الأمر المكتوب
أدرك هيثرويك في الحال أن مابيرلي لديه أخبار، وأنه كان ينتظره من أجل أن يُطلِعه عليها. لكنه لم ينظر إلى مابيرلي كثيرًا بقدرِ ما كان ينظر إلى رفيقه. إن مابيرلي، وكما أشار هيثرويك إلى أكثر من شخص في سياق تلك الأحداث، يخفي فطنته تحت مظهر خارجي مألوف للغاية؛ إذ كان يبدو كشاب نادرًا ما ترتفع أفكاره عن مستوًى منخفض للغاية. أما اليهودي فقد كان مختلفًا عن ذلك؛ لم يكن هيثرويك واثقًا تمامًا مما إن كان الرجل واشيًا أو مخبرًا. كانت حدة الذهن والبراعة تبدو في جميع ملامحه، من عينيه المستديرتين اللامعتين إلى أصابعه الطويلة الرفيعة المتسخة، وقبل أن يتحدَّث مابيرلي شعر ربُّ عمله أن موظَّفه وجد في ذلك الإسرائيلي شريكًا ذا قيمة.
قال هيثرويك متعجبًا: «مرحبًا يا مابيرلي! أتنتظرني؟ أعتقد أن لديك بعض المستجدات، أليس كذلك؟»
أشار مابيرلي بإصبعه في جديةٍ ورسمية إلى اليهودي.
وقال: «السيد إسيدور جولدمارك يا سيدي. صديق لي. طلبت منه بعض المساعدة في مسألة باسيفيري وفيفيان هذه. وفي الواقع يا سيدي، السيد هنا يعرف نادي «فيفيان»، أليس كذلك يا إيسي؟»
أجاب السيد جولدمارك بابتسامة: «بعض الشيء!»
أكمل مابيرلي يقول: «ويعرف باسيفيري أيضًا. يعرفه شكلًا على أي حال. لذا طلبت منه، مقابل تعويض مادي، أن يترقَّب ظهور باسيفيري التالي في ذلك المكان، وأن يراقبه حين يأتي، أو يخدعه في الواقع. وقد رآه إيسي الليلة يا سيد هيثرويك، وتبِعه. بعد ذلك أتاني وأحضرته أنا إلى هنا.»
قال هيثرويك: «جيد! اجلسا كلاكما، وسأسمع منكما عن الأمر.» ارتمى في كرسيه الوثير وراح ينظر مرة أخرى إلى اليهودي فقرَّر أنه شاهِد يُعتد به على الأرجح. فسأله قائلًا: «ماذا تفعل في نادي «فيفيان»؟ أأنت موظَّف هناك؟»
نظر السيد جولدمارك إلى مابيرلي وابتسم مستفسرًا. فأومأ إليه مابيرلي.
وقال مطمئنًا إياه: «كل حديثك سرِّي يا إيسي. لن يُنقل إلى أيِّ شخص سوانا.»
فعلَّق هيثرويك يقول: «بالطبع هذا الحديث كله سرِّي، وسنتكتَّم عليه. إنما أريد أن أعرف على وجه التحديد طبيعة العلاقة التي تجمعك بنادي «فيفيان» يا سيد جولدمارك.»
فأجابه اليهودي: «إنها علاقة شبه رسمية يا سيدي. في الواقع، أنا أقوم ببعض أعمال السمسرة لزبائن نادي فيفيان، كالسباقات كما تعلم. لكنني أدخل وأخرج في المساء. هل فهمت الآن؟»
قال هيثرويك: «فهمت، لا بأس! وهل تعرف باسيفيري؟»
أجابه السيد جولدمارك: «كما أعرف أنفي.»
«منذ متى وأنت تعرفه؟»
«أعرفه منذ بعض الوقت.»
«أتعرف ماذا يعمل؟»
«ليس لديَّ فكرة يا سيدي، ولا أحدَ ممن أعرفهم لديه أيُّ فكرة أيضًا! إذا كنت تريد رأيي، فأنا أعتقد أنه يعيش على ثروة. ثروة من طريق غير مشروع!»
«ولا تعرف أين يقطن؟»
«لا يا سيدي! كلُّ ما أعرفه أنه يأتي إلى نادي «فيفيان» بين الحين والآخر.»
«هل رأيته الليلة؟»
«رأيته يا سيدي الليلة مثلما أراه دائمًا!»
«كم كانت الساعة؟»
«الثامنة تقريبًا يا سيدي، بحسبِ ما أتذكَّر.»
«حسنًا، ماذا حدث؟»
«حدث الآتي يا سيدي. أتى باسيفيري في غضون الثامنة كما قلت. كنت هناك أقوم ببعض الأعمال مع عميل آخر. لكن باسيفيري لم يُطل مكوثَه. لم يمكث في المكان إلا ثلاث دقائق، وحين كان هناك بدا لي قلِقًا بعض الشيء كأنه مرتاب. كان ينظر حوله في حذر. غادر بعد ذلك فتبعتُه. وذلك بناء على تعليمات من مابيرلي.»
«وإلى أين ذهب؟»
«حسنًا يا سيدي، سأقصُّ عليك كلَّ ما حدث بالتفصيل؛ فحين أتولَّى مهمة مثل هذه أؤديها على أكمل وجه. استدار باسيفيري من ممر «كاندلستيك» إلى شارع «لين»، وتناول مشروبًا في حانة هناك. وبعدها ذهب إلى نفق ميدان «ترافلجار». كنت بالقرب منه من خلفه حين كان يحجز …»
«لحظة. أيعرفك هو؟»
«ربما يعرفني بالشكل يا سيدي، لكنه لا يعرفني بما يكفي لأثير أيَّ شكوك في رأسه إن رآني هناك خلفه. لم أتعامل معه من قبل قط، ولم أتحدَّث إليه قط.»
«حسنًا، أكمل. إلى أين حجز؟»
«شارع «وارويك» يا سيدي. وفعلت مثله بالطبع. وحين وصلنا إلى هناك تبِعته إلى الخارج من مسافة آمنة. تحوَّل هو بعد ذلك إلى القناة، فعبر الجسرَ وذهب إلى «سانت ماريز مانزيونز». وهناك دلف إلى إحدى الشقق.»
نظر هيثرويك إلى مابيرلي. فسمح مابيرلي لنفسه أن يغمز لرب عمله بشيء من الاحترام، لكن أيضًا بإشارة على الفهم.
قال هيثرويك: «ذهب إلى «سانت ماريز مانزيونز»، إذن؟ دخلها مباشرة؟»
«مباشرة يا سيدي، من المدخل الأمامي. رأيته من الجانب الآخر من الطريق وهو يتحدَّث إلى الرجل الذي يرتدي الزي الرسمي؛ الحارس أو أيًّا كان. كنت أستطيع رؤيته من خلال الأبواب الزجاجية. ورأيت كلا الرجلين يصعد إلى الشقة. لذا انتظرته في الخارج بعض الشيء، لأرى إن كان سيخرج أم لا. وقد خرج.»
سأله هيثرويك: «هل خرج بسرعة؟»
«غاب في الداخل ما يقرب من عشر دقائق. وخرج بعد ذلك. وحدَه. وفي هذه المرة ذهب في الاتجاه المقابل. تبعتُه عبر بادينجتون جرين إلى نفق طريق إدجوير، وهناك، في الواقع، ولكي أكون صريحًا يا سيدي، فقدت أثره هناك! كان هناك الكثير من الناس في الأرجاء، وكنت متأكدًا من أنه كان سيتَّجه جنوبًا. لكن لا بد أنه توجَّه غربًا. على أي حال، فقدتُ أثره تمامًا.»
قال هيثرويك: «في الواقع، أظن أنك رأيت بما يكفي لمساعدتنا. والآن، احتفظ بهذا لنفسك يا جولدمارك.» أشار إلى مابيرلي ليدخل غرفة أخرى وأعطاه أموالًا من أجل مساعده، وانتظر حتى غادر اليهودي الذي أرشده الموظف إلى طريق الخروج. وقال معلِّقًا وهو ينظر إلى ساعته بينما دخل عليه مابيرلي: «إنها الحادية عشرة! يا مابيرلي! سنخرج إلى «سانت ماريز مانزيونز». وبعد أن نصل إلى هناك، ونُجري اتصالًا هاتفيًّا من الأفضل أن تعود معي وتنام هنا مؤقتًا في هذه الليلة؛ إذ إنني سأكون في حاجةٍ لك في الصباح، هذا إن لم أكن مخطئًا.»
كان من بين أفضل صفات مابيرلي أنه مستعد دومًا للذهاب إلى أيِّ مكان وفعْل أيِّ شيء، وفي الحال تبِع هيثرويك إلى أول شارع «ميدل تيمبل»، ووجد سيارةَ أجرة في غضون خمس دقائق، وأعد نفسَه للنوم لدى هيثرويك مؤقتًا في هذه الليلة والليلة التالية إن لزم الأمر.
وعلَّق قائلًا بينما انطلقا بالسيارة بعد إخبار السائق بإيصالهما إلى «بادينجتون جرين»: «أظن أننا اقتربنا من النهاية يا سيدي. يبدو أن الأمور بدأت تشير إلى أحدهم.»
«أجل، لكنني لا أظن أنك تعرف كلَّ شيء.» ثم شرع يقصُّ لموظفه تلخيصًا لأحداث اليوم كما حدثت معه، وأنهى حديثه بنظرية ماذرفيلد التي ذكرها بعد أن غادرا حانة «جرين آرتشر». وأضاف قائلًا: «أنت رجل ذكي يا مابيرلي. فماذا تظن في ذلك؟»
أجاب مابيرلي: «يمكنني تفهُّم وجهة نظر ماذرفيلد. وأستطيع تصوُّر طريقةِ تفكيره. إنه يفكِّر كالآتي: حين أتى هانافورد إلى لندن، أراد أن يبيع وصفته للحبر الجديد بما يحقِّق منفعته. فتواصل مع أمبروز الذي كان يعرفه بالطبع من قبل في سيليثوايت. وقدَّمه أمبروز إلى بعض الرجال الذين يتاجرون في المواد الكيميائية أو يُجرون التجاربَ عليها، والذين لا شك أن منهم باسيفيري الذي يبدو أنه يمتلك معملًا أو شيئًا من هذا القبيل في مكانٍ ما في حي ويستمنستر. وفي ليلةِ مقتله التقى أمبروز بهانافورد بناءً على موعد مسبق في فيكتوريا وأخذه إلى هناك. ومن المحتمل أن يكون هانافورد قد ترك الخطاب المغلق مع أولئك الرجال، والذي كان قد فُتِح آنذاك. ومن المحتمل أيضًا أنه أخبرهم حين كان هناك، على سبيل المزاح غالبًا، بما اكتشفه عن هوية السيدة ويتينجهام والسيدة ليستوريل. والآن يأتي دور جرانيت!»
أطلق هيثرويك صيحةً لا تنم عن شيء واحد، بل اثنين أو ثلاثة من بينها الدهشة.
فقال: «آه! جرانيت! بكل تأكيد! كنت قد نسيت أمر جرانيت!»
علَّق مابيرلي بابتسامة ساخرة: «لكني لم أنسَه. جرانيت ومقتله يمثِّلان عاملًا أساسيًّا. فأنا أرى أننا نعرف أن هانافورد التقى بأمبروز في محطة فيكتوريا في ذلك المساء المهم للغاية. ولا شك أن أمبروز أخذه إلى المكان الذي أشرت إليه لتوي، والذي يظل موقعه المحدَّد غير معروف. أظن أن هانافورد مكث هناك حتى فترةٍ متأخرة من ذلك المساء. لكني أظن أيضًا أنه عاد إليه مرة أخرى! مع جرانيت!»
صاح هيثرويك: «آه! فهمت!»
وأكمل مابيرلي يقول: «نعرف أن جرانيت ذهب ذلك المساء لرؤية الكيميائي الذي قدَّم معلوماتٍ عنه؛ ونعرف أيضًا أنه ذهب والكيميائي لكي يتناولا مشروبًا معًا، وافترقا عند موعد الإغلاق، وطبقًا لكلام الكيميائي، فقد ذهب جرانيت نحو شارع «فيكتوريا». والآن أظن أن جرانيت التقى حينها بهانافورد عَرَضًا. ذلك أنهما كانا يعرفان أحدهما الآخر في سيليثوايت. تحدَّثا وأخبر جرانيت هانافورد أن حظه كان عاثرًا. ومن الواضح أنَّ هانافورد رجل طيب القلب، وأظن أنه فعل شيئًا لجرانيت بدافع العطف والطيبة. أعطاه ورقة الخمسة جنيهات تلك …»
قاطعه هيثرويك بسرعة: «لكنها أُخِذَت من نادي «فيفيان»!»
أقرَّ مابيرلي قائلًا: «بكل تأكيد! لكننا نعرف أن هانافورد كان في نادي فيفيان، مع باسيفيري بالطبع. أخذه باسيفيري هناك، الأمر الذي يجعلني متأكدًا أنه كان على اتصال مع كلٍّ من باسيفيري وأمبروز كليهما على مدى يومين أو ثلاثة قبل وفاته. حصل هانافورد على ورقة الجنيهات الخمسة تلك من نادي «فيفيان» بقية لحسابه. فأعطاها لجرانيت لدى سماع قصَّته. لكنه فعل شيئًا آخر؛ شيئًا أكثر أهمية بكثير بالنسبة إلينا!»
فسأله هيثرويك: «وما هو؟»
ردَّ عليه مابيرلي في ثقة: «عاد إلى المكان الذي كان قد غادره لتوه، وأخذ جرانيت معه! كان يعرف أن جرانيت كيميائي مدرَّب ومؤهَّل؛ وفكَّر أنه يمكن أن يحصل له على وظيفة مع أولئك الرجال الذين من المفترض أنهم سيتولون أمرَ اختراعه. كانت الساعة حينها تتجاوز العاشرة والنصف بقليل. فأي مكان آخر يمكن لهانافورد وجرانيت أن يكونا فيه بين ذلك الوقت والوقت الذي ركِبا فيه عربة القطار في «سانت جايمس بارك»؟ بالطبع كانا هناك، مع أمبروز وباسيفيري.»
قال هيثرويك: «هذا محتمل جدًّا كما تقول. ساعتان ونصف؛ ماذا كان يفعلان خلال هذا الوقت؟»
قال مابيرلي: «آه، والآن نأتي لأهم مسألة! أعتقد أن هانافورد سُمِّم بسمٍّ قاتل حين ترك هذين الرجلين للمرة الأولى! كان لديهما غايتان تبرِّران تسميمه، أو يمكننا القول إنَّ هانافورد كان قد أسرَّ إليهما بسرين؛ أحدهما عن السيدة ليستوريل، والآخر عن الاختراع. أراد الرجلان أن يحتفظا بالسرين لنفسيهما وتحقيق أرباح منهما. لا شك أن للاختراع قيمةً مادية كبيرة، كان هانافورد يظن ذلك على أي حال. وظنَّ الرجلان أن باستطاعتهما ابتزازَ السيدة ليستوريل وأختها الليدي ريفرسريد. لذا وقبل أن يتركهما هانافورد للمرة الأولى، سمَّمه الرجلان بكل مهارة وبراعة ومكر؛ إذ كانا يعرفان أن وقتًا طويلًا سيمر قبل أن يسري مفعول السُّم، وأنه في ذلك الوقت سيكون هانافورد في سريره في الفندق وسيموت خلال نومه. لكنه عاد إليهم مرة أخرى، وأخذ رجلًا آخر معه! لذا؛ كان يتحتم أن يموت ذلك الرجل أيضًا!»
راح هيثرويك يفكِّر برهةً في صمت.
وأخيرًا قال: «هذه نظرية جيدة للغاية يا مابيرلي. لكنها قد لا تكون شيئًا سوى محض نظرية. لماذا هرب جرانيت في تشارينج كروس؟»
فأجابه مابيرلي بسرعة: «لأن جرانيت كان يعرف أن أمبروز يقطن في شارع «جون» بالجوار. ربما كان يعلم ذلك من قبل؛ وربما لم يعرف ذلك إلا في تلك الأمسية. لكن جرانيت كان يعرف ذلك! الأرجح أنه ظن أن أمبروز عاد إلى منزله من ذلك المكان في ويستمنستر: فربما كان أمبروز قد غادر من هناك قبل أن يغادر كلٌّ من هانافورد وجرانيت. على أي حال، يمكننا التأكُّد بدرجة كبيرة من أن جرانيت حين تركك مع الرجل القتيل أو الذي كان يُحتضَر، أنه هُرع إلى شقة أمبروز، التي تبعُد عن ذلك المكان بضع دقائق.»
فسأله هيثرويك: «ولماذا لم يَعُد؟ إنما أريد بذلك فقط أن أقف على الاحتمالات فحسب.»
فردَّ مابيرلي: «فكَّرت في ذلك أيضًا. أظن أنه وجد أمبروز بالخارج. لكنه بحلول ذلك الحين كان لديه وقتٌ للتفكير. كان يعرف أن هناك خطْبًا ما. وكان يعرف أنه إذا عاد، فسيجد الشرطة هناك، وسيتم استجوابه. وربما يكون مشتبهًا به. ومِن ثَمَّ؛ فقد عاد إلى منزله، ومعه الزجاجة التي وضع له فيها أمبروز شيئًا من الويسكي. ومات الرجل في أثناء نومه، على النحو الذي ظنَّا أن هانافورد سيموت به.»
هنا تساءل هيثرويك: «ولماذا كانت تلك الزجاجة مع أمبروز في ويستمنستر؟»
فردَّ عليه مابيرلي متسائلًا: «ولماذا لا تكون معه؟» وأكمل يقول: «إن الرجل الذي يتناول المنشطات يتناولها على الأقل ثلاث مرات يوميًّا بصورة منتظمة. لذا فإن الزجاجة ستكون معه. وعلى الأرجح هناك عدة زجاجات فارغة مشابهة لها في ذلك المكان.»
فصاح هيثرويك متسائلًا: «لكن أين هو ذلك المكان؟ أين؟»
قال مابيرلي بينما توقَّفت السيارة الأجرة. «سنجده. لكن، ها نحن أولاء قد وصلنا!»
تقدَّم هيثرويك رفيقه عبر بادينجتون جرين ثم إلى المنزل الذي راح يراقب منه الشقق المقابلة له هو وماذرفيلد. وعلى الرغم من أن الوقت كان متأخرًا، فقد كان حارس العقار مستيقظًا، واستمع بإمعان إلى طلب هيثرويك بأن يذهب معه إلى صديقه الحارس في تلك المنازل. وكان ذلك الأخير يتناول وجبةَ عشائه. واستمر في تناولها بينما كان هيثرويك يشرح له الأمور ويحصل في أثناء ذلك على دعم حارس العقار، فالتفت الرجل بخديه المنتفخين من الطعام الذي لم يبتلعه إلى زائره، وكانت ملامحه تنم عن الدهشة والإدراك لأمرٍ ما.
وصاح يقول وهو يضرب الطاولة بمقبض سكينه: «كنت سألقي باللوم على نفسي لو أنني لم أتساءل ما إن كانت الأمور على ما يُرام مع ذلك الرجل! فبالرغم من أنه كان رجلًا محترمًا وهادئًا، إلا أنني كنتُ مرتابًا في أمره بشكلٍ ما! ومع ذلك، فقد كان يتحدَّث بصورة صريحة ومباشرة: قال إنه أتى إلى هنا نيابةً عن السيدة ليستوريل، ليحصل على شيء من شقتها، وكان معه مفاتيحها، وأعطاني رسالة صغيرة منها تقول أن أسمح لحاملها بأن يصعد إلى شقتها! كيف كان لي أن أتوقَّع أكثرَ من ذلك؛ وماذا كان باستطاعتي أن أفعل في ظل هذه الظروف؟ أخبرني!»
فتساءل هيثرويك: «أكان معه رسالة صغيرة، فعلًا؟ بخط يد السيدة؟»
وضع الحارس السكين من يده، ودسَّه في جيب صدريته، وأخرج منه مظروفًا وقدَّمه في صمت إليه. كان المظروف بلون أزرق فاتح ونوعية الورق المصنوع منها جيدة للغاية، كالذي لا يُباع إلا في متاجر الأدوات المكتبية الراقية، وكانت الورقة الموجودة داخل المظروف تطابقه من حيث جودة الورق واللون. غير أنَّ هيثرويك قد لاحظ في الحال أن هناك خطْبًا ما بشأن تلك الورقة، وحدث الأمر نفسه مع مابيرلي الذي كان ينظر إليها من خلف مرفق هيثرويك. ذلك أنَّ جزءًا بمساحة بوصة ونصف تقريبًا قد قُطِع من أعلاها؛ فكان من الواضح أنَّ هذا الجزء المفقود كان يحتوي على عنوانٍ ما، محفور أو منقوش أو مطبوع. أما بشأن ما كان مكتوبًا على الورقة، فلم يكن كثيرًا، بل أمرٌ بسيطٌ للحارس بأن يسمح لحامل هذه الورقة بالصعود إلى شقة السيدة ليستوريل.
فسأله هيثرويك: «هل هذا هو خط السيدة ليستوريل؟»
فأجاب الحارس: «أجل، هذا هو خطُّها، بالفعل! رأيت خطها ذات مرة. ولا عجب في ذلك! أنا لم أرتَد المدارس! لكنني على دراية كافية لأن أعرف أن محاولة تقليد ذلك الخط من جانب أولئك المزورين الذين تقرأ عنهم أمرٌ صعب؛ كانت الرسالة لتبدو وكأنها مكتوبة بعصا خشبية لا قلم عادي! لكن هذا هو خطُّها.»
أعطى هيثرويك المظروف والرسالة إلى مابيرلي، الذي كان يمد يده.
وقال: «حسنًا، آمل أن تسمح لي بأن ألقي نظرة على شقة السيدة. هناك خطْب خطير، و…»
فردَّ حارس المكان بسرعة: «يمكنك أن تفعل ذلك، ما دمتُ سأبقى معك.» نهض من مكانه وتقدَّمهم متجهًا ناحية اليسار، ثم أشار إليهم ليدخلوا شقة أنيقة وأضاء المصابيح الكهربائية. وقال معلِّقًا: «لا أرى أيَّ خطْب هنا. لم يمكث الرجل هنا لعشر دقائق، ولم يكن يحمل شيئًا ثقيلًا عند رحيله، فأيًّا كان الذي أخذه، فقد وضعه في جيبه.»
نظر هيثرويك ومابيرلي حولهما. بدا كل شيء متناسقًا وفي مكانه، وكانت الأجواء المحيطة بهم تشير إلى ذوق امرأة مثقفة ومولعة بالفن، ومن الواضح أنها كانت تحب الترتيب والنظام. بالرغم من ذلك، فعلى مكتب كان في وسط غرفة الجلوس كان هناك دُرج مفتوح منه، وأمام ذلك الدُّرج كان هناك عدة أوراق متناثرة من دفتر السيدة ليستوريل الخاص وعليه كان عنوانها وشارتها محفورين. وبالقرب من تلك الأوراق كان هناك عدة مظاريف تحمل نفس العلامة. وبفكرة خطرت فجأة على باله، أمسك هيثرويك بورقة أو اثنين من تلك الأوراق وبمظروفين ووضعهما في جيبه.
وبعد عدة دقائق، وفي سيارة الأجرة التي كانت تنتظرهما وكانت تنطلق الآن في طريقها إلى شارع «هيل» حيث أمر هيثرويك سائقها بالتوجُّه، التفت مابيرلي إلى ربِّ عمله وهو يبتسم ابتسامةً ماكرة، ورفع شيئًا في مواجهة مصابيح الشارع التي كانت تمر بهم.
فسأله هيثرويك: «ما هذا؟»
أجابه مابيرلي وهو يضحك: «الأمر الذي كتبته السيدة ليستوريل. لم يلاحظ الحارس أنني أخذته، بالمظروف وكل شيء، أمام عينيه! لكنني فعلت، وها هو ذا!»
فسأله هيثرويك: «ماذا تريد أن تفعل به؟ ما خطتك؟»
لكن مابيرلي ضحِك مرةً أخرى ومن دون أن يقدِّم له أيَّ إجابه أعاد المظروفَ ذا اللون الأزرق الفاتح ومحتوياته إلى جيبه.