مقدمة
حلَّقت الطائرة «روكويل برونكو» بنعومة عبر المنحنى، وألقى توني ستامبا نظرة من النافذة المجاورة لكابينته فرأى رايات بيضاء خلَّفها الضباب تتأرجح مثل أجسام غريبة في الجو الصحو. الأمر أشبه بالمعجزة؛ فقُبَيْل لحظات قليلة أرسل الإشارة، ففُتِحت صمامات خزَّان الطائرة لتقذف في السماء حمولتها السائلة على عدة دفعات مركَّزة فوق الصحراء. والآن يتمدد بساط القطرات تدريجيًّا في طريقه للهبوط ليغطي الأرض القاحلة.
إنه عمل غير عادي بالنسبة لتوني. فسرعان ما سيختفي هذا الأثر الرطب وكأنه لم يكن قط، فالطبيعة قد غضت طرفها عن حصة تلك البقعة من المياه؛ ذلك أن الهواء في ميسا نيو مكسيكو التي تقع على ارتفاع نحو ألفين وخمسمائة متر عن سطح البحر يتميز بالصفاء والجفاف، والضباب هنا كلمة غريبة، لا تُستعمَل إلا أثناء التدخُّل لإطفاء الحرائق صيفًا.
حلقت نظرات توني مع نتوءات وتعرجات سلاسل الجبال التي تشبه حارسًا سكيرًا يُشرِف على المنتزه القومي الذي يحلِّق فوقه الآن. ولهذه المنطقة تاريخها؛ إذ كانت «باندلير ناشونال مونيومنت» أرضًا مملوكة للهنود الحمر، والصخور ذات المغارات المتشعبة كالمتاهة كانت تمثِّل ملاذًا آمنًا للناس والحيوانات، أما اليوم فالمنطقة لا تعدو كونها متحفًا مفتوحًا في قلب الطبيعة، يحوي بقايا قرية من زمن بويبلو. وكثير من الأماكن التي كانوا يُقِيمون فيها شعائرهم لا تزال لم تُكتشَف بعدُ.
شعر توني بتلك القشعريرة تحت فروة رأسه ثم امتدت إلى رقبته ثم ظهره، فشد قامته. يحدث هذا في كل مرة يحلِّق فيها بطائرته «روكويل» ويصعد بها إلى عنان السماء فوق تلك الأرض الصخرية، فيغدو فجأة رائدًا من الروَّاد الفاتحين وقائدًا للشرطة في وقت واحد. خمسة عشر عامًا قضاها في العمل طيارًا قائدَ عملياتٍ هي دائمًا عمليات إطفاء حرائق، فيتعين عليه إنقاذ الأرواح وحماية المنازل. إن لعمله مغزى ساميًا. ورغم ذلك يعتريه تشنُّج في فكه كلما تذكَّر حريق الغابة الذي وقع قبل ثلاث سنوات. إدارة المنتزه المجنونة تلك! تمخط توني. لم يكن الشريط الأحمر المتوهج الذي علا سماء لوس ألاموس وقتها شفق الغروب، لم يكن إلا قرارًا خاطئًا. وتم تسريح كل مَنْ يمتُّ بصلة لإدارة المنتزه القومي. حريق تحت السيطرة! يفتعلونه رغم الجفاف. هز توني رأسه، لا، لم يكن الأمر خطأ، بل جرم أخرق وغير مسئول. إنه يتخيل منظر الأشخاص بإدارة المنتزه، وكيف يتصرفون بنفاد صبر، وكيف ينتابهم الضجر ثم يسعون لإشعال غابة دون إعمال ذرة من العقل، فقط تلبيةً لرغبة رؤسائهم الذين كانوا يريدون أن يشغلوهم بالعمل. لم يحسب أيٌّ منهم حساب الرياح التي جعلت النيران المتوهجة تشكل دوامات وارتفعت بها إلى عنان السماء، ثم اتجهت بها غربًا. لا يزال توني يرى بعين خياله كيف كانت السماء تمطر شرارًا على الخشب الجاف، وكيف توغل الشرر وانتشر في نسيج الخشب، مثله مثل الورم السرطاني الذي يحاكي الخلايا الأصلية ليأتي على كل شيء في النهاية. وهكذا قمنا بعملية الرش. لا تزال الشرارات وألسنة اللهب والأدخنة تملأ السماء، ولا تزال النيران متقدة، ينذر وهجها الأحمر لوس ألاموس شرًّا. وصل ارتفاع أعمدة اللهب إلى ستين مترًا فوق غابات الصنوبر المحيطة بالمدينة إلى كبد السماء. ورائحة الحريق تزكم الأنوف في كل مكان ولا تزال الأدخنة تتصاعد. اشتركت في عمليات إخماد الحريق ست طائرات إطفاء، ظل الجميع يكافحون حتى نال منهم التعب. ولم يجثُ تنين النيران إلا في اليوم السادس. ورغم أن النار التهمت أكثر من خمسين مبنى، فإنهم تمكنوا من ردها عن الوصول إلى المفاعل النووي في لوس ألاموس. وطُرِد مدير المنتزه الذي أمر بإشعال الحريق، ولو لم يفعلها المحافظ لربما فقد توني قبضة يده من فرط الضربات التي أراد أن يكيلها له؛ إذ بلغ منه الغضب مبلغه.
حرك تيار خفيف مؤشر الارتفاع في الطائرة. كانت مقدمة الطائرة لا تزال ترتفع، نظر توني إلى السماء الزرقاء في الأعالي وحبس أنفاسه لبرهة. ثم أطلق زفيرًا! هذه المرة لم يكن إنذار حريق، بل مجرد تجربة علمية عيَّنته شركة من كاليفورنيا ليقوم بتنفيذها. أما المهمة فمختلفة هذه المرة؛ إذ ليس المطلوب شن الحرب على النيران وإنما محاولة التصالح مع وجه الأرض لإبرائها من جروح الحرائق المشتعلة التي لا تزال تغطي صفحتها؛ إذ قيل له إن المطلوب هو رش مادة تسهم في تخليص التربة من السموم.
منطقة الهدف: رقعة مساحتها ٥٦٠ هكتارًا مربعًا ما بين الحد الشمالي للمنتزه ولوس ألاموس. الرؤية واضحة، والمخاطر منعدمة. ذاك هو مكان مخزن الوقود الذي التهمته النيران آنذاك، مخلِّفةً آثارًا ضارة على الأرض التي أضحت من يومها غير صالحة للاستخدام.
ينظر في ساعة الكمبيوتر الملحق بمتن الطائرة، تشير إلى الحادية عشرة والنصف. أما التقويم إلى جوارها فيشير إلى يوم الثالث والعشرين من شهر مايو عام ٢٠٠٣. كل شيء يسير وفقًا للخطة. من نافذة كابينة الطيار بدأ توني يتابع حافلة سياحية على الطريق الجنوبي رقم أربعة، الذي يمتد من وايت روك متخذًا منحنًى واسعًا يمس الحد الشمالي من المنتزه القومي. ظلت الحافلة تسير وكأنها عربة من عربات الألعاب التي تقاد عن بُعْدٍ سائرة في طريقها مباشرة نحو الغرب. في هذه الأثناء تأرجحت في الهواء طبقة رقيقة من المادة التي ألقاها هابطة نحو العمق. فلما وصلت إلى الشارع لم يبقَ منها سوى نفحة من نسيم غامض لفت الحافلة واستقرت أسفلها فمرت الحافلة من فوقها بسلام وأكملت طريقها مبتعدة.