الزائر الغامض
صار النادل الرئيس في المطعم الذي يرتاده هيثرويك ورونا كلَّ يوم أحد عقب وصول رونا مباشرةً، يعرفهما الآن جيدًا بالنظر، ولمَّا كان قد شكَّل استنتاجاته الخاصة عنهما، كان يحجز لهما على الدوام طاولة في زاوية منعزلة وهادئة. وهناك كانا يكملان حديثهما، وما إن استقرَّا في مكانهما المعتاد حتى راحت رونا تقص قصتها.
قالت: «أعتقد أنك الآن تريد أن تعرف كلَّ شيء؛ لذا فلن أجعلك تنتظر كثيرًا. حدث الأمر يوم الجمعة صباحًا وفكَّرت أن أبعث إليك خطابًا بخصوص الأمر في مساء ذلك اليوم. غير أنني عدلت عن ذلك؛ إذ وجدت أنه سيكون من الأفضل أن أخبرك بصورة شخصية اليوم، ثم إنَّ الخطاب كان سيطول للغاية. ثمة أشياء تستوجب الشرح؛ فمن الأفضل أن أشرحها أولًا. ترتيباتنا هناك في قصر ريفرسريد على سبيل المثال. إنها كالآتي: دائمًا ما نفطر أنا والليدي ريفرسريد معًا في القصر في حدود الساعة التاسعة. وفي العاشرة نذهب إلى الدار. لدينا هناك ما يشبه مكتبًا رسميًّا يتكوَّن من غرفتين؛ أولاهما لي وهي تفتح على الرَّدهة، والثانية تؤدي إلى الخروج من الرَّدهة وهي خاصة بالليدي ريفرسريد. وفي الرَّدهة نفسها لدينا رجل كان يعمل في الجيش سابقًا، واسمه ميتشيل، وهو يعمل حارسًا في الرَّدهة وينتبه إلى الباب وما إلى ذلك. نقضي الصباح بأكمله في انشغال بالخطابات والحسابات وتقارير العاملين وما إلى ذلك من أعمال. نتناول الغداء في الدار، وعادة ما نظل في انشغالنا حتى الساعة الرابعة أو الخامسة. هل فهمت كل ذلك؟»
أجابها هيثرويك: «كل تفصيلة! واضح تمامًا.»
أكملت رونا تقول: «جيد للغاية. تبقى تفصيلة أخرى مع ذلك. وهي أنَّ الكثير من الأشخاص يأتون لزيارة الدار، وغالبًا ما يكونون من المجال الطبي وأولئك المهتمين بالمستشفيات ودُور الرعاية، وهم يرغبون في التعرُّف على المكان، والذي يسعني أن أقول لك استطرادًا إنه يكلِّف الليدي ريفرسريد مبلغًا كبيرًا جدًّا من المال! وتقتضي تعليمات ميتشيل لكل الزائرين أن يُحضِروا بطاقاتهم إليَّ إذ أقوم أنا بلقائهم أولًا، وأتعامل معهم إن كان بإمكاني ذلك؛ أو آخذهم إلى الليدي ريفرسريد إن رأيت أن ذلك ضروري أو مستحسَن. ذلك أنه ينبغي علينا فرزهم؛ فأنا واثقة من أن بعضهم يأتينا لا لشيء إلا إرضاء فضولهم، والحق أننا لا نرغب إلا في لقاء العاملين في المجال الطبي المهتمين بالمكان بصدق وبإمكانهم أن يفعلوا شيئًا من أجله، أو الأشخاص الوثيقي الصلة بنزلاء الدار. والآن، وفي يوم الجمعة الماضي قرابة انتهاء الصباح إذ كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة إلا الربع، وبينما كنت مشغولة بخطابات كانت معي سمعت سيارة تقترب ثم دخل ميتشيل إلى غرفتي ومعه بطاقة تحمل اسم الدكتور سيبريان باسيفيري. لم تكن البطاقة من النوع المنقوش وفقًا لجميع المعايير المعترَف بها، بل كانت مطبوعة؛ وكان ذلك أول شيء لاحظته.»
علَّق هيثرويك معبِّرًا عن إعجابه: «قدراتك على الملاحظة ممتازة، وستفيدنا كثيرًا بلا شك.»
ردَّت عليه رونا ضاحكة: «أشكرك على المجاملة! لكن ذلك لم يكن في حاجةٍ لدقة الملاحظة.» وأردفت تقول: «كان الأمر جليًّا. لكنني سألت ميتشيل عما كان يريده الدكتور باسيفيري، وأجاب ميتشيل بأن الرجل يرغب في لقاء الليدي ريفرسريد. ونحن لا نرد الأطباء أبدًا كما ذكرت من قبل؛ لذا طلبت من ميتشيل أن يحضر الدكتور باسيفيري إليَّ. وبعد دقيقة دخل الدكتور باسيفيري. أريد أن أصفه لك على وجه الدقة وأريد منك أن تستمع إليَّ بإمعان. تخيَّل رجلًا متوسط الطول، لا هو ببدين ولا هو بنحيل، لكنه ممتلئ الجسم على نحوٍ جيد، ويبدو في الخامسة والأربعين من عمره، ويرتدي ثيابًا أنيقة ورائعة تتمثل في معطف صباحي أسود وسترة تحتية، وبنطال بخطوط داكنة، وفيما يتعلَّق بقماش ملابسه ورابطة عنقه فقد كان نظيفًا للغاية، كما كان يلبس قبعة حريرية جديدة وزوج قفازات بلون رمادي فاتح، ويحمل مظلة بلون ذهبي ملفوفة بعناية. وبالتبعية، كان الرجل يرتدي سلسلة ساعة رفيعة بلون ذهبي وطاقمًا أبيضَ وحذاءً ملمَّعًا بعناية. هل استوعبت ذلك؟»
قال هيثرويك موافقًا: «يمكنني تصوُّره؛ أقصد ملبَسه وشكله. يبدو من ممارسي الطب المتأنقين بلا شك! لكن كيف يبدو الرجل نفسه؟»
أكملت رونا تقول: «والآن أصفُ لك وجهه. تخيَّل رجلًا لا يُرى الدم في محياه أبدًا؛ وجه بلون العاج القديم تنيره عينان ثاقبتان للغاية وسوداوان كالبرقوق البري، ويزداد شحوب وجهه بروزًا بفعل شارب ثقيل بلون أسود وشعر بالسواد نفسه ومجعَّد قليلًا، كان شعره كثيفًا بما يكفي فوق أذنيه لكنه يصبح متناثرًا وخفيفًا عند هامته. تخيَّل أيضًا شفتين حمراوين ممتلئتين فوق ذقن مستدير لكنه محدَّد الملامح وأنف معقوف بشكل واضح، وبهذا يكون أمامك الرجل الذي أصفه!»
قال هيثرويك وهو غارق في التفكير: «أممم! أظن أنه عبري، من خلال ما قدَّمتِ من وصف.»
وافقته رونا قائلة: «هذا هو ما ظننته أيضًا. قلت لنفسي في الحال: «أيًّا ما تكون يا صديقي فإنك يهودي!» لكن تصرفات الرجل وحديثه كانا يوحيان بأنه إنجليزي بما يكفي، بل إنجليزي للغاية. كان الرجل يتمتع بسيماء الممارس الطبي الذي يتمتع بالخبرة في مجاله، والمحنَّك في الحياة أيضًا، ورأيت في الحال أن أيَّ شخص سيحاول مبارزته ستنتهي به الحال في المرتبة الثانية. كان تفسير الرجل لحضوره منطقيًّا ومألوفًا بما يكفي؛ وهو أنه كان شديد الاهتمام بنوعية الحالات التي تتلقى الرعاية في الدار، وأنه يرغب في الاطلاع على الطرق والترتيبات التي نتَّبعها وما إلى ذلك. وقد استخدم عدة مصطلحات وجمل تقنية تتخطى حدود قدراتي المتواضعة، فحملت البطاقة الخاصة به إلى الليدي ريفرسريد. وهي مستعدة لإجراء المقابلة على الدوام حين يتعلَّق الأمر بطبيب، وفي غضون دقيقتين كان الدكتور باسيفيري يجلس معها على انفراد.»
قال هيثرويك: «هذه هي نهاية الفصل الأول، أليس كذلك؟ مثير للغاية! نهاية موفَّقة! ماذا عن الفصل التالي؟»
أجابته رونا: «دارت أحداث الفصل الثاني في حجرة الليدي ريفرسريد، ولا يمكنني حتى أن أخمِّن طبيعة تلك الأحداث. لا يمكنني أن أخبرك إلا بالأشياء التي أعرفها. لكنني أعرف الكثير. في البداية، وعلى الرغم من أن الدكتور باسيفيري أخبرني أنه يرغب في رؤية الدار، وهو ما يعني في الحالة المعتادة أن تأخذه الليدي ريفرسريد في جولة أو أن يتجوَّل مع الطبيب المقيم في الدار، فإنه لم يذهب في جولة لرؤية الدار. لم يغادر تلك الغرفة قط منذ دخلها وحتى اللحظة التي غادر فيها. وقد ظلَّ فيها مدة ساعة كاملة!»
«مع الليدي ريفرسريد؟»
«مع الليدي ريفرسريد! هي أيضًا لم تغادر الغرفة قط. وأنا لم أدخلها؛ فهي تكره أن أدخل عليها إن كان معها أحد في أي وقت. لا! كان الاثنان هناك معًا، منذ الثانية عشرة إلا عشر دقائق وحتى الواحدة إلا خمس دقائق. لكن الرجل قال إنه كان يرغب في القيام بجولة في الدار!»
سألها هيثرويك: «هل هناك طريقة أخرى يمكن لهما بها أن يغادرا الغرفة؟ باب آخر أو نوافذ خلفية؟»
«ليس هناك أي شيء من هذا القبيل. الباب الذي يؤدي إلى غرفتي هو الوسيلة الوحيدة لدخول حجرة الليدي ريفرسريد أو الخروج منها. لا، كانا في الغرفة طوال الوقت.»
«هل سمعتِ أيَّ شيء؟»
«لا شيء! إن المنزل الذي أنشأت فيه الليدي ريفرسريد هذه الدار عتيقٌ وراسخ ومؤسَّس بإحكام؛ فهو ليس كالمنازل الحديثة السيئة الصنع؛ بل إنه أفضل كثيرًا من القصر وبضخامته نفسها. وكل الأبواب والنوافذ تُغلق بإحكام؛ فلم يحدث قط أن سمعت أيَّ صوت من داخل الغرفة.»
سألها هيثرويك بعد تفكير طويل: «حسنًا، وماذا حدث بعد مرور الساعة؟»
«بعد مرور ساعة فُتِح الباب فجأةً وخرج منه الدكتور باسيفيري وفي يده القبعة والقفاز والمظلَّة. واستدار نصف دورة بينما كان يخرج وقال بضع كلمات لليدي ريفرسريد. وقد سمعت تلك الكلمات. قال لها: «حسنٌ إذن، يوم الجمعة القادم في الموعد نفسه؟» ثم أومأ ودلف إلى حجرتي وأغلق الباب خلفه، وانحنى لي انحناءة دمثة للغاية وهو يبتسم بينما كان يمر من أمام مكتبي، ثم خرج. وبعد لحظة انطلق في سيارة كانت تنتظره عند المدخل طوال هذا الوقت.»
سألها هيثرويك: «أعتقد أن هذه هي نهاية الفصل الثاني، هل هناك المزيد؟»
أجابت رونا: «أجل، تتبقى بعض الأمور. في أثناء الساعة التي قضاها الدكتور باسيفيري مع الليدي ريفرسريد كنت أنا مشغولة في كتابة الخطابات على الآلة الكاتبة. وحين غادر أخذتها إلى غرفتها كي توقِّع عليها. أعتقد أنني كنت فضولية بعض الشيء حيالَ ما حدث للتو، وربما كنت أكثر انتباهًا من المعتاد؛ على أي حال، شعرت بأنني واثقة من أن زيارة ذلك الرجل، أيًّا كان هو، تسبَّبت في انزعاج كبير لليدي ريفرسريد. فقد بدا ذلك واضحًا عليها.»
سألها هيثرويك: «كيف بالتحديد؟»
«في الواقع، لا يمكنني أن أصفَ ذلك بالتحديد. ربما لم يكن لأي رجل أن يلاحظ انزعاجها. لكني لاحظته لأنني امرأة. كانت مضطربة، وكأنها تشعر بالانزعاج، أو الكرب أو الدهشة أو شيء كهذا. لقد رأيت هذه العلامات على امرأة، ولا يمكنني أن أخطئ تأويلها لأنني أنا أيضًا امرأة. كانت زيارة ذلك الرجل مزعجةً ومثيرة للقلق. أنا واثقة من ذلك كما أنا واثقة الآن أن هذا لحم ضأن مشويٌّ.»
«هل قالت أيَّ شيء؟»
«لم تنطق ولو بكلمة واحدة. كانت صامتة على غير العادة، بل واجمة في الواقع. أخذت الخطابات في صمت، ووضعت إمضاءها في صمت. لا، بعد التفكير، لم تتحدث الليدي ريفرسريد بأي كلمة قط حين كنتُ في الغرفة. أخذت منها الخطابات وبدأت أضعها في مظاريفها. وبعد ذلك ببرهة قصيرة خرجت الليدي ريفرسريد عبر غرفتي وغادرت، ورأيتها تسير نحو القصر. ولم تظهر الليدي ريفرسريد في وقت الغداء المعتاد في الدار، ولم أرَها مرة أخرى في تلك الظهيرة. الحق أنني لم أرَها مرة أخرى طوال ذلك اليوم؛ فحين عُدت إلى القصر في الخامسة مساءً، أخبرتني خادمة الليدي ريفرسريد أن سيدتها ذهبت إلى المدينة ولن تعود إلا في وقت متأخر من المساء. وقد خلدت إلى الفراش قبل عودتها.»
سألها هيثرويك: «ماذا عن صباح اليوم التالي؟»
«في صباح اليوم التالي كانت كالمعتاد منها، وسارت الأمور بالشكل المعتاد لها.»
قال هيثرويك سائلًا: «هل تحدَّثت لك عن ذلك الرجل وعن زيارته؟»
«لا، لم تتحدَّث عنه بكلمة. لكنني اكتشفت بنفسي شيئًا عنه في ظهر يوم الجمعة.»
«ماذا وجدتِ؟ أهو شيء ذو صلة؟»
«قد يكون ذا صلة بشيءٍ ما. كنت أفكِّر فيه، وفي بطاقته المطبوعة. رأيت أنه من الغريب لرجلٍ مثله بهذه الأناقة ويعمل في المجال الطبي أن يقدِّم نفسه ببطاقة كهذه: غير جيدة الطباعة، بل من نوع رخيص! إضافةً إلى ذلك، لم يكن عليها عنوان. ورحت أتساءل — ربما من قبيل الفضول البحت — عن أصل ذلك الرجل. وتحتوي تلك الدار على الكثير من الأدلة الإرشادية المعتادة، ومن بينها دليل إرشادي طبي حديث من الطراز الأول. لذا بحثت عن اسم الدكتور سيبريان باسيفيري. أقول إني بحثت عنه، لكنني لم أرَه؛ لأنه لم يكن موجودًا! لم يكن الرجل طبيبًا إنجليزيًّا ولا اسكتلنديًّا ولا حتى أيرلنديًّا.»
قال هيثرويك: «هو أجنبي إذن، ربما فرنسي، أو أمريكي.»
علَّقت رونا قائلة: «ربما كان مصريًّا، أو فارسيًّا، أو أوروبيًّا آسيويًّا؛ فما أعرفه أنه لا يرِد في ذلك الدليل، رغم أنك قد تظن من حديثه وأسلوبه أنه كان يزاول الطب في حي ويست إند طوال حياته! تلك هي القصة على أي حال. هل فيها أي شيء؟»
أمسك هيثرويك بكأس نبيذ الكلاريت من جذعها وراح ينظر بإمعان في محتوياتها.
وأخيرًا قال: «الشيء المهم هو مدى انزعاج الليدي ريفرسريد وطبيعته أو فزعها أو اضطرابها الذي تسبَّبت فيه زيارة الرجل. إذا كانت منزعجة بدرجة كبيرة …»
علَّقت رونا قائلة: «إذا كنت تريد رأيي الصادق بصفتي شاهدة عيان وامرأة فإن الليدي ريفرسريد كانت في غاية الانزعاج. لقد أعطتني انطباعًا بأنها تلقَّت أخبارًا سيئة للغاية ومزعجة ومسببة للقلق. وبعد رؤيتها وملاحظتها وهي تضع توقيعها على الخطابات لم يكن لديَّ أدنى شك في أن الرجل كذب عليَّ عمدًا حين قال إنه يريد رؤية الدار وعملها بينما ما كان يريده حقًّا هو الوصول إلى الليدي ريفرسريد.»
صاح هيثرويك فجأة: «مهلًا! هل كنتِ حاضرة حين دخل ذلك الرجل إلى حجرة الليدي ريفرسريد؟»
«حاضرة؟ بالطبع كنت حاضرة! لقد أدخلته بنفسي.»
«أرأيتهما يلتقيان؟»
«بكل تأكيد!»
«حسنٌ إذن، أنتِ تعرفين! هل كانا غريبين أحدهما عن الآخر؟ هل تعرَّفت عليه؟ هل أظهرت أيَّ إشارة تدل على تمييزه بأي شكل حين وقعت عينها عليه؟»
«لا، مطلقًا! أنا واثقة تمامًا أنها لم ترَ الرجل من قبل في حياتها! رأيت أن الرجل كان غريبًا تمامًا عليها.»
«وماذا عنها هي بالنسبة إليه؟»
«لا، لا أعرف ذلك! ربما رآها ألف مرة. لكنني واثقة أنها لم ترَه من قبل قط.»
وضع هيثرويك سكينه وشوكته في إشارة منه إلى أنه انتهى.
وقال لها: «سأكتشف مَن يكون ذلك الرجل. ينبغي عليَّ ذلك!»
سألته رونا: «هل تظنُّ أن لزيارته علاقة بهذا؟»
«ربما، أجل. على أي حال، لن أفوِّت أيَّ فرصة. هناك ما يكفي من الغموض فيما تقولين لي بشأن الرجل مما يجعل من الجدير تتبُّعه. لا بد من تتبُّعه.»
«كيف ستفعل ذلك؟»
«أنتِ تقولين إنه سيذهب إلى هناك مرة أخرى يوم الجمعة التالي في الوقت نفسه؟ حسنٌ إذن، ما سأفعله هو مراقبته وتتبُّعه حين يغادر.»
«يؤسفني أنني لن أفيد في هذا! سيعرفني الرجل.»
قال هيثرويك ضاحكًا: «ولا أنا! فأنا بارز للغاية. لو كنت أقصر بقليل، لكنت ذا فائدة. لكن لديَّ الرجل المناسب؛ موظفي، مابرلي. إنه النوع المناسب ليتتبَّع أيَّ شخص من دون أن يراه أحد. وكما ستقولين حين تحظين بسرور رؤيته، فإن مابرلي أحد أكثر الرجال العاديين المألوفين الذين سترينهم يومًا؛ فبإمكانه أن يمر بأي حشد في لندن من دون أن يلاحظه أحد. لكنه أريب للغاية، فهو يخفي تحت ملامحه غير البارزة على الإطلاق فطنة ودهاءً. وما سأفعله هو أنني سأعطي مابرلي وصفًا تفصيليًّا للدكتور سيبريان باسيفيري؛ إذ حفظت وصفك إياه بالفعل، وسيحفظ مابرلي وصفي إياه أيضًا. ومن المرجَّح أن يذهب باسيفيري ذلك، أيًّا مَن كان، إلى دوركينج في القطار الذي يغادر هذه المحطة في العاشرة وعشر دقائق، وكذلك سيفعل مابرلي. وفور أن تقع عين مابرلي على الرجل، فلن يحيد عن بصره مرة أخرى.»
سألته رونا: «وماذا سيفعل؟»
«سيتَّبعه إلى دوركينج ويراقبه ويتَّبعه عائدًا إلى لندن، وسيعرف إلى أين يذهب ومتى يعود، سيلاحقه إلى أبعد مدًى في حقيقة الأمر. بعد ذلك، سيخبرني بما وجد، وحينها سنعرف أكثرَ مما نعرف الآن، وسنعرف أيضًا ما سنفعله بعد ذلك.»
قالت رونا: «أتساءل إلى أي شيء سيؤدي ذلك؟ الأمر أشبه كثيرًا بمتاهة، أليس كذلك؟»
قال هيثرويك موافقًا: «بلى. لكن لو استطعنا فقط أن نُحكِم قبضتنا على أحد أطراف الخيط …»
فقالت ضاحكة: «لربما انقطع!»
فقال: «حسنٌ إذن، سنمسك بخيطٍ لا ينقطع. هناك عدة خيوط بالفعل وإن كانت لا تزال غير واضحة. وماذرفيلد يمسك بواحد منها أو اثنين.»
ذهب هيثرويك لرؤية ماذرفيلد في صباح اليوم التالي وأخبره بالقصة التي سمعها من رونا. واستغرق ماذرفيلد في التفكير.
وقال بعد هنيهة من الصمت: «في الواقع يا سيد هيثرويك، الأمر كما أخبرتك به من قبل: إن كانت الليدي ريفرسريد تلك متورطة في الأمر، فإن الأمر الذي ينبغي فعله هو البحث ومحاولة الحصول على تاريخ كامل قدْر الإمكان عن سوابقها. سيتحتم علينا القيام بذلك، لكننا سننتظر لنرى ما سيكتشفه موظفك عن ذلك الرجل. فربما يفيدنا ذلك بشيء، بينما أعمل أنا بكد على الأدلة التي لديَّ.»
فسأله هيثرويك: «هل حالفك الحظ؟»
«كلا. لكننا نجتهد في العمل كما أخبرتك. ومسألة التوصُّل إلى أصل ورقة النقود تلك أمرٌ صعب. لا شك في أنَّ أحدهم أخذها بقيةً لحسابه من نادي «فيفيان» الليلي، لكنهم يخبرونني أنه من الشائع أن يعطوا الزبائن باقي حسابهم من فئة العشرة والعشرين جنيهًا بل حتى الخمسين؛ فهناك الكثير من الأشخاص الذين يجتمعون هناك، وليس لديهم بالطبع أي ذكرى أو فكرة عن تلك الليلة أو الورقة النقدية على وجه التحديد. لكن الحقيقة تظل راسخة، وهي أن تلك الورقة النقدية أتت إلى جرانيت من خلال نادي فيفيان وأحد المترددين عليه، ويحدوني الأمل في معرفته.»
سأله هيثرويك: «وماذا عن زجاجة الدواء؟»
ردَّ عليه ماذرفيلد وفي عينيه لمعة: «آه، ثمة أمل أكبر في ذلك! إنما هي مسألة وقت ليس إلا! لديَّ رجل يطوف على جميع الكيميائيين في حي ويست سنترال، وتلك مهمة عسيرة؛ ذلك أن عددهم أكبر مما كنت أعتقد. غير أنَّ الرجل سيتوصل إلى الشخص المطلوب ولا بد في نهاية المطاف. وحينها، سنعرف بدرجةٍ لا بأس بها من اليقين كيفية حصول جرانيت على ذلك الشيء الذي سمَّمه، هذا إن لم نحصل على دليل مؤكَّد.»
فقال هيثرويك مستفسرًا: «ما من شك إذن في أنَّ تلك الزجاجة كانت تحتوي على سم؟»
أجابه ماذرفيلد: «لا، المختصون متيقنون من ذلك. وكان بالكأس سمٌّ أيضًا. لكني لا أعرف نوع السُّم؛ فأنت تعرف مدى تكتُّم الخبراء بشأن هذه الأمور! لكنهم أخبروني أنَّ المادة التي قضت على جرانيت متطابقة مع المادة التي أنهت حياة هانافورد. هذا أمرٌ مؤكَّد.»
قال هيثرويك: «إذن فقد أتت تلك المادة من المصدر نفسه على الأرجح.»
قال ماذرفيلد: «أجل، أظن أن مَن سمَّم أحدهما قد سمَّم الآخر. وفي الوقت نفسه. أعتقد أن جرانيت على الأقل حصل على جرعته في الوقت نفسه، وربما حملها في جيبه وشربها حين وصل إلى المنزل. غير أننا سنتتبَّع تلك الزجاجة! أخبرني بما تكتشفه بشأن ذلك الرجل المدعو باسيفيري يا سيد هيثرويك؛ فكل تفصيلة صغيرة تمثِّل مساعدة لنا.»
قام هيثرويك بتدريب مابيرلي كما ينبغي على الدور الذي يريد منه أن يلعبه، وانطلق مابيرلي إلى فيكتوريا في صباح يوم الجمعة التالي ومعه نقود في جيبه وغليون في فمه. ولم يرَه رب عمله ولم يسمع عنه طوال ذلك اليوم.