في خروج مندان، ومولد كورش
فلنترك «مندان» هُنَا ونرجع للوزير «أرباغوس»، فإنَّه بعد أن أشار على الملك بقتل حفيده طَرَقَ عليه الخوف، ورجع إلى فكره، وقال في نفسه: ماذا فعلتُ في أمر الملكة، وماذا يُصيبني إذا عملت بما دبَّرته لها ولولدها، وكيف بي إذا تولَّت زمام الملك بعد والدها، وليس له وريثٌ سواها؟!
ولما عظُم لديه هذا الفكر ضاق له صدره، ودخل على زوجته، وأخبرها بما كان، وأطلعها على ما لاح في فكره من أمر الانتقام لو علمت الملكة بما دبَّرَ لها، فقالت له: تلافَ الأمر أيها الوزير، وأخبر «مندان» بما يُريد الملك، ومن ثَمَّ تَكُونُ هي على نفسها بصيرة، فتدبِّرُ أمرها بنفسها، وتكون لك من الشاكرين.
قال: نِعْمَ الرَّأي! ولكن أخافُ أن يطَّلِعَ على دسيستي أحدٌ، فيُوشي بي إلى الملك، وتكون الأُخرى أشرُّ منَ الأُولى، ونكونُ عجَّلنا الوقوعَ في المُصيبة، وإن انتظرتُ إلى حين وضعها، وآخذ الجنين، وأعمل على خلاصه أخافُ أن يُسلمه لغيري، فلا أقدرُ أن أنتشله من مخالب الموت.
قالت: اخرج لها في هذه الليلة بدون أن يشعر بكَ أحدٌ وأنذرها؛ لئلا تكون قريبة الوضع، فلا تقدرُ على خلاصها.
فأزعن الوزير لكلام زوجته، وخرج إلى جهة القصر بملابس خفيَّةٍ، وصار يتربَّصُ الفُرص، ولمَّا دَنَى من جانب الحديقة سمع هناك حركةً أوقفته عن التقدم إلى الأمام، فوقف ينتظر ماذا يكون — وكان الظلام حالكًا — ولمَّا سمع صوت وشيش الشجر تقدَّم قليلًا، وقد سمع صوتًا رخيمًا يقول: تقدَّمْ منِّي أيُّها الأمينُ؛ لأنِّي أشرفتُ على السقوط.
ولما سمع الوزير ذلك سارَ إلى الأمامِ، فوجدَ الخادم صعد إلى أعلى الشجرة أخف من النسيم، وأسرع من البرق، وأدرك «مندان»، وأخذ بيدها، وأنزلها إلى أسفل الشجرة بغاية التأنِّي، وكان الوزيرُ قد صعد على درجتي السلم، وقال بصوتٍ منخفضٍ: انزلي يا مولاتي ولا تخافي من شيءٍ.
ولمَّا سمعت «مندان» ذلك ارتعبت ووقفت في مكانها، ولما رأى منها ذلك تقدَّم إليها، وسكَّنَ روعها، وقال: يا سيدتي فإنِّي ما أتيت إلى هنا إلا بقصد خلاصك من الشرِّ المحاط بك.
قالت: من أنت؟
قال: أنا «أرباغوس»، وليس هذا وقت الكلام، انجِ بنفسك أيتها الملكة. ومن ثمَّ أخذ بيدها مع الخادم، وأنزلها بغاية الاحتراس، ولما صاروا خارج السور، وجدوا هناك «أرباسيس» في انتظارهما، وحينما رأى معهما رجلًا ثالثًا تعجَّبَ، واحتارَ في أمره، وكان قد أحضر مطيَّتين من الخيل الجياد، والثالث له، وأركب «مندان»، ثم ركب، وأمر الخادم بالركوب، فقال الخادم: لا يمكنني الركوب مع وجود دولة الوزير.
ولما سمع ذلك «أرباسيس» أخذته الدهشة، وكان يعلم أنَّه هو السبب بإساءة «مندان»، وقد نظر الوزير إلى تعجُّبِهِ واندهاشه، وكيف توقَّف عن المسير، فتقدَّم إليه، وقال: أحسن ظنَّك بي أيها الأستاذ، ولا تعجل بشيءٍ حتى تتصوَّر سرَّ المراد من هذا العمل، ولا تخشى منِّي أبدًا، وعندما نصلُ إلى محل الأمن أنا أخبرك بسبب وجودي معكم.
ولما سمع الكاهن منه ذلك اطمأنَّ نوعًا، وقدَّم له المطية فركب وساروا، والخادم يعدو أمامهم إلى أن وصلوا إلى أول باب، وكانت المدينة بسبعة أسوار — كما قدمنا — والحراس تحيط بهم من كل صوبٍ، ولما قربوا إلى الباب اعترضهم الحرَّاس، وأرادوا منعهم، وحينئذٍ تقدَّم الوزير وقال: افتحوا لنا الأبواب؛ لأني أُريد أن أتفقَّدَ الأبواب، وأنظرُ في حالة الجند وماذا يصنعون.
ولما علم الحراس أنه الوزير فتحوا الباب بدون مُراجعة، فعبروا أوَّل باب، وساروا قاصدين الثاني، وكان بين الأسوار منازل الشعب — كما أسلفنا — وهكذا حتى خرجوا من الباب الثالث، وهناك أشرق الفجر. ولما ظهر نور الصباح قال الوزير: يلزمُ رُجوعي، ولكن لا آمنُ على الملكة من أن يُصيبَها سوء حتى تخرُجَ إلى خارج المدينة.
ثم جدُّوا في المسير إلى أن بلغوا الباب الرَّابع، وهناك وجدوا أحد الجنود خارجًا من داخل البرج، فطلب إليه الوزير أن يفتح الباب على حسب العادة في الأبواب السالفة، فامتنع الخفير وقال: لا يمكن أن أفتح الباب إلا أن تُعلموني من أين آتين وإلى أين ذاهبين!
فقال «أرباسيس»: نحن من خُدَّام الملك، وقد أمرنا أن نذهب إلى المعبد الأكبر بهذه الجارية لتتوسَّل أمام النار لنأذن لها بالشفاء؛ لأنها مريضة منذ أشهر.
قال: ولكنِّي أرى لها شأنًا؛ لأن الوزير سائرٌ في رِكابها، وهي جارية حبشية على ما أرى. وكان هذا الحارس له بالوزير معرفة تامَّة، فاحتار الوزير في أمره عند سماع هذه الجملة، وقال في نفسه: كيف الخلاص من هذا الرجل، فإذا استعملنا معه القوة استنجد بباقي الجند، وافتضح الأمر، وحبط المسعى؟!
ثم تقدَّم الوزير إلى الأمام، وقال: افتح الباب أيها الرجل وإلا لا عُذرَ لك بعد المعرفة.
فالتفت إليه الرجل، وقال: نعم سأفتح، ولكن سيظهر ما أنتم صانعون.
ثمَّ فتح الباب وخرجوا جميعًا، وتخلَّف الخادم، وقال للرجل: كيف تتجرَّأ على الوزير بالمنع؟! أليس هو سرَّ الملك، فكيف تمنعه وهو ربما يكونُ مُتوجِّهًا لأمرٍ يخصُّ الملك، ولا يريدُ أن يطَّلِعَ عليه أحدٌ سواه؟!
فهزَّ الخفير أكتافه، ولم ينطق بشيءٍ، وصار الخادم يتبعهم، ولم يزالوا سائرين إلى أن خرجوا من الباب السابع، وهُناك ودَّع الوزير «مندان» بعد أن أخبرها بكلِّ ما حصل من أمرها وأمر الملك، ورجع وقد أوصى «أرباسيس» بسرعة الإياب؛ لئلا يعلم الملك بغيابه، فيُلقي عليه الشُّبهة باختفاء «مندان» فشكره «أرباسيس»، وسار كل منهم في طريقه.
أما «مندان» ومن معها فَسارُوا يقطعُون القفار إلى أن ابتعدوا عن المدينة مسافة نصف يوم، وفي غضون ذلك التفتت «مندان» إلى أستاذها، وقالت: أراني عجزت عن أن أخطي خطوةً واحدةً أيها الأستاذ.
فلمَّا سمع ذلك اندهش وقال: تجلَّدِي يا مولاتي لنصعد على قمة هذا الجبل؛ لئلا تدهمنا الخيل، فيأخذوننا إلى الملك؛ لأنها الآن في طلبنا بدون شكٍّ.
قالت: لا سبيل إلى ذلك؛ لأنه قد اشتدَّ عليَّ المخاض، وإنِّي عاجزةٌ عن القيام بما أمرت.
وحينئذٍ صعد الخادم إلى أعلى الجبل بقصد أن يجد لها محلًّا يأويها إليه عن عيون المارة، مثل كهفٍ أو غيره، ولما صار على سطح الجبل وجد على بعدٍ خُصًّا لأحدِ الرُّعيان فقصدة، ولما دنى منه وجد امرأةً جالسةً على الأديم فحيَّاها، وسألها عن أمرها، فقالت: أنا «سباكو» زوجة «ميترادات»، رئيس رُعيان الملك، وقد ذهب زوجي لدفن غلام لي مولود منذ ثلاثة أيام، فانتَظِرْهُ على الرحب والسعة.
فقال: لا بقصد الضيافة أتيتُ، ولكن معي جارية حبشية، وهي زوجتي، وقد خرجنا من المدينة بقصد زيارة المعبد، وحيث أنها حامل، ولم تقدر على قطع الطريق، وقد وافاها المخاض، فأرجوك قبولها عندك حتى تضع حملها.
فقالت: أين هي الآن؟
قال: إنَّها في سفح الجبل.
قالت: انزل وآتني بها، فأنا أُدبِّرُ أمرها بنفسي.
ففرح الخادم وأسرع إلى مولاه، وقال: أبشر يا سيدي! فإنني وجدت من يُدبِّرُ شأن مولاتي الأميرة.
وأخبَرَهُ بما تمَّ مع زوجة الرَّاعي، ثم قال: يلزم رجوع سيدي إلى المدينة، ودعني أنا معها إلى أن يفعل الله ما يشاء.
فاستصوب رأيه، وأَصعدَ «مندان» إلى أعلى الجبل، وقد استقبلتها زوجة الرَّاعي بكل حنانٍ، وكان قد اشتدَّ عليها المخاض، وأَوْهى جلدها، فأسرعت بها إلى داخل الخُصِّ، وجهزت لها ما يلزم، وبعد بُرهة قليلة، وضعت غُلامًا ذكرًا كأنه الهلال، فتلقَّته «سباكو» بقلبٍ شفوقٍ، وأحنت عليه ضلوع الرأفة، ووضعته على ثديها الممتلئ لبنًا — وقد كنا أسلفنا أنها وضعت منذ ثلاثة أيام، وحين حضور الخادم إلى عندها كان زوجها توجَّه ليدفن ولدها المائت — ولما رأت «مندان» ولدها ابتهجت، وانشرح صدرها لما نظرت إلى مُحيَّاهُ، ومدَّت يدها إليه وتناولته وقبلته، ورفعت طرفها إلى السماء، وقالت: اللهم إني أتوسل إليك بعظمتك الإلهية، وعزَّتِك الجبروتية أن تحفظ ولدي من كل سوءٍ، ومن كل عدوٍّ، إنك قادرٌ على كلِّ شيءٍ! ثمَّ قبَّلته قبلات عديدة، وسلمته إلى «سباكو».
وقالت لها: إنِّي سميته «كورش» (ومعناه الشمس)، فاحفظيه عندك إلى حين رجوعي، وإن لم أرجع فهو ولدك، فإنِّي سأتوجه إلى المعبد من وقتي هذا. وكان قصد «مندان» بترك ولدها خوفًا من أن يُدركها أحدٌ من جيوش الملك فيظهر أمرها بوجود الطفل معها.
وبعد أن أخذت لنفسها قليلًا من الرَّاحة، توجَّهت هي والخادم قاصدةً بلاد فارس.