بين الغيوم
ما إن هبطت الطائرة دفعة واحدة حتى استيقظت فاندا من فورها، كانت عقارب ساعتها تشير إلى الرابعة والنصف بالتوقيت المحلي لمدينة شيكاجو. قرأت التاريخ على ميناء الساعة ١٥ / ٤/ ٢٠٠٥ فتيقنت أن يومًا بكامله قد مرَّ فعلًا منذ بدء سفرها. وبينما كانت الطائرة تتجه صوب صالة الوصول، أخذت صور الأربع والعشرين ساعة المنقضية تتابع في مخيلتها. سماء ساطعة الزرقة تمددت ظهيرة الأمس وقت بداية تحليقها من روتشيستر فوق بحيرة أونتاريو، كان الجو باردًا، لكن لحسن الحظ لم تتساقط الثلوج؛ ففي منتصف أبريل لم يكن ذلك ليشكل أمرًا نادر الحدوث في تلك المنطقة، ثم الضباب المتكاثف الذي يتخذ شكل جرس ضخم فوق مدينة شيكاجو. في المساء، استقلت من هناك متن الطائرة المتجهة إلى أوروبا، ثم أمريكا، ثم أوروبا. كانت تغير القارات بأسرع مما تغيِّر ثيابها الداخلية. وفجأةً بدأت الطائرة تنزلق بين جبال من الغيوم المتكاثفة فوق مدينة فرانكفورت، ثم اخترقت ستارًا من قطرات الأمطار المتساقطة، لكنه سرعان ما أُسدل وراءها ثانيةً بمجرد عبورها. لم يكن ثمة مفر، وللمرة الأولى تستشعر حتمية عودتها تسري في بدنها كله. لماذا أنا هنا أصلًا؟ ولماذا هذا السؤال الآن تحديدًا؟ ألم يكن الأمر جليًّا؟ بلى. كان عليَّ الرحيل كي تصير المسألة في طي النسيان إلى الأبد. والآن لديَّ فرصة جديدة.
وصلت الطائرة مهبط الطائرات وتوقفت. أصدرت الأقفال المعدنية لأحزمة الأمان صوت تكتكة فيما كانت الريح تعمل فرشاتها على نوافذ الكابينة، فترسم لوحات خلال زخَّات المطر. أضاءت السماء بلون رمادي فاتح من بين خطوط الماء الرقيقة. اختلست فاندا النظر إلى ساعة يد جارها التي أشارت عقاربها إلى الثانية عشرة إلا الثلث؛ هبوط حسب الموعد بالضبط.
تبعت فاندا تيار المسافرين في ولوجهم تيه المطار. اضطرت للانتظار مدة أمام سَيْر نقل الأمتعة، فقد كانت حقيبة الظهر خاصتها ضمن آخر مجموعة أمتعة. جرت تجاهها، وحيتها التحية اللائقة بصديق قديم، فقد كانت الشيء الوحيد الذي يستقبلها لدى عودتها إلى الوطن بعد طول غياب. «د. فاندا فالس» مكتوبة بأحرف سميكة على البطاقة الصغيرة الملصقة على الحقيبة، وكذلك العنوان في ماربورج حيث يمكن لها أن تمكث لبضعة أيام. الأمر صدقٌ إذن. لقد عادت.
على السلم الكهربائي الموصل لمحطة القطار علقت حقيبة الظهر على كتفها، بينما أسندت الأخرى الكبيرة بالعرض أمامها حتى لا تنزلق بعيدًا. تدافع الناس من خلفها، وشعرت بالحر. كانت ألمانيا ضيقة بحق. أخذت فاندا تقطع الطابق الثاني جيئةً وذهابًا وهي حائرة بين الخرائط الموضِّحة لمواعيد قدوم عربات المترو المختلفة. لا توجد لوحة إرشادات إلكترونية تشير إلى وصلات رحلات القطارات البعيدة، وكذلك لا يوجد أولئك الرجال السود في زيهم الموحد الذين سيدلونها على الطريق قائلين بلكنة مميزة: «رحلة سعيدة، سيدتي.» لقد كان الناس يحثون الخطى بجوارها، وقد بدا أنهم يعرفون طريقهم جيدًا. كانت تشعر بقوة اندفاعهم تتجاذبها، لكنها قاومت غواية اتباع هذا الزخم، ثم اكتشفت بما هو أقرب للصدفة إشارة لمكان بيع تذاكر القطار.
أصدرت عجلات الحقيبة صوت صلصلة على قرميد الأرضية، بينما المسافة الوعرة تأبى الانتهاء، والضوضاء تكاد تصم الآذان. كان المارة ينظرون إليها فيرمقونها شزرًا. مرحبًا بكم في ألمانيا. أخيرًا وصلت إلى صالة البيع، فإذا بها تجد طابورًا من البشر يصطف أمام شباك بيع التذاكر الوحيد، فانخرطت في الطابور وانتظرت دورها. كانت الصالة ضيقة، وتعبق برائحة المعاطف الرطبة والعرق البارد، فما كانت تصلح للتنفس. وبمجرد أن وصلت إلى الشباك ابتاعت تذكرة أول مواصلة إلى ماربورج وحثت الخطو نحو المترو.
•••
أشارت لوحة الإعلانات الكبيرة بمحطة فرانكفورت الرئيسية إلى تأخر جميع قطارات المسافات الطويلة القادمة من الجنوب. تدافع الناس للخروج من العربات المزدحمة عن آخرها، وتزاحموا للالتحام بتيار المسافرين المتدفق كأمواج الفيضان المالحة في اندفاعها نحو مصب نهر يرفض أن يعوقه عن هدفه عائق ليتبدد في الأراضي الشاسعة. دافعت فاندا الحشود بمنكبيها لتفسح لنفسها طريقًا يوصلها إلى رصيف قطارها. اندهشت من البساطة التي أنجزت بها هذا الأمر بعد عامين من التكيف على نمط الحياة الأمريكية. ولأنها كانت منهكة القوى، تاقت نفسها إلى مكان دافئ تستطيع أن تغمض فيه عينيها وتستسلم لحالة الوهن التي تعتريها. وقفت قاطرة إقليمية مغادرة إلى «ترايسا» في انتظار انضمام سائر العربات فيما تدلى من نافذتها ذراع مكسوَّة بشعيرات حمراء.
«معذرة» قالتها بالإنجليزية ثم انتبهت لهذا الخطأ من فورها. فظهر الرأس الأشعث لسائق القاطرة، ولمعت عيناه الزرقاوان. فكاد لسانها ينطلق مجددًا بعبارة إنجليزية لكنها ابتلعتها هذه المرة.
«أريد الذهاب إلى ماربورج.» كانت نبرة صوتها أقرب لنداء فتاة صغيرة تستجدي.
فأومأ الرجل برأسه مشجعًا إياها: «فقط اركبي يا سيدتي الشابة.»
كانت معظم المقاعد في القطار قد شُغلت. وكافحت فاندا من أجل المرور عبر قطع الأمتعة التي تسد الممرات، ثم وجدت أخيرًا مكانًا مجاورًا للنافذة في الدور السفلي من العربة الأولى. تركت حقيبتها في الرواق، بينما وضعت حقيبة الظهر على حجرها. وعلى المقعد المقابل لها، لكن بانحراف طفيف، تساقط جسد شاب يلهث بقوة وكأنه يعدو. أسهمت ملابسه الداكنة في إبراز ما به من شحوب، خلع نظارته وأخذ يمسح البخار المتكاثف على عدساتها بقميصه القطني. في تلك الأثناء تلاقت نظراتهما لوهلة. لم يبتسم، فنظرت فاندا إلى الجانب، ثم لمحته بطرف عينيها وهو يشبك ذراعيه أمام صدره ويستدير نحو النافذة. أما هي فتركت رأسها يغوص في حقيبتها. شعرت بثقل أجفانها، وبعينيها تغمضان، فانزلقت بخفة على أوائل موجات النعاس الغائمة. انتبهت من غفوتها إثر دفعة خفيفة. كان القطار قد بدأ التحرك ببطء نحو الشمال متأخرًا خمس عشرة دقيقة عن موعده.
لمحت من نافذتها محلًّا تقليديًّا لبيع نماذج لبيوت الدمى. حتى العمارات العالية كان بها ما يوحي بحسن التصميم. ثم جاءت مجموعات من البساتين والحدائق الضيقة، ثم مروج، وبعض الكفور. ثم أخذت الأشياء التي تحيط بها في التلاشي وكأن فيلمًا يعرض كواليس طفولتها قد بدأت مشاهده تمر على النافذة. عاد بها إلى الريف ثانية، إلى ذات المكان الذي لم تُرد قط أن تعود إليه. إلى بكرة صباحات الأحد حين كان والدها يحتسي كل النبيذ المقدَّم على المائدة، وفي وقت الغداء تتلو الأم الصلاة قبل تناول الطعام ثم يستمعون إلى موعظة القس بعد الظهر. حين بلغت الرابعة عشرة تبادلت في عيد الرماة قبلات خاطفة على العربة الدوارة بالملاهي ثم لحقت بشلة من الشباب المتحمس على الموتوسيكلات إلى صالات الديسكو في الجوار. وفي الشتاء، كانوا يذهبون إلى فينتربيرج، وفي الصيف يسافرون إلى مونيزيه. حين أتمت التاسعة عشرة غادرت دون أن تنظر وراءها ولو لمرة واحدة أخرى. قبل عام توفي والداها، أحدهما تلا الآخَر بفترة وجيزة. لم تستشعر أي حزن، فقط شعورًا مكتومًا بالارتياح؛ ولذلك فإنها لم تحضر الجنازة أيضًا، فلم تكن لتتحمل طقوس النفاق أمام قبريهما. كان أمامها الكثير من العمل ولم يكن ما معها من مال يكفي نفقات تذاكر السفر إلى أوروبا. لم يكن في الأمر ادعاء، وكانت حجة مناسبة في ذات الوقت. توقف أخوها روبرت عن الكتابة لها منذ فترة. لا بد أنه كان غاضبًا عليها. ولا يمكن أن تلومه على ذلك. في مكان ما في حقيبتها يستقر خطاب موثق العقود، وفكرت في نفسها أنها سوف تضطر إلى الذهاب إليه. وفي الخارج، امتزجت درجات الرمادي خارج النافذة لترسم لوحة كئيبة للطبيعة. يا تُرَى كيف تبدو ماربورج؟ «مكان لطيف» كان صوت ريك لا يزال يرن بوضوح في أذنها. ألَمْ يغمغم رئيسها الأمريكي بشيء عن قصر ما؟ تبهم الأصوات قليلًا فلا تكاد تَبِين. أما هي فقد كانت تفضل السفر إلى هامبورج.
أخذ الشاب الجالس قبالتها يتحدث في الهاتف. هل يجوز أن تخاطبه؟ كانت فقط تريد أن تطمئن أن السيدة التي تعرفها كيرستن قد سلمت الجارة مفتاح الشقة. نعم، إن كيرستن عطية من السماء؛ فقد حضرت في الوقت المناسب تمامًا إلى روتشيستر لتؤدي تدريبها العملي في المعمل. كانت فاندا مفلسة تمامًا؛ لذلك كانت في غاية الامتنان أن سمحت لها كيرستن بقضاء أسبوعين في مسكنها بماربورج. وكان ذلك بمثابة مساعدة لتبدأ حياتها، تسمح لها أن تبحث عن شقة بهدوء وأن تنظم الشكليات المتعلقة بالوظيفة الجديدة.
أنهى ذاك الشخص ذو الهاتف المحمول مكالمته الهاتفية، ثم أعاد دس الهاتف في جيب معطفه، وسحب منه قصاصة ورق وفردها ببطء. كانت عيناه تتقافزان في اضطراب على الورق، وكانت هيئته بشعره الأشعث تشبه قائد فرقة موسيقية ترن في رأسه النغمات، على أنها لم تكن موسيقى كلاسيكية، بل إيقاعات أكثر تهديدًا، مثل: «غَنِّ لي أغنية الموت.» وحين طوى الورقة ودسَّها في الجيب الداخلي لمعطفه كان عواء الهارمونيكا يرجرج جمجمتها.
•••
كان الشاب — أندرياس — متأكدًا أنها تراقبه منذ فترة، وحين رفع ناظريه أدارت هي رأسها نحو النافذة بسرعة. أَيفترض أن يعرفها من قبلُ؟ لن يستطيع الآن تحديدًا أن يدقِّق في ملامحها. وجه جميل بلا شك، رغم أن أيًّا من تفاصيله لم يكن يعجبه حقيقة. كانت نظرتها جامدة، وبشرتها شاحبة، وشفتاها جد رفيعتين، أما النمش على أنفها فقد بالغ في إكسابها مظهرًا طفوليًّا. أعجبه شعرها فاحم السواد، رغم أنه قصير جدًّا، وهو يحبذ لو كان أطول قليلًا. لم يكن قط ضد الأبهة التي تصفِّف بها لاريسا شعرها ولا رائحته الزكية. لماذا لم يُطلِعها على الحقيقة مؤخرًا؟ لم يكن عليه سوى أن يقول «نعم». رأى نفسه مرة أخرى، مستندًا إلى إطار باب الحمَّام، وقد دفن يدَيْه في جيوب بنطاله، وأخذ يراقب صديقته وهي تحزم أمتعتها، كانت ترتِّب لرحلتها، أما هو فسيسافر على وجه السرعة إلى ميونخ؛ فقد رجته أمه أن يأتي سريعًا، إذ كان والده كعادته دومًا متعاليًا متفاخرًا، حتى في موته؛ لذا فإن إجراءات الجنازة والدفن كانت تستهلك من الوقت ما هو جدير به.
«أَلَا تحب أن أصحبك؟» لقد كانت الشفقة في عينَيْ لاريسا هي ما استثارت رفضه.
«يجب أن تفكري الآن في نفسك. أسرتي هي شأني وحدي.» كان يريد أن يبدو مسترخيًا، فتحدَّث بصوت عميق. لم يكن يريد أن يُثقِل عليها بمشاكله فيسلب منها فرحتها برحلتها التي طالما تاقت إليها. شعر أن إيماءة رأسها تحمل له امتنانًا. كان مهمًّا له ألَّا يكون انطباعها الأخير عنه هو صورة العاجز المحمَّل بمشاعر الذنب كما كان يشعر حقًّا، لكنه في هذه الأثناء يتوق إلى أن يدس رأسه في شعر لاريسا الغامق المصفَّف كلبدة أسد، وينسى نفسه فيه؛ لكنها كانت في طريقها إلى مطار فرانكفورت. تمنى لو أنها تطل من النافذة كما يفعل هو الآن، تمنى لو أنهما يعيدان التعرف أحدهما على الآخر ولو للحظات وجيزة. في وقتٍ ما رن هاتفه المحمول. «أين أنت الآن؟» جاء صوتها مليئًا بالثقة. لكنَّ قطاريهما كانا قد تفرَّقا من زمن. ظل ينظر لعربة الأمتعة الكبيرة المستقرة في الممر. كانت بطاقة شركة الطيران التي تحمل رقم الحقيبة لا تزال تتدلى من مقبضها. تنهَّدَ. البعض يأتي والآخَر يمضي.
أَخْرَجَ أندرياس ثانية من جيبه القصاصة التي دسَّها له غريبٌ ما في جنازة والده. كان يقف على القبر إلى جوار والدته، ومرَّ عليهم المعزُّون وسلَّموا عليه وشدوا على يديه؛ أناس لم يَرَهُم من قبلُ قطُّ لمسوه، أربكوه، ثم تركوه خاويًا. كانت عيونهم تحوي دائمًا نفس السؤال، وكأنه يستطيع أن يقدِّم إجابةً عن الموت المفاجئ لأبيه. أحيانًا أيضًا كانت المقابلة بلا نظرات على الإطلاق، مجرد مسٍّ خفيف بأطراف الأصابع. في وقت ما خفض هو أيضًا ناظريه. لا يذكر كم من الوقت ترك يديه تتناوبها وفود المعزين. ثم فجأةً وجد تلك الورقة بين أصابعه، وحين رفع رأسه وجد شابًّا واقفًا أمامه، في منتصف العشرينيات، لا يمكن أن يكون أكبر منه هو نفسه. كانت نظراته جادة وتكاد تكون مشجِّعة. استغرق أندرياس بعض الوقت كي يدرك أن شيئًا آخَر كان يحدث هنا، لكن الوقت كان قد تأخر واختفى الشاب. في اللحظات الأولى شكَّك في عقله؛ هل كان ما رآه خيالًا؟ لكن كانت معه الورقة.
مرَّ بعينيه سريعًا على الأسماء المدوَّنة في قائمة، ووجد أن قليلًا فقط منها كان ألماني الوقع. إنها مجموعة عالمية. قام بعَدِّها، بلغ عددها العشرين شخصًا. كان معظمها يحمل لقبًا. لكن فيما عدا اسم أبيه لم تشكِّل له قائمة الأسماء أيَّ معنى. قبل شهرين — في فبراير — تشاجر معه الشجار المعتاد، لكنه يومئذٍ لم يكن يدري أنها ستكون المرة الأخيرة.