منزل الباحة
انطلق اليهودي في هدوء وسرعة خلف المرأة المسرعة، وبعد فترة قصيرة، اختفت المرأة ومتعقِّبها عند إحدى الزوايا.
قال هيثرويك: «هذه نتيجة زيارتنا يا مابيرلي! لقد ذهبتْ إلى مكانٍ ما؛ لتخبرَ أحدَهم!»
فقال مابيرلي موافقًا: «على الأرجح! لكن أيًّا كان المكان الذي ستذهب إليه، سيلحقها إيسي جولدمارك إليه. إنه يتمتَّع ببصر الوشق.»
علَّق هيثرويك يقول: «لكنه ترك باسيفيري يفلت منه في تلك الليلة.»
فقال مابيرلي: «أولًا، هناك عذر لذلك؛ إذ كانت التعليمات الموجَّهة إليه هي معرفة المكان الذي سيذهب إليه باسيفيري فحسب، وهذا هو ما فعله في النهاية! لكنه لن يدَع تلك المرأة تفلت منه. إنَّ تعقُّبها سهلٌ بسبب ضخامتها.»
قال هيثرويك: «ليتني أعرف ما تركت في ذلك المنزل. سيتحتم علينا أن نعرف ذلك، بطريقةٍ ما!»
فأجابه مابيرلي: «تلك هي مسئولية الشرطة. لا يمكننا الدخول إلى منازل الناس من دون مذكرة. ثم إنك تقول إن ماذرفيلد يتتبَّع خيطًا آخر، أليس كذلك؟ على أية حال، أعتقد أن تلك المرأة غادرت الآن لتجد أحد المسئولين عن الأمر بصفة أساسية؛ إذ بدت خائفة حين رأتني.»
فغمغم هيثرويك يقول: «إنها متورطة في هذا الأمر بشكلٍ ما.»
«يبدو هذا المنزل غامضًا بما يكفي. سنراقبه بدقةٍ على أي حال حتى يعود جولدمارك، مهما طال ذلك.»
لكن اليهودي عاد في غضون عشرين دقيقة. وهكذا فعلت المرأة. أتت المرأة أولًا تسير في الشارع بسرعةٍ أكبر من تلك التي سارت بها وهي تغادر. وبقدرِ ما تمكَّن المراقبان من رؤيته من نقطة المراقبة التي كانت تبعُد عن منزلها عشرين ياردة، فقد بدت لهما مرتبكة وقلقة ومستاءة. ومن بعدها، أتى السيد إيسي جولدمارك على الرصيف المقابل واضعًا يديه في جيبيه.
دخلت المرأة المنزل مرة أخرى؛ وسمعا الباب وهو يُغلق بقوة. وبعد لحظة استدار اليهودي إلى المدخل الذي يقف فيه مابيرلي وهيثرويك، حيث كانا مختفيَين عن الشارع. وابتسم ابتسامة غامضة.
وسألهما قائلًا: «أرأيتماها تعود إلى المنزل؟ لقد تبِعتها. ورأيت أين ذهبت أيضًا.»
فسأله هيثرويك في نفاد صبر قائلًا: «أين ذهبت؟»
هزَّ جولدمارك رأسه في الاتجاه الذي أتى منه.
وقال: «عندما تنعطف عن تلك الزاوية، تجد نفسك في حي فقير. شوارعه وعطفاته وممراته ضيقة. وفي أحد تلك الشوارع يوجد مكان ضيِّق به ما هو أشبه بسوق مفتوح، وبه كذلك جدار، وفي الجدار باب موصد بالحديد، لقد دلفت المرأة إلى هناك، دخلت بمفتاح أخرجته من جيبها. وفور أن دخلت المرأة، ألقيتُ نظرةً أقرب على المكان. الباب موصد بالحديد أو الصلب كما قلت، وأقفاله قوية جدًّا. وليس على الباب أيُّ أسماء، وكذلك ليس به فتحة مفتاح يمكن لك أن تنظر من خلالها. ارتفاع الجدار تسع أقدام أو عشر، ومغطًّى من أعلاه بزجاج مكسور. ليس بمكان لطيف يدخله أحد على أي حال!»
فسأله هيثرويك: «وبعد ذلك؟ بعد أن دخلت؟»
«دخلت المرأة كما قلت يا سيدي، وأُغلِق الباب خلفها. وبعد أن ألقيت نظرة على الباب، اتخذتُ لي موقعًا خلف أحد الأكشاك الموجودة في الشارع ورحت أراقب. خرجت المرأة مرةً أخرى بعد ما يقرب من عشر دقائق، وبدت لي وكأنها لم تقضِ وقتًا لطيفًا بالداخل. كانت منزعجة! بعد ذلك، انطلقت المرأة عائدة إلى هنا، وكانت تسير في طريق العودة أسرعَ مما كانت تسير في ذهابها. والآن دخلت المرأة إلى منزلها مرةً أخرى، كما رأيتما بالطبع. هذا كل شيء.» أنهى إيسي كلامه قائلًا: «لكنني لو كنت مكانك يا سيدي، فسأحاول أن أعرف ما يوجد خلف ذلك الباب وتلك الجدران؛ ينبغي عليَّ ذلك!»
قال مابيرلي مرة أخرى: «هذه هي مهمة الشرطة. لو كان ماذرفيلد معنا، لأمكننا …» هنا توقَّف هيثرويك يفكِّر. وأكمل يقول بعد أن واتته فكرة مفاجئة: «اسمع يا مابيرلي. أنا أعرف ما سنفعل! أوقفْ سيارةَ أجرة بأسرع ما يمكنك. واذهب إلى قسم الشرطة حيث ألتقي بماذرفيلد عادة. أعرف رجلًا آخرَ هناك، وهو ضليع في هذه الأعمال، وهو المحقِّق الرقيب روبمور. اطلب أن تلتقي به. وأخبره بما وجدنا، واطلب منه أن يعود معك وأن يحضر معه رجلًا لو رأى في ذلك ضرورة. والآن يا جولدمارك! أخبِر مابيرلي بموقع ذلك المكان بالضبط.»
أشار اليهودي بإصبعه إلى أول منعطف في الشارع.
وقال: «عند تلك الزاوية. أول منعطف على اليمين، ثم أول منعطف على اليسار، ثم أول منعطف إلى اليمين، هذا هو المكان. ستجد الكثير من الأكشاك الصغيرة هناك؛ إنه مكان شديد الازدحام.»
سأله مابيرلي بشيء من التأنيب: «ألم تلحظ اسم الشارع؟»
فابتسم جولدمارك وقال: «لقد لاحظته بالفعل! شارع «بينكوف». لكن من الأفضل أن أصفه لك على أن أسميه. ولا تطلب من سائق الأجرة أن يدخل بك إلى هناك بالسيارة! لأن المكان لا يتسع لذلك!»
لم يعلِّق مابيرلي على تلك النصيحة؛ وانطلق باتجاه شارع «فيكتوريا»، ثم التفت هيثرويك إلى اليهودي.
وقال: «سنذهب ونلقي نظرة أخرى على المكان يا جولدمارك. لكننا سنذهب منفصلَين؛ ما دمنا في ذلك الشارع على أي حال. اذهب أنت باتجاه المنعطف الأول وسأتبعك.»
عبر هيثرويك الشارع الذي سار فيه اليهودي، وألقى نظرة أخرى على البيت الصغير الذي اختفت المرأة فيه. كان المنزل مغلقًا بالمزاليج وستائره مسدلة؛ فكان تجسيدًا للغموض. وللحظة، تردَّد هيثرويك بشأن ترك المنزل من دون مراقبة. لكن وصف الجدار والباب في شارع «بينكوف» كان قد ألهب مخيِّلته، فأكمل مسيره وانعطف عند الزاوية ولحِق بجولدمارك. تقدَّم جولدمارك في الحال يرشده عبر متاهة من الشوارع القذرة الشديدة الازدحام، وانعطف به في النهاية إلى شارعٍ أضيقَ بكثير من الشوارع الأخرى، ويوجد على كلا جانبيه أكشاكٌ أشبه بالخيام بها جميع أنواع السلع الرخيصة يعرضها للبيع تجَّارٌ خشِنو الصوت. رأى هيثرويك من فوره أن ذلك المكان هو أحد الأسواق المفتوحة التي توجد في الكثير من المناطق الفقيرة من لندن، والتي يمكن للمرء أن يشتري منها مقلاة بستة بنسات بالسرعة التي يشتري بها ورقةً من السمك المقلي، أو وشاحًا مبهجًا للرقبة مع برتقالة فاسدة.
خطا هيثرويك خلف إيسي بين الأكشاك المزدحمة والمتاجر البائسة التي تصطف على الرصيف، وبعد قليل وصل إلى الجدار الذي أخبره عنه اليهودي. كانت المتاجر والمنازل حوله عتيقة ومتداعية، أما الجدار فإما أنه كان حديث البناء أو أنه بُني من جديد وأُعيدَت تقويته. كان الجدار يمتد بين منزلين منخفضين؛ أحدهما يُستخدم متجرًا لبيع الخضراوات، والآخر متجر لبيع المعدات. بلغ طول الجدار ما يقارب ثلاثين قدمًا؛ أما ارتفاعه فكان يقارب عشر أقدام، وكانت قمَّته مغطاة بالكثير من الزجاج المكسور مثلما ذكر جولدمارك. أما الباب الذي كان ملاصقًا للمباني المجاورة، فكان صلبًا قويًّا، له واجهة حديدية وحديث الطلاء وكان من الواضح أن القفل من النوع الممتاز. هنا أدرك هيثرويك فجأة حقيقة مهمة؛ ألا وهي أنه لم تكن هناك إشارة على وجود جرس أو مقبض للطرق.
فسأل هيثرويك حين توقَّف هو وإيسي: «أتقول إن المرأة دخلت إلى هنا؟»
أجابه إيسي: «هذا هو المكان يا سيد هيثرويك؛ لقد دخلت إلى هنا. رأيتها تُخرِج المفتاح من جيبها.»
نظر هيثرويك إلى قمة الجدار.
وغمغم يقول: «ماذا يا تُرى يوجد خلفه؟ لا شك أن وراءه مبنًى ما.» التفت إلى صاحب الكشك الذي يقع أمام الباب المبهم، والذي لم يكن مشغولًا بشيء في تلك اللحظة. وسأله: «أتعرف أيَّ شيء عن هذا المكان؟ أتعرف ماذا يوجد خلف ذلك الجدار؟ أيُّ مبنًى هو؟»
راح صاحب الكشك يقلِّب بصره في هيثرويك في صمت ودقة. وبعد أن تأكد من أنه شخص مدني وليس رجل شرطة بزي مدني، بدأ يتحدث.
فأجابه: «لا أعرف أيها السيد. ليس لديَّ أدنى فكرة! أنا آتي إلى هنا وأتجوَّل في الأرجاء منذ ثلاث سنوات أو أكثر، لكنني لم أرَ ما خلف ذلك الجدار قط، ولم أدخل من ذلك المدخل. أقسم على هذا!»
فقال هيثرويك: «لكنني أعتقد أنك رأيت أناسًا يدخلون ويخرجون من الباب، أليس كذلك؟ لا بد أنه يُستخدم لغرضٍ ما!»
«أظن ذلك أيها السيد، لكنني لا أتذكَّر أحدًا الآن، لكن من المؤكَّد أنني رأيت امرأةً تخرج منه قبل برهة؛ كانت المرأة ضخمة عريضة الفكَّين. لكنني لا أتذكَّر رؤيةَ أيِّ شخص آخر، وإن كان هذا يبدو غريبًا. أنا آتي إلى هنا في العاشرة صباحًا أيها السيد، وأحزم أشيائي وأغادر في الخامسة؛ إذا كان هناك أشخاصٌ يدخلون ذلك المكان ويخرجون منه، فلا بد أن ذلك يحدث في الصباح الباكر أو في ساعة متأخرة من الليل؛ فلا أستطيع رؤيتهم. لكنني أظن أن الجدار والباب هما مدخل خلفي لمبنًى ما واجهته من الجانب الآخر.»
قال هيثرويك وهو ينظر إلى جولدمارك: «هذه فكرة جيدة. لنلتف حول المكان.»
لكن لم تكن هناك طريقة للالتفاف حول المكان. فعلى الرغم من أنهما حاولا السير في عديد من الممرات والشوارع التي ينبغي لها أن تكون موازية لشارع «بينكوف»، فإنهما لم يتمكَّنا من إيجاد أيِّ مكان قد يكون واجهةً لذلك الجدار المبهم وبابه الموصد. لكن فطنة اليهودي أعلنت عن نفسها.
فقال: «يمكننا رؤية ما هو خلف الجدار يا سيدي بصورة سهلة إذا ما جعلنا أحد أولئك البائعين المواجهين له يسمح لنا بأن نصعد إلى طابقه الأول. انظر عبر الشارع هناك، بعد تلك الأكشاك وغيرها، انظر إلى هناك.» ثم أكمل يقول وهو يشير إلى متجرٍ لبيع الخضراوات كان مواجهًا للباب الموصد: «لنجرِّب ذلك. أخبِره أننا نقوم بمسح للأرض؛ وهذا حقيقي!»
قدَّم هيثرويك طلبه؛ فصحبته زوجة البائع هو وجولدمارك إلى الطابَق العلوي إلى غرفة صالونٍ بها نافذة على شكل قوس، كانت الشقة هي إحدى تلك الشقق الكئيبة التي لا تُستخدم إلا أيام الآحاد من أجل إضافة المزيد من الكآبة على يوم كئيب بالفعل. علَّقت المرأة قائلة بأن هناك مظهرًا لطيفًا لكلا جانبي الشارع من تلك النافذة، لكن هيثرويك اقتصر بفحصه على الواجهة. الآن صار يرى ما وراء الجدار بسهولة كافية. ولم يكن هناك الكثير مما يُرى. كان الجدار يحدُّ باحةً يحدُّها من اليمين واليسار جدرانُ المنازل المتاخمة، وفي الجانب الآخر البعيد منها كان يحدُّها مبنًى عريض منخفض مصنوع من الطوب الأحمر، وكان ذلك المبنى ينتصب في الجهة الخلفية لجدارٍ يقع أمامه ولا نوافذ له. كان من المستحيل أن يعرف المرء فيما يُستخدم ذلك المبنى القصير ذو السقف المسطَّح من النظر إليه فحسب. لكن بابه المغلق كان واضحًا، وكانت النوافذ الموجودة على كلا جانبَيه واضحةً أيضًا. بالرغم من ذلك، فقد كان من السهل رؤية أن تلك النوافذ كانت معتمة من نصفها السفلي بطلاء داكن اللون. لم يكن المبنى يحمل أيَّ علامة، ولا أيَّ إشارة من الخارج تدل على الغاية منه. غير أنَّ الباحة كانت تحتوي على أقفاص وصناديق وزجاجات محفوظة في صناديق من الخوص، وبرزت من السقف مدخنةٌ غريبةُ الشكل كانت تدل على وجود تنُّور أو مصهر للمعادن تحتها. وبعد أن ألقى هيثرويك نظرةً أخرى، أدرك يقينًا أنه كان ينظر إلى المكان الذي أُخِذ إليه هانافورد وسُمِّم ببراعة.
هزَّ جولدمارك ذراع هيثرويك فجأةً وأومأ إلى الشارع المزدحم بالأسفل.
وهمس قائلًا: «هذا مابيرلي! ومعه رجلان!»
نظر هيثرويك إلى الاتجاه الذي أشار إليه، ورأى روبمور ورجلًا آخر في زيهما المدني يتقدَّمان عبر الشارع، بين الأكشاك والمتاجر. وكان معهما هناك ضابط يرتدي الزي الرسمي ويحدِّثهما. فالتفت هيثرويك من أجل أن يغادر الغرفة، لكن جولدمارك أمسك بمِرفقه.
وقال: «قبل أن نذهب يا سيدي، ألقِ نظرةً أخرى فقط على ذلك المكان المواجه لنا، وما يحيط به. يمكنني أن أرى المكان الذي نستطيع أن ندخل منه يا سيد هيثرويك، فالجدار بين تلك الباحة والمنزل المجاور، ذلك الجانب الأيمن منه، منخفض بعض الشيء عند الطرف الأقصى منه. فماذا لو سمح لنا الرجل في ذلك المنزل بأن نذهب من خلال باحته الخلفية؟»
قال هيثرويك: «فهمتك! سنحاول ذلك. لكن سنذهب إلى روبمور أولًا، هيا بنا.»
دسَّ هيثرويك بعض العملات الفضية في يد زوجة تاجر الخضراوات، ونزل إلى الشارع. وقدَّم إلى المحقِّقين بعض التعليلات الموجزة التي أضافت إلى المعلومات التي قدَّمها لهم مابيرلي، فأومأ روبمور إلى الشرطي المتلهِّف المنتبه الذي كان يقف بجانبهم.
وقال: «كنا نتحدَّث إليه يا سيد هيثرويك. في بعض الأحيان يكون في الخدمة هنا نهارًا، وفي أحيان أخرى يكون في الخدمة خلال الليل. يقول الشرطي إنه كان يفكِّر في أمرِ هذا المكان كثيرًا، ومن الغريب أنه لم يرَ أحدًا يدخل من ذلك الباب أو يخرج منه رغم أنه يعرف هذا الحي منذ أكثر من عام، وليس لديه أدنى فكرة عن العمل التجاري الذي يجري في الداخل، هذا إن كان يمثِّل عملًا تجاريًّا!»
فأيَّد الشرطي كلامه قائلًا: «لم أرَ أيَّ شيء أو أيَّ أحد! لم يحدُث ذلك في أيِّ وقت من الأوقات سواء أكان ليلًا أو نهارًا. حين أتيت إلى هذا المكان للمرة الأولى، ربما قبل خمسة عشر شهرًا، كان ذلك الباب حديث التركيب والطلاء، وكان الزجاج قد وُضع لتوه على قمة الجدار. لكن الحق أنني لم أرَ أحدًا يدخل هذا المكان أو يخرج منه!»
فقال هيثرويك: «أقترح أن ندخل. أظن أن لدينا الكثيرَ من الأسباب، نظرًا لما نعرف. ربما كانت المرأتان المفقودتان في الداخل. لقد ألقيت نظرةً على الباحة، ويمكننا أن ندخل إلى هناك بسهولة عن طريق الدخول من خلال متجر بائع الخضر ذلك، على الجانب الأيمن، ثم نتسلق الجدار من الجانب الخلفي من متجره. ما رأيك يا روبمور؟»
فقال روبمور موافقًا: «أجل، أوافقك الرأي! الآن وقد بدأنا هذه المهمة، سوف نكملها. من الأفضل أن تَدَعني أتعامل مع التاجر يا سيد هيثرويك؛ سأتحدَّث معه أولًا ثم أنادي عليكم.»
انتظر الآخرون بينما دخل روبمور إلى المتجر وتحدَّث مع مالكه. رآه الآخرون وهو منخرطٌ في الحديث لبضع دقائق، ثم أتى إلى الباب وأشار إلى البقية بأن يتقدموا.
وقال في حديثٍ جانبي إلى هيثرويك: «لا بأس. يمكننا أن ندخل من خلال باحته الخلفية، وسيعيرنا سلَّمًا لنصعد به على الجدار. لكنه أخبرني أنه يعرف الرجلين اللذين يملكان المكان في الباحة المجاورة، ومن وصفه لهما، ليس هناك أدنى شك في أن أحدهما هو باسيفيري والآخر هو أمبروز. يقول الرجل إنهما حصلا على المكان منذ ما يقارب ثمانية عشر شهرًا، ويظن الرجل أنهما يستخدمان المكان كمختبر؛ مختبر كيميائي أو شيء من هذا القبيل. لكنه يقول إنهما لا يظهران إلا نادرًا؛ ففي بعض الأحيان لا يراهما لأيام أو حتى لأسابيع. وعادة ما يكونان هناك ليلًا؛ إذ رأى أن المكان يكون مضاءً في جميع ساعات الليل. هيا بنا!»
تقدَّمت مجموعةُ المحقِّقين الصغيرة عبر المتجر الصغير المظلم إلى باحة في الجزء الخلفي منه، ودخل مساعد التاجر أمامهم وهو يحمل سلَّمًا ثبَّته جيدًا قبالةَ الجدار الفاصل عند أدنى ارتفاع له. تسلَّق الرجال الستة، واحدًا تلو الآخر يتقدَّمهم الشرطي ذو الزي الرسمي، ونزلوا في الجانب الآخر. بدا المكان مهجورًا خاليًا إلا منهم. ومثلما لاحظ هيثرويك حين نظر من نافذة تاجر الخضر، وجد أن النوافذ كانت معتمة بطبقات كثيفة من الطلاء؛ لكنَّ اثنين أو ثلاثة من الرجال تقدَّموا على أية حال ليحاولوا إيجاد موضعٍ يكون الطلاء مخدوشًا فيه، في محاولة لرؤيةِ ما بالداخل. لكن الشرطي الذي كان أكثر جرأة وإقدامًا، تقدَّم مباشرة نحو المدخل.
وقال متعجبًا: «الباب مفتوح! ليس مغلقًا على الإطلاق!» فتح الباب على مصراعيه ودلف إلى المبنى وأتى البقية محتشدين خلفه. صاح الشرطي: «مرحبًا! مرحبًا!»
لم يكن هناك من ردٍّ على تحيته. فسار الشرطي عبر الرَّدهة التي كانوا يقفون فيها جميعًا، وفتح بابًا داخليًّا. رأى هيثرويك في الحال أن حدس التاجر بشأن الغرض من ذلك المكان كان صحيحًا؛ إذ كان مختبرًا كيميائيًّا ومُعَدًّا بأجهزةٍ حديثة أيضًا. لكن لم يكن هناك أيُّ أثر على وجود حياة فيه.
غمغم أحد الرجال يقول: «يبدو أنه لا أحد هنا. تبخَّروا!»
تقدَّم روبمور نحو باب آخر، وبعد أن فتحه تكشَّفت أمامه غرفةٌ مفروشة كالمكتب. كان بها مكتب قابل للطي، وأوراق ووثائق ملقاة عليه؛ فبدأ هو وهيثرويك يفحصانها ويقلِّبانها. وفجأةً رأى هيثرويك حلقةَ الوصل بين هذا المكان الغامض والمنزل الذي ذهب إليه في وقت مبكِّر من الظهيرة. فأمام عينيه كان هناك بضع من الأوراق ذات اللون الأزرق الفاتح التي تعقبها مابيرلي من خلال العنوان المنقوش عليها، والذي أخبره به بائع الأدوات المكتبية.
قال هيثرويك: «لا شك أننا وصلنا إلى المكان المنشود في نهاية المطاف. أتمنى لو كان ماذرفيلد معنا هنا. لكن …»
وقبل أن يتمكَّن من نطق كلمة أخرى، صدرت عن جولدمارك صيحةٌ مفاجئة، حيث ذهب بمفرده في شجاعة وصعد الدرجات المنخفضة إلى الطابق العلوي فيما كان الآخرون يفحصون الحجرات السفلية.
فنادى قائلًا: «سيدي! سيد هيثرويك! اصعد إلى هنا؛ اصعدوا جميعًا. ثمَّة رجل هنا، يجلس في كرسي؛ يا إلهي، إنه متصلِّب في مكانه وميِّت!»