القطار الأخير نحو الشرق
في ذلك المساء، تناول هيثرويك طعام العشاء مع أصدقائه الذين يقطنون في كادوجان جاردنز وظلَّ يتحدث مع مضيفه حتى ساعة متأخرة، حتى إنَّ منتصف الليل حلَّ عليه قبل أن يغادر ويتَّجه إلى شقته التي يعيش فيها وحيدًا بحي تيمبل؛ وكان في اللحظة الأخيرة تمامًا أن تمكَّن من اللحاق بآخر قطار متجه نحو الشرق في ميدان سلون. كان القطار يكاد يخلو من الركَّاب؛ ولم يكن في العربة التي ركب فيها — وهي عربة تدخين تابعة للدرجة الأولى — أحدٌ سواه، ولم يدخلها أحد حين وصل القطار إلى محطة فيكتوريا. لكنَّ رجلينِ ركِبا القطار في محطة «سانت جايمس بارك» وجلسا في مواجهة هيثرويك.
كان هيثرويك محاميًا يافعًا يعمل في القضايا الجنائية، ويتمتَّع بملَكة اليقظة المتأصِّلة فيه؛ فكان من الطبيعي بالنسبة إليه أن يراقب أيَّ شيء يراه ويفكِّر فيه. وبسبب هذا، وربما لأنه لم يكن لديه حينها شيء آخر يشغل تفكيره، جلس هيثرويك يراقب الوافدَين الجديدَين؛ إذ كان يجد استمتاعًا وتسليةً ونفعًا ليس بالقليل في قيامه بهذا الأمر، وفي محاولة تحديدِ ما إن كان الشخص الذي يراقبه يتصف بكذا أو كذا أو بشيء آخر.
وعن الرجلين اللذين خضعا بذلك لفحص هيثرويك، فقد كان أكبرهما سنًّا، ضخمًا قوي البنية متورِّد البشرة، ويبدو أنه يبلغ من العمر ستينَ عامًا أو خمسة وستينَ. وبسبب شعره الفضي الممشط جيدًا وشاربه الرمادي المشذَّب بأناقة وعينيه الزرقاوين المتوقدتين ومظهره العام الذي يدلُّ على النشاط والحيوية، ظنَّ هيثرويك أنَّ الرجل على صلةٍ بالجيش بطريقة أو بأخرى، أو كان على صلة به؛ وزادت حدة هذا الانطباع لدى هيثرويك بفعل انتصاب الرجل في جِلسته ومنكبيه العريضين، ثم إنَّ شيئًا قد أوحى بمعرفته الطويلة والوثيقة بطرائق التدريب العسكري وساحة الاصطفاف. اعتقد هيثرويك أنَّ الرجل ربما يكون ضابطَ صف متقاعدًا أو رقيبًا أوَّلَ أو شيئًا من هذا القبيل، ومرةً أخرى تعزَّزت هذه الفكرة لدى هيثرويك بحقيقة أنَّ الرجل كان يحمل في يده عصًا جميلة للمشي يتخذ رأسها المصنوع إما من الذهب أو الفضة المذهبة، شكلَ تاجٍ ملكي. أوحت تفصيلة ملابسه أيضًا بطابع عسكري؛ إذ كان الرجل أنيقَ الثياب بدءًا من قبعته الحريرية الجديدة اللامعة التي ارتداها بشكل أنيق على الجانب الأيمن من رأسه، وحتى حذائه الملمَّع بعناية. قرَّر هيثرويك أنَّ الرجل مرحٌ يتمتع بلياقة جيدة وبحس الدعابة، ومن الواضح أنه راضٍ عن نفسه إلى حدٍّ كبير ويستمتع بالحياة كثيرًا، والأرجح أنه بلغ مرحلةً متقدِّمة في السن وفقًا لمظهره الإجمالي الخارجي.
أما الرجل الآخر فكان يندرج تحت فئة أخرى. تجلى الاختلاف في الثياب التي كانت شبه رثَّة إن لم تكن رثَّة بالفعل، كما أنها كانت بالية ويرتديها الرجل بصورة سيئة؛ من الجلي أنه كان مهمِلًا يستهين بفرشاة الملابس ولا يبالي بالحقيقة الصارخة المتمثلة في اهتراء ثيابه وقذارتها. كان الرجل نحيلَ الجسد هزيل البنية ولا يبلغ في حجم جسده نصف حجم رفيقه الضخم الممتلئ؛ بدا الإرهاق في وجهه الشاحب وكانت لحيته رقيقة وغير مهذَّبة فأوحت هيئته العامة بشيء من رقة الحال. وبالرغم من ذلك، فقد رأى هيثرويك أنَّ الرجل يتخطَّى في قدراته العقلية الحد الطبيعي؛ إذ كان يتسم بعينينِ كبيرتينِ ذكيتينِ وأنف ممشوق وذقن بارز مربَّع الشكل. أما يده العارية من القفازات فكانت دقيقة ومتناسبة مع جسده؛ إذ الأصابع طويلة ورفيعة ومستدقة. لاحظ هيثرويك شيئينِ في أمر تلك الأصابع؛ أولهما أنها كانت مضطربة، وثانيهما أنها كانت كثيرة البقع، وكأن الرجل كان يقوم مؤخَّرًا بخلط الأصباغ أو استخدام المواد الكيميائية. وفجأة لاحظ هيثرويك أنَّ يد الرجل الضخم وأصابعه كانت ملطَّخة هي أيضًا بصورة مشابهة؛ فكان بها بقع بألوان الأزرق والأحمر والأصفر.
كان الرجلان يتحدَّثان حين دلفا إلى عربة القطار، واستمرَّا في حديثهما بعد أن استقرَّا في مجلسهما. ولم يكن بوسع هيثرويك أن يتجنب سماع حديثهما.
كان الرجل الضخم يقول وهو يجلس إلى أحد مقاعد الزاوية: «تلك أغرب تجرِبة مررت بها في حياتي! لقد عرفتها منذ اللحظة التي وقعت عيني فيها على تلك الصورة! بعد كل تلك السنينَ؛ كم يبلغ عددها الآن؟ عشر، أجل، أعتقد أنها عشر سنوات. أجل، أجل! كنت أعرفها بما يكفي. حين نصل إلى فندقي، سأريك الصورة: سأخرجها وأضعها جانبًا، وستتعرَّف عليها بنفس السرعة التي تعرفت عليها بها، ويمكنك أن تراهن على ذلك. لا شك في هذا!»
قال الرجل كلامه هذا بلكنة شمالية واضحة، وهو ما رآه هيثرويك متماشيًا تمامًا مع الهيئة القوية للمتحدث. أما الرجل الآخر فقد أجاب بنبرة دلَّت على أنه من مواليد لندن.
قال برفق: «أعتقد أنني سأتمكَّن من التعرُّف عليها. لديَّ ذكرى واضحة للغاية عن المرأة، رغم أنني لم ألتقِ بها إلا مرة أو اثنتينِ بالطبع.»
صرَّح الآخر قائلًا: «حسنًا، إنها امرأة حسنة المظهر؛ بل هي جميلة! ذلك الجمال الذي لا يُنسى سريعًا. وفي هذه الأيام، يبدو أنَّ مرور السنوات لا يُحدِث اختلافًا كبيرًا في عمر المرأة. لقد عرفتها على أية حال! وقلت في نفسي فور أن فتحتُ تلك الورقة «هذه أنتِ يا سيدتي الجميلة». لكنني احتفظت بذلك لنفسي! لم أتفوَّه ولو بكلمة واحدة لحفيدتي رغم أنها كانت تجلس قبالتي حين اكتشفت الأمر. كلا، لم أخبِر أحدًا حتى الليلة! فليس ذلك بالأمر الذي يثرثر المرء عنه!»
قال الرجل الأصغر: «أنت محقٌّ بالطبع. لا شك بأنك تذكَّرت أنني أذكرها على الأرجح وأذكر الظروف المحيطة. الأمر غريب، بل في غاية الغرابة! وأعتقد أنَّ الخطوة التالية هي: ماذا ستفعل حيال ذلك الأمر؟»
أجابه الرجل الضخم: «أجل، حسنًا، لقد مرَّت عشر سنوات بالطبع. لكني أخبرك أنَّ هذا الأمر لا يهم، وإن مر عشرون عامًا. لكن …»
حينذاك خفض الرجل من صوته لدرجة الهمس، ومال على رفيقه؛ فلم يسمع هيثرويك أكثر من ذلك. بالرغم من هذا بدا له أن الرجل الأصغر لم يكن يستمع باهتمام في واقع الأمر، وإن بدا عليه أنه يفعل. ذلك أنَّ أصابعه الطويلة الملطَّخة صارت أكثر اضطرابًا من ذي قبل، ثم إنه أخرج ساعته ونظر فيها مرتينِ قبل أن يصل القطار إلى ويستمنستر، ومرةً بعد ذلك، لاحظ هيثرويك يد الرجل المضطربة وهي ترتعش في طريقها إلى جيب المعطف. أدرك هيثرويك أنَّ الرجل كان ينظر إلى رفيقه الثرثار بنظرات فضولية مختلسة، وكأنه كان في انتظار شيء مجهول لكنه متوقَّع، وهو يتساءل عن موعد حدوثه: ثمَّة يقظة خفية أوحى بها مظهر الرجل، ورغم أنه كان يومئ برأسه بين الحين والآخر اتفاقًا مع ما كان يُهمس به إليه، فقد صار هيثرويك مقتنعًا بأنه إما كان شارد الذهن أو لم يكن مهتمًّا بالأمر. ووفقًا لما بدا من مؤشرات على عينيه وأصابعه، فإنَّ الرجل كان شاردًا بذهنه في مكان آخر.
توقَّف القطار في محطة ويستمنستر لنصف دقيقة ثم واصل التحرك مجددًا، وكان الرجل الضخم لا يزال مائلًا على رفيقه يُكمِل حديثه الهامس، ويضحك بين الحين والآخر وكأنه يقصُّ قصة مثيرة أو يطرح رؤية ذكية. لكن فجأة ومن دون سابق إنذار، توقَّف الرجل توقُّفًا حادًّا مفاجئًا في كلامه المرسَل. راح الرجل يحدِّق بشدة فيما حوله، ولمح هيثرويك لمعانَ عين الرجل وهي تمسح العربة، ولم ينسَ أبدًا نظرة الرهبة والاندهاش التي رآها فيها؛ وكأن الرجل واجه فجأة وبسرعة خاطفة شيئًا مخيفًا ومريعًا. ارتفعت يده اليُسرى وقبض بها على صدره وحلقه، بينما تركت اليد الأخرى عصاه ذات الرأس الذهبي واندفعت من مكانها وكأنه يحاول أن يدرأ عنه بها ضربة. هوت العصا بجانبه كالرصاصة؛ وارتخت الذراع الأخرى وسقطت مترنحة واهنة، وقبل أن يتمكَّن هيثرويك من الحركة، غاص الرجل الضخم في مكانه في الزاوية وكانت عيناه مغلقتينِ.
هبَّ هيثرويك من مقعده، وهو يصيح بالرجل الآخر.
صاح هيثرويك: «صديقك! انظر!»
لكنَّ الرجل الآخر كان ينظر بالفعل. كان هو الآخر قد هبَّ واقفًا على قدميه وكان يميل على صديقه مادًّا يده نحو رسغ الرجل الضخم. غمغم بعد ذلك بشيء لم يتمكَّن هيثرويك من سماعه.
سأله هيثرويك بفارغ الصبر: «ماذا تقول؟ يا إلهي! ينبغي أن نفعل شيئًا! الرجل، ما هذا؟ أهي نوبة؟»
أجابه الآخر: «نوبة! أجل، هذا صحيح، إنها نوبة! لقد أصابته نوبة أولى كانت محض دُوار طفيف قبيل أن نركب القطار. ها هو ذا القطار يتوقَّف الآن. أليست تلك محطة تشارينج كروس؟ أنا، أنا أعرف طبيبًا في الجوار.»
كان القطار يتوقَّف بالفعل. فتح هيثرويك الباب الفاصل بين هذه العربة والتي تليها، ورأى المحصِّل فناداه.
صاح به يقول: «أسرع! هنا! هنا رجل مريض، أعتقد بأنه يُحْتضَر! فلتأتِ إلى هنا!»
أتى المحصِّل يسير ببطء. لكنه حين رأى الرجل في الزاوية، أسرع نحو الباب الخارجي ونادى على رجالٍ كانوا على الرصيف. هُرع رجل يرتدي زيًّا رسميًّا ودلف إلى القطار.
سأل الرجل قائلًا: «ما هذا؟ رجل نبيل مصاب بنوبة؟ مَن معه؟ هل ثمة أحد معه؟»
نظر هيثرويك حوله باحثًا عن ذي الأصابع الملطَّخة. لكنه كان قد خرج من العربة بالفعل وصار يمشي على الرصيف متَّجهًا إلى الدَّرج المؤدي إلى المخرج. صاح بكلمات قليلة بينما كان يشير إلى الأعلى في الوقت نفسه.
صاح قائلًا: «طبيب! في الجوار! سأعود في غضون خمس دقائق! أخرِجوه.»
لكنَّ ثمَّة طبيبًا كان معهم بالفعل. وقبل أن يختفي ذو الأصابع الملطَّخة تمامًا، كان رجال آخرون من العربات المجاورة قد أتَوا؛ وراح أحدهم يشق طريقه نحو المقدِّمة.
قال باقتضاب: «أنا طبيب. أفسِحوا الطريق من فضلكم.»
وقف الآخرون يشاهدون في صمتٍ بينما راح الوافد الجديد يُجري فحصًا سريعًا للجسم الهامد. والتفت بعد ذلك فجأة.
قال بنبرة سريعة واثقة: «لقد مات هذا الرجل! هل هناك أحد معه؟»
توجَّهت أنظار موظفي القطار نحو هيثرويك. لكن هيثرويك هزَّ رأسه نافيًا.
وأجاب قائلًا: «لا أعرفه. كان معه رجل آخر، وقد ركبا القطار معًا في محطة «سانت جايمس بارك».» تابع حديثه وهو يلتفت إلى المحصِّل قائلًا: «أنت رأيتَ الرجل الآخر. لقد قفز من القطار بينما كنت آتيًا إلى هنا، وهُرع على الدَّرج، وقال بأنه ذاهب إلى طبيب في الجوار.»
قال المحصِّل موافقًا: «لقد رأيته، وسمعته أيضًا.» التفت إلى الدَّرج وإلى المخرَج من ورائه وأضاف قائلًا: «لكنه لم يَعُد.»
قال الطبيب: «من الأفضل أن تُخرِجوا الرجل. ضعوه في مكانٍ ما على الرصيف.»
وصل أحد رجال شرطة المحطة إلى القطار في تلك اللحظة؛ وقام هو وعمال السكة الحديد برفع الرجل وحمله عبر الرصيف إلى إحدى غرف الانتظار. شعر هيثرويك بأنهم قد يحتاجون إليه فتبعهم من خلفهم، والطبيب معه. شعر هيثرويك بسخرية الحياة الكئيبة حين تحرَّك القطار في طريقه فور أن نزلوا منه، وكأنه غير عابئ بما حدث ولا يكترث له.
تمتم بنبرة خفيضة هي أقرب إلى نفسه أكثر مما هي للرجل الذي يسير بجواره: «بحق السماء! قبل خمس دقائق فقط كان ذلك المسكين على قيد الحياة، وكان في أفضل صحة وحال بحسبِ ما رأيت!»
علَّق الطبيب بنبرة جافة: «لا شك في ذلك! لكنه مات الآن. ماذا حدث؟»
فأخبره هيثرويك بما حدث باقتضاب.
علَّق الطبيب قائلًا: «والرجل الآخر اختفى! حسنًا! لكن أظنُّ أنَّ أحدًا لم يفكِّر في احتجازه. فما الذي سيحدث إذن لو لم يَعُد؟»
صاح هيثرويك: «ألا تظنُّ أنها جريمة قتل؟»
قال رفيقه: «الملابسات غريبة. أقول إنَّ الرجل وافته المنية! مات فجأة كما يمكن لأي رجل أن يموت، كما لو كان قد أُرديَ بالرصاص أو تفجَّر إلى شظايا. وهذا مما تخبرني به. وربما يكون الأمر حالةً من حالات التسمم. فهل سيعود ذلك الرجل الآخر؟ إن لم يَعُد …»
وحينها بدأ هيثرويك يتساءل عما إن كان ذلك الرجل سيعود، أم لا. لم يَعُد بعد مرور عشر دقائق، ولا بعد خمس عشرة دقيقة، ولا بعد مرور ثلاثين. غير أنَّ رجالًا آخرين أتَوا يُهرعون إلى داخل حجرة الانتظار الشاحبة الجدران متجمعين حول الطاولة التي يتمدَّد عليها الرجل المتوفَّى. كانت غالبيتهم من الموظفين الرسميين ورجال الشرطة، ثم أتى جرَّاح الشرطة ومعه مفتش شرطي يُدعى ماذرفيلد، وكان يعرف هيثرويك. وفي حين كان الطبيبان يُجريان فحصًا آخر، انتحى ذلك الرجل بهيثرويك جانبًا. أعاد هيثرويك رواية قصته، لكنه رواها هذه المرة بكامل التفاصيل. وراح ماذرفيلد يستمع ويهزُّ رأسه.
ثم قال: «ذلك الرجل الآخر لن يعود! لقد مضى على ذهابه الآن نصف ساعة. أتظنُّ أنه كان يعرف أن الرجل قد مات قبل أن يهرب؟»
أجابه هيثرويك: «لا أستطيع الجزم بذلك. حدث الأمر برُمَّته بسرعة شديدة حتى إنه انتهى قبل أن أتمكَّن من إدراكِ ما يحدث. لكنَّ المؤكد أنني رأيت الرجل الآخر يُجري فحصًا سريعًا ودقيقًا للمتوفَّى. بعد ذلك، قفز من الباب حرفيًّا، كان قد خرج من القطار ووصل إلى الدَّرج يُهرع عليه قبل أن يتوقَّف القطار تمامًا.»
سأل المفتِّش مقترحًا: «أتستطيع أن تصِفَه؟»
أجاب هيثرويك مؤكِّدًا: «أصفه؟ أجل. ويمكنني أن أتعرَّف عليه أيضًا. لقد كان يتسم بملامحَ محددة بارزة. يمكنني تمييزه مرة أخرى في أي مكان.»
قال ماذرفيلد: «حسنًا، سيكون علينا أن نبحث عنه. والآن، ينبغي أن نأخذ هذا المتوفَّى إلى المشرحة ونُجري له فحصًا كاملًا لنقف على ما حدث له. من الأفضل أن تأتي معنا يا سيد هيثرويك؛ فسوف أحتاج إلى وجودك في واقع الأمر.»
ذهب هيثرويك — في مؤخرة مسيرة كئيبة — وكان يسير بصحبة الطبيبين. كان عليه أن يقصَّ ما حدث مرةً أخرى إلى جرَّاح الشرطة الذي راح هو أيضًا — مثله في ذلك مثل البقية التي سمعت القصة — يهزُّ رأسه على نحوٍ ينذر بالسوء بشأن اختفاء الرجل ذي الوجه الشاحب.
وقال: «لم يكن ذلك سوى مبرِّرٍ لاختفائه، ليس هناك طبيب في الجوار. ألم تخمِّن هوية المتوفَّى، أقصد من خلال حديثهما معًا؟ ألم يذكروا أي اسم؟»
أجابه هيثرويك: «لم أسمعهما يذكران اسمًا. لم يخاطب أحدهما الآخر باسمه. ليس لديَّ أدنى فكرة عن هوية الرجل.»
كان هذا هو ما أراد معرفته. لا شك بأنَّ لذلك المتوفَّى أصدقاء في مكانٍ ما. كان قد تحدَّث عن فندقه، ربما يوجد مَن ينتظر وصوله هناك، ربما ستمثِّل أخبار وفاته صدمةً لأحدهم وستتسبَّب له في مشكلة كبيرة. انتظر هيثرويك وقد انتابه شعور أشبه بالقلق الشخصي بينما كانت الشرطة تفتِّش جيوب المتوفَّى.
وُجِد الكثير من الأشياء المختلفة في جيوبه، ووُضِع على طاولة جانبية. كان من بينها محفظة مليئة بالمال؛ ومبلغ نقدي في جيوبه. كانت توجد أيضًا ساعة ذهبية جميلة وسلسلة ثقيلة ومدلاة. وكان هناك دفتر صغير، يعجُّ بالخطابات والأوراق. علاوةً على ذلك، كانت توجد الأشياء التي يحملها الرجل الميسور الحال: علبة سيجار، وعلبة ثقاب فضية، ومقلمة فضية، وسكين جيب صغير وما إلى ذلك؛ كان من الواضح أن المتوفَّى كان ثريًّا. لكن مفتِّش الشرطة نحَّى تلك الأشياء الثمينة جانبًا؛ إذ كان اهتمامه الحالي منصبًّا على الدفتر الصغير، والذي أسرع في إخراج الخطابات منه. التفت بعد لحظة إلى هيثرويك والطبيبين، مشيرًا برأسه نحو الجثة الهامدة الممدَّدة على الطاولة.
قال وهو يشير إلى المظروفات في يده: «هذا هو اسمه وعنوانه. السيد روبرت هانافورد، فندق مالتر الخاص، شارع سُري، ستراند. توجد عدة خطابات موجَّهة إلى هناك مثلما ترون، وكلُّها بتاريخ حديث. سيتعين علينا أن نذهب إلى الفندق؛ فقد نجد زوجته أو أشخاصًا يعرفونه هناك. أتساءل مَن كان ذلك الرجل؟ شخص من الأقاليم على الأرجح. وفي الواقع …»
وضع الخطابات من يده وأمسك بتلك الساعة الجميلة ذات الغطاء الذهبي، وفتحها. كان على ظهرها نقش محفور بأحرف رقيقة. وصاح المفتِّش صيحةً تنم عن التعجب.
ثم قال: «يا إلهي! لقد خمنت ذلك جزئيًّا من مظهره. إنه واحد منَّا! انظروا إلى هذا: «مهداة إلى مفوَّض الشرطة روبرت هانافورد في تقاعده، من قضاة سيليثوايت …» سيليثوايت؟ أين تقع تلك؟»
أجابه أحد الواقفين بالقرب منه: «يوركشاير. الدائرة الجنوبية الغربية.»
أغلق ماذرفيلد الساعة ووضعها جانبًا.
وعلَّق قائلًا: «حسنًا، لا شك أنَّ تلك هي هويته: إنه هانافورد مفوَّض الشرطة السابق من سيليثوايت بيوركشاير، وهو نزيل في فندق مالتر. سيتعيَّن عليَّ الذَّهاب إلى هناك. آمل أن تأتي معي يا سيد هيثرويك؛ إذ كنتَ آخرَ مَن رآه على قيد الحياة، والفندق في طريقك إلى حي تيمبل.»
شيء شديد الشبه بالفضول القهري وإن لم يكن مَرَضيًّا، جعل هيثرويك يوافق على ذلك الطلب. وسرعان ما كان هيثرويك وماذرفيلد يسيران معًا على الجسر، ويتحدثان بشأنِ ما حدث ويفكِّران في سبب وفاة هانافورد المفاجئة.
علَّق ماذرفيلد قائلًا: «قد نقف على السبب الدقيق لوفاته بحلول الظهيرة. سوف نُجري فحصَ ما بعد الوفاة بالطبع. لكن ذلك الرجل الآخر! ربما نعرف عنه شيئًا هنا. وأتساءل عمَّن قد نجده هنا؟ آمل ألا تكون زوجته …»