مسالك متقاربة
كانت ساعة قد مرَّت حين توقَّفا عند مقر ماذرفيلد ودخلا يبحثان عنه. وبعد أن بحثا عنه لبعض الوقت عثرا عليه، وفرك ماذرفيلد يديه حين رآهما.
صاح بهما قائلًا: «جئتما في الوقت المناسب! لديَّ أخبار؛ عن أمبروز!»
من الواضح أن ماذرفيلد كان يتوقَّع من زائرَيه أن يُظهرا انتباهًا كبيرًا، إن لم يكن حماسًا مكتومًا، بصددِ ما أعلن عنه؛ فراح يحدِّق بهما متعجبًا لمَّا رأى أنَّ وجهيهما لا يوحيان إلا بالكآبة والقلق.
هتف بهما: «لكنكما تبدوان كمَن سمع أخبارًا سيئة! أَوَقَعَ خطْبٌ ما؟»
فأجابه هيثرويك بعد أن أدرك فجأة أن ماذرفيلد لا يعرف شيئًا عن أحداث اليوم: «نسيت أننا كنا نستطيع الاتصال بك من قصر ريفرسريد. لكنني ظننت أن شرطة دوركينج ستفعل ذلك. وقع خطْبٌ ما! أجل، وربما يكون لأمبروز علاقة بالأمر؛ ذلك أننا سمعنا أخبارًا تشير إلى تورُّطه. سأقص عليك ما حدث.» بدأ يحكي لماذرفيلد سردًا مقتضبًا لأحداث اليوم. واختتم كلامه يقول: «هذا ما أردتَ معرفته! ليس لديَّ أدنى شك أن باسيفيري وأمبروز متورطان في الأمر؛ الاختطاف في وضح النهار. عليك أن تجدهم يا ماذرفيلد!»
كان ماذرفيلد يستمع باهتمامٍ بالغ لقصة هيثرويك، ثم راح يقلِّب نظره بينه وبين بنتيني، ومن بنتيني انتقل بعينه إلى ورقةٍ مطبوعة موضوعة على المكتب من جهته. علَّق قائلًا بعد أن سكت برهة: «أظن أنني أستشفُّ سببَ هذا، يظنُّ هذان الرجلان أنهما اختطفا الليدي ريفرسريد، أو كانا يظنان أنها هي مَن اختطفاه! أرادا احتجازها من أجل طلب فدية بالطبع. وقد أخذا الآنسة هانافورد إذ تصادف وجودها هناك. غير أنَّ مَن اختُطِفَت حقًّا هي أخت الليدي ريفرسريد، ويسعني القول إنَّ هذا الأمر ينطوي على أكثر مما تعرفان به أيها السيدان! لكن الآن، وبالرغم من أنهما شقيقتان، بل توءم والشبه بينهما كبير للغاية، فستحين لحظةٌ بالطبع ينكشف فيها اختلاف الهوية بينهما. وبحلول الوقت الراهن، وربما قبل ذلك، لا بد أنَّ هذين الرجلين قد اكتشفا أنهما حصلا على المرأة الخطأ! ويصبح السؤال هو: كيف سيتصرفان حيال ذلك؟»
فقال هيثرويك: «يبدو لي أن السؤال الأكثر إلحاحًا هو: أين هما المرأتان؟ فكِّر في الخطر المحدِق بهما!»
أجابه ماذرفيلد: «حسنًا، في الواقع يا هيثرويك، لا أظن أنهما معرضتان لأي خطر. لا شك أنهما في أيدي مجرمين، لكني لا أعتقد أنهما ستتعرضان إلى أيِّ نوع من المعاملة السيئة أو القاسية؛ فلتطمئنا بشأن ذلك. ما عاد ذلك يحدث في هذه الأيام، بل الأمر يتم بهدوء ومراعاة تامة. أما عن مكانهما، فإنهما في مكانٍ ما في لندن! وهناك أكثر من سبعة ملايين شخص في لندن، ومئات آلاف فوق مئات آلاف المنازل المسكونة؛ هذا يعني الكثير من الإبر في مثل هذه الكومة من القش أيها السيدان!»
كرَّر هيثرويك في إصرار: «سيتحتم علينا أن نجدهما! ينبغي عليك أن تسخِّر كلَّ قوَّتك للعمل! لا يمكن لهذا أن …»
قاطعه بنتيني قائلًا: «انتظر لحظة.» ثم التفت إلى ماذرفيلد وقال: «قلت إن لديك أخبارًا عن أمبروز؟ ما تلك الأخبار؟»
نقر ماذرفيلد على الورقة المطبوعة التي كانت موضوعةً على المكتب.
وأجاب قائلًا: «لقد طلبتُ بثَّ نشرةٍ في الإذاعة هذا الصباح. وساعدت الصحف بعد ذلك بالطبع. وقبل دخولكما بوقت ليس بالطويل، حدثني على الهاتف رجلٌ يُدعى كيلينر، وأخبرني أنه صاحب حانة «جرين آرتشر» في شارع «وود» بويستمنستر …»
قال هيثرويك متعجبًا: «ويستمنستر مرة أخرى! يبدو أن هذه هي النقطة المركزية!»
قال ماذرفيلد: «ومن الجيد أن لدينا نقطة مركزية يا سيد هيثرويك. فحين يضيق النطاق، يصبح لدينا فرصة أكبر في الوصول. حسنًا، كنت أقول إنَّ هذا الرجل هاتفني لكي يخبرني بأنني إذا ذهبت إلى هناك، فإنه يظن أن بإمكانه إمدادي ببعض المعلومات ذات الصلة بالإعلان عن الرجل المفقود. وقد قال إنَّ ما لديه من معلومات أطولُ من أن يقوله على الهاتف. فأجبته بأنني سأكون عنده بعد مدة قصيرة، وكنت أتجهَّز للرحيل حين وصلتما. لا أعرف ما سيخبرني به بالطبع، قد لا يكون مهمًّا، وقد يكون مهمًّا. ربما تودان أن تأتيا معي أيها السيدان لنسمع ما لديه؟»
فأجاب بنتيني: «أود ذلك، لكني لا أستطيع. لا بد أن أذهب إلى مكتبي وأرى إن كانت هناك أيُّ أخبار جديدة من الليدي ريفرسريد أو من الشرطة. لكن ابقَ على اتصالٍ بي يا ماذرفيلد، وأعلمني بما يخبرك به.»
قال هيثرويك: «سأذهب معك.» وغمغم مرةً أخرى حين ذهب بنتيني: «ويستمنستر! يبدو أن أمبروز كان معروفًا في ذلك الحي.»
قال ماذرفيلد موافقًا إياه: «على الأرجح! لكنَّ هناك مناطق غريبة في ذلك الحي يا سيد هيثرويك! فالذين يعرفون الأماكن الفخمة من ويستمنستر مثل كنيسة «آبي» ومجلسي البرلمان وشارع «فيكتوريا» وما إلى ذلك لا يعرفون أن هناك مناطقَ عشوائيةً عتيقة خلفها! سأريك حين نصل إلى هناك. سنذهب عبر أحد هذه الأماكن.»
كان ماذرفيلد يرتدي معطفه في أثناء الحديث، استعدادًا للرحيل، لكن قبل أن يغلق أزراره، دخل عليه شرطي ومعه بطاقة.
وقال: «يريد أن يراك تحديدًا وفي الحال. إنه ينتظر في الخارج.»
فأجاب ماذرفيلد: «أدخله مباشرة!» دفع بالبطاقة على المكتب باتجاه هيثرويك. وقال متعجبًا: «اللورد موراديل! مَن يكون؟»
أجابه هيثرويك بنبرة خفيضة: «خطيب السيدة ليستوريل. قطب من أقطاب هامبشاير.»
التفت ماذرفيلد نحو الباب المفتوح مترقبًا. دخل رجلٌ قصير وضخم بعض الشيء بدا أقرب في الشبه إلى رجال المدينة؛ إذ بدا عليه الثراء ويُسر الحال، دخل الرجل مسرعًا ورمق هيثرويك ورفيقه بنظرة ثاقبة متسائلة، ثم استقرت أنظاره في النهاية على ماذرفيلد.
وسأل يقول: «أيكما السيد ماذرفيلد؟ حسنًا! أنا اللورد موراديل؛ آه، لقد أرسلت بطاقتي بالطبع، حسنًا! في الواقع يا سيد ماذرفيلد، لقد حدثتني الليدي ريفرسريد بأمر غريب. اتصلت بمنزلي بشارع «هيل» هذا الصباح، لكنني كنت في المدينة، ولم أسمع برسالتها حتى عُدت في وقتٍ متأخر من عصر اليوم. وتقول إن أختها السيدة ليستوريل قد اختُطِفت! اختُطِفت؛ هذا غير معقول!»
فأجابه ماذرفيلد: «يؤسفني أن الأمر لا هو غير معقول ولا غير محتمل يا سيدي اللورد. أنا متأكد من أن السيدة ليستوريل قد اختُطِفت هي وسكرتيرة الليدي ريفرسريد، الآنسة فيذرستون. كنت في قصر ريفرسريد معظم أوقات اليوم، وليس هناك شك في ذلك؛ اختُطِفت المرأتان من هناك على يد ثلاثة رجال في سيارة سريعة، سارت باتجاه لندن. هذه حقيقة واقعة!»
صاح اللورد موراديل متعجبًا: «ليرحم الرب روحي! في وضح النهار! وفي القرن العشرين! وليس هناك أي دليل؟»
تابع ماذرفيلد يقول: «ليس لدينا دليلٌ بعد. لقد نشرنا عن المسألة بالطبع قدرَ ما أمكننا، وجميع أفراد قوَّتنا على أهبة الاستعداد. لكنها قضية صعبة. من المحتمل أن الجناة هُرعوا بالسيدتين إلى أحد المنازل في لندن وهما الآن في قبضة أسرهم. نحن نخمِّن بالطبع أن المختطِفين أخذوا السيدة ليستوريل بدلًا من أختها. ونخمِّن أنهم كانوا يريدون اختطاف الليدي ريفرسريد وأسْرها طلبًا لفدية.»
ضمَّ اللورد مراديل شفتَيه. ثم فرك ذقنه. وهزَّ رأسه. وأخيرًا رمق هيثرويك بنظرةٍ ثاقبة من أعلى رأسه إلى قدميه.
وقال: «أممم! آه! ماذا عن هذا المحترم؟ أظن أنه ليس من أفراد قوَّتك يا ماذرفيلد؟»
«لا سيدي اللورد. هذا المحترم هو السيد هيثرويك، من حي ميدل تيمبل، وهو شديد الاهتمام بأمورٍ ذات صلة بهذه المسألة. لقد ذهب السيد هيثرويك معي إلى ريفرسريد، ويمكن لمعاليك أن تتحدَّث بحرية أمامه.»
أومأ اللورد موراديل إلى هيثرويك بإيماءة تنم عن الود والقبول. ثم نظر إلى الباب، فأسرع ماذرفيلد لإغلاقه.
وقال اللورد موراديل: «أشكرك. من الأفضل أن نحافظ على خصوصيتنا. أممم! أظن أنه ينبغي لي أن أخبرك بشيءٍ ما يا ماذرفيلد. يسعني القول إن افتراضك هذا منطقي ومعقول؛ أن أولئك الملاعين أخذوا السيدة ليستوريل بدلًا من أختها. لكنني لا أظن أنه صحيح. أعتقد أنهم كانوا يعرفون جيدًا مَن التي يختطفونها. وليكن في علمك أنهم كانوا سيختطفون الليدي ريفرسريد أيضًا لو كانت هناك. لكنهم كانوا يريدون السيدة ليستوريل!»
فاقترح ماذرفيلد عليه قائلًا: «لو شرحت لي معاليك ما …»
«سأشرح لك؛ فهذا هو ما جئت هنا لأجله! أظن أنني أستطيع أن أرشدك إلى الخيط الصحيح. ربما تكون قد سمعت أنني والسيدة ليستوريل على وشك أن نتزوج؟ هذا جيد، ومِن ثَم فقد علمت الكثيرَ عن شئونها. والآن، لا أعرف إن كنت تعرف أن السيدة ليستوريل تشتغل مباشرة بشراء المجوهرات وبيعها مقابل عمولة، أو الأحرى أنها كانت تفعل ذلك؟ هذه هي وظيفتها.»
أجابه ماذرفيلد: «سمعت شيئًا عن ذلك يا سيدي اللورد.»
«جيد جدًّا. ومنذ وقت قريب اشترت السيدة ليستوريل من باريس مجموعةً رائعة من الأحجار التي كانت مملوكة في أحد الأوقات إلى أحد أعضاء العائلة الإمبراطورية الروسية. وقد أحضرت تلك المجموعة إلى هنا في لندن لكي ترسلها في وقتٍ قريب إلى أمريكا أو تأخذها إلى هناك بنفسها لزبونها. لكن لسوء الحظ أنَّ أنباء هذه الصفقة تسرَّبت إلى الصحف. والآن، أعتقد أن أولئك الرجال اختطفوا السيدة ليستوريل من أجل الحصول على تلك المجوهرات. أفهمت؟»
قال ماذرفيلد متعجبًا: «آه! فهمت يا سيدي اللورد! هذا يطرح أمامنا جانبًا جديدًا للقضية. لكن أنا واثق أن السيدة ليستوريل لم تكن لتحمل تلك الأحجار معها؟»
غمز اللورد موراديل بعينه عمدًا لمستمعيه.
وقال: «لا! لا؛ لم تكن لتحملها معها. لكن أولئك الأوغاد سيجدون حلًّا لذلك؛ فحين تكون في قبضة يدهم، سيكونون في وضعٍ يسمح لهم بإجبارها على تسليم تلك الأحجار، من خلال إجبارها على الإفصاح عن مكانها. وإن كانوا ملاعين يائسين، فليس من المرجَّح أن يلتزموا بأي شيء، وأعتقد أنهم سيجبرون السيدة على الانصياع لهم؛ ومِن ثَمَّ يقدِّمون لك فرصةً للقبض عليهم!»
سأله ماذرفيلد بحماس قائلًا: «كيف ذلك سيدي اللورد؟»
رمق اللورد موراديل الرجلين بنظرةٍ تشي بأنه على وشك أن يأتمنهم على سرٍّ.
وأجاب يقول: «بالطريقة الآتية. لقد أودعت السيدة ليستوريل المجوهرات في «صناديق إمبريال للودائع» بهدف الحفاظ عليها. ذلك أنها تستأجر خزنةً لها هناك. والآن، ألا تريان ما أرمي إليه؟ قد يجبرها أولئك الرجال على إعطائهم المفتاح اللازم مع أمرٍ موقَّع موجَّه إلى العاملين في الخزنة ليسمحوا لحاملي تلك الورقة بفتح خزنة السيدة ويأخذوا منها حقيبةً بعينها تكون المجوهرات فيها. هذا في اعتقادي هو ما سيحدث. وما ينبغي عليك فعله هو زيارة مسئولي «صناديق إيمبيريال للودائع» في الحال، وتحذيرهم مما أشير إلى أنه قد يحدث، وأن تتخذ أنت من وسائلك ما يمكن لك مراقبة مَن سيحضر لمثل هذا الغرض، وتتبُّعه بعد رحيله. ما رأيك؟»
قال ماذرفيلد: «أو إلقاء القبض عليه في التو واللحظة.»
صرَّح اللورد موراديل قائلًا: «لا، ما كنت لأحبذ ذلك! أنا لست شرطيًّا كما تعلم، لكنني أستطيع أن أشير على أحدهم. بدلًا من إلقاء القبض على الرجل، والذي ينبغي أن تتذكَّر أنه سيكون قد حصل على توقيعٍ كتابي من السيدة إذا سارت الأمور على النحو الذي وصفته، فإنني أقترح تتبُّعه بحذر. ذلك أنه سيعود على الأرجح إلى مكان احتجاز السيدة والفتاة الشابة؛ تلك الآنسة التي نسيت اسمها الآن! أليس كذلك؟»
هزَّ ماذرفيلد رأسه.
وأجاب: «أشك في ذلك يا سيدي اللورد! إن سارت الأمور كما اقترحت، وهي نظرية مرجَّحة جدًّا، فإن هذا هو آخر شيء قد يفعله! فحالما تكون المجوهرات في حوزته …»
قاطعه اللورد موراديل قائلًا: «لقد نسيت شيئًا، وهو أنهم قد يستخدمون مُنفِّذًا للعملية بدلًا منهم! أليس كذلك؟»
فقال ماذرفيلد مقرًّا: «في الواقع، قد يحدث ذلك بكل تأكيد. لكني سأحرص على تحذير المسئولين في «صناديق إمبريال للودائع»، وعلى أن تخضع المؤسسة لمراقبة شديدة صباح الغد. بالرغم من ذلك، قد يكون الأمر وقع بالفعل! فقد مرَّ وقت طويل منذ اختطاف السيدتين.»
فقال اللورد موراديل: «لا! لم يحدث شيء حتى الآن. فقد ذهبت إلى «صناديق إمبريال للودائع» وأنا في طريقي إلى هنا؛ وهم لم يروا السيدة ليستوريل ولم يحصلوا على أيِّ شيء منها اليوم. والآن أغلقوا المكان لهذه الليلة.»
فسأله ماذرفيلد: «فهل حذرتهم إذن؟»
أجاب اللورد موراديل: «كلا. رأيت أنه من الأفضل أن آتيك أولًا. وسيكون من الأفضل كثيرًا أن يأتي التحذير وما يليه من جانبك.»
فقال ماذرفيلد: «جيد للغاية يا سيدي اللورد. أنا ممتن لمعاليك لزيارتك إياي، سنترك لك خبرًا في منزل شارع «هيل» إن حدث أيُّ شيء.» وأكمل بعدما غادر اللورد المكتب: «والآن يا سيد هيثرويك، سنذهب إلى ويستمنستر، إلى حانة «جرين آرتشر» ومالكها كيلينر.»
تبيَّن أن حانة «جرين آرتشر» هي حانة لائقة وبها قاعة مشرب كبيرة. وخلف النوافذ الزجاجية لتلك الحانة وجدا رجلًا متوسط العمر ثاقب النظر فتح باب غرفة خلفية فور أن وقعت عينه على زائريه وأرشدهما إلى الداخل حيث المزيد من الخصوصية. أشار الرجل في صمتٍ إلى نسخة من إعلان يطلب أخبارًا عن أمبروز.
قال ماذرفيلد: «أجل! بالضبط. لقد وصلتني رسالتك. أتعتقد أنك تعرف هذا الرجل؟»
أجاب صاحب الحانة: «من الوصف المذكور عنه في الإعلان، أجل، أظن أنه رجل أو سيد محترم مما يبدو على مظهره، قد اعتاد المجيء إلى حانتي بانتظام خلال الأشهر الستة المنصرمة. منذ نهاية الصيف الماضي وحتى ما قبل ثلاثة أسابيع تقريبًا على ما أعتقد.»
سأله ماذرفيلد: «لم ترَه منذ تلك المدة إذن؟ منذ ثلاثة أسابيع؟»
«تقريبًا. لم يأتِ طَوال هذه المدة تقريبًا. لكنه كان يأتي قبل ذلك أربع مرات أو خمسًا في الأسبوع. إنه رجل وسيم وأنيق؛ لقد وصفتموه بدقة هنا في الواقع. لم أعرف هوية ذلك الرجل قط؛ إذ اعتدت تمضيةَ الوقت معه فحسب. كان دائمًا ما يأتي في الموعد نفسه؛ من الواحدة إلى الواحدة والنصف. وكان يطلب في بعض الأحيان كوبًا من الجِعَة المُرة وشطيرة أو اثنتين، وفي بعض الأحيان كان يطلب الويسكي والصودا وبسكوتتين أو ثلاثًا. كان الرجل يتوقَّف ويتناول وجبته السريعة ويمضي. لم يتحدَّث كثيرًا. ظننت أنه رجل لديه عمل في الأرجاء ويريد وجبةً سريعة وشيئًا من شراب في منتصف يومه، ويأتي هنا ليحصل على ذلك. لكنني لا أعرف نوعَ العمل الذي يمكن أن يكون لديه هنا. فلم يكن يبدو عليه مظهر التجَّار. يسعني القول إنه كان رجلًا يعمل في مهنةٍ احترافية من نوعٍ ما. فدائمًا ما كان حسن الملبس أنيقًا كما تعلمان. لكنني لاحظت فيه شيئًا واحدًا بعينه.»
سأله ماذرفيلد: «ما هو؟ كل شيء يمكن أن يساعدنا!»
قال صاحب الحانة: «في الواقع، لاحظت أن يده وأصابعه كانت ملطَّخة بألوان كثيرة. وفي بعض الأحيان كانت تلك البقع تبدو ظاهرة أكثرَ من أوقات أخرى. لكنها كانت موجودة على الدوام.»
علَّق ماذرفيلد يقول: «أممم!» وتبادل نظرة تنم عن الفهم مع هيثرويك. وبعد عدة دقائق، حين غادرا الحانة التفت إليه يريد طمأنته. فقال: «بدأت أستشعر النهاية! بدأت أشعر بها، ولو أنني لا أراها. أصابع ملطَّخة، أتتذكَّر؟ لقد سمعنا بها من قبل يا سيد هيثرويك. وسأخبرك بشأنها. في مكانٍ ما هنا تحديدًا، يوجد مكانٌ يُجري فيه الرجال التجارب باستخدام المواد الكيميائية، ويحدث ذلك سرًّا على ما أعتقد، وأمبروز هو أحدهم، وربما كان باسيفيري أيضًا، وذلك هو المكان الذي كان فيه هانافورد وذلك الرجل المدعو جرانيت تلك الليلة، وقد سُمِّما، ولا شك أيضًا أن هاتين السيدتين هناك في هذه اللحظة! والآن؛ فلتمر بشقتي في الصباح الباكر.»
غادر هيثرويك حائرًا فيما يفعله بعد في تلك الليلة، فتناول عشاءه، وحين انتهى منه سار عائدًا إلى شقته. كان هناك ضوء في صالة شقته، وحين فتح الباب وجد مابيرلي منتظرًا إياه بالطبع، وكان معه شاب يهودي مجعَّد الشعر له أنف كبير وعينان مستديرتان صغيرتان تلمعان بالخبث.