك ثملٌ بخمر الغرام، بيد أن كل أهل إيران ثملون بنشوة النصر، وتخلُّصهم من ربق العبودية.
وبعد أن استقروا وارتاحوا من وعثاء الحروب والأسفار جلس الملك يومًا وحوله خواصه وندمائه «أرباسيس» و«فانيس» و«براكذاس»، وبعد ذلك التفت الملكُ إليهم، وعرض عليهم الرَّأيَ في طلب بنت الملك «أكيا كسار»، وأعلمهم أنَّه يحبها، ولا يُريدُ أحدًا سواها قال: وأريدُ أيها الأستاذ أن تكون أنت الرسول إلى بلاد آشور؛ لأنك عالمٌ بغوامض الأمور قادرٌ على استنباط الحكم، لعلَّ أن يكون شفائي على يديك.
فقال: نعم يا ولدي، ولكني أُريدُ أن تُرسِلَ معي «فانيس».
قال: نعم، و«روبير» أيضًا، وقدر ما يُحتاجُ إليه من العساكر والخدم؛ ليكونوا في معيتكم.
ثم استحضروا ما يلزم لهم من الهدايا الثمينة من أحسن ما غنموه من خزائن «مادي» من الجواهر الثمينة وغيرها، وأرسل معه مائةً وأربعين صُندوقًا تحتوي على أعظَمِ ما تقتنيه الملوك من حلي وحلل. وسار الركب يقطع القفار حتى قرب من مدينة «نينوى»، فنزلوا هناك في مرجٍ زاهٍ زاهرٍ والمياه تتدفَّقُ من جوانبه، فأمرهم «أرباسيس» بالنزولِ فنزلوا، ونصبوا الخيام، وباتوا تلك الليلة، وكان «روبير» قد قام من ساعته، وأطلق رجليه للرياح، وقصد مدينة «نينوى»، ولما أقبل عليها وجد حولها جيشًا جرارًا، وعساكرَ وخيامًا منصوبةً، وراياتٍ تخفق.
فاخترق بين هذه الجموع، ودخل من مكانٍ إلى آخر حتى اطلع على القوم. ووجد الحصار ملقًى على مدينة «نينوى»، وأبوابها مُغلقة فتقدَّمَ إلى بعضِ الحُرَّاس، وسأله عن اسم هذا الملك، وعن السبب في هذه الحرب. فقيل له إنَّ هذا الملك «أفراسياب» ملك بابل، وقد طلب «شاهزنان» بنت الملك «أكيا كسار» فلم يسمح له بها فغضب لذلك، وجرَّد عليه العساكر فهذا سبب الحرب، فلما سمع «روبير» ذلك طاش عقله، وقام يعدو إلى أن وصل إلى محل القوم، وكان الحكيم «أرباسيس» قد أمر الركب أن يظعنوا، وكان النهار قد أسفر اللثام عن وجه الليل القاتم، وقد قاربت الغزالة أن تُلقي حبالها على هاتيك الروابي فدخل عليه، وقال له: قد كدنا أن نكون غنيمةً للقوم.
قال: وما ذلك؟ فأخبره بكُلِّ ما رأى وسمع فتكدَّرَ «أرباسيس» من هذا الخبر، وقال: كيف العمل يا «فانيس؟»
قال: يا سيدي، لا يُجدي إلا الرجوع من حيث أتينا، ونخبر الملك لعلَّه يُدرك «أفراسياب» قبل أن يدخل المدينة، ويسبِي «شاهزنان» التي هي المُرادُ في هذه الحرب. وفي الوقت عينه حُملت الحمول، ورجع الركب من حيثُ أتى، وما زالوا سائرين إلى أن دخلوا مدينة «شيراز»، وكان «روبير» سبق الركب، وطار في الهواء إلى أن بلغ القصر، ولما رآهُ الملك أشعث أغبر على هذه الصورة ارتاب في أمره، وقال: ما بالك يا «روبير» — كفانا الله الشرَّ — وأين باقي الركب؟
قال: هُم في الطريق يا مولاي، ولكن أدرك مدينة «نينوى»، فإنها على وشك الحرب، ولا يبعد أن تقع «شاهزنان» سبيةً في يدي الأعداء.
قال: أوجز يا «روبير» كيف ذلك؟
فقصَّ عليه الخبر بما فيه، ولما سمع «كورش» ذلك شعر كأنَّ صاعقةً من السماء نزلت فوق رأسه، وصاح صيحةً ارتجَّت منها الأرض، وأمر القواد بالاستعداد والتأهب في أقلَّ من القليل. ثم تجمَّعت العساكر تحت راية ملك فارس، وكان «أرباسيس» قد حضر بمن معه، ولما تكاملت الحملة خرجوا إلى خارج المدينة، وعسكروا هناك، وبعد ثلاثة أيام سار الجيش الفارسي تحت راية الملك «كورش» تحفُّهُ أعلام النَّصرِ والأُبَّهةِ، وما زالوا سائرين والملك في أوائل تلك الجيوش يكادُ أن يسبق الرياح، وهو يبكي وينتحب، ويُنشدُ الأشعار الغزلية والحماسية، و«روبير» يصبِّره، ويسلِّيه إلى أن وصلوا إلى مدينة «نينوى».
ولما بلغوها، وجدوا أعلام العراقيين تخفق على أسوارها، ولم يجدوا من عسكر «بابل» سوى المناط بهم حفظ المدينة، وقد عسكر الملك حول الأسوار. وكان «روبير» قبل أن يقربوا على نينوى بنصف يومٍ أمره الملك أن يكشف لهم الأخبار، وما زال سائرًا إلى أن بلغ تلك الربوع، وإذا بها خاوية على عروشها، فدخل المدينة فلم يُمانعه أحد، ووجد أهلها في غاية الحزن والكدر، فقال لأحد حراس الأبواب: أرى آثار حرب، ومعالم طعن وضرب!
فقال: أين كنت يا هذا؟! فإنَّ الحرب عما قريبٍ ألقت أوزارها، وإنَّ الملك «أفراسياب» فتح المدينة عنوةً، وأسر الملك «أكيا كسار»، ووضع أحد قواده حاكمًا عليها يُديرُ أُمورها، وسافر بالأُسراء والسبي إلى مدينة بابل.
ولما سمع ذلك منه خرج فوجد مولاه على مسافةٍ قريبةٍ من المدينة، فانتظر إلى أن عسكروا — كما تقدَّم — فدخل على الملك، وأخبره بكيفية الواقع.
ولما سمع «كورش» هذا الكلام أخذه القلق على «شاهزنان»، وقال لمن حوله: ما الرأي أيها الملأ؟ أفتوني في هذا الأمر؛ فإني عدمت الرشد والصبر، أأمضي إلى «بابل» أم أهجم على نينوى وأفتحها عنوةً، وأخرج عساكر «أفراسياب» منها؟
قالوا: حيثُ أننا قربنا من مدينة نينوى يلزم فتحها قبل السفر إلى بابل.
قال: نعم، ولكني أخشى من أن يُصيب «شاهزنان» مكروه.
قال «روبير»: فليس في المدينة من الحامية ما يحمل جولة جائل.
قال «بركزاس»: دعني أنا مع مائة فارسٍ أغارُ عليها، وسيروا أنتم إلى بابل.
قال «أرباسيس»: هذا رأيٌ سديدٌ؛ لأني أعلم أن «بركزاس» فيه الكفاية بأن يفتحها بمفرده.
قال الملك: فاختر لنفسك من شئت من الجنود.
ففرح «بركزاس»؛ لأنه يريد أن يعمل عملًا يُظهرُ به شجاعته أمام الملك، والحاصل انتخب مائة فارسٍ تحت إمرته، وهجم على المدينة فخرج لهم عساكر العراقيين مندهشين من أين جاءت هذه الشرذمة القليلة وقابلوهم باحتقار، وعدم اعتناء، ودار الحرب بينهم، وقد أظهرت أبطال الفرس كل بسالة، وفي مقدمتهم «بركزاس» كالأسد الضرغام حتى ألجئُوهم إلى أبواب المدينة، وقبل أن يتمكَّنوا من غلق الأبواب هجمت عساكر الفرس على الأبواب، ودخلت المدينة تأسر وتقتل إلى أن دخلوا قصر الملك، ودخل «بركزاس» بعد أسر الحاكم وجلس مكانه، ونكَّس الأعلام البابلية، ونصب الأعلام الفارسية، ورتَّب الأحكام وعزل وولَّى، وبعد أن رتَّب إدارة المملكة كتب كتابًا إلى الملك يُخبره بما تمَّ، وأرسله مع أحد العيارين.
أما الملك «كورش» فإنه بعد أن أمر «بركزاس» أن يفتح «نينوى» أمر العساكر بالقيام من ساعته فنفرت في الحال، وسار بركبته قاصدين أراضي بابل، والملك يكادُ أن يطير شوقًا إلى تلك الربوع، وبعد بضعة أيام أدركوا المدينة وعسكروا حولها …
فلنترك الآن «كورش» في غرامه وهيامه، ونرجع إلى «شاهزنان» ووالدها، فنقول: إنه لما رجع «فيروز» إليها — كما سلف — ودخل عليها وسلَّم، وسألته عما حصل، وعن قريب رجوعه فأخبرها بكل ما سمعه من «روبير»، وما حصل من اللصين، وكيف أخذا منه الكتاب، وكيف خلصه «روبير» منهما، وكيف أخبره عن «كورش» أنه ابن ملك فارس، وجده ملك «مادي» أكبر ملوك الأرض، وهو لا يعلمُ ذلك لدواعٍ أُخرى، والحاصل أخبرها بكلِّ شيءٍ يعلمه ففرحت «شاهزنان»، واشتعل قلبها بنار الغرام، فباتت تسعد بالأمل، وتشقى باليأس.
أمَّا والدها، فإنه تعجَّب لما رأى «فيروز» في القصر بين الخدم كعادته، وهو يعلم أنَّ المسافة بين حدود «مادي» وبين أرض «آشور» تستغرق مُدَّة أيام، والرجلان اللذان بعث بهما لم يحضرا بعد، فاستحضر الجارية التي وشت بابنته، وهدَّدَها بالقتل إن لم يظهر نتيجةٌ لقولها، وفيما هو كذلك، وإذا بالحاجب دخل عليه يُخبره بحضور وفد ملك بابل، فقام الملك وخرج إلى دار الضيافة، وقابل الوفد وهو مُؤلَّفٌ من الوزير وخمسةٌ من الجند، فصغُرَ في عينه، وثارت في رأسه أنفة الملوك، وندِمَ على خروجه لهم، وبعد أن سلم الوزير وجلسوا برهةً من الزمن قام الوزير وأخرج منشورًا يتضمَّنُ أنه يطلب ابنته «شاهزنان» — بصوتٍ تهديديٍّ — ولما اطلع الملك على ذلك التفت إلى الوزير بغاية الأنفة والعظمة، وقال: أخبر مولاك أنه ليس عندي بنات له، فليفعل ما يشاء.
فقام يتعثَّرُ بأذياله، ورجع بالخيبةِ إلى مولاه، وبعد أن أخذ قليلًا من الراحة ركب وسار إلى أن دخل على الملك «أفراسياب»، وأخبره بما حصل، فلمَّا سمع ذلك قامت قيامته، واشتعلت عيناه في أُمِّ رأسه يقدح منها الشرر وهدر وزمجر، وأمر في أسرع وقت بتحضير الجنود، وركب بجيشه الجرار، وهجم على «نينوى» — وكان الوقت الذي جاء فيه «روبير» — فهدم حُصونها، ودكَّ أسوارها، وفتحها عنوةً، وأسر الملك «أكيا كسار»، وأخرج الحُرُم من القصر سبايا عرايا باكيات العيون، وبينهن «شاهزنان» كأنها القمر بين النجوم. ولما رآها تبكي وتلطم وجهها، وتستغيث نظر إليها بعين العاشق الولهان، وقرب منها، وقال: خفِّضي عنك أيتها الغادة، فإنَّك عمَّا قريبٍ تكونين ملكة بابل. فنزل هذا اللفظ على قلب «شاهزنان» نزول الصاعقة، وقالت: انزع من فكرك هذا أيها الملك الظالم، فوحرمة الشرف الذي هدمته والناموس الذي وطأته، إنك لو أجبرتني على ذلك لأقتلنَّ نفسي قبل أن تضع يدك عليَّ.
فاحتدَّ الملك من هذا الكلام، ولكن الوزير سكَّن غضبه، وقال: يا ملك، فمن عادة النساء لا يمِلن إلى الرجال إلا باللين وحسن المعاملة، وهذه هَدَمْتَ مُلكها، وأَنزَلْتَها من أوج عِزِّها، وتريد أن تسمع منها الطاعة في حينه؟! فهذا أمر بعيد.
فسكت الملك، وترك لها من يُدبِّرُ أمرها، وأخذ الملك «أكيا كسار» تحت التحفُّظ والأغلال، وأخذوا «شاهزنان» في محفَّةٍ تُحيطها العساكر والحُراس من كلِّ جانبٍ إلى أن بلغوا مدينة بابل، وقد زُينت من كل صوبٍ، وأقامت في عرصاتها الأفراح، وهُم في طربٍ زائدٍ، وإذا بالملك «كورش» عسكر حول المدينة — كما تقدم — بعسكره الجرار، وهو كالأسد الكاسر لما في قلبه من لهيب النار.
فلم يكترث به «أفراسياب» لما يعلم من تحصين مدينته، بل أمر بإغلاق الأبواب وتحصينها وتحفظها وإبقاء الأفراح على ما هي عليه من ضرب آلات الطرب، وشُرب بنت الحان بكاسات الذهب آمنين من متانة الحصون، وتحفظ الأسوار، وقد هزأ «أفراسياب» بكورش وجيشه، وأعماه الله عن تدابيره؛ لأن «كورش» لما رأى منه عدم الاكتراث خاف على محبوبته من أن تُهلك نفسها، أو تسلم لهذا العاتي، فاختلى «بروبير» كاتم أسراره، وقال له: يا «روبير» — بعد أن شكا له ما يُقاسيه من الوجد — أخافُ ان تكون هذه الطبول والأفراح التي داخل المدينة لأجل زواج الملك «بشاهزنان».
فقال: يا سيدي، إنَّ «شاهزنان» تُفضِّلُ الهلاك على أن تُسلم نفسها لمن تكرهه، وفي قلبها شخص آخر.
قال: وهذا الذي أخشاه، وربما أجبرها اليأس على إهلاك نفسها، فأموتُ أسًى وحسرةً. دبِّرْني كيف العمل؟! ومن أين المنفذ لهذه المدينة؟
قال: يا سيدي، دعني أطوف حول الأسوار في هذه الليلة لعلِّي أجدُ لها حيلةً.
قال: قُم وأنا مَعَكَ على بركة الله، والله ثالثنا يدبرنا كيف يشاء.
قال: فليكن ذلك خفيةً عن عيون الناس.
ولما جنَّ الليلُ ركب الملك وفي ركابه «روبير»، وطاف حول المدينة من كل جهة، فلم يجدا لهما حيلةً لهذا الأمر العظيم، فقال الملك بعد تفكُّرٍ قليلٍ: أنا لي رأيٌ واحدٌ إن صحَّ هذا دخلنا المدينة بكلِّ سهولةٍ بإذن الله.
قال: كيف ذلك يا مولاي؟
قال: أن نحوِّل ماء النهر الذي يشق المدينة، وتدخل منه الجنود بعد أن تشف منه المياه.
قال: هذا رأيٌ حسنٌ!
ثم تقدم «روبير» جهة القناطر التي تدخل منها المياه، وتنصبُّ داخل المدينة، وبحث فيها جيدًا من جهة عمقها وعرضها، ورجع إلى مولاه، وقال له: إنَّ اتساع المجرى كاف لِأَنْ يدخل منه فارسان معًا.
قال: امضِ إلى العسكر، وائتني بالمهندسين والعمال. وحالًا ابتدئوا بالعمل، وحفروا الخنادق، وحولوا ماء النهر، وبعد انقطاع الماء أمر «كورش» جنوده بالعبور إليها، فدخلوا وهو في مُقدمتهم يكاد أن يقتلع تلك الأسوار. وقد نجح في ذلك نجاحًا تامًّا، ودخل تلك العاصمة العظيمة، وأهلها مُقيمون بين طرب وخمر، وهم يسكرون ويمرحون، وملكها بين أعيانه يترنَّحُ بين خمر الدنان وخمر الغرام، ويعدُّ نفسه من يوم لآخر بقرب الوصال، فلم ينتبهوا إلا وعساكر الفرس قد امتلكت المدينة والقلاع والحصون، وأحاطوا بقصر الملك وأوثقوه كتافًا، وأخذوه أسيرًا، وهو لا يعي من السكر، ودخل «كورش» إلى قصر الحرم، وهو شاهرٌ حُسامه و«روبير» أمامه.
فلما دخل وجد القصر جنةً فوق أديم الأرض؛ لما فيه من الزخارف والأواني الذهبية والفضية والنمارق الثمينة ما يعجز عن وصفها اللسان، وكانت النساء يُصلحن من أمر «شاهزنان» لأجل زفافها على الملك، وهي تبكي وتنتحب، وتتضرَّعُ إلى اللهِ أن يصرف عنها هذا البلاء. وإذا بها تسمع ضجةً عظيمةً في أنحاء القصر فخفق فؤادها، وظنَّت أن الملك داخلٌ عليها، وكان في صدرها مدية قد استحضرتها معها لتطعن نفسها حين دخول الملك عليها فشهرتها في يدها، ونظرت إلى الباب، وكان النساء اشتغلن عنها، وتشتَّتن في أنحاء القصر خوفًا ووجلًا من تلك الضَّجة، وبعد لحظة دخل «كورش» ومعه قُوَّاد قومه إلى ساحة القصر الداخلي، وكان «روبير» قد سبق القوم ليبحث عن محل «شاهزنان»، وقد دخل فوجدها شاهرةً بيدها تلك المدية، وتريدُ أن تطعن نفسها، فاختطفها من يدها، وبعد ما استفهم عن اسمها وعرف أنها هي بَشَّرَهَا بخلاصها ودخولِ حبيبها وامتلاكه المدينة.
ورجع إلى مولاه ليُخبره، وإذا به داخل أمام الباب الذي هم فيه فأرشده «روبير» إليها، ولما رأته صرخت بصوت الفرح، وخرَّت مغشيًّا عليها، فدخل «كورش»، وانكبَّ عليها وانتشلها بين أحضانه، ووضعها فوق سريرها، واجتهد في استفاقتها، ولما أفاقت نظرت إليه، وبكت حتى بلَّت الأرض، فقال لها «كورش»: قد زال الخطر يا قُرَّة العيون، ومُنتهى الشجون، فلا فراق بعد الآن إلا بالموت فطيبي نفسًا، وقَرِّي عينًا، واعلمي أنَّ هذا القصر، وما فيه تحت تصرفك، وسيُقام زفافنا فيه عمَّا قريبٍ — إن شاء الله تعالى.
ففرحت «شاهزنان»، وحمدت الله الذي مَنَّ عليها، وأخرجها من الضِّيقِ إلى الفرج حيثُ إنَّ كل ما يلزم للزفاف كان حاضرًا، وكانت على وشك زفافها لرجُلٍ تُفضِّلُ الموت على النظر إلى وجهه، فبدَّلَهُ الله لها بمن تحب.
ثم قالت له: أين أبي أيها الملك؟ فإني ما رأيته منذ دخولي هذا المكان الذي كنت أحسبه قبل دخولك إليه نار السعير، وكنتُ أحس أن ثقل تلك الأسوار كلها فوق صدري.
فقال: يا شقيقة الروح! هو موجود الآن في القصر الخارجي، وقد أُخرج من السجن، ووُضع مكانه الملك «أفراسياب».
قالت: أُريد أن أراه الآن لأجل أن أروي صدى شوقي منه.
قال: سمعًا وطاعةً.
ثم أمر «روبير» أن يستحضره مع «أرباسيس» و«فانيس»، فذهب «روبير» وأحضر الجميع، ولمَّا دَخَلَ عليها والدها انكبَّت على أقدامه تقبِّلهما، وتزرف الدمع السخين فانهضها بين يديه، وضمَّها إلى صدره، وبكى بكاءً مرًّا. وحالما نظر الملك إلى هذا الموقف المحزن، اجتهد في تسكين روعهما وتسليتهما، وقال لهما: إني أرسلت أحد قوادي لتخليص «نينوى» عاصمة مملكتك، ولا بدَّ أن يكون الآن قد فرغ من فتحها. وبينما هم في تلك المذاكرة، وإذا بالحاجب في يده كتاب، فناوله للملك ففتحه وتلاه، وإذا هو من «بركزاس» يخبره فيه أنه فتح «نينوى» عاصمة مملكة «أشور»، فناوله إلى «فانيس» فتلاهُ جهارًا، ولمَّا سمع الملك «أكيا كسار» فرح فرحًا شديدًا.
وفيما هم في تلك النشوة، وإذا بالحكيم «أرباسيس» قام واقفًا على أقدامه وألقى خُطبةً فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: إنَّ الله قد جمَّل هذا الملك الصغير السن الكبير القدر بحسن الشيم، ومكارم الأخلاق، وقد خصَّه بالنصر حتى إنه فتح أعظم ممالك العالم في أقرب وقت، وهي مملكة «مادي» و«أشور» و«بابل». ثم وجَّه كلامه إلى الملك «أكيا كسار»، وقال: والآن فإنه يريد أيها الملك أن ينتمي إليك، ويكون لك صهرًا، وإن تُنعِمَ له بابنتك، ويكون صداقها رجوع مملكة «أشور» إليك كما كانت.
فلمَّا سمع الملك «أكيا كسار» ذلك كاد أن يطير فرحًا، وقال: فليكن كما يشاء الملك. ثم عقدوا لها عليه في تلك الساعة، وقامت الأفراح في تلك الليالي الضاحكات، وتمَّ السرور، وزُيِّنَت تلك المعالم الزاهرة، وأرجعوا مياه النهر إلى مجاريها، وبعد أن كان الفرح «لأفراسياب» انقلب، وصار «لكورش» فسبحان من له الدوام، وفي اليوم الثاني جمع أكابر بابل، وعرض عليهم ترك عبادة النار، وأن يعبدوا الله الواحد القهار فآمنوا جميعًا، وقد خصَّص لهم من يُعلمهم شروط الدين. ولما انتهى من تصليح بلاده، وتمَّ له الأمر أرسل «أكيا كسار» إلى بلاده، وأمر أن يسير كل من كان معه في الأسر من عساكره، فودع ابنته وصهره الملك «كورش»، وخرج الملك وحاشيته إلى خارج المدينة، وبعد أن ودَّعوه سار إلى بلاده في غاية الفرح والسرور.
أما الملك «كورش» فإنه جعل عاصمة بلاده مدينة «بابل»، وصار يجتهد في إصلاح بلاده، وتنظيم أمورها، وانتخاب الأَكفَاء من أمرائه للولايات في أنحائها. وصار يُحارب عُبَّاد النار، ويهدم هياكلهم ومعابد النار، وردَّ طائفة اليهود إلى بيت المقدس بعد السبي (وقد كان نبي الله أشعيا أنبأ عنه قبل ظهوره بمائة سنة).
والحاصل: فبينما هو جالس في ذات يوم، وإذا بالحاجب دخل عليه وأخبره بأن الملك «أفراسياب» تخلَّصَ من السجن، وهرب فذعر الملك من هذا الخبر، وغضب غضبًا شديدًا، وأمر أن يُفتشوا عليه في كافة أنحاء المدينة، وقامت الجواسيس من كل صوب، وكان «روبير» من ضمن من خرج، وبعد مُدة، وجيزة رجع الكل بدون جدوى، وقالوا لم نجد له خبرًا ولا أثرًا، فاغتاظ الملك، وقال: أين «روبير»؟ ائتوني به!
فقالوا له: لم يأت بعد.
قال «فانيس»: فلننتظره أيها الملك، ولا بد أن يأتينا بخبرٍ أكيد.
أما «روبير» فإنه صار من مكانٍ إلى آخر يتجسَّسُ الأمور إلى أن بلغ شاطئ البحر، فوجد هناك سفينةً تجاريةً، فطلب من رُبَّانها أن يُخبره إلى أين وجهته فقال: إلى جزيرة صقلية.
فقال: هل تقبلون معكم ركابًا؟
قال: نعم، نحن مستعدون لقبول كل من يُريد السفر.
قال: أُريد أن أبحث عن سيدي؛ لأنه خرج فارًّا من وجه ملك الفرس، ولم أعلم له مكانًا، وقد تخلَّصتُ أنا من السجن ولحقتُ بسيدي أبحث عنه إلى أين سار.
قال: لا أعلم «أفراسياب»، ولكني وجدت رجلين صفتهما كذا. وأعطاه أوصافهما، فعرفهما بالصفة أنهما «أفراسياب» وعياره، قال: وإلى أين ذهبا؟
قال: نزلوا معنا في هذه السفينة، وطلعوا على جزيرة صقلية.
قال: والآن أين تقصدون؟
قال: إليها أيضًا.
قال: ومتى يكونُ قيامُكُم؟
قال: بعد قليلٍ من الأيَّام. ففرح «روبير» لهذا النبأ، وصار يشغل معهم، ويتحبَّب إليهم، ويحنو على صغيرهم، ويوقِّرُ كبيرهم إلى أن فرغوا من وثق السفينة، وقلعت بهم تقصد تلك الجزيرة، وبعد قليلٍ من الأيام وصلوا إليها بسلام، فطلع «روبير» يشمُّ رائحة الأخبار، وإذا به يرى عساكر تجتمع وألات حرب تلمع، واضطراب شديد في تلك المدينة، فسأل عن ذلك، فقيل له: أن ملك «بابل» جاء يستجير بملكنا فأجاره؛ لأن ملك فارس دخل عليه بالحيلة، وأسره فتخلص من سجنه، وأتى وقد أمر الملك بتحضير الجنود، وتحصين القلع، وعمَّا قليلٍ سيُقلع إلى بابل، فرجع «روبير» إلى المركب لما سمع ذلك، وقال: سأرجع معكم؛ لأن سيدي أرسلني بأمر مهم.
قالوا: على الرحب والسعة. ثم بعد مضي بضعة أيام تمكَّن فيهم «روبير» من اكتشاف مواقع المدينة وأسوارها، ومقدار القوة التي فيها من عَدد وعِددٍ، وبعد ذلك أقلعت بهم السفينة وساروا و«روبير» معهم إلى أن وصلوا إلى البر، فخرج «روبير»، وأطلق لرجليه العنان يُسابق الرياح قاصدًا مدينة بابل.