فيما جرى في قصر الملك
وكان الملك «أستياج» في صباح تلك الليلة جالسًا في غُرفته الخصوصية ينتظر حضور ابنته كعادتها فلم تحضر، فانشغل فكره بأمرها، وظنَّ أنها وضعت لعلمه بقرب أيام الوضع، وبينما هو كذلك يضرب أخماسًا لأسداسٍ، ويدبِّرُ حيلةً يُهلك بها الطفل، وإذا بالجارية الموكَّلة بحفظ «مندان» ومُراقبة ولادتها قد دخلت على الملك مُرتجفة الأعضاء مُنحلة العزائم شاحبة اللون. ولما رآها الملك على هذه الصورة قال: ما وراءك أيتها الجارية؟
قالت: حدث أمرٌ أوجبَ القلق، وحيَّر الأفكار، وهو أن سيدتي «مندان» قد فُقِدَت في هذه الليلة، وقد بحثنا في كافة أنحاء القصر، فلم نقع لها على خبر، ولا وجدنا لها أثرًا! فلمَّا سمع الملك هذا النبأ طار عقلُه من دماغه، وقال: عليَّ بالوزير «أرباغوس».
ولما حضر قال له الملك: انظر أيها الوزير ماذا جرى «لمندان»، وكيف خرجت من القصر، ولا أعلم كيف خرجت، ولا إلى أين ذهبت؟! فأرسِل الآن فرقةً من العساكر لأجل أن تُمسك عليها الطريق حتى لا يتسنَّى لها الهرب.
فقال الوزير: لا يُمكن أن تكون خرجت من المدينة، فلنبُث العيون في أنحائها لعلَّنا نقع لها على خبر.
وكان قصد الوزير بذلك انشغالَ العسكر بالتفتيش داخل المدينة؛ لَبينما تكون قد سلكت طريق السلامة، ثم استأنف الكلام، وقال: وإذا أراد سيدي أن أُمسك الأبواب على المارة؛ لئلا تخرج في هذا اليوم من المدينة؟
فقال الملك: نِعْمَ ما رأيتَ أيها الوزير! ولكن أسرع قبل فوات الوقت. فسار الوزير وأصدر أوامره على العساكر، فانبثَّت في أنحاء المدينة، يُفتِّشون المنازل والطرق والحارات، ومنهم من أمسك الأبواب السبعة، ولم يزالوا كذلك إلى ما بعد الغروب، فلم يجدوا لها خبرًا، ورجعوا إلى الملك بخُفَّيْ حُنين!
فغضب الملك غضبًا شديدًا، ودخل إلى حجرته حزين القلب باكي العين، ولم يجسُرْ أحدٌ من الناس أن يكلِّمَه في شيءٍ ما.
وكنَّا أسلفنا أنَّ أحد الحراس قد تعرَّض للوزير حين خروج «مندان»، وكان بينه وبين الوزير حقدٌ قديمٌ.
ولما رأى الناس في ارتباكٍ وتفتيشٍ على الملكة «مندان» لم يشك أنَّ التي رآها في تلك الليلة هي «مندان»، وأنَّ الوزير له يدٌ في إخفائها، فقال في ذاته: إني لا أجد لترقيتي وتشفِّي غلتي من هذا الوغد خير من هذه الفرصة.
ثم لبس آلة حربه، وامتطى جواده، وسار إلى جهة قصر الملك، وكان الوزير بعد أن انتهى من آداء ما يجب من البحث والخدمة اللازمة توجَّه إلى منزله مطمئنَّ الخاطر على نفسه وعلى «مندان»، وأخبر زوجته بما تمَّ ففرحت بخلاص «مندان»، وشكرته على ذلك.
أمَّا الحارس فإنه لم يزل سائرًا إلى أن بلغ قصر الملك، واستأذن عليه، فأذن له بعد الممانعة من الحراس وغيرهم، وبعد تأدية ما يجب من الخدمة، قال له الملك: ماذا تريدُ، ومن أنت؟
قال: أنا أحد حرَّاس الأبواب، وقد رأيتُ البارحةَ أمرًا لم أشك في خيانة الوزير «أرباغوس».
ثم أخبره الخبر، ولكن لم يقل له إنَّها حبشية اللون تأكيدًا للتُّهمة، وكان الملك يعتمد على «أرباغوس»، ويُلقي إليه مقاليد الأمور، ويرتكن عليه في جميع أُموره، ولمَّا سمع من الجندي هذا الكلام احتار في أمره، وافتكر قليلًا، ثم رفع رأسه، وقال: اكتم ما قلت لي أيها الجندي. وأذن له بالخروج فخرج، وهو يمنِّي نفسه بكلِّ خيرٍ.
أما الملك فإنَّه تذكر ماذا يصنع مع «أرباغوس»، وكيف أنه كان السبب بقدوم «مندان»، وكيف تسبَّب بخلاصها، وقد عظم عليه هذا الأمر، وتوسَّم الخيانة في الوزير، وقد قصد تدبير الحيلة لمضرَّته بأيِّ سببٍ، ولكي يكون الجزاء من جنس العمل، وكان لهذا الوزير ولدٌ وحيدٌ يعزه ويحبُّه محبةً فوق العقول لِمَا عنده من النجابة والأدب، فأرسل الملك له فحضر وسلَّم، فأمر له بالجلوس فجلس، وقد أظهر له الملك كل بشاشة، وسأله ماذا يفعل بأمر ابنته «مندان»، وقال: لا بدَّ أن يكون لها من بَلَّغَهَا خبر الإيقاع بالجنين، فلأجل ذلك تجشَّمت أخطار الهرب لتنجو بطفلها.
قال: لا يبعُد ذلك أيها الملك، وإلا فما الموجب لهربها تحت جنح الليل، ولكن أملنا وطيدٌ بأننا سنعثر عليها في قريبٍ من الوقت.
فسكت الملك عن الجواب بُرهةً، ثمَّ غيَّر الموضوع، وقال: أريد أن تكون ضيفي في هذه الليلة، وتأتي بولدك معك؛ لأني لم أره منذ مدَّة.
قال: سمعًا لأمر الملك.
ولمَّا رجع إلى منزله قال لزوجته: أحضري ولدك ليتهيأ لمقابلة الملك.
فقالت وقد خفق قلبها: ماذا يصنع الملك بولدي أيها الوزير؟
قال: لا أدري ماذا يصنع به! ولكني لا أعلم ماذا أقول! وأخاف إن لم أمتثل أمره يُمثِّل بي وبولدي معًا ويقتلنا شرَّ قتلة.
فسكتت زوجته على مضضٍ، وأحضرت الغلام وألبسته أحسن الملابس، وأرسلته مع والده إلى قصر الملك، ولما وصل إلى أول بابٍ وجد جُملةً من أولاد الوزراء والحاشية، فاطمأنَّ قلبه ودخل، ثم انخرط الغلام بين هؤلاء الحدثان، ودخل «أرباغوس» فوجد جملةً من حاشية الملك، فسلَّمَ وجلس في مكانه على حسب العادة. وكان الملك أمر الخدم أن يذبحوا ابن «أرباغوس»، ويقطعوا الرأس واليدين، ويضعوهم في سلة، وبعد الفراغ من الطعام يقدموهم بين يديه، ويكشفوا الغطاء، ففعل الخدم بما أمرهم الملك. ولما رأى وجه ولده وبقاياه طاش لُبَّه وذاب قلبه، وغاب عن الوجود، ولكنه تجلَّدَ على مضضٍ، وأظهر الحزم، وأخفى حزنه، وقال: كل ما فعله الملك، هو مقبولٌ عندي لا أُراجعه فيه، ولم يخرج ولدي عن كونه أحد رعاياه، وفرع من دوحة فضله.
فقال الملك: إنما فعلت ما فعلت لتصير مثلي عديم الولد؛ لأني صرت كذلك بسببك، وأنت تكون عديم الولد بسببي؛ لأن «مندان» أنت الذي أشرت علي باستحضارها، وأنت الذي أخبرتها، وأخرجتها من المدينة، وقد عفوت عنك، واكتفيت بهلاك ولدك، وأُقرُّك على عملك.
فشكره الوزير وانصرف إلى منزله حزينًا كئيبًا، ودفن عظام ولده، وأقيمت الأحزان في دار الوزير، ولبست والدته ومَنْ في القصر الحداد، وهكذا تمَّ الأمر بين الوزير «أرباغوس» والملك «أستياج».