في غزو مدينة شيراز ومقتل قمبيز
فلنترك «كورش» في دروسه، ونرجع إلى الملك «أستياج» حيث تركناه يتَّقِد غيظًا على ما فاته من هلاك «كورش»، وصار لا ينطفئ غيظه إلا بدماء الفرس، فأمر العساكر أن تتأهَّب لغزو مدينة تهران، وقتل الملك «قمبيز» والد «كورش».
ولمَّا علم الوزير أرسل إلى «قمبيز» يُعْلمه ليكون على أُهبةٍ، وحذَّره من مُباغتة «أستياج» فاستيقظ وجمع العساكر، وتحصَّن ورتَّب العساكر على الأبراج وأسوار المدينة، وبعد قليلٍ من الأيَّام جاء الملك «أستياج»، وعسكر حول المدينة، وضرب عليها الحصار، وقامت بينهم الحرب على قدمٍ وساقٍ حتى فَنِيَ أكثرُ عساكر الفرس، وكان الوزير «أرباغوس» قد خلفه الملك في مدينة «همذان» عوضًا عنه يحكم بين الناس إلى حين حضوره حتى فرغ الملك من حرب «قمبيز»، وفتح مدينة «تهران»، وأخذ «قمبيز» أسيرًا، وقدَّمه بين يدي الملك، فسأله عن من خلَّص «كورش».
فقال: لا أدري من هو «كورش»، ولا من استخلصه.
فأمر بقتله، وصلبه على جزعٍ من الشجر، فقُتلَ وصُلِب ظُلمًا وعدوانًا، وقد أمر بتفتيش المدينة لعلهم أن يجدوا «كورش»، فلم يُجْدِهم ذلك نفعًا، فأمر بقتل من استحصلوا عليه من أكابر الفرس، وقد أطفأ لهيب فؤاده بسفك تلك الدماء البريئة، وأقلع بعساكره الجرَّارة مُؤيَّدًا ظافرًا بعد أن أقام على «تهران» حاكمًا من قِبَلِهِ، ودخل مدينة «همزان» في يومٍ مشهودٍ، فهرعت الناس لملاقاته، وفرح قومٌ واغتمَّ آخرون، أمَّا «أرباغوس» و«أرباسيس» فتكدَّرا لموت «قمبيز» كدرًا شديدًا؛ لأن الغلام صار يتيمًا، وقد أجمعا أمرهما على الكتمان عنه؛ لئلا يشغله الحزن عن درس العلوم. واجتهدا في تهذيبه وتثقيفه، وكان «كورش» شابًّا ذكيًّا نيِّر الفكرة، ثابت الجنان، فصيح اللسان، بهي الطلعة، جميل الصورة. قد تجمَّل بمكارم الأخلاق والكرم والمروءة، له خلقٌ طبيعيٌّ، ولمَّا صارَ له من العمر سبع عشرة سنة صار بهجةً للناظرين، وكان الوزيرُ يُحافظُ عليه تمام المحافظة، وقد ضرب على تلك المزرعة كردونًا من خدمه، وأوعز لهم إذا رأوا أحدًا يُشتَبَهُ فيه ألَّا يدعوه يتجاوز تلك الأرض إلى حدِّ أن يصل إلى القصر.
وكأنَّ الله تعالى من فضله وكرمه قد غَرَسَ حب «كورش» في قلوب أهالي تلك القرية والمزارعين، فصار كل من رآه يدعو له بطول العمر والبقاء، وهو يُحسنُ لفقرائهم، ويُوقِّرُ أغنيائهم، وكان إخوانه الثلاث، وبعبارةٍ أُخرى أساتذته يحلونه محل الروح من الجسد؛ فكان «روبير» دائمًا ساهرًا على مراقبته، حريصًا عليه من عيون الملك وأرصاده؛ لأنه لم يألُ جهدًا في البحث عنه، وأمَّا «بركزاس» فكان يقيه بنفسه ويُهذِّبُه، ويجتهدُ في تعليمه الفروسية وفنون الحرب، و«فانيس» صار يُلقي عليه أنواع العلوم الفلسفية حى نَبَغَ في كلِّ ما تقدَّم ذِكْرُهُ.