فيما كان من أمر مندان
قد كنَّا تركنا «مندان» سائرةً مع الخادم على طريق بلاد فارس، ولم يزالا سائرين إلى أن بلغا شاطئ البحر، فوجدا هناك سفينةً سائرةً إلى فارس، فالتمسا من الربان أن يصحبهما معه، فلبَّى طلبهما وركبا، وسارت السفينة تشقُّ عباب الماء إلى منتصف الليل. وكانت «مندان» قد شغلها تعب السير، وتعب النفاس عن كل شيء، فانطرحت في جانب السفينة لا تعي على شيء مما هنالك. وإذا هُم بالبحر قد هاجت أمواجه، وأزبد وألقت الرياح كل قواها على تلك السفينة الضعيفة، حتى صارت تلعبُ بها كلعب الأسد بفريسته أو الهر بصيدته، هذا وقد تقطعت حبالها، وتكسرت سواريها، وقد غاب رشد الربان والركاب والملاحون جميعًا من هذه النازلة، ويئسوا من الخلاص، وابتهلوا بالدعاء كلٌّ على قدرِ دينه؛ فمنهم من يستغيث بالله تعالى، ومنهم من يطلب من النار الخلاص، ومنهم من يستنجد بالأصنام، وهكذا، إلى أن أشرق الفجر، وقد ألجأتهم الأمواج إلى شاطئ جزيرة هناك آهلة بالسكان، عامرة بغاية الحضارة والزخرف، ولها ملكٌ يُقال له «جرمانوس»، وهو يعبد الأصنام دون الملك العلَّام.
ومن ضمن تلك المعبودات كبش عظيم الخلقة أبيض اللون، وقد بنى له قُبَّةً عظيمةً، وزيَّنها بزخارف الزينات البديعة المنظر، وأفرض لخدمته جاريةً خصوصيةً تقومُ بكلِّ ما يلزم له من أكلٍ وشربٍ وتنظيفٍ. وكان في ذلك اليوم الذي رست فيه السفينة التي فيها «مندان» على الجزيرة قد تُوفيت تلك الجارية الموكَّلة بخدمة الإله، فصار الخدم يبحثون على جارية بأمر الملك غير تلك الجارية، ولما رأوا السفينة تجاروا إليها على قدم السُّرعة بصفة كونها تجاريةً، ولما صعدوا على ظهرها، وجدوا «مندان» جالسةً، فقال أحدهم للربان: لمن هذه الجارية؟
قال: لأحد الركاب، وها هو الآن معنا.
قال الجندي: علي به.
فأحضروا «أديوس» الخادم، فقال له: بعني هذه الجارية.
قال: ليست هي للمبيع حتى أبيعها، بل هي زوجتي.
قال: لا بدَّ من ذلك؛ لأنَّ الإله جالسٌ وحده، وليس عنده أحد.
فمانع «أديوس» بكل طاقته فلم يُجْدِ دفاعُه نفعًا، وهجم الخدم على «مندان» وأنزلوها إلى الزورق، وهي تبكي وتنتحب، وساروا بها إلى الجزيرة، وأدخلوها على الملك، وقالوا له: إننا وجدنا هذه الجارية في إحدى السفن الموجودة الآن في المرفأ، فأتينا بها أيها الملك.
فالتفت الملك إلى «مندان» وقال لها: ما اسمك أيتها الجارية؟
قالت: اسمي مندان.
قال: وما أتى بك إلى هذه البلاد، ويظهر أنَّك حبشية الأصل، وهل أنت حُرَّة أم مملوكة؟
قالت: أنا حُرَّة، ولست مملوكة.
وكَرِهَت أن تقول مملوكةً خوفًا من أن يطلب شراءها ممن ملكها، أو تدنس لسانها بأوساخ الكذب، فقال: يا مندان، إني أُريد أن أرفع منزلتك إلى أعلى مما أنت فيه الآن.
فلمَّا سمعت منه ذلك اضطرب فؤادها، وقالت: إنِّي أريدُ السَّفر إلى بلادي أيها الملك، ولا أُريد الإقامة هنا مهما كان الأمر.
قال: لا بد أن تتشرَّفي بخدمة الإله مهما قدمتي من الموانع؛ لأنه الآن وحيد، وليس عنده أحد؛ لأن خادمته قد تُوفيت.
وكان الملك يُكلِّمُها بلهجة تهديدية حتى شعرت أنَّ الأرض من تحت أقدامها تمور، ثمَّ أمر بإرسالها إلى القبَّة الآنفة الذكر، فأُرسلت رغمًا عن أنفها، فسلَّمَت الأمر لله تعالى، ودخلت إلى ذلك المكان الذي حسبته جنةً على وجه الأرض، وكان في تلك القبة جُملة حجر مفروشة على النسق الملوكي. فأدخلوها إلى حجرتها الخصوصية، وقدموا لها كافة ما يلزم من أكل ومشروبات وملبوس، ثم فتحوا لها مخدعًا هناك مفروشًا بالرخام منقوشَ الجدران بأحسن ما يكون من النقوش، وهو على يمين الداخل من تلك القُبَّة، وفي صدر ذلك المكان حوضٌ من المرمر فوقه أنابيبُ من الفضة المحلاة بالذهب، وإلى جانبه باب عليه ستر من الحرير الذهبي، فرفع الخادم الستار، وأدخل «مندان». فنظرت وإذا هي بمكانٍ أبهج وأحسن من الأول، وفي وسط المكان أسطوانة من الذهب الخالص قد أُحكمت بأحسن صنعة من أمهر صانع، وجعلوا على دائرة تلك الأسطوانة شبكة من الذهب مُرصَّعة بالأحجار الكريمة مطروحة على قضبان من الزبرجد شبيهة بقفص، ومن داخلها كبش ناصع البياض كبير الجسم مُعتدل القرنين، وقد سُلسِلَ بسلاسل من الذهب، وفي عنقه قلادة من الجوهر لا تُوجد إلا في خزائن الملوك، وأمامه حوضٌ من الذهب فيه مأكوله، وحوض آخر فيه ماء لشربه.
وحينئذٍ التفت الخادم إلى «مندان»، وقال يا جارية: إنَّ الملك يأمرك أن تخدمي هذا الإله، وهو كبير الآلهة، ولا تخرجي من هذا المكان إلا في كل سنةٍ مرةً، وهو يوم عيد الإله الأكبر. وفي ذاك الوقت يُبالغ الملك والحاشية، وأكابر الدولة والرعية، وكافة أكابر البلاد في إكرامك، فتصيرين سعيدةً إذ ذاك، ويتبرك بك العالم أجمع.
ولما سمعت منه ذلك نظرت إليه بعين المحتقر ولم تحر جوابًا، غير أنها استغفرت الله في سرِّها، ورجعت إلى حجرتها الخصوصية التي أُعِدَّت لها، وخرج الخادم، وأقفل الأبواب، وناول المفاتيح إلى البواب، وأوصى الحراس بحفظها، وصعد إلى غرفته، وكانت فوق الباب الخارجي، وكان اسمه «بروتوس».
أما «مندان» فمكثت تخدم الكبش مُدَّة ثلاث شهور، وصباغها الحبشي أخذ يتناقص شيئًا فشيئًا حتى رجع لها لونها الأصلي، فصارت كأنها القمر ليلة البدر، وكان كلَّما نظر إلى محياها ذلك الخادم، ورأى بشرتها تزهو بياضًا ابتهج، وصفَّق طربًا، وعدَّها كرامةً من مكارم (ربِّه الخارف)، وصار يُكلِّمُ النَّاس بهذا الخصوص، ولم يزل الخبر يتناقلُ حتى بلغ مسامع الملك، وكان لهذا الملك ولد جميل الطلعة مُعتدل القوام مستحوز على كافة ضروب الأدب كامل المروءة شريف الأخلاق عزيز عند والده والناس أجمعين.
وكان يُدعى «هيان فونك» فدعاه والده إليه، وقال: يا ولدي! قد بلغني عبارة عظيمة تُؤيِّدُ ما للإله الأكبر من الكرامة، وهو أنَّ الجارية الحبشية التي في خدمته قد تغيَّر لونها من السُّمرة إلى البياض حتى صارت شائقة اللون، وإنها مقبولة عنده، فأريد الآن أن تمضي إلى القبة، وتأتيني بالخبر الأكيد.
فلبَّى «ألفونك» أمر والده، وذهب إلى تلك القبة، واستأذن على «مندان»، وكانت إذ ذاك مُشتغلة بعبادة الله — سبحانه وتعالى — على الطريقة التي علَّمَها لها أستاذها «أرباسيس»، ولما جاء «هيان فونك» خرجت لملاقاته، واستقبلته بكل بشاش، ثم أمرت له بالجلوس فجلس، وصارا يتذاكران بأمر الإله، وهي تُخبره بما أجرته له من الخدمات، وصار هو يُمعن فيها النظر، ويتأمل في بديع جمالها، ورقيق ألفاظها، وقد شعر في تلك الساعة أنَّه ثملٌ مِمَّا خامر لُبَّه، وتملك جميع حواسه من رقيق معانيها، وقد أكبر أمرها، وشكَّ فيما ذاع عنها أنها حبشية. وبعد ما تكلَّما فيما يلزم، وأكد ما جاء لأجله، ودَّع «مندان»، وانصرف مِن عندها طائش العقل مأسور الفؤاد، ودخل على والده، وأخبره أنَّ ما بلغه هو عين الحقيقة، وليس فيه أدنى ريب، فابتهج الملك، وأمر أن يُبالغوا في إكرامها ففعلوا، وكان ذلك ممَّا يسوءُ «مندان» حيث إنها لا تُريد الانشغال بزخارف هذه الحياة الفانية، وكان أكثر فكرها في أمر ولدها لا تعلم ما تمَّ من أمره، وماذا حلَّ به بعد تركها له عند زوجة الرَّاعي فتتحسر وتتضجَّر، ولكنها تلهو بالعبادة والتضرُّع إلى الله أن يُنجي ولدها من كلِّ سوءٍ ومن شرِّ والدها وغدر الدهر.