لمن تعود هذه الصورة؟
فتح مالتر نفسه باب فندقه الخاص الصغير، وكان رجلًا هادئًا متحفظًا بدا وكأنه كبير خدم متقاعد. كان من نوعية الرجال البطيئين في الحديث، ولم يُجِب عن استفسار ماذرفيلد الحذِر بشأن السيد روبرت هانافورد حين فُتِح باب في القاعة الصغيرة وخرجت منه فتاة تقدَّمت نحوهم على الفور حين سمعت سؤال المفتِّش، وكأنها أتت لتجيب عنه.
تعرَّف هيثرويك على الفتاة. كان قد رآها في ظهر اليوم السابق في مبنى «فاونتن كورت» بصحبة رجل كان على معرفة طفيفة به يُدعى كينثوايت، وهو محامٍ زميل له. من الواضح أنَّ كينثوايت كان يقوم بواجب الضيافة مرشِدًا إياها في جولة في حي تيمبل؛ والحق أنَّ هيثرويك قد سمع كينثوايت وهو يمر بهما، وكان يُخبِر رفيقته بشيء عن تاريخ المنازل القديمة والساحات الواقعة حولها. جذبت الفتاة انتباهه آنذاك. كانت فتاة جميلة، طويلة ورشيقة وأنيقة، وعلاوةً على جاذبية وجهها وجسدها التي لا جدال فيها، بدا أنها تتمتع بأكثر من القدْر المعتاد من الشخصية والذكاء، وكانت تستمع إلى مرشدها بانتباه وامتنان واضحين. صنَّفها هيثرويك على أنها ربما تكون قريبة لكينثوايت من الريف، وربما أتت في زيارة إلى لندن للمرة الأولى. على أية حال، لاحظ هيثرويك ملامحها عن كثب حين مرَّ بجانبها هي وكينثوايت حتى إنه تعرَّف عليها الآن من فوره؛ ورأى أنها تعرَّفت عليه أيضًا. لكنَّ ثمة أمرًا آخر كان أكثر إلحاحًا، وقد تطرَّقت إليه مباشرة.
تساءلت الفتاة قائلة وهي تقترب منهم أكثر وتحوِّل نظرها من مالك الفندق إلى الزائرين: «هل يسأل هذان الرجلان الفاضلان عن جدِّي؟ إنه لم يأتِ …»
سُرَّ هيثرويك حين عرف أنَّ الرجل المتوفَّى هو جدُّها. تلك درجة قرابة وثيقة بالطبع، لكنها في النهاية أقل مما كان يمكن أن تكون عليه. وأدرك هيثرويك أنَّ المفتش أيضًا كان يشعر بالارتياح تجاه ذلك.
تحدَّث قائلًا: «نحن نسأل عن السيد روبرت هانافورد. أهو جدُّك: مفوَّض الشرطة السابق هانافورد من سيليثوايت؟ في هذه الحال، في الواقع، أنا آسف كثيرًا لأنني أحمل لك أخبارًا سيئة عنه …»
صمت المفتِّش وراح يراقب الفتاة بدقة، وكأنه أراد أن يحرص على أن تتلقى الفتاة الأخبار في هدوء. وحين اطمأن إلى ذلك، أكمل حديثه على نحوٍ محدَّد:
فقال: «هل ستتفهمين؟ الأمر … في الواقع، هذه الأخبار هي الأسوأ. الحق أنه …»
قاطعته الفتاة قائلة: «هل مات جدِّي؟ إن كان هذا هو ما حدث، فأخبرني بذلك من فضلك، لن أفقد وعيي، أو أي شيء من هذا القبيل. لكن … أريد أن أعرف!»
أجابها ماذرفيلد: «يؤسفني القول إنه قد مات. مات فجأة على متن القطار في محطة تشارينج كروس. المؤكد أنَّ نوبة ما أصابته. أكان بصحةٍ جيدةٍ حين رأيتِه للمرة الأخيرة؟»
التفتت الفتاة إلى مالك الفندق الذي كان يقف في مكانه وقد بدا عليه الذهول.
وصاح قائلًا: «لم أرَ في حياتي رجلًا يبدو أفضل منه حالًا حين خرج من ذلك الباب في تمام الساعة السادسة والنصف! كان في أفضل حالاته الصحية والنفسية!»
قالت الفتاة في هدوء: «كان جدِّي بصحة جيدة إلى حدٍّ بعيد. أنا لا أتذكَّر أنه كان غير ذلك قط: كان رجلًا قويًّا ومفعمًا بالحيوية. هلا تخبرني بتفاصيل الأمر برُمَّته من فضلك؟»
أخبرها ماذرفيلد بجميع التفاصيل، وكان يلتفت بين الحين والآخر إلى هيثرويك طالبًا تأييده. وفي النهاية طرح سؤالًا.
قال: «ذلك الرجل الذي رآه السيد هيثرويك بصحبة جدك. أتعرفين أحدًا يتطابق مع هذه الأوصاف؟»
أجابته الفتاة: «لا! لا أحد. لكن جدي كان يعرف أشخاصًا من لندن لم أكن أعرفهم. كان يذهب إلى هناك كثيرًا منذ أتينا إلى هنا قبل ثلاثة أيام؛ إذ كان يبحث عن منزل.»
علَّق ماذرفيلد قائلًا: «حسنًا، سيتعين علينا أن نجد ذلك الرجل. وبالطبع إذا أدركتِ أنَّ تلك الأوصاف تنطبق على أحدٍ تعرفينه …»
قالت الفتاة مجدَّدًا: «لا. لا أعرف شخصًا بهذه الأوصاف. لكن الآن، أتريد مني أن آتي بصحبتكم إليه؟»
فأجابها ماذرفيلد: «ليس ذلك ضروريًّا، لم أكن لأفعل ذلك الليلة لو كنت في مكانك. سأحضر هنا مرة أخرى في الصباح. وفي تلك الأثناء، اتركي الأمر لنا نحن والأطباء. أعتقد أنَّ لديكم أصدقاء في لندن، أليس كذلك؟»
قالت الفتاة: «بلى، لدينا أصدقاء، بل أقارب في حقيقة الأمر. لا بد أن أُطلعهم على ما حدث في الحال.»
أومأ لها ماذرفيلد واستدار نحو الباب. لكنَّ هيثرويك تباطأ. كان هو والفتاة ينظران أحدهما إلى الآخر. وفجأة تحدَّث إليها هيثرويك.
فقال: «لقد رأيتكِ ظهر اليوم في «فاونتن كورت»، بصحبة رجل أعرفه معرفة طفيفة، السيد كينثوايت. أيصدف أنه أحد أولئك الأقارب الذين ذكرتِهم الآن؟ لأنه إذا كان كذلك، فإنه يسكن بالقرب مني. يمكنني أن أخبره إذا ما أردتِ ذلك.»
ردَّت عليه الفتاة: «لا، ليس قريبًا لنا. إنما هو من دائرة معارفنا. يمكنك أن تخبره من فضلك، إن لم يكن في ذلك إزعاج لك.»
قال هيثرويك: «ليس في ذلك أيُّ إزعاج مطلقًا. وإذا سمحتِ لي، فهل لي أن آتي في الصباح لأرى إن كان ثمة ما يمكنني فعله من أجلك؟»
رمقته الفتاة بنظرة سريعة تنم عن التجاوب معه.
وقالت: «هذا من لطفك. أجل.»
غادر هيثرويك ومفتِّش الشرطة الفندقَ الصغير وراحا يسيران في الشارع. وبدا أنَّ ماذرفيلد منهمك في التفكير. وفي مكانٍ ما في شارع ستراند وبعد مسافة كبيرة في شارع فلِيت، بدأت أجراس الساعات تدق.
قال ماذرفيلد فجأة: «يبدو لي يا سيد هيثرويك أن هذه جريمة قتل!»
قال هيثرويك: «أتقصد بالسُّم؟»
«على الأرجح! أجل، لا بد أنه السُّم. علينا أن نجد ذلك الرجل! ألا يمكنك أن تضيف إلى أوصافه؟»
«لقد أخبرتك بكلِّ ما أستطيع بالفعل. لديك تفاصيل كاملة ودقيقة. أعتقد أنك لن تجد صعوبة كبيرة في التعرُّف عليه وإيجاده، بناءً على الوصف الذي قدَّمته.»
أطلق ماذرفيلد صوتًا اختلط فيه الضحك بالغمغمة.
وقال: «ليباركك الرب! إنَّ البحث عن شخصٍ ما في لندن هو أمر أشبه بالبحث عن إبرة في كومة من القش! أقصد أنَّ ذلك يحدث في بعض الأحيان بالطبع. الحق أنه يحدث في معظم الأحيان. رجل يُهرع على الدَّرج في محطة «تشارينج كروس»، ثم يختفي؛ أين؟ رجل واحد من بين سبعة ملايين من الرجال والنساء! لكن …»
افترق الرجلان بعد ذلك، وذهب هيثرويك غارقًا في التفكير إلى شقته ثم خلد إلى الفراش، وظلَّ راقدًا يفكِّر وقتًا طويلًا قبل أن يوافيه النوم. لم يحصل على قسط جيد من النوم، لكنه وصل إلى شقة كينثوايت بعد أن تجاوزت الساعة الثامنة بقليل. كان كينثوايت يرتدي ملابسه ويتناول الإفطار في الوقت نفسه، وكانت ثمة حقيبة جاهزة بالفعل وجدول مفتوح أوحيا أنه كان على عجلةٍ من أمره ليلحق بقطارٍ ما. غير أنه توقَّف عما كان يفعله؛ إذ وقف يحدِّق بهيثرويك شاغرًا فمه في ذهول من الأخبار التي سمعها منه.
وصاح قائلًا: «هانافورد! مات! يا إلهي! كان الرجل في صحة ممتازة ظُهْر البارحة يا هيثرويك! لقد عرَّج عليَّ هو وحفيدته واصطحبتهما إلى الغداء؛ فأنا من سيليثوايت كما تعرف؛ لذا كنت أعرفهما بالطبع. اضطُر هانافورد إلى الرحيل حالما فرغنا من الغداء، بسبب موعدٍ ما؛ لذا أخذت الفتاة في جولة قصيرة. إنها فتاة لطيفة وذكيَّة. اسمها رونا. جدير بها أن تحظى بالرعاية. ويموت العجوز! يا إلهي!»
علَّق هيثرويك قائلًا: «ليس لديَّ شك في أنَّ وفاته حادثة مدبَّرة.»
قال كينثوايت: «يبدو الأمر مرجَّحًا بصورة استثنائية.» وأردف وهو يكمل أداء مهمتَيه: «يؤسفني في الواقع أنني لن أستطيع مساندة الآنسة هانافورد اليوم؛ إذ يتحتم عليَّ أن أحضر في قضيَّة صعبة في المحكمة الفصليَّة يا صديقي، وليس أمامي سوى وقت قليل وثمين لألحق بالقطار. لكنني سأذهب إليها غدًا، هل يمكنك أن تساعدهم هذا الصباح؟»
أجابه هيثرويك: «أجل، ليس لديَّ شيء أقوم به اليوم. سأذهب إلى هناك بعد برهة. الأمر يثير اهتمامي بصورة طبيعية. فهذه قضية غريبة.»
وافقه كينثوايت: «غريبة! تبدو لي كذلك فعلًا. حسنًا، بلِّغ الآنسة هانافورد تعاطفي وما إلى ذلك، وأخبرها إن كان ثمة شيء أستطيع فعله حين أعود، أنت تعرف ما ستقول.»
علَّق هيثرويك قائلًا: «لقد قالت إنَّ لها معارف هنا في لندن.»
أقرَّ كينثوايت قائلًا: «أبناء عمومة أو عمات — هذا أو ذاك — أظنُّ أنهم على طريق توتنج. الساعة الآن الثامنة والثلث! سيتحتَّم عليَّ أن أسرع الآن يا هيثرويك!»
ابتلع ما تبقَّى من قهوته، وأمسك بالحقيبة وانطلق مسرعًا؛ وعاد هيثرويك إلى شقته وتناول إفطاره على مهل. وطوال فترة جلوسه في شقته، ظل يفكِّر في الحدث الذي وقع الليلة السابقة، لا سيما الاختفاء المفاجئ للرجل ذي الأصابع الملطَّخة. بدا لهيثرويك أن ذلك الاختفاء ينم عن ضلوعه في الأمر. تخيَّل هيثرويك أنَّ الأمر قد سار على النحو التالي: قام الرجل الذي هرب عند محطة تشارينج كروس بتسميم الرجل الآخر بطريقة خفية وحاذقة، وباستخدام شيء يستلزم وقتًا حتى يحدث مفعوله، وحين حانت اللحظة المرتقبة، سرى مفعول ذلك الشيء بسرعة مذهلة. لقد شهد هيثرويك في أثناء خدمته في الحرب موت الكثير للغاية من الرجال، حتى إنه لا يستطيع أن يتذكَّر عددهم. رأى بعضهم يصاب بطلق ناري في الدماغ، وآخرين يصابون به في صدورهم. غير أنه لم يرَ أيًّا منهم يموت بتلك السرعة المذهلة التي مات بها هانافورد، مع أنَّ بعضهم قد مات بجواره تمامًا. وبناءً على هذا توصَّل هيثرويك إلى استنتاج محدَّد: إذا كان ذو الأصابع الملطَّخة قد سمَّم هانافورد، فإنه يمتلك معرفة نادرة وعميقة بالسموم.
ذهب هيثرويك إلى شارع سُري في الساعة العاشرة. وأخبره مالك الفندق أنَّ الآنسة هانافورد قد ذهبت مع عمتها السيدة كيلي التي أتت في ساعة مبكرة من الصباح لرؤية جثة جدها؛ إذ أتى مسئول من الشرطة لاصطحابهما. لكنَّ الآنسة هانافورد تركت رسالة لأي شخص يسأل عنها تقول بأنها لن تغيب طويلًا. انتظرها هيثرويك في قاعة المشروبات الصغيرة القاتمة؛ إذ كانت لديه أسئلة محدَّدة يريد أن يطرحها على رونا هانافورد، وكان يريد أن يخبرها أيضًا ببعض المعلومات.
علَّق مالك الفندق وهو يحوم حول طاولات الإفطار قائلًا: «هذا شيء مؤسف للغاية يا سيدي. يا لها من نهاية مأساوية لرجل صالح ويتمتع بالقوة كالسيد هانافورد!»
وافقه هيثرويك قائلًا: «مؤسف جدًّا. لقد قلت ليلة أمس — أو بالأحرى صباح اليوم — إنَّ السيد هانافورد كان يتمتع بصحة جيدة ومزاج طيب حين خرج في ساعة مبكرة من المساء؟»
«كان في أفضل أحواله يا سيدي! كان مبتهجًا ولطيفًا، ومولعًا بالمزاح. كان يمزح ويضحك معي حين فتحت له الباب، ولم يخطر ببالي قط يا سيدي أنني لن أراه مرة أخرى على قيد الحياة!»
«ألا تعرف إلى أين كان ذاهبًا؟»
«لا أعرف يا سيدي. وحفيدته — وهي شابة ذكية يا سيدي — لم تكن تعرف أيضًا. كانت قد ذهبت إلى أحد المسارح مع عمتها: تلك السيدة التي أتت في وقت مبكِّر من صباح اليوم. لقد أرسلنا لها برقية تحمل الأخبار السيئة مبكرًا للغاية، وقد أتت من فورها. أما عن الرجل، فكلَّا، لا أعرف المكان الذي ذهب إليه يقضي أمسيته. فقد كان يأتي ويخرج كثيرًا، وكان يقضي معظم الوقت خارج الفندق منذ قدومهما إلى هنا قبل ثلاثة أيام. فهمت أنه كان يبحث عن منزل.»
عادت رونا هانافورد بعد فترة قصيرة بصحبة امرأةٍ تبدو فيها ملامح الأمومة، وقدَّمتها بأنها عمتها السيدة كيلي. تذكَّر هيثرويك أنه لم يقدِّم نفسه، وبتصحيحه لهذا النسيان، اكتشف أنَّ كينثوايت قد أخبر رونا عنه حين مرَّ بهما ظهيرة اليوم السابق. أبلغ هيثرويك رسالة كينثوايت وعرض مساعدته هو في غيابه.
قالت رونا: «هذا لطف منك. لا أعرف إن كان ثمة شيء نقوم به. يبدو أن الشرطة تقوم بكل شيء، كان المفتش الذي كان موجودًا هنا ليلة أمس عطوفًا جدًّا معي الآن، لكن لا يوجد ما يمكن القيام به إلا بعد التحقيق، مثلما قال.»
قال هيثرويك: «أجل، وهل قال متى سيُعقد؟»
قالت رونا: «صباح الغد. قال أيضًا إنه ينبغي عليَّ الحضور.»
علَّق هيثرويك: «وأنا أيضًا. سيريدون منكِ أقوالًا رسمية فحسب. وسيكون عليَّ أن أقول المزيد. أتمنى لو كان بإمكاني أن أقول أكثر مما سأقول.»
نظرت إليه السيدتانِ مستفسرتينِ عن معنى كلامه.
فأكمل يقول: «أعني أنني أتمنى لو أنني أوقفت الرجل الآخر من مغادرة القطار. أعتقد أنكما لم تسمعا أيَّ شيء من الشرطة عن ذلك الرجل، أليس كذلك؟»
«لا شيء. فهم لم يجدوه أو يسمعوا شيئًا عنه حتى الآن. لكن يمكنك أن تخبرني بشيء أرغب بشدة في معرفته. لقد رأيت ذلك الرجل مع جدي لوقت قصير، أليس كذلك؟»
«من محطة «سانت جايمس بارك» وحتى «تشارينج كروس».»
«هل تناهى إلى سمعك حديثهما، أو أيُّ شيء منه؟»
«سمعت الكثير في البداية. وبعد ذلك، بدأ جَدك يهمس إليه، ولم أسمع أيَّ شيء من همسه. لكنَّ أحد الأسباب التي دعتني للحضور إليكِ هذا الصباح هو أن أخبرك بما سمعت، وثمة سبب آخر وهو أنني أريد أن أسألك بعض الأسئلة التي برزت لي من خلالِ ما سمعت. كان السيد هانافورد يتحدث إلى ذلك الرجل — المفقود الآن — عن رسمة أو صورة. من الجلي أنها كانت لامرأة كان جدك يعرفها قبل عشر سنوات، وكان الرجل الآخر يعرفها أيضًا. قال جدك إنه حين يذهبان إلى الفندق سيُطلع الرجل الآخر على الصورة، والذي أكَّد أنه سيتعرَّف عليها هو أيضًا. والآن، هل أخبرك السيد هانافورد بأيِّ شيء؟ هل تعرفين بشأن إحضاره لصديقٍ له إلى هذا الفندق ليلة أمس؟ وهل تعرفين أيَّ شيء عن صورة أو رسمة كتلك التي أشار إليها؟»
«بشأن إحضار أحد إلى هنا، فلا! لم يخبرني بأي شيء قط عن ذلك. أما عن الصورة، أو بالأحرى عن نسختها، فأجل. أعرف شيئًا عن ذلك.»
سألها هيثرويك في حماسة: «ماذا تعرفين؟»
أجابته قائلة: «حسنًا، سأقص عليك ما أعرف. كان جدي الذي يمكنني القول إنك صرت تعرفه الآن، مفوَّضا للشرطة في سيليثوايت سنوات طويلة، وكان لديه عادة قص الأشياء من الجرائد: بعض الفقرات وقصص محاكمات المجرمين وما إلى ذلك. كانت لديه عدة صناديق ممتلئة بتلك القصاصات. وحين كنا في طريقنا إلى المدينة ذلك اليوم رأيته يقص صورة من جريدة مصوَّرة كان يقرؤها في القطار ووضعها في دفتر جيبه، أو بالأحرى في أحد دفاتر جيبه؛ ذلك أنه كان يمتلك منها اثنين أو ثلاثة. وفي هذا الصباح كنت أنظر في الأشياء المختلفة التي تركها موضوعة على منضدة التزيين الخاصة به في الطابق العلوي، ووجدت الصورة التي قصَّها في القطار موضوعة في أحد دفاتره. لا بد أنها تلك الصورة التي تشير إليه؛ إنها لامرأة جميلة جدًّا وذات ملامح مميزة.»
قال هيثرويك مقترحًا: «لو سمحتِ لي برؤيتها …»
وفي غضون دقائق كانت القصاصة في يده: قطعة من الورق مقصوصة بعناية عما يحيط بها من الجريدة، وهي نسخة لصورة فوتوغرافية لامرأة يبدو أنها في الخامسة والثلاثين أو الأربعين من عمرها، ومن الجلي أنها تحتل مكانة رفيعة، وكانت جميلة مثلما أشارت رونا هانافورد وذات ملامح مميزة. لكنَّ هيثرويك لم يكن يحملق بعينيه اللتين تملَّك منهما التخمين والتكهُّن في الصورة؛ فبعد أن رمق الصورة بعينه، تركَّز اهتمامه على كلمة مكتوبة بقلم رصاص على هامشها الجانبي:
«… من بين يدي قبل عشر سنوات!»
سأل هيثرويك فجأة: «أهذا خطُّ جدك؟»
أجابته رونا: «أجل، هذا خطُّه. كان معتادًا على التعليق بقلمه الرصاص على قصاصاته بجميع أنواع التعليقات.»
«ألم يذكر لك تلك القصاصة بعينها حين قصَّها؟»
«نعم، لم يقُل شيئًا عنها. لقد رأيته وهو يقصُّها، وسمعته يضحك ضحكةً مكتومة وهو يحتفظ بها، لكنه لم يذكر شيئًا عنها.»
«ولا تعرفين مَن هي تلك السيدة؟»
«لا، أبدًا! فلا يوجد اسم تحتها مثلما ترى. أعتقد أنه كان هناك اسم في الجريدة، لكنه لم يقص شيئًا سوى الصورة وشيء من الهامش. لكن من خلالِ ما كتبه هنا، أستنتج أنها صورة لامرأة كانت في ورطةٍ مع الشرطة في وقت من الأوقات.»
غمغم هيثرويك: «واضح!» وجلس في صمت يفحص الصورة لدقيقة أو اثنتين.
قال فجأة: «اسمعيني من فضلك، أريد منكِ أن تسمحي لي بالمساعدة في محاولة الوصول لحقيقة هذا الأمر؛ فأنت تريدين أن تُرفع الغشاوة عن هذا الأمر بالطبع. وفي البداية، أريد أن تكون هذه القصاصة بحوزتي، ولا تخبري أحدًا في الوقت الراهن أنها معي: أقصد الشرطة أو أيَّ شخص يسألك. أريد أن أتحدث إلى كينثوايت بشأنها. أتفهمين؟ ولمَّا كنتُ حاضرًا في أثناء وفاة جدك، فإنني أريد أن أحلَّ لغز وفاته. اسمحي لي أن أحصل عليها …»
أجابته رونا: «حسنًا، بالطبع! لكن … أتظن أن مقتله حادث مدبَّر؟ وأنه لم يَمُت مِيتةً طبيعية؟ أنه لم يُصَب بنوبة قلبية أو …»
فُتِح باب حجرة المشروبات الصغيرة ودخل ماذرفيلد. فور أن رأى هيثرويك، أشار إليه بالدخول إلى القاعة الرئيسية وأغلق الباب مرة أخرى حين لحِق به المحامي الشاب. أدرك هيثرويك أنه كان يحمل الكثير من الأخبار، وتوجَّهت أفكاره في الحال إلى الرجلِ ذي الأصابع الملطخة.
قال بنبرة تنم عن الحماس: «حسنًا؟ هل وجدتم ذلك الرجل؟»
أجابه ماذرفيلد: «آه، ذلك الرجل؟ لا! لم نسمع عنه أو نجد شيئًا بشأنه حتى الآن! لكن الأطباء انتهوا من الفحص الجنائي. ما من شك بشأن قرارهم. لقد مات مسمومًا!»
خفض ماذرفيلد صوتَه إلى حد الهمس حين نطق بتلك الكلمة الأخيرة. وعلى الرغم من أن هيثرويك كان مستعدًّا لتلقي تلك الأخبار، فقد ذُهِل حين سمعها؛ ذلك أن النبرة الحاسمة التي أتى بها التصريح بدت وكأنها تفتح نافذة على مجال كبير من الغموض والألغاز. ورمق الباب الموجود خلفه.
فقال ماذرفيلد مقاطعًا أفكاره: «سيتحتم إطلاعهم على ذلك بالطبع. لكنَّ الأمر مؤكَّد. لقد شك جرَّاحُنا في الأمر منذ البداية، وقد استدعى متخصصًا من وزارة الداخلية ليساعده في التشريح، يقولون إن الرجل سُمِّم بعقَّارٍ ما أو آخر؛ فأنا لا أفهم الكثير في تلك الأشياء، وإنه تناول ذلك المستحضر قبل ساعتين أو ثلاث من وفاته، وإنَّ مفعول هذا العقَّار كان سريعًا كالبرق حين نشط.»
غمغم هيثرويك وهو غارق في التفكير: «أجل. مفعوله سريع كالبرق: ذلك وصف دقيق. يمكنني أن أشهد أنه كان كذلك.»
وضع ماذرفيلد يده على الباب.
وقال: «حسنًا، من الأفضل أن أخبِر السيدتين. وبعد ذلك، توجد بعض الأمور التي أريد معرفتها من الحفيدة. لقد رأيتها هي وعمتها من قبل في الصباح. وعرفتُ أن هانافورد ربَّى تلك الفتاة وعلَّمها وأنها كانت تعيش معه في سيليثوايت منذ أن تخرجت في المدرسة؛ لذا فإنها ستعرف عنه أكثر مما سيعرف أيُّ شخص آخر. وأنا أريد أن أعرف كل شيء. فلتأتِ معي.»