اسم مستعار: السيدة ليستوريل
راحت المرأة الخاضعة للمراقبة تتحرَّك بسرعة في الشارع الخالي من المارة في اتجاه «تاون هول» الموجود عند التقاطع، وبعد أن نظر إليها ماذرفيلد نظرةً متفحصة أخرى، ترك من يده أحد أضلاع الستارة التي كان ينظر من خلالها والتفت إلى رفيقه. وفي اللحظة نفسها، مدَّ يده متناولًا معطفه وقبعته.
وقال بسرعة: «والآن يا سيد هيثرويك، لا بد أن يؤدي هذه المهمة رجل واحد! فلن يكون هناك شيء خارق للعادة في رجل واحد يسير في الشوارع ليلحق بقطار مبكر، لكن ربما يبدو مثيرًا للريبة قليلًا أن يذهب رجلان معًا في الاتجاه نفسه والوقت نفسه. سأذهب خلفها! وسوف أعرف وجهتها! أنا معتاد مثل هذه الأمور. اذهب أنت إلى شقتك واحصل على قسطٍ من النوم. سأعرِّج عليك فيما بعد وأخبرك بما لديَّ من أخبار. هذا أمر قاطع، الآن!»
في غضون الثواني القليلة التالية كان الرجل في الشارع، واستعدَّ هيثرويك للمغادرة وهو منزعج من نفسه؛ لأنه مكث من أجل مهمة قرَّر ماذرفيلد فجأة أن يقوم هو وحده بها. بعد قليل خرج هيثرويك إلى الرَّدهة الرثَّة؛ وكان الرجل المسئول عن المنزل ينزل الدَّرج وهو يكبح جماح تثاؤب شديد. وابتسم عن دراية حين رأى هيثرويك.
وتساءل قائلًا: «هل ذهب ماذرفيلد يا سيدي؟ لقد سمعت الباب يُغلق.»
قال هيثرويك مؤكِّدًا: «لقد ذهب. ظهر الشخص الذي كان يريده فجأة، وذهب هو في أثره.»
ومرة أخرى، ابتسم الرجل الذي كان لطيفًا رغم ما بدا في وجهه من أمارات التحفظ.
وعلَّق قائلًا: «غريب عملهم رجال الشرطة أولاء! يا لها من مهمة غريبة، أن يراقب المرء من خلال نافذة طوال الليل. كنت آتيًا لأحضر لك كوبًا من القهوة» ثم أكمل يقول: «سأحضر لك واحدًا في غضون دقائق قليلة، إن كنت تريد. أم تريد الشاي الآن؟ ربما تفضِّل الشاي؟»
قال هيثرويك: «هذا لطف كبير منك، لكني في الواقع أفضِّل الذهاب إلى المنزل والخلود للفراش. أشكرك كثيرًا على كل شيء.»
بعد ذلك دسَّ هيثرويك ورقةً نقدية في يد الرجل بدافع من طيبة نفسه فحسب، ثم ذهب بعد أن تمنَّى له صباحًا طيبًا. سار هو أيضًا في الاتجاه الذي سلكته الليدي ريفرسريد ومراقبًا. لكنه حين وصل إلى نهاية الشارع ودلف إلى طريق هارو لم يرَ منهما شيئًا، لا في يسار الطريق ولا في يمينه. بالرغم من ذلك، لم يكن الطريق خاليًا؛ إذ كان الناس في طريقهم بالفعل إلى أعمالهم في الصباح الباكر، وبالقرب من زاوية تاون هول كان هناك رجل يُعمل مكنسته على الطريق. فتوجَّه هيثرويك نحوه.
وسأله: «أرأيت الآن سيدةً ومن بعدها رجلًا مرَّا من هنا قادمين من «سانت ماريز تيراس»؟ كلاهما طويل القامة.»
استند الرجل إلى مكنسته والتفت نصف التفاتة وأشار باتجاه جسر «بادينجتون».
وأجابه قائلًا: «رأيتهما يتوجَّهان إلى هناك يا سيدي. امرأة طويلة تحمل حقيبة صغيرة. ذهبت على الجسر من هناك. طريق محطة بادينجتون. ومرَّ خلفها ماذرفيلد.»
صاح هيثرويك من الدهشة: «يا إلهي، أتعرفه؟»
أشار الرجل بإبهامه نحو قِسم الشرطة المجاور.
وأجابه قائلًا: «كان ماذرفيلد رقيبًا هنا، وأنا أعرفه بما فيه الكفاية! ذات مرة قادني إلى قِسم الشرطة أنا وزميل لي؛ إذ كنا مبتهجين بعض الشيء. كلفنا الأمر خمسة بنسات. لكنني لا أكن له ضغينة، ليس أنا! شكرًا لك يا سيدي.»
ترك هيثرويك بقشيشًا آخر خلفَه للرجل وسار ببطءٍ نحو طريق إدجوير. كانت قطارات الأنفاق قد بدأت عملها للتو، فلحِق بقطارٍ يتجه جنوبًا وذهب إلى تشارينج كروس، ومن هناك ذهب إلى حي تيمبل. وفي السادسة كان يخلد إلى فراشه ونام نومًا هنيئًا حتى سمع مابيرلي يتحرك في الغرفة المجاورة بعد أربع ساعات.
كان مابيرلي الذي كانت وظيفته لدى هيثوريك وظيفةً سهلة إلى حدٍّ كبير، يقرأ الأخبار بروية حين دخل عليه ربُّ عمله. وضع مابيرلي الجريدة جانبًا ورمق هيثرويك بنظرة تنم عن المعرفة والدراية.
وقال: «حصلت مساء أمس على معلومات عن ذلك الرجل الذي تتبعته أول من أمس.»
سأله هيثرويك: «كيف حصلت على تلك المعلومات؟»
أجابه مابيرلي: «قضيت بعض الوقت في نادي فيفيان. لي صديق أعرفه هناك. وهو موظف لدى السكرتير ويُدعى فلاورز. ذلك الرجل المدعو باسيفيري له حصة في المكان؛ إنه مدير من نوعٍ ما بحسبِ ما أعتقد.»
سأله هيثرويك: «متى كنت في فيفيان؟»
أجاب مابيرلي: «مبكرًا.»
«هل رأيت الرجل هناك؟»
«رأيته. كان موجودًا طوال الوقت الذي كنتُ فيه هناك. طوال الوقت تقريبًا. بدا في البداية منهمكًا في محادثةٍ جادة مع امرأة طويلة وجميلة. جلسا يتحدثان في كوَّة هناك في الصالة بعض الوقت. ثم رحلت المرأة وحدها.»
قال هيثرويك: «أرأيتَ ذلك حقًّا؟ حسنًا، بما أنك تعرف ما تفعل، فربما يمكنني إخبارك أنَّ تلك المرأة هي الليدي ريفرسريد.»
علَّق مابيرلي قائلًا: «آها، لقد خمَّنت ذلك! فهمت ذلك في الحال. لكن هذا ليس كل شيء. لقد اكتشفت المزيد. ذلك الرجل المتوفَّى المدعو هانافورد: ليس لديَّ أدنى شك في أنه زار «فيفيان» مرة على الأقل وربما مرتين خلال الليلتين أو الثلاث التي سبقت مقتله، وذلك وفقًا لما سمعته من فلاورز. على أي حال، تعرَّف فلاورز عليه من خلال وصفي له، والذي حصلت عليه بالطبع منك ومن الجريدة.»
قال هيثرويك متعجبًا: «هانافورد. هناك؟ وحيدًا؟»
«لا، لقد أتى مع ذلك المدعو باسيفيري. لكنهم لا يعرفونه هناك باسم الدكتور باسيفيري. يدعونه بلقب السيد فحسب. وأنا واثق إلى حدٍّ بعيد من أن هانافورد كان معه.»
سأله هيثرويك: «هل حصلت على التواريخ والمواعيد بالضبط؟»
«كلا. لم يتمكن فلاورز من تذكُّر ذلك. لكنه تذكَّر ذلك الرجل.»
قال هيثرويك: «حسنًا، هذا شيء مهم.» ثم دلف إلى غرفة أخرى وجلس يتناول إفطاره ويفكِّر. بعدها بفترة قصيرة نادى: «مابيرلي، تعالَ إلى هنا!» وأضاف بينما دخل الموظَّف: «اسمع، بما أنك تعرف هذا المكان المدعو «فيفيان»، فاذهب إلى هناك الليلة مرة أخرى، وحاول أن تعرف إن كان صديقك ذلك يعرف أيَّ شيء عن رجل طويل يتطابق مع أوصاف الرجل الذي شُوهد هانافورد وهو يقابله في فيكتوريا. أقرأت ما قاله ليدبيتر عن ذلك خلال التحقيق معه؟»
أجاب مابيرلي: «أجل. لكن ما أهمية ذلك؟ لا شيء من الجانب العملي! لم يستطِع ليدبيتر حتى أن يصف شكل أنف الرجل، ولا حتى لون عينيه! كلُّ ما قاله أنه رأى رجلًا متشحًا بطريقةٍ لم تمكِّنه من رؤية شيء من وجهه، وأنه كان طويلًا ويرتدي ثيابًا أنيقة. في لندن عشرات الآلاف وربما أكثر، من الرجال الطوال الذين يرتدون ملابس أنيقة!»
قال هيثرويك: «دعك من ذلك واسأله، وبالأخص عما إن كان ذلك الرجل قد شُوهد بصحبة باسيفيري هناك.»
أنهى هيثرويك إفطاره، وبدلًا من أن يذهب بعد ذلك إلى المحكمة الجنائية المركزية كعادته، راح يتسكَّع في شقته في انتظار زيارة ماذرفيلد. لكن ماذرفيلد لم يأتِ، وفي الظهيرة ترك له هيثرويك رسالةً ليجدها إذا زاره، ثم غادر؛ إذ واتته فكرة جديدة. واتباعًا لتلك الفكرة، ذهب هيثرويك مرةً أخرى إلى منطقة بادينجتون وطرق على باب المنزل الذي كان فيه هو وماذرفيلد يراقبان منه الشقة المقابلة.
فتح حارس الشقق الباب بنفسه وابتسم لدى رؤية هيثرويك. دلف هيثرويك إلى الداخل وأومأ باتجاه باب الغرفة التي لم يتركها إلا قبل ساعات قليلة.
وقال: «أريد أن أتحدث معك. على انفراد.»
أجاب الرجل: «لا يوجد أحد هنا يا سيدي، تفضَّل بالدخول.»
أغلق الرجل الباب على نفسه وعلى زائره، وعرض على هيثرويك أن يجلس على أحد الكراسي.
وقال الرجل وهو يبتسم ابتسامة ماكرة: «توقعت أنك ستعود خلال النهار. إما أنت أو ماذرفيلد، أو كلاكما!»
سأله هيثرويك: «ألم ترَه مرة أخرى؟»
فأجابه الرجل: «لا، لم يأتِ إلى هنا.»
فأكمل هيثرويك يقول: «في الواقع، أردت أن أطرح عليك سؤالًا، وربما اثنين أو ثلاثة أسئلة. دعني أسألك أولًا: هل تعيش هنا منذ فترة طويلة؟»
قال الرجل الآخر وهو يرمق المبنى الضخم المواجه لنافذته: «أنا هنا منذ ما قبل بناء هذه الشقق؛ أي سنوات كثيرة مضت لا أعرف عددها بالتحديد؛ اثنتان وعشرون سنة أو ثلاث وعشرون على أي حال.»
سأله هيثرويك: «إذن يسعني القول إنك تعرف معظم الأشخاص الموجودين في الأرجاء؟ تعرفهم من أشكالهم على أي حال.»
ابتسم حارس المنزل وهزَّ رأسه.
وأجاب يقول: «ذلك أمر صعب للغاية، يا سيدي! يوجد عدة آلاف من الأشخاص الذين يعيشون في هذه البقعة من لندن. بالطبع أعرف الكثير، من الذين يسكنون بالقرب من هنا. لكن لو كنتَ من أبناء لندن لعرفت أن اللندنيين يعيشون في انعزال. قد يبدو هذا غريبًا، لكن الواقع أنني لا أعرف اسمَي جاريَّ المباشرَين على أيٍّ من الجانبين، رغم أنهما هنا منذ بضع سنوات.»
قال هيثرويك: «ما كنت أقصده هو أنك تعرف الكثير من الأشخاص الذين يعيشون في الشقق المقابلة لمنزلك من شكلهم.»
قال الرجل موافقًا: «حسنًا، أعرف بعضهم من شكلهم. توجد مجموعة مختلفة من الأشخاص تعيش في تلك الشقق! بضعة من السادة العجائز المتقاعدين، وربما سيدتان أو ثلاث، ومجموعة كبيرة من الممثِّلات؛ فتلك الشقق مألوفة للغاية لدى العاملين في مجال المسرح. لكني بالطبع، لا أعرفهم إلا من شكلهم ولا أعرف أيَّ أحد منهم باسمه. أراهم فقط يدخلون ويخرجون كما تعلم.»
سأله هيثرويك: «أيتصادف أنك تعرف امرأة طويلة وجميلة تملك شقة هناك؟ امرأة تتأنق كثيرًا في ملبسها على الأرجح؟»
راح الرجل الذي لم يكن يرتدي معطفه وقد رفع كمَّي قميصه، يحك مرفقيه وبدا غارقًا في التفكير.
وأخيرًا قال: «أظن أنني أعرف السيدة التي تقصدها. إنها تخرج بأحد كلاب البوميرينيان الصغيرة المزعجة: كلب أسود اللون وله مقود؟ أهذه هي؟»
أجاب هيثرويك: «لا أعرف أيَّ شيء عن أي كلب. المرأة التي أقصدها كما قلت طويلة وجميلة ذات مظهر مميز وشعر أشقر وبشرة نضرة، وهي في الأربعين من عمرها تقريبًا.»
قال الرجل: «يسعني القول إنها هي تلك المرأة التي أفكِّر فيها. كنت أرى تلك المرأة بين الحين والآخر، لكنني لم أرَها مؤخرًا.» رمق هيثرويك بنظرة حصيفة مستفسرة. وسأله قائلًا: «هل تسعى خلفها أنت وماذرفيلد؟»
فأجابه هيثرويك: «ليس بالتحديد. ما أريد أن أعرفه الآن هو اسمها. الاسم المعروفة به هنا على أي حال.»
قال حارس المنزل مبتهجًا: «يمكنني أن أعرف لك ذلك، وبسرعة. فأنا أعرف حارس تلك الشقق جيدًا وكثيرًا ما أتحدث معه. سيخبرني بأي شيء بيني وبينه. والآن، اسمح لي بأن أؤكد على وصفك: امرأة طويلة وجميلة في الأربعين من عمرها تقريبًا وشعرها أشقر وبشرتها نضرة وأنيقة الملبس. أهذا صحيح أيها السيد؟»
قال هيثرويك: «هذا صحيح تمامًا.»
قال الرجل: «إذن فلتنتظرني هنا قليلًا، وسأذهب إليه سريعًا. وهذا سر بيننا كما تعلم. فأنا وذلك الحارس أصدقاء كما أخبرتك.»
غادر الرجل الحجرة وبعد دقيقة رآه هيثرويك يعبر الطريق وينزل إلى الطابق التحتي من تلك الشقق. وفي غضون ربع ساعة عاد الرجل ومن الواضح أنه كان يحمل بعض الأخبار.
أعلن الرجل بنبرة المنتصر: «أنجزت لك ذلك سريعًا يا سيدي! عرف الرجل السيدة التي تقصدها! اسمها السيدة ليستوريل. تفضَّل، لقد جعلته يدوِّن الاسم على قطعة ورق؛ لأنني لست معتادًا الأسماءَ الأجنبية. يظن الرجل أنها تعمل في المسرح. وهي تقيم في الشقة رقم ستٍّ وعشرين. لكنه يقول إنها نادرًا ما تأتي مؤخرًا؛ تأتي ليلة أو اثنتين ثم تغادر، وربما تظل غائبة شهورًا في المرة الواحدة. لكنه رآها هنا ليلة أمس؛ ويقول إنها لم تأتِ منذ فترة طويلة. لكن الرجل لا يعنيه إن كانت هنا أو بعيدة؛ فهي دائمًا ما تدفع المال في موعده، وهذا هو المهم، أليس كذلك؟»
أضاف هيثرويك إلى الإكراميات التي يدفعها منذ الصباح وغادر. كان الآن مقتنعًا أن الليدي ريفرسريد تستأجر شقة في بادينجتون لغرضٍ خاص بها، وأنها كانت تزور تلك الشقة من آنٍ لآخر وأنها معروفة باسم السيدة ليستوريل. فما هو مغزى ذلك، وما تأثير ذلك على المشكلة التي كان يسعى لحلها؟