في زواج مندان
وبعد أن تجولت في أنحاء تلك المملكة الفسيحة رجعت إلى عاصمة مُلكها، وسلَّمت الأولاد إلى «أرباسيس» ليعلِّمهم العلوم، ويزرع في قلوبهم العلوم الدينية الحقَّة، وقد جعلت لهم مُرَتَّبات تكفي لِأَنْ تجعلهم كأولاد الملوك، ووضعت اسم الأول «بركزاس»، والثاني «روبير»، والثالث «فانيس»، وفي تلك الأيام جاء للملك أحدُ ملوك فارس، وهو الملك «قمبيز»، وطلب إليه «مندان»، وكانت في ذاك الوقت مملكة فارس تحت سلطة ملوك «مادي».
ولما كان يعلم من عدالة ذلك الملك، وحسن سيرته، وإطاعته له، فأنعم له بها، وقد زُوِّجت «مندان» «بقمبيز»، وحملها معه إلى بلاد فارس، وكانت عاصمة مملكته مدينة «شيراز»، وكان اسمها في ذاك الوقت «أسكيراز»، وعمل في زفافها ما يلزم لبنات الملوك، وزُيِّنَت «شيراز» بأنواع الزِّينة، وأُقيمت الأفراح مُدَّة أربعين يومًا اجتمع فيهم أهالي المملكتين «ميديا» وفارس، وبعد إتمام الأفراح رجع كل منهم إلى مكانه.
وبعد ذلك بما ينوفُ عن مُدَّة أشهر رأى الملك «أستياج» رؤيا هائلةً أزعجته وأشغلت أفكاره، فأحضر الكهنة، وقال لهم: إنِّي رأيت كأنَّ ابنتي «مندان» جالسة في قصرها، وقد خرج من حضنها كرمة، فامتدَّت غصونها حتى إنها ظلَّلت آسيا وأقاليمها أجمع، وقد هالني أمرها، ونهضتُ من فراشي خائفًا مذعورًا، وقد أحضرتكم لتخبروني بتأويل رؤياي هذه إن كنتم تعلمون!
فأجابوه: أنَّ الملكة ستلدُ ولدًا يُحَكَّمُ على جميع ممالك آسيا، ويتولَّى على مملكة «مادي».
ولما سمع الملك ذلك راعه جدًّا، وتأثَّر تأثيرًا شديدًا، وخاف على مملكة «مادي» من تسلُّط الفرس، ولكنه كتم ما في نفسه إلى أن جنَّ الليل، وكان عنده رجلٌ من كبار قواده يُقال له «أرباغوس»، وكان يعتمده في كل أُموره، فاستحضره في خلوةٍ، وقال له: لقد حيَّرني أمر هذه الرؤيا، فأشر عليَّ بما ترى.
فقال له: يا سيدي! ليس عندي من الرأي إلا أن تستحضر الملكة، وتحبسها عندك فلا تلدُ أبدًا، وإن كانت حاملًا يصيرُ إعدام الطفل بعد الوضع. فاستصوب الملك هذا الرأي، وأرسل في طلب ابنته «مندان»، وكانت حاملًا في أشهرٍ قريبة الوضع، ولما حضرت دخلت في قصر والدها، وكان «أرباسيس» يعلم سرَّ المسألة، فعزم على أن يُنذِرها ويخبرها بما في نيَّةِ الملك من إعدام جنينها، فأرسل يستأذن عليها بالدخول، فأذنت له وقد سلَّم كل منهما على الآخر بغايةِ كلِّ فرحٍ وسرورٍ، وقد سألته عن الأولاد الثلاثة الذين سلَّمت أمرهم إليه، وقالت له: أريدُ أن أصحبهم معي في هذه المرة. وقد سألته عمَّا يحسنون من العلوم والفنون.
قال: يا مولاتي! إنَّهم في غاية النجابة والذكاء، ولكن كل منهم يميلُ بالطبع إلى علمٍ من العلوم؛ لأن «بركزاس» يميلُ إلى ركوب الخيل، وتعلُّم فنون الحرب، وأما «فانيس» فإنه يميلُ إلى الفلسفةِ وعِلم الطَّبيعة، والبحث في غوامض الأشياء، وأمَّا «روبير» فإنَّه يميلُ إلى فن العيارة؛ لأنه لصٌّ مُحتال يقدر على استنباط الحيل الغريبة على صغر سنه. وإنِّي أرى لو أذنت الملكة بإتمام تعليمهم لكان أوفق!
قالت: شأنك أيُّها الأستاذ وما تُريد، ولما يتم تعليمهم ترسلهم لي، ولكن بدون أن يعلم بهم الملك.
قال: سمعًا وطاعةً! ثمَّ تنفس الصعداء، وقال: يعِزُّ عليَّ أن أخبرك بأمرٍ كتمانه عنك يُحدثُ ضررًا عظيمًا.
قالت: وما هو هذا الأمر أيها الأستاذ الشفوق؟
قال: يا سيدتي، إنَّ الملك في عزمه أن يُهلك ما في بطنك، وذلك بسبب حُلمٍ رآهُ.
ثم أخبرها بكلِّ ما تمَّ، وصمَّم عليه الملك، وكيف أرسل في طلبها لأجل هذه الغاية، وأشار عليها بعد ذلك أن تهرب بولدها؛ لأنه سيكون له شأنٌ عظيمٌ، فارتبكت «مندان» في أمرها المزعج، وقالت: وا ويلتاه! ماذا أصنع؟! وكيف العمل؟! أرشدني إلى طريق الصواب وإلى أين أذهب!
قال: يا سيدتي خفِّضي عنكِ ولا ترتاعي، فعندي رأيٌ مفيدٌ أعرضه عليك، وهو: أنِّي سآتيك بالدهان الذي استعملناه في إخفاء الأولاد حينما كُنَّا في معبد النار، وبعد أن تطلي به جمسك، وتلبسي ملبوس الخادمات، وسأُرسِلُ أحد خدمي الأمناء ينتظرُك خارج القصر، وتخرُجي ليلًا، والحذر ثم الحذر من أن يعلم أحدٌ بما دار بيننا؛ لئلا يعلم الملك فيُهلكنا جميعًا؛ لأنه مهتمٌّ لهذا الأمر أشد الاهتمام.
ثم ودَّعَها وخرج، ودخلت هي إلى مخدعها، وأخرجت ما يلزم لها في السفر، وطلت جسمها بذاك الدهان الذي أتاها به أستاذها، وكان الخادم في انتظارها خارج القصر، ففتحت النافذة المشرفة على الحديقة الخارجية، ورمت حصاةً، فأجابها من الخارج الخادم، وكان تحت النافذة شجرة مُرتفعة جدًّا تكاد أن تفوق ارتفاع القصر، وكان اتفاقها مع أستاذها أن تنزل من تلك الشجرة.
والخادم ينتظرها بسُلَّمٍ لتسهيل نزولها إلى أسفل خوفًا عليها أن يلمَّ بها ضرر وهي حامل، وحفظًا للجنين.