المخمل الأسود
في صباح اليوم التالي، وقبل أن يعرِّج هيثرويك على أيٍّ من كينثوايت أو رونا هانافورد، انطلق في جولة على المصوِّرين البارزين بحي ويست إند في لندن. فلم يكن هناك الكثير منهم على أية حال، لا سيما المشاهير للغاية منهم. صنع هيثرويك قائمة بهم وبدأ يعمل بطريقة منهجية. لم تفضِ محاولاته القليلة الأولى إلى أي شيء، لكنه قبيل حلول الظهيرة، وبينما كان هيثرويك يفكِّر في التوقف عن العمل من أجل تناول الغداء، قد أيقظ الفطنة بداخله. ففي إحدى مؤسسات التصوير الفخمة في شارع بوند أبدى الشخص الذي كان يحدِّثه وأخرج له الصورة ابتسامةً تنم عن التعرُّف على المرأة.
قال الرجل: «أتريد أن تعرف مَن هي صاحبة الصورة الأصلية؟ سأجيبك بكل تأكيد! الليدي ريفرسريد، صاحبة قصر ريفرسريد الذي يقع بالقرب من دوركينج.»
لم يكن هيثرويك يتمتع بمعرفة وثيقة لا بديبريت ولا ببيرك، ولا حتى بقائمة الأقران والبارونات والفرسان المذكورين في الكتب المرجعية العادية، وبالنسبة إليه كان اسم الليدي ريفرسريد غير معروف بالمرة؛ فهو لم يسمع بها من قبل. أما الرجل الذي أراه النسخة، والذي كان يمسكها الآن في يده، فقد بدا أنه يَعُدُّ الليدي ريفرسريد شخصيةً معروفة، أو ينبغي أن تكون معروفة للجميع مثلما هي معروفة لديه كما يبدو.
قال الرجل وهو يلتفت نحو طاولة جانبية في غرفة الاستقبال التي كانا يقفان فيها: «هذه النسخة مأخوذة من إحدى صورنا التي التقطناها لليدي ريفرسريد.» أخذ بعد ذلك صورة شخصية مؤطرة، وأردف: «وها هي ذي الصورة الأصلية التي أُخِذت منها.»
سأله هيثرويك: «إذن فأنت تعرف على الأرجح أي صحيفة هي التي ظهرت فيها هذه النسخة؟ هذا هو ما أرغب في معرفته في الواقع.»
فأجابه المصوِّر: «حسنًا، لقد ظهرت في العديد من الصحف. كان ذلك منذ عهد قريب. ذلك أنها ظهرت في الوقت الذي افتتحت فيه الليدي ريفرسريد دارًا أو مؤسَّسة، قد نسيت اسمها الآن. أوردت الصحف خبرًا عنها، ومن الطبيعي أن تُنسخ صورتها مع الخبر.»
قدَّم هيثرويك على فضوله عذرًا منطقيًّا كان قد رتَّب له مسبقًا، وغادر. الليدي ريفرسريد! لا شك أنها امرأة تتمتع بمنزلة رفيعة أو بالموارد المالية أو بمكانة بارزة. لكن أهي نفسها السيدة ويتينجهام التي عُرِفت قبل عشر سنوات: السيدة ويتينجهام التي أخذت من صائغ سيليثوايت قلادة تساوي قيمتها ما يقرب من أربعة آلاف جنيه وهربت بمهارة من محاولة القبض عليها على يد هانافور؟ وإن كان الأمر كذلك …
لكنَّ هذه الفكرة كانت تؤدي إلى آفاق غير محدودة، كان الأهم حينها هو اكتشاف كلِّ ما يمكن اكتشافه عن الليدي ريفرسريد صاحبة ريفرسريد الواقع بالقرب من دوركينج. لا شك أن هيثرويك كان بإمكانه الحصول على الكثير من المعلومات من المصوِّر البارز، لكنه أحجم بعناية عن إظهار الكثير من الفضول. علاوة على ذلك، كان هيثرويك يعرف رجلًا يُدعى بوكسلي هو زميل له في عضوية النادي، وهو مطَّلع دائمًا وتمامًا على كل الأحداث التي تدور في العالم الاجتماعي والمرموق، وكان يستطيع أيضًا — إذا أراد — أن يخبره بكل شيء عن الليدي ريفرسريد، هذا إن كان هناك أي شيء يمكن ذكره عنها. كان بوكسلي أحد أولئك الرجال العزَّاب الذين يطوفون المدينة ويعرفون الجميع ويبقون أنفسهم مطَّلعين دومًا على كل شيء؛ كان من عادة الرجل أن يتناول غداءه في ذلك النادي بعينه؛ نادي جونيور ميجاثيريم، وقد توجَّه هيثرويك إلى هناك عازمًا على إيجاده.
وكان من حسن حظِّه أنه وجد بوكسلي فور دخوله من أبواب النادي المكرسَّة لأعضائه وتقتصر عليهم. كان بوكسلي يتناول غداءه ولم يكن هناك أحد آخر على الطاولة. انضمَّ إليه هيثرويك وبدأ الحديث البسيط المعتاد الذي لا يدور عن شيء على وجه الخصوص. لكنه سرعان ما تطرَّق إلى موضوعه.
بعد فاصل زمني مناسب، قال هيثرويك: «اسمع! أريد أن أسألك بخصوص شيءٍ ما. أنت تعرف كل شيء وكل شخص. مَن هي الليدي ريفرسريد، تلك التي افتتحت مؤخَّرًا دارًا أو مؤسسةً ما، أو مستشفًى أو شيئًا من هذا القبيل؟»
أجابه بوكسلي بسرعة: «إنها واحدة من أغنى السيدات في إنجلترا! تبلغ قيمة ثروتها مليونين أو أكثر. تلك هويتها الآن، أما ماضيها فلا أعرف عنه شيئًا. ولا أعتقد أن هناك مَن يعرف ذلك أيضًا. ليس في هذه البلاد على أي حال.»
سأله هيثرويك: «ماذا، أهي أجنبية إذن؟ لقد رأيت صورتها في الصحف؛ ولهذا سألت عن هويتها. لكنها لا تبدو أجنبية على ما أعتقد.»
قال بوكسلي: «يمكنني أن أخبرك بكلِّ ما هو معروف عنها، لكنَّ ذلك ليس بالكثير. إنها أرملة السير جون ريفرسريد الراحل، المتعهِّد الشهير، الرجل الذي جنى الكثير من المال من إنشاء السكك الحديدية والسدود عبر الأنهار الكبرى وما إلى ذلك، وحصل على لقب الفروسية لقاء ذلك. بنى الرجل لنفسه أيضًا مكانًا مذهلًا بالقرب من دوركينج، وأطلق عليه قصر ريفرسريد، وهو بالتحديد من نوعية الأماكن التي يبنيها أصحاب الملايين الجدد. والآن، كان السير جون الراحل عازبًا طَوال حياته إلى أن تخطَّى سن الستين؛ إذ لم يكن لديه أيُّ وقت لأي شيء سوى تعاقداته كما تفهم. لكن قرابة بلوغه الخامسة والستين، وكان ذلك قبل ست سنوات مضت أو سبع تقريبًا، ذهب إلى الولايات المتحدة ومكث هناك طويلًا. وحين عاد أحضر معه زوجة؛ وهي الليدي التي تسأل بشأنها.»
سأله هيثرويك: «هي أمريكية إذن؟»
قال بوكسلي: «في الواقع، لقد تزوجها هناك. لكنني أقول إنها ليست أمريكية.»
«هل التقيت بها شخصيًّا؟»
«من بعيد فحسب. صادفتها مرة أو اثنتين في شئون مختلفة، وقُدِّمت إليها عرَضًا. لا، لا أظنُّ أنها أمريكية. لو أردت تصنيفها، لقلت إنها عالمية.»
«امرأة محنكة في شئون العالم، أليس كذلك؟»
«بلى، بالتحديد. إنها جميلة، ومتزنة، وواثقة بنفسها، وهي ذكية وماهرة. أعتقد أنها ستعرف كيف تعتني بالمال الذي تركه لها زوجها.»
«أَتَرَكَ لها كل شيء؟»
«كل بنس! إلا من شيء يسير للمؤسسات الخيرية. لقد قيل في ذلك الوقت، حين كانت قد مرت سنتان على وفاة العجوز، إنها تمتلك أكثر من مليونين.»
«وماذا عن هذه المؤسسة، أو أيًّا ما كانت؟»
«تلك! كانت تلك في الصحف قبل وقت ليس بطويل.»
«لست قارئًا نهِمًا للجرائد. ماذا عنها؟»
«حسنًا، لقد أنشأت دارًا للضباط الجرحى بالقرب من قصر ريفرسريد. كان يوجد منزل ريفي كبير وخاوٍ بالقرب من هناك، ولم يكن بالإمكان بيعه أو تأجيره. اشترته هي وأعادت تجديده وتصميمه وأحضرت طاقمًا من الخدم والممرضات، وقد باركته وزارة الحربية. أظنُّ أنه مكان رائع، وهي مَن تدفع التكاليف كلها.»
«إذن فهي تقوم بالعمل الخيري؟»
«يبدو ذلك. يغدو الأمر سهلًا حين تمتلك مليونين في جَعبتك. لكنه مفيد على أي حال.»
غادر بوكسلي بعد ذلك بوقت قصير، وذهب هيثرويك إلى غرفة التدخين متفكرًا فيما عرفه وقد أصبح فضوليًّا على نحوٍ لا حدَّ له بشأن هوية الليدي ريفرسريد والسيدة ويتينجهام، ثم أمسك بنسخة من صحيفة التايمز، وكان ذلك على سبيل العادة بأكثر مما هو رغبة فعلية في الاطلاع عليها. وكان أولُ ما وقعت عليه عينه، هو ذلك الاسم الذي كان يفكِّر فيه لتوِّه؛ إذ كان الاسم مكتوبًا أمامه بأحرف كبيرة على رأس إعلان.
دار الليدي ريفرسريد للضباط الجرحى، سُري. مطلوب على الفور سكرتيرة مقيمة، تتمتَّع بأهلية تامة للقيام بالحسابات والمراسلات ومدرِّبة تدريبًا شاملًا على الكتابة بالاختزال والكتابة على الآلة الكاتبة؛ سيكون من المستحسن كثيرًا أن تتمتع بمعرفة للغتين الفرنسية والألمانية. يتم تقديم الطلبات شخصيًّا بين الساعة العاشرة صباحًا والثانية عشرة ظهرًا والساعة الثالثة عصرًا والخامسة مساءً إلى الليدي ريفرسريد، بقصر ريفرسريد في دوركينج.
ألقى هيثرويك بالصحيفة جانبًا وغادر النادي واشترى نسخة أخرى من الصحيفة عند أول بائع للجرائد يمر عليه. قفز هيثرويك إلى إحدى سيارات الأجرة والصحيفة في يده وانطلق إلى شارع سُري وهو يفكِّر إن كان سيجد رونا هانافورد لا تزال في فندق مالتر أم لا. حالفه الحظ في ذلك؛ إذ لم تكن قد غادرت بعدُ، وفي غضون بضع دقائق كان يقدِّم لها سردًا مفصَّلًا وكاملًا لما قام به منذ آخر لقائه بها. استمعت هي إلى قصته عن سيليثوايت وعما اكتشفه ذلك الصباح وبدا عليها التحير بعض الشيء.
سألته فجأة وبسرعة: «لماذا تتحمل كلَّ هذا العناء؟ أنت تفعل أكثرَ مما تفعل الشرطة وتتعمَّق في الأمر أكثرَ مما يتعمَّقون. كان ماذرفيلد هنا هذا الصباح ليخبرني كيف أنهم يحرزون تقدُّمًا. وهم لا يحرزون أيَّ تقدُّم على الإطلاق! لم يُقدِموا حتى على اكتشاف واحد فقط: لم يسمعوا شيئًا، ولم يعرفوا أيَّ شيء عن الرجل الذي كان في القطار أو الرجل الذي كان في فيكتوريا، إنهم لا يزالون في مكانهم تمامًا. أما أنت، فقد اكتشفت الكثير من الأمور! لماذا أنت متحمس للأمر إلى هذا الحد؟»
أجابها هيثرويك مبتسمًا: «فلترجعي الأمر إلى الفضول المهني إذا أردتِ. أنا مهتم بالأمر. مهتم به بصورة هائلة! أنت تعرفين أنني أيضًا كنت في القطار، مثل ذلك الرجل الذي لم يجدوه. والآن، والآن بعد أن وصلت إلى هذه المرحلة، أريد منك المساعدة.»
تعجَّبت رونا قائلة: «أنا؟ كيف ذلك؟»
أخرج هيثرويك صحيفة «التايمز» وأشار إلى الإعلان.
وقال: «أريد منكِ أن تذهبي غدًا إلى دوركينج وتقابلي الليدي ريفرسريد شخصيًّا، بناءً على هذا الإعلان. أنتِ تتمتعين بكل المؤهلات المذكورة؛ لذا لديك تبريرٌ ممتاز لزيارتها. أما عن رغبتك في الالتحاق بالوظيفة من عدمها؛ فذلك أمرٌ آخر؛ ما أريده هو أن تريَها في سياقٍ يمكِّنك من ملاحظتها عن كثب.»
سألته رونا: «لماذا؟»
أجاب هيثرويك: «أريد منك أن تنظري ما إن كانت ترتدي ذلك الشريط الذي أخبرني به هادسون أنا وهوليس. إنَّ عينين ثاقبتين كعينيكِ ستلاحظان ذلك سريعًا. إذا كانت ترتدي ذلك الشريط، فهي السيدة ويتينجهام! وفي تلك الحال، قد أطلب منكِ القيام بأكثر من ذلك، أكثر من ذلك بكثير.»
سألته قائلة: «ماذا ستطلب مثلًا؟»
فأجابها: «حسنًا، أن تقومي بأفضل ما لديكِ لتحصلي على تلك الوظيفة. أعتقد أنكِ تستطيعين الحصول عليها بكلِّ ما تتمتعين به من مؤهلات.»
فسألته: «وما غايتك من ذلك؟»
أجابها على الفور: «أن أراقب الليدي ريفرسريد باستمرار. إن كانت السيدة ويتينجهام التي عاشت في سيليثوايت قبل عشر سنوات هي نفسها الليدي ريفرسريد التي تعيش اليوم في قصر ريفرسريد — وفي ظل مقتل جَدك — فإنني أريد منكِ أن تعرفي المزيد والمزيد عنها! إن وجودك هناك سيكون مصدر مساعدة كبيرة لي.»
فسألت قائلة: «إذن سأكون جاسوسة من نوعٍ ما؟»
قال هيثرويك مؤكِّدًا: «بل محقِّقة، إن كنتِ ترغبين في ذلك. لمَ لا؟»
علَّقت هي قائلة: «لقد نسيتَ شيئًا. إن كانت تلك الليدي ريفرسريد هي السيدة ويتينجهام من عشر سنوات مضت، فستتذكَّر اسمي: هانافورد! فليس من المرجَّح أن تنسى أمرَ المفوَّض هانافورد من سيليثوايت!»
أجابها هيثرويك: «هذا صحيح تمامًا، لكنني فكَّرت في هذه المسألة الصغيرة. أطلقي على نفسكِ اسمًا آخر. اسم والدتكِ على سبيل المثال.»
قالت رونا: «كان اسمها فيذرستون.»
«فليكن كذلك! اذهبي باسم الآنسة فيذرستون. أما عن عنوانك، فأعطيها عنوان عمَّتك في توتينج.» أضاف هيثرويك وهو يضحك: «الأمر سهل، سهل جدًّا كما ترين. كلُّ ما يلزم هو البدء على النحو الملائم فحسب.»
قالت رونا معترضة: «لكن هناك شيئًا آخر. المَراجع! ستكون في حاجة إلى مَراجع.»
فأجابها هيثرويك: «هذا سهل أيضًا. قدِّميني مَرْجعًا وكينثوايت هو المَرْجع الآخر. سأتحدَّث إليه بهذا الشأن. اثنان من المحامين من أعضاء جمعية «ميدل تيمبل»! هذا ممتاز! هيا! كلُّ ما عليك فعله هو أن تضعي الخطة كاملة وأن تنفِّذيها بثقة، وأنت لا تعرفين ما قد نكتشفه من ذلك.»
راحت رونا تفكِّر في الأمر بعض الوقت، وهي ترمقه بنظرات ثابتة.
ثم سألته فجأة: «هل تظنُّ أنَّ تلك المرأة قد تكون متورطةً على نحوٍ ما في اللغز المحيط بمقتل جَدي؟»
فأجابها: «أظنُّ أنَّ ذلك أحد الاحتمالات.»
فقالت: «لا بأس. سأذهب. غدًا صباحًا، أليس كذلك؟»
قال هيثرويك موافقًا: «كلما أبكرتِ كان ذلك أفضل. سوف أذهب معكِ أيضًا. سنذهب في قطار العاشرة وعشر دقائق من محطة فيكتوريا، وسنأخذ السيارة إلى ذلك المكان، وسأنتظر في الخارج بينما تقومين بالمقابلة. بعد ذلك سنتناول الغداء في دوركينج بينما تقصين عليَّ ما حدث.»
حلَّ صباح اليوم التالي وكان هيثرويك يسير جَيئة وذهابًا على الرصيف في محطة فيكتوريا ويبحث عن رفيقته. جاءته قبل موعد مغادرة القطار بوقت قليل، ولاحظ هو في الحال أنها خلعت ثياب العزاء التي وجدها ترتديها في ظهيرة اليوم السابق؛ إذ ارتدت تنورة ومعطفًا أنيقًا مصنوعًا بالطلب، وبدت ملائمة للدور الذي أرادها أن تضطلع به: فتاة أعمال يافعة قادرة وتعتمد على ذاتها.
قال هيثرويك في استحسانٍ بينما كانا يبحثان عن مقعدَيهما: «رائع! لا شيء يضاهي ارتداء الملابس المناسبة. هل استعددتِ لدورك؟ أقصد، هل حددتِ ما ستقولين وما ستفعلين؟»
أجابته ضاحكة: «اترك لي هذا، لن أنسى السبب الرئيسي على أي حال. لكنني كنت أفكِّر بشأنِ ما سيحدث إذا توصلنا إلى خاتمةٍ مفادُها أن الليدي ريفرسريد هي السيدة ويتينجهام التي ظهرت قبل عشر سنوات؟ ماذا سنفعل حينها؟»
قال هيثرويك معترفًا: «الحق أنَّ أفكاري عن هذه النقطة مبهمة بعض الشيء في الوقت الراهن. لكنَّ ما علينا فعْله أولًا هو التأكد من الهوية. لا تنسي أن المهمة الرئيسية في قصر ريفرسريد هي النظر بتمعُّن في معصم الليدي ريفرسريد الأيمن، وأن تري ما عليه!»
كان قصر ريفرسريد يبعُد مسافةً ليست بالهينة عن دوركينج، في حي ليث هيل؛ أشار هيثرويك إلى سيارة أجرة وأعطى رفيقته التعليمات النهائية وهما يسيران بالسيارة. وبعد الجري بالسيارة نصف ساعة وصلا أمام المنزل، وكان منزلًا كبيرًا فخمًا يحاكي الطراز الإليزابيثي، يقع على التل بين أيكة من أشجار التنوب والصنوبر، وبه متنزَّه يمتد بين حدائقه وشرفاته والطريق السريع. وعند بوابة المنزل، طلب هيثرويك من السائق أن يتوقف ونزل من السيارة.
وقال لرونا: «سأنتظرك هنا. اذهبي أنتِ بالسيارة إلى المنزل، ثم عودي إلى هنا حين تنتهين. والآن كوني يقظة لأي شيء.»
أومأت رونا مطمئنةً إياه وانطلقت، وأشعل هيثرويك غليونه وراح يسير في الأرجاء متأملًا المنظر الجميل. غير أنَّ عقله كان مع رونا؛ فراح يفكِّر في المغامرات التي تقوم بها في ذلك القصر الكبير الذي بناه المقاول الراحل بين الأشجار. وقد أبقته رونا متفكرًا بعض الوقت؛ إذ مرت ساعة قبل عودة سيارة الأجرة. التفت هيثرويك إلى السائق وهو يضع يده على باب السيارة:
وقال: «انطلق بنا إلى فندق «وايت هورس» الآن. سنتناول الغداء هناك، وبعدها يمكنك أن تأخذنا إلى المحطة.» وأكمل يقول بينما دلف إلى السيارة وجلس بجوار رونا: «حسنًا؟ كيف كان حظك؟»
أجابته رونا: «يسعني القول إنه كان جيدًا. إنها ترتدي شريطة مخملية سوداء عريضة على معصمها الأيمن، وتوجد عليه حلية صغيرة منقوشة. ما رأيك في هذا؟»
قال هيثرويك متعجبًا: «بالتحديد! إنَّ ذلك يتطابق تمامًا مع وصف الساقي الذي التقيته في سيليثوايت. ترتديه علنًا، ولا تحاول أن تخفي شيئًا تحت كمِّها، أليس كذلك؟»
أجابته رونا: «لا. كانت ترتدي سترة أنيقة وعصرية ذات كم قصير. وعلى معصمها الآخر كانت ترتدي سوارًا ماسيًّا رائعًا للغاية.»
سألها هيثرويك: «وهي نفسها، أيُّ نوع من النساء هي؟»
ردَّت رونا: «تلك الصورة التي قصَّها جدي من الجريدة كانت جيدة للغاية. جيدة للغاية بالفعل! تعرَّفت عليها على الفور. إنها امرأة طويلة وجميلة ورقيقة وتحتفظ بجمالها بقدْر كبير، ربما تبلغ من العمر الأربعين أو ربما أقل. أسلوبها سهل ومألوف؛ يسعني الاعتقاد بأنها امرأة خبيرة بشئون الحياة. وهي على استعداد كبير لأن تتحدث عن نفسها وعن أعمالها؛ فقد أخبرتني بتاريخ تلك الدار التي أنشأتها كاملًا وأخذتني لأراها: منزل قديم جيد، وهو جذاب أكثر من القصر، ويقع على التل بعد مسافة ليست بالبعيدة. أخبرتني أيضًا أن تلك الدار هي أكبر هواياتها، وأنها تكرِّس كلَّ وقتها إليها. أعتقد أنها مهتمة بصدق بشئون تلك الدار، بصدق شديد!»
تساءل هيثرويك: «هل أثارت إعجابك؟»
«أظنُّ مما رأيت وسمعت، أنها امرأة ودودة وربما كانت طيبة القلب. كانت تتحدث عن المرضى في تلك الدار وكأنها تشعر بهم كثيرًا، على أي حال.»
«ماذا عن الوظيفة: وظيفة السكرتارية؟»
«يمكنني الحصول عليها إذا ما أردت، بالطبع أخبرتها أنني أريدها. لقد اختبرتني بدقةٍ فيما يتعلق بمؤهلاتي، ثم إنها هي نفسها تتحدث الفرنسية والألمانية وكأنها من أبناء اللغتين، وقد ذكرتُك أنت والسيد كينثوايت بصفتكما مَرْجعَين. سترسل لكلٍّ منكما خطابًا اليوم. لذا؛ فالقرار يعود لكما.»
«أعتقد أن القرار يعود لكِ أنتِ في الواقع!»
«لا! أنا مستعدة، بل أتوق لفعل أيِّ شيء من شأنه أن يحلَّ لغز وفاة جَدي. لكني لا أظن أن تلك المرأة لها أيُّ علاقة بذلك. ففي رأيي — وأظنُّ أنني أتمتَّع بشيء من الحَدْس الأنثوي — أنها صادقة وصريحة بما يكفي.»
قال هيثرويك ضاحكًا: «لكنها تبدو وكأنها السيدة ويتينجهام بكل تأكيد والتي سرقت الصائغ في سيليثوايت في مبلغ أربعة آلاف جنيه! لم يكن ذلك من الصدق أو الصراحة في شيء!»
قالت رونا: «كنت أفكِّر في ذلك. ربما كانت تظن أنَّ الشيك سيُدفَع في نهاية المطاف، وقد أرسلت للرجل نقوده على أي حال، رغم مرور وقت طويل بعدها. ومرة أخرى، وهذا أمر مهم! ربما لا تكون الليدي ريفرسريد هي السيدة ويتينجهام على الإطلاق. فهناك سيدات كُثر يرتدين عصابة معصم مخملية.»
صاح هيثرويك: «لكن، الصورة! تأكيد الهوية!»
أجابت رونا: «حسنًا، أنا على استعداد للذهاب هناك ومحاولة اكتشاف المزيد. لكني بصراحة، أعتقد أن الليدي ريفرسريد لا غبار عليها! وذلك من الانطباع الأول على أي حال!»
توقَّفت السيارة الأجرة أمام «وايت هورس» وتقدَّم هيثرويك رونا إلى غرفة تناول القهوة. لكنهما لم يكادا يستقران في مجلسهما حتى أتى مدير المكان.
وتساءل قائلًا: «هل يصدف أن اسمك هيثرويك يا سيدي؟ تمامًا، شكرًا لك. لقد اتصل بك السيد مابرلي مرتين في غضون الساعة المنصرمة، وهو على الهاتف مرة أخرى الآن، إن كنت تريد الحديث إليه.»
قال هيثرويك: «سآتي.» همس إلى رونا وهو ينهض: «هذا موظف لديَّ. أخبرته أن يتصل بي هنا بين الثانية عشرة والثالثة إن كانت هناك ضرورة لذلك. سأعود في غضون دقيقة.»
لكنه غاب عدة دقائق، وحين عاد إليها مرة أخرى، كان وجهه متجهمًا. انحنى عبر الطاولة وهمس لها: «إليكِ تطوُّر جديد! لقد وجدت الشرطة الرجل الذي كان مع جَدك في القطار! يريد ماذرفيلد مني أن أتعرَّف عليه. وستفهمين من ذلك أنهم وجدوه ميتًا! ينبغي أن نتناول غداءنا سريعًا لنلحق بقطار الثانية وأربع وعشرين دقيقة.»