صاحبة العقار في شارع «ليتل سميث»
تبيَّن أن مكتب جارويل يقع في الطابق الثاني في شارع «سانت مارتن». كان الدَّرج مظلمًا وباليًا ولم يلحظ واحد من الأربعة الذين يصعدونه أنَّ ساعي مكتب كان يُهرع نازلًا على الدَّرج في اندفاع، وأنه كان يحمل معه طردًا صغيرًا خرج به من الباب مسرعًا وسار به في الشارع. كان الأربعة يفكِّرون بالطبع في جارويل، وفي غضون خمس دقائق كانوا جميعًا في غرفته الخاصة. ولمدة خمس دقائق أخرى، راح ماذرفيلد يشرح الأمر على مسامعه، ومن الواضح أنه كان مذهولًا ومشدوهًا.
اختتم ماذرفيلد حديثه قائلًا: «هذا هو الوضع الآن، ولا شك أن لديك تفسيرًا يا سيد جارويل. والآن …»
فبادره المحامي قائلًا: «لكنكم فاجأتموني! لقد استعانت السيدة ليستوريل بخدماتي في أمرين أو ثلاثة؛ إذ أحضرت لها من قبل أشياء من خزنتها مرتين أو ثلاثًا. ولم أرَ أيَّ شيء مثير للريبة في خطابها الذي أرسلته لي صباح اليوم. ها هو ذا الخطاب! يمكنكم الاطلاع عليه. ورقُها الخاص المعتاد، وخط يدها بكل تأكيد، وأعتقد أنه ما من أحد قد ينجح في تقليد هذا الخط. أنتم ترون ما تقوله في الخطاب، كان من المقرَّر أن أذهب بالتفويض إلى المسئولين في صندوق الودائع وأُخرِج صندوقًا صغيرًا مربَّع الشكل مغلَّفًا بغلاف جلدي بلون بني من الخزنة ثم أرسله في الحال إلى السيد سي بيسنج في مكتب البريد، في ساوثامبتون باستخدام البريد السريع. ما من شيء غريب في كل ذلك. وقد نفَّذت لها رغبتها بالطبع. لكن اطَّلِعوا على الخطاب.»
كان الرجال الأربعة يطالعون الخطاب. وقد وجدوه على النحو الذي وصفه جارويل، وسواء ما إذا كان مكتوبًا تحت وطأة الإكراه أم لا، فإن أسلوب الكتابة كان حازمًا ومباشرًا. لكن ماذرفيلد أمسك بالخطاب، وبعد أن طالعه بتمعنٍ أشار إلى ختم البريد.
فصاح يقول: «أترون هذا! أُرسِل من حي إس دبليو، في وقتٍ متأخر من ليلة أمس. إن كانت السيدة ليستوريل في منزلها في بادينجتون لكان ختم البريد مختلفًا. لكن الصندوق المربَّع الصغير يا سيد جارويل! الصندوق معك بالطبع، أليس كذلك؟ أتعرف أن هذا الصندوق يحتوي على الأرجح على مجوهرات بقيمة …»
فهتف جارويل: «الصندوق؟ معي؟ بالطبع لا! لقد أرسلته! ذهب ساعي المكتب به إلى مكتب البريد، قبل أن تصلوا تمامًا.»
غمغم اللورد موراديل: «يا إلهي! حسنًا؛ سنذهب إلى مكتب البريد في الحال يا ماذرفيلد!»
لكن ماذرفيلد ضحك فجأة، وأشار بكلتا يديه وكأنه قد نزل عليه الإلهام فجأة.
وقال: «لا يا سيدي اللورد، لا! لا! سيكون الصندوق آمنًا بما يكفي في مكتب البريد. سوف يُرسَل إلى السيد سي بيسنج في مكتب البريد في ساوثامبتون. وحين يذهب السيد بيسنج ليحصل عليه، حينها سيجدني أنا!»
كانت النبرة التي تحدَّث بها ماذرفيلد تنم عن قناعة بالظفر والانتصار، وبدا دافعه الشديد لاتخاذ إجراء فوري في طريقة إخراجه لكتيب إرشادي لخطوط السكة الحديد من جيبه، وتقليب صفحاته بسرعة. غير أنَّ هيثرويك واللورد موراديل كانا ينظران كلٌّ منهما إلى الآخر. ورأى كلٌّ منهما أن الآخر كان مترددًا.
فقال اللورد موراديل ببطءٍ: «أجل، أممم، لا شك يا ماذرفيلد. لكن في رأيي أنَّ هذه الجواهر لا تُقدَّر بثمن! ربما كانت الجواهر في مأمن في أيادي سلطات البريد؛ إذ إنها هناك الآن، لكن لا أحد يدري ما قد يحدث كما تعلم، و…»
فأشار هيثرويك قائلًا: «يمكنك أن تضع ثقتك في سلطات البريد. فهؤلاء الأشخاص يعرفون كل أنواع الحيل الماكرة …»
حينها راح ماذرفيلد يضحك في هدوء. كانت ضحكة رجلٍ يعرف ما يفعل جيدًا، ولا يُطيق النقد من أحد.
وأجابهم قائلًا: «أنا أعرف ما أفعل أيها السادة. اتركوا لي شأن التعامل مع المسئولين في مكتب البريد. يمكنني أن أفعل ما يضع الأصفاد في يد باسيفيري أو أمبروز، أو ربما في يد كليهما!» ثم أكمل يقول وهو ينظر للمرة الأخيرة إلى الجدول في يده: «إنني أرى الأمر بالشكل الآتي. هذان الرجلان يحتجزان السيدة ليستوريل والفتاة السكرتيرة الشابة في مكان آمن في لندن. وقد أجبرا السيدة ليلة أمس على كتابة هذا الخطاب إلى السيد جارويل، ونحن نعرف ما أجبراها على كتابته. بعد ذلك، حصل السيد جارويل على الصندوق الصغير الذي يحتوي على الجواهر، وقد أرسله بالفعل إلى ساوثامبتون عن طريق البريد السريع. وسيصل الصندوق الصغير إلى هناك في وقت مبكر من مساء اليوم، وسيكون أحد هذين الرجلين هناك ليتسلَّمه. فلو ذهب باسيفيري، سيكون أمبروز منتظرًا إياه عند إحدى زوايا الشارع، وإن ذهب أمبروز ليتسلَّمه، فسيكون باسيفيري في الجوار. والأرجح أنهما الآن في ساوثامبتون بالفعل؛ سيكونان قد ذهبا هذا الصباح من أجل أن يكونا حاضرين وقت وصوله. وفور أن يحصلا على الصندوق، سيهربان إلى أوروبا على الأرجح عن طريق القطار من ساوثامبتون إلى هافر. لن يحاولا الهروب عبر المحيط؛ فسوف تمثِّل رحلة الأيام الخمسة مخاطرة كبيرة. بعد ذلك، سيتجهان إلى فرنسا. لكنهما لن يذهبا إليها؛ إذ سيجدان نفسيهما في السجن في ساوثامبتون قبل موعد خلودهما إلى النوم! سترون أن هذا هو ما سيحصل أيها السادة، وأنا متأكد من ذلك بقدْرِ ما أنا متأكد من اسمي. والآن يا كويجمان، ستأتي معي. لدينا ما يكفي من وقتٍ لنلحق بقطار الواحدة والنصف ونتواصل مع شرطة ساوثامبتون ونضع خططنا وترتيباتنا. ستتلقون أخبارًا مني أيها السادة في وقتٍ ما من مساء اليوم!»
بعد ذلك، استحثَّ ماذرفيلد كويجمان على المغادرة، وراح الرجال الثلاثة الباقون ينظرون بعضهم إلى بعض. كان من الواضح أن السيد جارويل شديد القلق، فكانت يده النحيفة المضطربة ترتجف حين بدأ يرتِّب الأوراق الموجودة على مكتبه.
وقال: «هذا أمر مزعج للغاية أيها السادة. من المؤلم كثيرًا لي أن أرى أنني كنت أداة في جريمةٍ بهذا الشكل، وإن كنت بريئًا! لكن أنَّى لي أن أعرف أن السيدة ليستوريل كانت مجبرةً على كتابة هذا الخطاب؟ ففي ظاهر الأمر …»
فقاطعه اللورد موراديل قائلًا: «حسنًا، ليس هناك لائمة تُلقى عليك يا سيد جارويل! فالخطاب في ظاهر الأمر غير زائف. لكنني أردت أن أسألك سؤالًا: ماذا تعرف عن السيدة ليستوريل؟ أقصد، كم مرة استعانت بخدماتك؟»
فأجابه جارويل: «مرتان أو ثلاث فقط. لقد أتت إليَّ أول مرة بشأن اتفاق كان عليَّ أن أرسله إليها نيابةً عن موكِّل آخر. وقد بدت حينها ودودة للغاية، ولطيفة جدًّا لتقول إنها ستتذكَّر الاستعانة بخدماتي في المرة التالية التي تكون فيها في حاجة إلى إنهاء أعمال قانونية؛ إذ ليس لها محامٍ محدَّد تتعامل معه بصفة منتظمة.» ثم أضاف وهو يبتسم ابتسامةً لا تخلو من التحسُّر: «أظن أنها رأت أنني كنت في بداية العمل، ولم يكن لديَّ أعمال كثيرة.»
فقال اللورد موراديل وهو ينظر حوله إلى أثاث المكتب المتواضع: «فهمت. وكم مرةٍ ذهبتَ إلى مؤسسة «صندوق الودائع» تلك نيابةً عنها؟»
«مرتان. وفي كلتيهما كانت السيدة ليستوريل قد أرسلت إليَّ بالتعليمات من خارج البلاد. ففي إحدى المرات كانت في باريس. والأخرى كانت في نيس. وكانت التعليمات متشابهة في كلتا المناسبتين: كنت أذهب إلى صندوق الودائع وأحصل على طرد أو غرض معيَّن وأرسله إلى عنوان تعطيه لي. في المرة الأولى أرسلت طردًا صغيرًا إلى أمستردام، ولديَّ العنوان والاسم بالضبط، وفي المرة الثانية أرسلت الطرد إلى نيويورك. لذلك حين وصلني خطاب السيدة ليستوريل صباح اليوم، لم أرَ فيه بالطبع أيَّ شيء غير عادي.»
فقال اللورد موراديل موافقًا إياه: «بالطبع! لم تكن لتعرف شيئًا. في الواقع، آمل أن يضع ماذرفيلد الأصفاد في أيدي هذين الرجلين اللذين أجبراها على كتابة الخطاب! أليس كذلك يا هيثرويك؟»
فردَّ عليه هيثرويك: «آمل ذلك من كل قلبي! لكنني أيضًا أريد أن أطرح سؤالًا على السيد جارويل.» وأكمل يسأله: «كم مضى على وجودك هنا في شارع «سانت مارتن»؟»
أجابه جارويل: «حسنًا، أربع سنوات أو خمس.»
«إذن أنت تعرف هذا الحي جيدًا بالطبع. فهل صادفت رجلًا سأحاول أن أصفه لك؟» وأردف يعطي وصفًا دقيقًا لباسيفيري، وإن كان موجزًا. واختتم حديثه قائلًا: «يُرى ذلك الرجل في الأرجاء هنا في بعض الأوقات.»
فأومأ جارويل.
وقال: «أنا أعرفه! في الواقع، لقد كان في هذه الغرفة بالتحديد؛ يريد لقائي. لكنني لا أعرف اسمه، ولا أعرف الكثير عنه. كان رجل آخر قد أحضره إلى هنا ولم يمكث سوى بضع دقائق.»
فسأله هيثرويك: «ماذا تعرف عنه، حتى ولو كان أقل القليل؟»
«أعرف عنه الآتي. لعلك تعرف أن الأشخاص الذين يخترعون أشياء يأتون إلى المحامين من أجل الحصول على استشارات قانونية، وفي بعض الأحيان من أجل الحصول على معلوماتٍ فيما يتعلَّق بأفضل طريقةٍ لبيع اختراعهم. وقد أتاني رجلٌ قبل تسعة أشهر يدَّعي أنه اخترع زجاجة تقطير؛ أي زجاجة يمكنك أن تقطِّر بها قطرةً واحدة بقطرة واحدة مما بداخلها. وقال بأن هناك حاجة كبيرة لشيء من هذا القبيل، وأن هذا الاختراع من المفترض أن يدرَّ أموالًا كثيرة. وكان يريد أن يعرف أفضل طريقة لطرحه في الأسواق. ولم تكن لديَّ معرفة بذلك، لكنني ذكرت الأمر لبعض الأشخاص، فقال رجل أعرفه — أو كنت أعرفه حينها؛ إذ مات للأسف — بأنه يعرف رجلًا يعمل وسيطًا تجاريًّا للاختراعات، كان يأخذ الأفكار ويقدِّمها كما تعرف، ووعد بأنه سيُحضِر الرجل للقائي. وقد أحضره، وكان الرجل الذي أحضره هو الذي وصفته أنت بلا شك. لم يُذكر اسمه، لكنني واثق أنه ذلك الرجل. ولا أعرف مهنةَ ذلك الرجل الذي وصفته، لكنني كنت شبه متأكد من أن الرجل الذي أتحدَّث أنا عنه يعمل طبيبًا، أو كان يعمل طبيبًا فيما سبق.»
صاح هيثرويك متعجبًا: «آه! ما حملك على أن تظن ذلك؟»
«من محادثته؛ من التعليقات والملاحظات التي ذكرها عن الزجاجة. لم يأخذها؛ إذ قال إن موكلي قد تأخَّر كثيرًا، وإنَّ معلوماته عن الصفقة خاطئة؛ إذ كان هناك شيء آخر مماثل لتلك الزجاجة في السوق بالفعل وبجودة أفضل. غادر حينها، وكما قلت، لم أعرف اسمه أبدًا ولم أرَه مرة أخرى.»
قال هيثرويك: «هذا هو الرجل الذي نبتغيه! لو يتمكَّن ماذرفيلد من إلقاء القبض عليه! لكننا سنعرف المزيد بحلول الليل.»
وفي الخارج، التفت هيثرويك إلى اللورد موراديل وهو يهزُّ رأسه.
وهتف قائلًا: «لم نقترب من معرفة مكان السيدتين بأي شكل!»
فأجابه اللورد موراديل: «حسنًا، لا أعرف! أظن أننا اقتربنا. ذلك أنه إذا تمكَّن ماذرفيلد من اعتقال هذين الرجلين، أو واحد منهما حتى، فسيرى أحدهما أو كلاهما أن اللعبة قد انتهت، وسيستسلمان ويعترفان بمكان أسراهما. يا له من أمر غريب يا هيثرويك، أن يتم اختطاف أشخاص وحبسهم في وضح النهار في لندن!»
فأجابه هيثرويك باقتضاب: «لا أظن أن هناك شيئًا مستحيلًا أو غريبًا في لندن. لو كان لدينا أدنى فكرة عن الحي الذي توجَّهت إليه تلك السيارة، لكنا تمكنَّا من فعل شيء!»
فردَّ عليه اللورد موراديل باقتضاب مماثل: «يوجد الكثير من الأحياء الفرعية في كل حي، وأحياء فرعية أخرى في كل حي فرعي. يستغرق تمشيط هذه المدينة وقتًا طويلًا! لا! أظن أن علينا أن نثقَ بماذرفيلد. في الحق أنه ليس لدينا شيء آخر يمكن أن نضع ثقتنا فيه.»
لكن هيثرويك تذكَّر مابيرلي فجأة. وبدأ يفكِّر فيما كان موظفه يسعى إليه، وخطته من وراء ذلك. وتذكَّر تنبيه مابيرلي له بأن ينتظر منه رسالة في ذلك الوقت، وبعد أن استأذن اللورد موراديل ليغادر، قفز إلى إحدى الحافلات وذهب إلى حي تيمبل. وهناك في صندوق المراسلات، وجد برقية:
قابلني في فيكتوريا في الثالثة. مابيرلي.
انطلق هيثرويك إلى فيكتوريا من فوره. لكن الساعة كانت لا تزال الثانية والربع حين وصل إلى هناك، وحيث إنه لم يكن قد تناول غداءه بعدُ، دلف هيثرويك إلى المطعم. وهناك، وحيث كان في منتصف وجبته، وجده مابيرلي فجلس في كرسي بجواره قبل أن يلحظ هيثرويك وجوده.
قال مابيرلي: «خمَّنت أنني قد أجدك هنا يا سيدي.» كان الرجلان وحدهما في زاوية هادئة، لكن الموظف أخفض صوته حد الهمس. وأكمل يقول وهو يميل على الطاولة: «في الواقع، لقد قمت بشيءٍ ما، على أي حال.»
سأله هيثرويك: «ماذا تعني؟»
أخرج مابيرلي من جيب صدره بعض الأوراق، واختار من بينها مظروفًا؛ ذلك المظروف ذا اللون الأزرق الفاتح الذي كان قد أخذه من فوق طاولة الحارس في «سانت ماريز مانزيونز».
وقال بابتسامة خفيفة: «أتميِّز هذا؟ أنت تعرف مصدر حصولي عليه. هذا هو المظروف الذي أخذه باسيفيري إلى الحارس، وكان به أمر دخوله إلى شقة الليدي ليستوريل. كما تعرف أنني أخذته من أمام عيني الرجل ليلة أمس. لكنك لم تعرف لماذا فعلت ذلك. لقد ضحكتُ فقط حين سألتني.»
فسأله هيثرويك: «حسنًا، لماذا إذن؟»
أجابه مابيرلي: «لهذا السبب، كلانا لاحظ أن الورقة التي كتبت السيدةُ الأمرَ عليها كانت قد قُصَّت، وأنَّ عنوانًا منقوشًا أو مطبوعًا قد قُصَّ منها دون شك، وبطريقة غير متقنة أيضًا. أقول إن كلينا لاحظ ذلك. لكنني لا أظن أنك لاحظت شيئًا أكثرَ أهمية بكثير — بكثير جدًّا — شيئًا ذا صلة بغايتنا.»
قال هيثرويك مقرًّا: «لا، لم أفعل. ما هو؟»
فقال مابيرلي وهو يقلِّب لسان المظروف المقطوع: «هذا. لم تلحظ أنَّ اسم بائع هذه الأدوات وعنوانه مكتوبان هنا على المظروف! الاسم: دبليو إتش كالكن، والعنوان: ٨٥ برودواي، ويستمنستر. أنت لم ترَ ذلك يا سيد هيثرويك، لكنني رأيته!»
بدأ هيثرويك يستوعب الأمر. وابتسم، مقرًّا بالامتنان.
وهتف يقول: «هذا ذكاء منك يا مابيرلي! لقد فهمت! وهل ذهبت إلى هناك؟»
فأجابه مابيرلي: «ذهبت إلى هناك. ورأيت فرصةً لتعقُّب هذين الرجلين. لم أتمكَّن من العثور على كالكن إلا حين اقترب وقت الظهيرة، لكنني كنت مشتعلًا من الحماسة حين عثرت عليه.» ثم أردف يقول: «أترى، أولًا: تلك الورقة ذات صبغة لونية غير معتادة. وثانيًا: جودتها فائقة ومميزة، رغم أنها في غاية النحافة؛ إذ إنها مصنوعة بشكل رئيسي للمراسلات الخارجية. وثالثًا: ثمنها مرتفع. والآن، كنت أشعر بشكل شبه مؤكَّد أن استخدامها محدود، وما أردت معرفته من بائع الأدوات المكتبية هو الشخص الذي باعها إليه. وكان ذلك سهلًا. تعرَّف الرجل على الورقة والمظروف في الحال. أما عن خط اليد المكتوب على الورقة، وهو خط السيدة ليستوريل كما تعلم، فقال إنه لم يرَه قط. لكنه قال إنه باع تلك الورقة والمظروف بعينهما إلى ثلاثة أشخاص، وكان قد أعدَّ لكل شخص منهم قالبَ سبك لينقش به العنوان. وقد تمَّت عملية النقش في متجره، وقد أراني عينات من كلٍّ منها. كانت إحداها للأرملة الليدي ماركنتري التي تقطن في ١٢٠ «جروسفينور جاردنز». وكان ذلك دون جدوى. أما الثاني فكان للآنسة تشيلاندري التي تقطن في ٨ شارع «إيبوري». ولم تكن هناك جدوى من ذلك أيضًا. لكن الشخص الثالث الذي بِيعت له تلك الأدوات كان هو مَن أريد. كان العنوان هو ٥٦ شارع «ليتل سميث»، إس دبليو، ١. وفور أن رأيت العنوان، عرفت أنني على الطريق الصحيح.»
فقال هيثرويك: «أكمل!»
فأكمل مابيرلي يقول: «لم يعرف البائع كالكن اسم الرجل الذي طلب هذه الورقة وقدَّم ذلك العنوان. لكنه كان يعرفه بما يكفي كزَبون لديه، فوصفه لي. كان هو باسيفيري بلا أدنى شك! ويقول كالكن إن باسيفيري اشترى منه خلال الشهور القليلة الماضية عدة أدوات مكتبية تتنوَّع بين الدفاتر وورق النسخ، ومستلزمات المكاتب وما إلى ذلك. لم يكن كالكن يعرف اسم زبونه قط، لكن لأنَّ الرجل كان يشتري كلَّ تلك الأشياء ويدفع لقاءها نقدًا، فلم يكن ذلك مهمًّا. لقد باعه كالكن عشر رزم من هذا الورق والظرف قبل شهرين. هذا هو ما عرفته! لقد ذهبت إلى هناك، وقد تأكدت أخيرًا من أن مكان اختباء باسيفيري السري يقع في العنوان: ٥٦ شارع «ليتل سميث»!»
قال هيثرويك: «جيد، جيد! ماذا بعد؟»
فأجابه مابيرلي وهو يبتسم: «حسنًا، رأيت أننا يمكن أن نستفيد من بعض المساعدة. لذا فقد تركت كالكن، بعد أن تعهَّد بالحفاظ على السرِّية بالطبع، واتصلت بإيسي جولدمارك. إيسي هو الشخص المناسب تمامًا لمثل هذه المطاردات! فأتى إيسي، وأخذت معه جولةً في الأرجاء. أتعرف شارع «ليتل سميث»؟»
فأجابه هيثرويك: «لا أعرفه. لم أسمع به من قبل!»
قال مابيرلي: «حسنًا، إنه شارع فحسب. وهو يقع بين شارعي «جريت سميث» و«تفتون»، خلف مقر كنيسة «تشرش هاوس»، وليس ببعيد عن كنيسة «آبي». عشوائي بعض الشيء ذلك الحي وكذلك ما حوله، إنه أحد الأحياء الذي شهد أيامًا أفضل بلا شك. بالرغم من ذلك، توجد به بيوت جيدة في بعض المناطق، والمنزل رقم ٥٦ واحد منها. من الخارج، يبدو أنَّ الدخول إلى المنزل صعب؛ فهو مظلم وهادئ ونوافذه مغطاة بستائر ثقيلة، إنه من نوعية المنازل التي يمكنك أن تقتل أحدًا فيها بكل هدوء. بابه الأمامي قوي ومتين لونه أخضر داكن، به مطرقة نحاسية عتيقة الطراز، هذا هو المنزل. لقد فحصناه جيدًا.»
فسأله هيثرويك: «هل رأيت أيَّ شيء؟»
أجابه مابيرلي: «لا شيء أكثر مما أخبرتك به؛ فالمكان يبدو مقفرًا. ومع ذلك، فبعد أن رأيته مرة، لم أكن لأتركه من دون مراقبة؛ لذا عيَّنت إيسي لمراقبة المكان، من نافذة شباك حانة عامة، وذهبت لأبعث لك برقية. إيسي هناك الآن، إما في الحانة أو يتجوَّل في الأرجاء. والآن علينا أن نذهب لنرى إن كان لديه أية مستجدات. وإن لم يكن لديه مستجدات؛ فماذا بعد؟»
قال هيثرويك: «بالضبط، هذا هو السؤال: ماذا بعد؟ لكن قبل أن نفعل أيَّ شيء على الإطلاق يا مابيرلي، من الأفضل أن أُطلِعك على ما حدث في مكانٍ آخر هذا الصباح.» وبعد أن انتهى من سرده، تابع قائلًا: «إذا كانت نظرية ماذرفيلد صحيحة، وذهب باسيفيري بالفعل إلى ساوثامبتون ليحصل على الطرد لدى وصوله، وإذا كان أمبروز قد ذهب معه، فلن نجد باسيفيري في هذا العنوان. لكن، يمكن لنا أن نستفسر عما إذا كان معروفًا هناك، أم لا.»
راح مابيرلي يفكِّر برهةً. ثم بدا أنَّ ثمة فكرةً تطرح نفسها أمامه.
فقال: «ادفع فاتورتك يا سيدي، ولنذهب إلى «دليل مكتب البريد» القريب منا. سنحصل على اسم ساكن المنزل رقم ٥٦ من شارع «ليتل سميث».»
وفي غضون عشر دقائق كانا ينظران إلى أعمدة الأسماء الطويلة في الدليل، ثم أشار مابيرلي فجأة إلى ما كانا يريدان.
فقال: «ها هو ذا ما نبحث عنه! السيدة هانا ماليت، مالكة نُزُل.»
قال هيثرويك: «هيا بنا! سنذهب لرؤية السيدة ماليت على أي حال.»
عند وصولهما إلى شارع «ليتل سميث»، نظر مابيرلي حوله أولًا بحثًا عن صديقه السيد جولدمارك. وفجأة حضر السيد جولدمارك، من العدم على ما يبدو، وابتسم.
وقال في أدب إلى هيثرويك: «طابت ظهيرتك يا سيدي! الطقس جميل، صحيح؟ لم أرَ شيئًا يا مابيرلي، أيها الصديق القديم! لم يخرج أحد من ذلك المنزل أو يدخل إليه منذ أن غادرتَه! يبدو لي أن المكان موصد.»
علَّق هيثرويك قائلًا: «سنرى بخصوص ذلك. تعالَ معي يا مابيرلي. امكث أنت هنا يا جولدمارك. وابقَ منتبهًا كما كنت من قبل.»
ثم تقدَّم بشجاعة وخلْفه موظفه نحو باب المنزل رقم ٥٦، وراح يطرق بصوتٍ عالٍ على اللوح السميك، ودعَّم ذلك بدق الجرس. تكرَّر ذلك الأمر مرتين، من دون نتيجة.
همس مابيرلي فجأة: «هناك شخص آتٍ! المكان موصد بالمزلاج ومغلق بالمفتاح من الداخل!»
تمكَّن هيثرويك من تمييز صوت مزلاج قويٍّ يُسحَب، ثم سمع صوت التفافةِ مفتاح. فُتح الباب شيئًا قليلًا لكنه كان كافيًا لأن يروا منه وجه امرأة وجسدها؛ كانت المرأة ضخمة بشكل غير عادي، ومظهرها يوحي بأنها أمازونية، ولها عينان وشفتان قويتان، وكانت تحدِّق فيهما بارتياب، وفور أن أدركت وجود اثنين من الطارقين، قامت بتضييق المساحة التي كانت تنظر من خلالها إلى زائرَيها. لكن هيثرويك وضع يده على الباب وقدَمه على عتبته.
وتساءل بصوتٍ عالٍ عن عمد: «السيدة ماليت؟ هذا أنتِ! هل الدكتور باسيفيري بالداخل؟»
كان الرجلان ينظران إلى المرأة في ترقُّب، ورأيا أنها فُوجئت بعض الشيء وبصورة لا إرادية. لكنها هزت رأسها نافية بحسم.
وأجابت: «لا يوجد أحد بهذا الاسم هنا!»
كانت المرأة ستغلق الباب، لولا قدَم هيثرويك، التي مدَّها إلى مسافةٍ أبعد وراح ينظر إلى السيدة ماليت نظرةً متفحصة ثاقبة.
وقال: «ربما تعرفين الدكتور باسيفيري باسم آخر؟ لذا؛ هل السيد بيسنج موجود؟»
لكن هزة الرأس جاءت ردًّا من جديد، وصارت عيناها الصارمتان أكثرَ صرامةً وارتيابًا.
وقالت: «لا أحد بهذا الاسم أيضًا هنا! لا أعرف أحدًا بهذه الأسماء.»
فأصرَّ هيثرويك قائلًا: «أظن أنكِ تعرفين.» التفت إلى مابيرلي عمدًا وقال: «سيتحتم علينا أن نُحضِر الشرطة …»
فصاح مابيرلي وهو ينتزع ذراع هيثرويك: «انتبه يا سيدي! أصابعك!»
كانت المرأة قد أغلقت الباب بعنف، ولم تخطئ يد هيثرويك إلا بمسافة ضئيلة؛ إذ كان قد قرَّبها من حافة الباب، وفي ثانية سمعا صوت المزلاج يعود إلى موضعه والتفافة المفتاح. ففهم هيثرويك الأمر بإدراك سريع، والتفت فجأة إلى موظَّفه.
وصاح يقول: «مابيرلي! أنا متيقن تمامًا! هاتان السيدتان بالداخل! محبوستان!»
فوافقه مابيرلي قائلًا: «لا عجب يا سيدي. وكما تقول، الشرطة …»
وقال هيثرويك: «لنعُد إلى جولدمارك.»
سار الرجال الثلاثة في الشارع وانسحبوا إلى ملاذٍ لهم تحت مدخل أحد الأبواب، وكانوا يتشاورون فيما بينهم، حين قطع المشورة فجأة صيحةُ تعجُّب من اليهودي الذي كان لا يزال مثبِتًا ناظريه على المنزل:
فقال: «المرأة تغادر المنزل! ها هي ذي! إنها هناك! توصد الباب خلفها أيضًا! تسير باتجاه أول الشارع!»
نظر هيثرويك فرآها، فدفع بجولدمارك خارج المدخل.
وقال: «اتبعها! ولا تضيِّعها هذه المرة، أرجوك!»