في غرام كورش واحتقاره لنفسه
ولما كان ذات يوم ركب «كورش» جواده، وقصد التنزُّه على حافة النهر كعادته، وأخذ معه «روبير» الذي لا يُفارقه طرفة عين، ولم يزالا سائرين إلى أن بلغا الجانب الشرقي من النهر، ووقفا يسرحان أنظارهما في تلك الغابات النضرة على الجانب الغربي، وكان «روبير» يعلم ما في باطن تلك الصخور لكثرة تردُّدِهِ وبحثه على كل دقائق تلك الأرض، فصار «كورش» يسأله بعض أسئلة عمَّا اكتشف من تلك النَّاحية، وعمَّا رأى فيها من زهورٍ ونبات وغير ذلك، وهو يُجاوبه عن كل سؤالٍ بمقداره، حتى قطعا مسافةً بعيدةً وهما يتلذَّذان بتلك المذاكرة، وينتعشان بما يستنشقانه من أرج النسيم الممتزج بعبير تلك الأزهار العطرة وتلك الغابات النضرة. وبينما هما سكارى من لذيذ ذاك الموقف، وإذا هما ذُعرا بصوت مُستغيث أزعجهما، وبُهِتا من رخامة ذلك الصوت، ثم التفتا إلى جهة النهر، وإذا هما ينظران عن بعدٍ جوادًا تعلوه فتاةٌ، وهو شاردٌ بها، مُنْكَبٌّ على الماء، وقد نزل حتى صار في النَّهر يتخبَّطُ في الماء المتلاطم، أمَّا الفتاة فقد استعملت كل قواها لردِّ جماحه فلم تقدر. وكان إلى جانب النهر فتاةٌ أُخرى قد نزلت عن جوادها، وهي تصرخ وتستغيث، وتنادي لعلَّها تجدُ من ينتشل رفيقتها من مخالب المنون.
ولما رأى ذلك «كورش» ألقى بنفسه، ولم ينتظر حتى يُخفِّف ما عليه من الملابس، بل كان أسرع من البرق، وبأقلَّ من لمح البصر قطع النهر إلى الجانب الغربي حيث كانت تلك الفتاة، وهجم على الفرس — وهو يطارد الأمواج — وقبض على زمامه، وسحبه إلى جهة البرِّ بغاية الرشاقة والقوة الغريبة، وكانت تلك الفتاة قد غابت عن رشدها، فوقعت لا تعي على شيءٍ، فأخذها بين يديه، وألقاها إلى الأديم فوق تلك الأعشاب، واجتهدت الأُخرى في تنبيهها، وقدَّمت «لكورش» مراسم الشُّكر بعبارةٍ أَرَقَّ من النسيم، وهي تنظر إلى محياه الباهر، وتعجب ببسالته وأدبه.
أمَّا هو فإنه دُهِشَ من جمالها، وبهيِّ طلعتها، ورقيقِ ألفاظها، ورخيم صوتها، وقد وقف مبهوتًا لا يُبدي ولا يُعيد، أما «روبير» فإنَّه لَمَّا رأى سيِّدَه واقفًا أمام خريدتين، وهو مُبلَّل الملابس حاسر الرَّأس ركب جوادًا وسار، وقد أطلق له العنان حتى بلغ القصر، وطلب له ملابس، ورجع في أقلَّ من لمح البصر، وفي الحال نزل إلى النَّهر واضعًا تلك الملابس حتى عبر النهر، وقدَّمها إلى مولاه، وقد انعطف به إلى داخل الغابة، ولبس ثيابه، ورجع إلى المحل الذي كان فيه مع البنتين، وإذا به امتلأ بالعساكر والقوَّاد والخدم، والكلُّ خاضعون بين يدي تلك الفتاة التي استغاثت به ليُنجي رفيقتها، وقد خلبت لبَّهُ، فوقف بين الجنود لا يُبدي حراكًا، وقد تحيَّر فيمن تكون تلك السيدة الجليلة، وما هي إلا من بنات الملوك بدون شك.
ثم التفت إلى «روبير»، وقال له: أريدُ أن تسأل عن أحوال هذه الفتاة، وابنة من هي وإلى أين تريد؟
قال: سمعًا وطاعةً. ثم دخل بين الخدم، وسأل: من هم؟
فقيل له: إنها ابنة الملك «أكيا كسار» ملك مدينة «نينوى». وقد خرجت للتنزُّه مع ابنة الوزير في موكبها الحافل، وبطريق المُصادفة انفردتا عن الموكب راكبتين الخيول حتى بلغتا هذا النهر، فشرد الجواد بابنة الوزير وأشرفت على الغرق، ولولا أنَّ سيدك انتشلها لهلكت. ولا بدَّ للملكة من مكافأته. فلمَّا سمع «روبير» ذلك ذهب إلى «كورش» وأخبره بما سمع، فتأوَّه من صميم فؤاده وسكت، أمَّا ابنة الملك فإنها احتارت في أوصاف «كورش»، وكيف بها أن علمت عنه شيئًا؟! ومن الذي تركن إليه بهذا الخصوص؟ وقد منعها الخجلُ إظهارَ ما عندها، ولكنها أخيرًا تذكرت أنَّ عليها واجبًا له يلزمها أن تُوفيه إيَّاه لأجل انتشاله ابنة الوزير، ولا بد من مكافأته. وهذا الفكر أراح فؤادها نوعًا، وعند ذلك التفتت إلى ابنة الوزير، وقالت لها: أريد يا عزيزتي «خواند» أن أُكافئ هذا الشَّاب بما هو أهله؛ لأنِّي أراه معدن الإنسانية والمروءة — على صغر سنِّه — وقد جمَّلَه الله بكل فضيلة.
وكانت «خواند» تريد مكافأته؛ لأنه منقذ حياتها، ولما سمعت من «شاهزنان» بنت الملك ذلك انشرحت، وقالت: يلزم ذلك يا سيدتي؛ حيثُ إِنَّه أنقذني، وإنه فوق ما ذكرت أيتها الملكة.
ثم نظرت «شاهزنان» إلى أحد الخدم الواقفين، وقالت: اذهب إلى الشاب الذي أنقذ أختي من النهر، وائتِنِي به حتى أُكافئُه على ما فعل من المعروف.
فذهب الخادم إلى «كورش»، وقال له: أجب الملكة «شاهزنان» بنت ملك «نينوى».
فرفع «كورش» رأسه، وقد خفق فؤادُه واضطرب جسمه، وقال: ماذا تُريد ابنة الملك؟
فقال: لا أدري، أظنُّ أنها تريد مكافأتك على مروءتِك. فنهض «كورش» معه، وذهبا إلى أن بلغا سرادق ابنة الملك، وقد سلَّم عليها بكل تجلَّة واحترامٍ، وعلى ابنة الوزير أيضًا. وكانت «شاهزنان» تنظر «لكورش» نظر العاشق الولهان، وهو ينظرُ لها كذلك، وكانت «خواند» تُراقب أحوالهما، وتنظر لهما بعين المنتقد، ولمَّا لم يجدا لهما بابًا للكلام قالت «شاهزنان»: لقد خوَّلْتَنا جميلًا أيها الشاب، وقصرتْ عقولُنا عن أداء الشكر على البعض منه. فأرجو أن تُمهِّد لنا عذرًا عن هذا العجز!
قال: العفو يا مولاتي! هل أنا فعلت إلا بعض ما تُطالبني به الإنسانية من المفروضات الواجبة على كل شخصٍ؟!
وحينما نطق بهذا اللفظ خفق فؤادُ ابنة الملك، استحسانًا، وطربت من فصاحة منطقه، وتفرَّست فيه، فظهر لها أنَّه من أولاد الملوك، فقالت: ما اسمك أيُّها الشاب؟
قال: اسمي «كورش». ولم تزد على سؤالها خجلًا من الحضور فسكتت، ثم عرضت عليه شيئًا من المال فلم يقبل، ولكنها أخرجت خاتمًا ثمينًا كان في يدها، وناولته له فابتهج لذلك، وتناوله من يدها تذكارًا وعربون حبٍّ، ثم ودَّع وانصرف، وترك في قلبها لهيبًا.
وأمَّا هو فذهب وهو لا يدري كيف يصنع، ولا مِن أيِّ بابٍ من أبواب الغرام يسلك، وقد حلَّ الركب، وهو ينظر إليه بعينٍ تدمع، وقلبٍ من الوجد والغرام يتقطَّع، وساروا بابنة الملك، وخلفوا «كورش» على أَحَرَّ من نار السعير، ويصعد الزفرات. وكان «روبير» واقفًا ينظر إليه ويتعجَّب، وأخيرًا التفت إليه، وقال: فديتك يا مولاي! ما هذا البكاء، وما السبب المُوجب لهذا القلق؟ فالتفت إليه «كورش» وقال ما معناه:
ثم بكى، وأنَّ أنينَ الثكلى، فتحير «روبير»، وقال: يا سيدي، خَفِّضْ عنك هذا الحزن، فروحي فداك أيها العزيز، ولو أردتَ أن آتيك بها قبل أن تبرح هذه الديار لفعلت!
فقال «كورش»: «كلا فإنِّي لا أُريدُ أن أفعل كما يفعل اللصوص بالحرائر، وإنما أُريدُ أن تكون لي زوجةً شرعيةً، وهذا لا يمكنُ أبدًا ما دامت السماء والأرض!»
قال: لماذا لا يتم لك أمر وهي على ما أرى تحبُّك؟ ويشهد على ذلك إعطاؤها لك الخاتم.
قال: يا روبير، لا تزدني همومًا؛ إذ كيف أرجو قربها وهي ابنة ملك، وأنا ابن راعٍ لا أصل لي ولا نسب؟!
فقال: لا يا سيدي، لا دخل للأصل في الحب، وإني أراها لم تسألك: ابن من أنت؟
قال: نعم، ولكن منعها الخجل من الاستفهام، وليس هذا الأمر بيدها، بل هو بيد والدها، وهو لا يُزوِّجُها إلا لمن يليق بها.
ثم بكى بكاءً مرًّا، وأنَّ أنين من فارق أحباءه، وكان «روبير» يُسكِّنُ روعه، ويعدُهُ ببلوغ الآمال، ولرأفته عليه همَّ بإخباره من هو وابن من هو ليعلم أنه من نسل الملوك لأجل ألَّا يُسلم نفسه لليأس فيهلك، ولكنه تذكر وصيَّة الوزير والكاهن ألا يخبره ابن من هو؛ لأنه لو علم أنه ابن الملك «قمبيز» وأن جده «أستياج» لاشتغل بأخذ الثأر، وهو لم يَقْوَ على ذلك بعد فيحزن، أو يتهور في الأمر فيهلك. فسكت «روبير»، وانصرف إلى جهة النهر، فنزلا يقطعان النهر إلى أن بلغا البر الشرقي، فركب «كورش» جواده قاصدًا جهة القصر، فاستقبلهما «فانيس» و«بركزاس» بغاية الترحاب، ولكنهما اندهشا لمَّا وجدا «كورش» مُتغيِّر الوجه باكي العين، فانعطفا عليه انعطاف الوالدة على ولدها، وسألاه إذا كان يشكو ألمًا، أو أثَّر فيه برد النهر كل ذلك، وهو مُطرقٌ إلى الأرض لا يُبدي ولا يُعيد، وكان أوصى «روبير» أن لا يُخبر أحدًا بما حصل فسكت «روبير»، ولم يذكر شيئًا مما جرى وكتم السر، وجاوب عن كلِّ مَا سألاه عنه: بلا أدري. فسكتا، وهُمَا على مضضٍ؛ إذ لا فائدة من الاستفهام والسؤال، وصار «كورش» ليس له دأب سوى البكاء والنحيب، ونشيد الأشعار آناء الليل، وأطراف النهار.