الليدي ريفرسريد
بينما كان هيثرويك يتناول إفطاره في صباح اليوم التالي، دخل مابيرلي عليه الحجرة بمظهر مألوف وهدوء معتاد.
أمره هيثرويك إذ أدرك بحدْسه وجودَ أخبار: «أخبرني بسردٍ موجز أولًا، والتفاصيل فيما بعد. لديك شيء؟»
قال مابيرلي: «رأيته في الحال في فيكتوريا. وتبعته إلى هناك. ظل في ريفرسريد ساعة. بعد ذلك، عاد إلى دوركينج حيث تناول غداءه في «ريد ليون». وظلَّ هناك حتى الساعة الرابعة؛ إذ قضى الوقت في تناول الغداء والتسكع. عاد إلى المدينة في قطار الرابعة وتسع وعشرين دقيقة، ووصل في السادسة وخمس دقائق. ثم تبعته إلى مقهى «كافيه دو باريس». تناول الرجل عشاءه هناك وظلَّ حتى تخطت الساعة العاشرة. ثم ذهب إلى نادي «فيفيان» الليلي.»
انتصبت أذنا هيثرويك حين سمع ذلك. نادي «فيفيان» الليلي! على أي حال بدا أنه توصَّل إلى رابط في السلسلة التي يظنُّ ماذرفيلد أنه يمسك بأحد أطرافها على الأقل. فقد تتبَّع ماذرفيلد ورقة الخمسة الجنيهات إلى نادي «فيفيان» الليلي: والآن تتبَّع مابيرلي الزائر المجهول الذي زار الليدي ريفرسريد إلى المكان نفسه.
قال هيثرويك: «تقول إلى نادي فيفيان الليلي يا مابيرلي؟ لنرَ؟ أين يقع ذلك؟»
أجابه مابيرلي بسرعة: «مدخله في ممر «كانلدستيك» المتفرِّع من شارع «سانت مارتن». النادي في الطابق الأول، وبه الكثير والكثير من الحجرات الفاخرة أيضًا!»
سأله هيثرويك: «هل دخلته؟»
«مرتين، لكن ليس في ليلة أمس. فأنت لم تعطِني أيَّ أمرٍ إلا بمعرفة المكان الذي سيذهب إليه في نهاية المطاف بعد عودته للمدينة. لذا حين تتبعته حتى نادي فيفيان، عُدت للمنزل. ورأيتُ أننا لو أردنا معرفة المزيد عنه فسيفي نادي «فيفيان بالغرض».»
«حسنًا يا مابيرلي. ولكن قبل ذلك؟ هل تبِعته إلى قصر ريفرسريد؟»
ابتسم مابيرلي ابتسامة عريضة.
«لا! لقد فعلت ما هو أفضل من ذلك. كنت قد وصلت إلى هناك قبله، وهذا أفضل بكثير من تتبُّعه. لقد تعرَّفت عليه بسرعة كافية في فيكتوريا، وتأكدت من أنه ركب قطار العاشرة وعشر دقائق. وركبت أنا القطار بعد ذلك. وفور وصولنا إلى دوركينج، قفزت من القطار وخرجت من المحطة واستأجرت سيارة أجرة وانطلقت إلى قصر ريفرسريد. جعلت السائق يخفي سيارته على الطريق، وتخفيت أنا بين النباتات المقابلة لبوابة الدخول. وسرعان ما جاء الرجل وقاد السيارة حتى المنزل. وقد ظلَّ في المنزل إلى ما يربو عن الساعة، ثم عاد مرة أخرى باتجاه دوركينج. وقد تبِعته مع ترك مسافة كافية بيني وبينه: ظلَّ الرجل تحت عيني طوال الوقت. خرج الرجل من السيارة على الطريق الرئيسي، وهكذا فعلت أيضًا. ودلف إلى «ريد ليون»، وهكذا فعلت. تناول غداءه، وهكذا فعلت. بعد ذلك راح يتسكَّع في غرفة التدخين؛ فجعلته نُصب عيني.»
«لم يلتقِ بأي أحد؟»
«لا!»
«حسنًا، وفي مقهى «كافيه دو باريس»؟ هل قابل أحدًا هناك؟»
«كان يتبادل الإيماءات والكلمات مع الرجال والنساء الذين كانوا يدخلون ويخرجون. أما عن أي لقاء مرتَّب، فلم يحدث ذلك. يسعني القول أيضًا أنه كان معروفًا جدًّا في «كافيه دو باريس».»
«هل بدا وكأنه رجل يتمتَّع بموارد مالية كبيرة؟ أتعرف ما أقصد؟»
قال مابيرلي مبتسمًا مرة أخرى: «لقد أسبغ على نفسه في الغداء والعشاء على أي حال. تناول زجاجة من الكلاريت في دوركينج، وكأسًا من الشامبانيا في «كافيه دو باريس»، وكان يمسك بسيجار كبير أيضًا. حسنًا، إنه من نوعية الرجال تلك.»
راح هيثرويك يفكِّر في الأمر برهةً.
سأله فجأة: «كيف تدخل إلى نادي فيفيان الليلي ذلك؟»
أجابه مابيرلي باقتضاب: «ادفع المال عند الباب! يُذاع بعض الهراء بأنَّ الدخول يستلزم تقديم أحد الأشخاص، لكن ذلك حديث فارغ! يذهب رجلان إلى هناك، لنقُل براون وسميث. براون يقدِّم سميث، وسميث يقدِّم براون. محض هراء! يمكن لأي شخص أن يدخل بالمال.»
«وماذا يحدث هناك؟»
أجاب مابيرلي: «رقص! شرب الخمر! حماقات! لكن المكان نفسه جدير بالاحترام. لم يصدُر بحقه ملاحقات قضائية حتى الآن على أي حال.»
«في أي وقت يفتح أبوابه؟»
أجابه بابتسامة معبِّرة: «في التاسعة. في الأيام الخوالي لم يكن النادي يفتح أبوابه إلا بعد المسارح. لكنه أصبح يفتح الآن مبكرًا.»
علَّق هيثرويك: «إذن فهو ليس بنادٍ ليلي بالمعنى العام القديم للمصطلح. يفتح في المساء، حقًّا؟»
قال مابيرلي موافقًا: «هذا صحيح. على أي حال، إنه نادي «فيفيان».»
للمرة الثانية في مسار تحقيقاته تتجه أفكار هيثرويك مرة أخرى إلى بوكسلي. لا شك أن حب بوكسلي في التعرُّف بحميمية على كل جوانب الحياة في لندن أدَّى به إلى زيارة نادي «فيفيان»؛ سوف يسأل بوكسلي عن المزيد من المعلومات. وراح يبحث عن بوكسلي في النادي.
كان بوكسلي يعرف نادي فيفيان بما يكفي، وقال بأن النادي صار الآن بريئًا وغير ضار في ظل كل تلك اللوائح الجديدة وما إلى ذلك، وتحوَّل إلى نادٍ للعشاء ومثل هذه الأمور، سواء أكنت ترى ذلك تحسنًا أم تدهورًا. الرقص؟ أجل، كان هناك رقص وغير ذلك، لكن الأمور تغيَّرت.
قال هيثرويك: «حسنًا، أنا لا أريد أن أرقص هناك، ولا أريد أن أذهب إلى هناك من الأساس ما لم أكن مضطرًّا إلى ذلك. ما أريد معرفته هو شيء عن رجلٍ أظن أنه يتردَّد على المكان؛ رجل جدير بالملاحظة إلى حدٍّ بعيد.»
قال بوكسلي بنبرة حازمة: «صِفه لي!»
روى هيثرويك وصف رونا لباسيفيري، وأومأ بوكسلي.
وقال: «أعرف هذا الرجل من شكله. رأيته هناك. أظن أنه على صلة بالملَّاك؛ فهذا المكان مملوك لمؤسسة صغيرة. لكنني لا أعرف اسمه. وقد رأيته في الخارج أيضًا: في أرجاء ميدان ليستر وضواحيه.»
ذهب هيثرويك من عند بوكسلي إلى ماذرفيلد وأخبره بثمرة عمل مابيرلي.
قال ماذرفيلد: «أعرف نادي فيفيان بالطبع. زرته مؤخرًا مرتين أو ثلاث مرات بخصوص ورقة الجنيهات الخمسة. غير أنني لا أتذكَّر رؤية ذلك الرجل. لكن في ضوء ما يقوله موظفك، فإنني أرغب في رؤيته. تعالَ معي. سنذهب الليلة.»
قال هيثرويك مقترحًا: «لنجعلها يوم الإثنين؛ فسوف ألتقي بالآنسة هانافورد مرة أخرى يوم غد الأحد، وأريد قبل أن نذهب إلى فيفيان أن أعرف إن كان لديها أيُّ أخبار عن زيارة باسيفيري الأخيرة إلى قصر ريفرسريد، تلك الزيارة التي راقبه مابيرلي خلالها يوم أمس. ربما عرفت عنها شيئًا.»
قال ماذرفيلد موافقًا: «هي ليلة الإثنين إذن. لا أعرف ما يجدر بنا أن توقَّعه، لكنني أرغب بكل تأكيد في معرفة مَن يكون ذلك الرجل والسبب في ذهابه إلى ريفرسريد.»
قال هيثرويك: «تأكَّد أن الأمر ليس خيرًا! لكننا سنكتشف ذلك، بطريقةٍ ما.»
قال ماذرفيلد وهو مستغرق في التفكير: «غريب أنَّ الأمور تبدو مرتكزة حول نادي فيفيان! الورقة النقدية في البداية، ثم هذا الآن. حسنٌ، مساء الإثنين إذن؟ ربما يمكن للآنسة هانافورد أن تمدَّنا بمزيد من الأخبار غدًا.»
حين التقى هيثرويك برونا في فيكتوريا في اليوم التالي، وجد رونا تمسك ذراعه بيدها اليُمنى وتجعله يدور.
وهمست إليه قائلة: «إن كنت تريد رؤية الليدي ريفرسريد بشحمها، فهاك هي! أتت في نفس القطار الذي أتيتُ فيه، هي تلك التي تتوجَّه نحو كشك الكتب، وهناك رجل طويل معها!»
في تلك اللحظة التفتت الليدي ريفرسريد لتتحدث مع حمَّال كان يحمل لها أمتعة خفيفة، وحظي هيثرويك بنظرة كاملة وجيدة لوجهها وشكل جسدها. قال هيثرويك في نفسه إنها امرأة جميلة وجذابة وقديرة، ومن النوع الذي لا يمكن نسيانه بسهولة بعد رؤيته.
سألها هيثرويك وقد حوَّل نظره من الليدي ريفرسريد إلى رفيقها، وهو رجل طويل برونزي البشرة ويبدو عليه المظهر العسكري وأنه في مثل سنِّها: «مَن هذا الرجل؟»
أجابته رونا على الفور: «الرائد بينتيني. إنه صديقها، وهو مهتم كثيرًا بأمر الدار؛ بل الحق أنه يعمل بمثابة ممثِّل للدار هنا في المدينة بشكلٍ ما. وكثيرًا ما يكون في القصر، أعتقد أنه يحبها.»
علَّق هيثرويك بينما تحرَّك الثنائي في حيز الملاحظة نحو المخرج: «يا له من ثنائي مناسب.» وسأل قائلًا: «ولماذا أتت الليدي ريفرسريد؟»
أجابته رونا: «لا، لا أعرف بشأن ذلك. فهي لا تخبرني أبدًا بأي شيء عن خصوصياتها. لقد سمعتها تقول إنها ستذهب إلى المدينة صباح اليوم وأنها لن تعود حتى يوم الثلاثاء، لكني لا أعرف سوى هذا.»
سألها هيثرويك: «ذلك الرجل المدعو باسيفيري، هل أتى مرة أخرى يوم الجمعة؟ أعرف أنه فعل؛ إذ أخبرني مابيرلي بذلك. فهل حدث أي شيء؟»
أجابته رونا: «لم يحدث شيء عدا أن الليدي ريفرسريد أخبرتني أن أحضِر لها الدكتور باسيفيري فور أن يأتي مرة أخرى. وقد أتى في الوقت نفسه كما فعل في المرة السابقة، ومكث معها مدة ساعة.»
فقال هيثرويك متسائلًا: «هل بدت عليها أيُّ علامات تدل على انزعاجها مرة أخرى؟»
قالت رونا: «لا، بل بدت على العكس من ذلك هادئة ورزينة إلى حد كبير بعد أن غادر. وبالطبع لم تتحدث بأي شكل عن زيارته.»
«ألم تذكره لك قط؟»
«إطلاقًا! وعلى الرغم من حقيقة أن غرض زيارته المعلن هو رؤية الدار والمرضى فإنه لم يرَ أيًّا منهما.»
غمغم هيثرويك: «وهو ما يوضِّح أن كل ذلك لم يكن إلا محض عذر ليتحدث معها! حسنٌ، سنكتشف مَن هو ذلك المدعو الدكتور باسيفيري! أنوي أنا وماذرفيلد أن نتواصل معه مساء الغد.»
بالرغم من ذلك، فحين حلَّ مساء اليوم التالي تعطلت خطة هيثرويك لزيارة فيفيان بسبب حدثٍ غير متوقَّع، ولم يقُم هو ولا ماذرفيلد بتخطي عتبة النادي الليلي الواقع في ممر كاندلستيك. لقد ذهبا هناك في العاشرة مساءً؛ إذ قال ماذرفيلد إنَّ الوقت سيكون ملائمًا من حينها وحتى الحادية عشرة والنصف؛ إذ يكون المكان ممتلئًا بزوَّاره المعتادين؛ فيتمكنا من الاختلاط مع الحشد الموجود هناك على نحوٍ لا يوحي بالتطفل، وأن يظلا حذرين ويقظين لأي شيء قد يحدث.
اتضح لهيثرويك أن ممر «كاندلستيك» الذي لم يكن يعرفه حتى تلك الليلة، كان واحدًا من بين الكثير من الممرات الضيقة التي تُفضي إلى شارع «سانت مارتن» في حي المسارح. كان الممر يبدو عاديًّا للغاية ويمكن حتى القول إنه متهالك، ولم يكن هناك شيء في جو المكان يوحي بروح المغامرة أو الرومانسية. ولم يكن هناك أيضًا أيُّ شيء فاتن أو جذاب في مدخل نادي فيفيان، والذي كان محض مدخل واسع مزدوج مزيَّنًا بشجرتين دائمتي الخضرة موضوعتين في أحواض ويظهر منه أبواب متأرجحة توجد بداخله، ومن بعدها دَرَج مغطًّى بسجاد. لكن هيثرويك وماذرفيلد لم يصلا قط إلى تلك الأبواب المتأرجحة أو الدَّرج؛ ذلك أنه بينما كانا يقتربان من المدخل الخارجي برزت أمامهما امرأة طويلة، ومن دون أن تنظر يَمنة أو يَسرة، قطعت الممرَّ مباشرة متوجهةً نحو الشارع. لم تولِ المرأة اهتمامًا بالرجلين وهي تمر مسرعة بجوارهما، لكن هيثرويك أمسك بذراع رفيقه برفق.
وصاح بصوتٍ مكبوت: «الليدي ريفرسريد، هذا أمر عجيب! يا لها من امرأة!»
التفت ماذرفيلد التفاتة حادة وراح يحدِّق بالجسد المتقهقر.
وقال وهو لا يكاد يصدِّق: «تلك المرأة، تخرج من هنا؟ هل أنت متأكد؟»
قال هيثرويك مؤكِّدًا: «متأكد تمامًا! تعرفت عليها في الحال؛ فقد حظيتُ بفرصة النظر إليها بإمعان يوم أمس. تلك هي الليدي ريفرسريد!»
غمغم ماذرفيلد: «ماذا تفعل في نادي فيفيان. هذا أمر غريب!»
قال هيثرويك: «لكنها تبتعد، هيا! لِنرَ ما تكون وجهتها. يمكننا أن نعود إلى هنا بسهولة. لكن لماذا لا نتتبَّعها أولًا؟»
وافقه ماذرفيلد قائلًا: «حسنًا! هيا إذن! من السهل أن نجعلها في مرمى بصرنا.»
في تلك اللحظة كانت الليدي ريفرسريد تلتفت يسارًا للخروج من الممر. وحين خرج الرجلان من الممر، كانت الليدي ريفرسريد تتقدمهما بالفعل ببضع ياردات، وكانت متجهةً إلى كنيسة «سانت مارتن». كان من السهل تتبُّعها بسبب طول قوامها، لكن ماذرفيلد طلب من هيثرويك التراجع بعض الشيء؛ إذ قال بأن الاقتراب كثيرًا من الطريدة لا يفيد في شيء.
قال ماذرفيلد وهما ينسلخان من بين الحشد على الرصيف: «بفضل طول قوامها وطول قامتينا، يمكننا أن نراها من بُعد عشرين ياردة. لنتبعها بحذر، انظر، إنها تشير لسيارة أجرة!»
راحا يرقبان الليدي ريفرسريد وهي تتفق مع سيارة أجرة وتدخل إليها، وفي غضون دقيقة تحرَّكت السيارة. لكنها لم تكد تتحرك حتى كان ماذرفيلد على أبواب السيارة التالية.
وقال للسائق: «أرأيت تلك السيارة تنطلق وبها امرأة طويلة؟ هناك! تمامًا عند الزاوية، أتعرف سائقها؟ حسنًا! اتبعها بحذر. ولاحظ مكان توقُّفها، وما إن كانت المرأة ستخرج منها، أم لا. قُد السيارة في هدوء من أمام المكان الذي ستتوقف عنده، ثم توقَّف بعده بقليل. كن يقظًا، والآن، هاك …» انحنى نحو السائق وهمس إليه بكلمة، وبعد لحظة كان هو وهيثرويك في السيارة الأجرة يعبران الجزء العلوي من ميدان «ترافلجار».
علَّق ماذرفيلد: «بدأ الأمر يصبح أكثر غموضًا يا سيد هيثرويك. موظفك يتعقَّب الرجل المكلَّف برقابته إلى نادي فيفيان مساء يوم الجمعة، ونجد نحن الليدي ريفرسريد تخرج من نادي فيفيان مساء يوم الإثنين. لا أظنُّ أن الليدي ريفرسريد التي لا نسمع عنها إلا أنها مُحِبَّة للخير والإنسانية، من النوع الذي يكون من المرجَّح أن يكون في زيارة لنادي «فيفيان»!»
ردَّ عليه هيثرويك قائلًا: «لكنها خرجت من نادي «فيفيان» على أي حال!»
قال ماذرفيلد: «إذن فقد كانت بداخله بالطبع! لكن لماذا؟ في رأيي أنها كانت في لقاء مع باسيفيري، أو مع شخص ينوب عنه ويمثِّله، أو ربما بشأن الأمر الذي جعله يزور قصر ريفرسريد. لكن ما ذلك الأمر؟ ألهذا الأمر أيُّ علاقة بقضيتنا؟ لكن وعلى أي حال، ها هي ذي الليدي ريفرسريد في سيارة الأجرة أمامنا، وسنتبعها لنعرف وجهتها؛ لا شك أنها حجزت لنفسها في أحد فنادق حي ويست إند الأنيقة. وستكون تلك المعرفة مفيدة؛ إذ إنني أريد رؤيتها في الصباح لأطرح عليها بضعة أسئلة.»
قال هيثرويك مستفسرًا: «أليس الوقت مبكِّرًا على ذلك بعض الشيء؟ أترى أنَّ ما نعرفه يكفي؟»
ردَّ عليه ماذرفيلد بنبرة جافة: «الأمر يعتمد على ما تجد أنه يكفي. ما أعرفه هو الآتي: أن الرجل المدعو جرانيت قد سُمِّم. وكان معه ورقة نقدية جديدة من فئة الخمسة الجنيهات. وقد تتبَّعت تلك الورقة حتى أوصلتني إلى نادي «فيفيان»، حيث دُفعت ولا بد إلى أحد الزبائن في اليوم السابق لوفاة هانافورد وجرانيت؛ ومِن ثَمَّ يصبح نادي «فيفيان» مكانًا ذا أهمية. والآن أعرف أن رجلًا غامضًا يزور الليدي ريفرسريد، ويقودنا ذلك الرجل أيضًا إلى نادي «فيفيان»، ثم أرى أنا بنفسي الليدي ريفرسريد وهي تخرج من نادي فيفيان. أظنُّ أن عليَّ أن أسأل الليدي ريفرسريد عمَّا تعرفه عن نادي فيفيان وعن الدكتور باسيفيري، وأن أسألها عَرَضًا إن كانت قد سمعت عن مكانٍ يُدعى سيليثوايت وعن مفوَّض شرطة يُدعى هانافورد. ما هذا! لكننا نغادر المنطقة التي توجد بها الفنادق الأنيقة البارزة.»
نظر هيثرويك من خارج النافذة، وبدا له ما رآه غير مألوف.
قال ماذرفيلد: «نحن متوجِّهون إلى طريق إدجوير.» مال بجسده خارج السيارة الأجرة وراح يعطي المزيد من التعليمات إلى السائق. وعلَّق قائلًا وهو يعود إلى مقعده مرة أخرى: «لا أريد أن أثير أيَّ شكوك في السيارة التي أمامنا. من المحتمل أنها ذاهبة إلى منزل خاص، ولا أريدها أن تظن بوجود مَن يتبعها. آه! والآن ننعطف إلى طريق هارو.»
انطلقت السيارة بجوار «بادينجتون جرين»، ثم انعطفت منعطفًا حادًّا عند «تاون هول»، وسارت على طول «سانت ماري تيراس». بعد ذلك أبطأت السيارة سرعتها؛ وتقدَّمت بسرعة أبطأ، وتخطت السيارة الأخرى التي توقَّفت تمامًا في مواجهة مجموعة من المباني المرتفعة، وبعد ذلك بمسافة ياردات قليلة توقَّفت السيارة تمامًا. نزل السائق من مقعده وتوجَّه نحو الباب.
وقال سرًّا: «تلك المرأة الطويلة! التي كانت تركب في السيارة الأخرى. لقد دلفت إلى نُزُل «سانت ماريز مانزيونز»، هناك تحديدًا.»
سأله ماذرفيلد: «هي شقق سكنية، أليس كذلك؟»
أجابه السائق: «بلى يا سيدي.» نظر إلى الشارع. وقال: «سيارة الأجرة تنصرف يا سيدي. خرج حمَّال ودفع للسائق.»
علَّق ماذرفيلد بنبرة خفيضة: «يبدو من هذا أنها ستمكث هنا فترة. حسنًا، سنخرج أيضًا، وسننظر في الأرجاء.» دفع للسائق وصرفه، وبعد أن عبَرا إلى الجانب الآخر من الطريق، أشار إلى هيثرويك على مجموعة الشقق التي اختفت فيها الليدي ريفرسريد. وغمغم يقول: «المكان كبير. إنها منطقة مكتظة. لكن، ليس هناك مدخل آخر غير هذا؛ فالمدافن القديمة تقع إلى الخلف، وليس هناك طريق للخروج من هناك، أعرف هذا! لذا لا يمكنها أبدًا أن تختفي في ذلك الاتجاه.»
سأله هيثرويك: «إذن ستنتظرها؟»
ردَّ عليه ماذرفيلد: «لا أقتنع أبدًا بالبدء في أي مطاردة إلا إذا كنت سأكملها حتى النهاية. أجل، أظن أننا سننتظر. غير أنه ما من ضرورة تدفعنا إلى الانتظار في الشارع. أنا أعرف هذا الحي؛ إذ كنت أعمل في قسم الشرطة القريب من هنا. أترى كلَّ تلك المنازل على ذلك الجانب يا سيد هيثرويك؟ إنها جميعًا منازل للإيجار، وأعرف معظم أصحابها. انتظر هنا دقيقة وسأجد لنا غرفة نراقب منها من دون أن يرانا أحد.»
ترك هيثرويك واقفًا تحت ظل جدار طويل بالقرب منهما، وسار مسافة قصيرة في الشارع. سمعه هيثرويك يفتح باب واحدة من الحدائق الصغيرة ويطرق على الباب. تأخَّر ماذرفيلد لبعض الوقت. فأمضى هيثرويك الوقت في التحديق في الصفوف الطويلة للنوافذ المضاءة في الشقق المواجهة له، وكان في أثناء ذلك يتساءل في نفسه عن أيٍّ من هذه الشقق قد ذهبت إليها الليدي ريفرسريد وعما كانت تفعله هناك. كان من الواضح له أن هناك مغامرة ذات صلة بالرجل الغامض باسيفيري ونادي «فيفيان الليلي»، لكنه لم يكن يعرف تلك المغامرة تحديدًا ولا طبيعتها.
جاء ماذرفيلد بعد ذلك، وكان وجهه مبتهجًا مطمئنًا.
وهمس قائلًا: «تعالَ يا هيثرويك. يوجد رجل هنا يعرفني؛ وهو حارس أحد منازل الإيجار. يمكننا أن نحصل على نافذة الصالة لنراقب منها. هذا أفضل كثيرًا من التجول في الشارع. سيكون ذلك مريحًا.»
قال هيثرويك وهما يتحركان: «إذن فأنت مصمِّم على أمر المراقبة؟»
ردَّ عليه ماذرفيلد قائلًا: «لم أقطع كلَّ هذه المسافة عبثًا. سأتبعها حتى تقرِّر أن تستقر بقية الليل. ولن يكون ذلك هنا؛ فسوف تنصرف إلى أحد الفنادق عمَّا قريب.»
بالرغم من ذلك، ثبت فيما بعد أن توقعات ماذرفيلد كانت خاطئة. راح الوقت يمر ثقيلًا في تلك الحجرة الصغيرة الخانقة الرثة التي اتخذها كلٌّ من هيثرويك وماذرفيلد للمراقبة، ووقف ماذرفيلد في نافذتها مراقبًا مدخل الشقق السكنية المواجهة لهما تمامًا. وحلَّ منتصف الليل ثم ولَّى، دون أن يحدث شيء. وفي الثانية عشرة والنصف اقترح هيثرويك أن الأمر لا يستحق العناء، وأنه يفضِّل الرحيل.
قال ماذرفيلد وهو يحاول أن يمنع نفسه من تثاؤبٍ يثير الارتياب: «افعل ما يحلو لك يا سيد هيثرويك. لقد سئمت المراقبة أيضًا. لكنني سأظلُّ هنا حتى تخرج، سواء كان ذلك في الليل أو الصباح!»
سأله هيثرويك في شيء من السخرية: «وماذا بعد ذلك؟»
أجابه ماذرفيلد: «ثم سنرى حينها إلى أين تذهب بعد ذلك، أو سأرى أنا إن كنت ستغادر! فأنا لا أحبِّذ أنصاف التدابير.»
قال هيثرويك: «حسنًا، سأنتظر معك! ليس الصبح ببعيد على أي حال.»
طلع الصباح على قمم المنازل عند الساعة الرابعة. وحتى تلك الساعة لم يرَ أيٌّ منهما شيئًا. لكن عند الساعة الخامسة إلا الثلث جرَّ ماذرفيلد ذراع رفيقه. كانت الليدي ريفرسريد تخرج من الباب المقابل لهما وهي ترتدي معطفًا فضفاضًا للسفر وتحمل في يدها حقيبة صغيرة.